.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الديناميكية الاجتماعية

حركة المجتمعات في ظل مثلها العليا

الحركة الاجتماعية في ظل المثل الأعلى المنخفض

الحركة الاجتماعية في ظل المثل الأعلى المحدود

الحركة الاجتماعية في ظل المثل الأعلى المطلق

 

  الفصل السابع

الديناميكية الاجتماعية

حركة المجتمعات في ظل مثلها العليا

الأصل في المجتمعات الإنسانية أنها متحركة وغير ساكنة، كما في قوله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) (الانشقاق/ 6).

وفي قوله تعلى: (لتركبن طبقاً عن طبق) (الانشقاق: 19). حيث يعطي هاتان الآيتان مفهوم السير العام (والحركة العامة) المتحقق فعلا في المجتمعات البشرية. فحال هذه المجتمعات أنها تتحرك وتسير وتنتقل من حالة إلى أخرى ومن مرحلة إلى أخرى ضمن خط علم للحركة ويوصلها في نهاية المطاف إلى لقاء الله دنيوياً في المجتمع المعصوم، وأخروياً في يوم الحساب.

وتنبثق النظرة العامة لديناميكية المجتمع البشري من النظرة الفلسفية التي يؤمن بها الإسلام عن الكون. خلافاً للفلاسفة السكونيين مثل زينون واضرابه، يؤمن الإسلام بأن الكون في حالة حركة أو صيرورة مستمرة. ويعرف المفهوم الفلسفي الإسلامي الحركة بأنها سير تدريجي للوجود وتطور للشيء في الدرجات التي تتسع لها إمكاناته. والمعروف أن الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي قد استطاع صياغة نظرية الحركة العامة وسماها بالحركة الجوهرية[1].

وعلى النقيض من الماركسية، التي تفسر الحركة الاجتماعية تفسيراً ديالكتيكياً، يؤمن القرآن الكريم بأن الإنسان هو العامل الأساسي في حركة المجتمعات، بما أوتي من فطرة، ومحتوى داخلي، وإرادة قادرة على الاختيار، وإمكانية على الفعل والتأثير.

وقد أشار القرآن الكريم بوضوح إلى الدور الأساسي للإنسان في حركة المجتمع بقوله: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(الرعد/11) وبقوله (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)(الشمس/7 ـ 10). وقد مر بنا أن دور الإنسان في حركة المجتمع يتحدد من خلال محتواه الداخلي، وأن هذا المحتوى الداخلي يتشكل على أساس (مثل أعلى) يؤمن به الإنسان والمجتمع. وإذن، فإن المثل الأعلى هو الدافع لهذه الحركة، والمؤشر على اتجاهها وحجمها وطبيعتها ومصيرها، بما يحدده المثل الأعلى للحركة من غايات وأهداف تفصيلية، وخط عام، وبما يستطيع أن يجند لها من قوى وطاقات. وعلى هذا تختلف حركة المجتمعات عقماً وسلباً ومصيراً باختلاف مثلها العليا. ولما كانت المثل العليا تنقسم إلى ثلاثة أنواع (المثل الأعلى المنخفض، والمحدودة, والمطلق) أمكننا أن نتصور ثلاث أنماط للحركة الاجتماعية بلحاظ مثلها الأعلى.

 

الحركة الاجتماعية في ظل المثل الأعلى المنخفض

يعيش المجتمع في ظل المثل الأعلى المنخفض حالة تكرارية (وبتعبير القرآن الكريم تأخرية) حيث يقوم بنقل ماضيه إلى حاضره، وحاضره إلى مستقبله، فليس لهذا المجتمع مستقبل في الحقيقة، فمستقبله هو عين ماضيه.

ومن الصعب على هذا المجتمع أن يتقبل فكرة التغيير والتطوير، فهو متمسك دائماً بالتقاليد الموروثة، ويعتبرها رمزاً ومنهاج حياة لا يجوز المساس به، والخروج عليه، أو إلهاً لا يجوز عصيانه.

وهو يتمترس بما كان عليه الآباء والأجداد ضد محاولات التغيير التي يقوم بها المتنورون من أبنائه، إما بسبب مؤثرات خارجية أو بسبب عوامل أخرى، ويطبق هذا المجتمع مقولة (ليس بالإمكان أحسن مما كان).

وهذا ما كانت عليه المجتمعات التي بعث فيها الأنبياء حيث كانت ترفض فكرة التجديد والتغيير في ضوء الأفكار الجديدة التي أوحاها الله لأنبيائه، بحجة التمسك بالوضع الاجتماعي الموروث عن الآباء والأجداد.

(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباءهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) (البقرة/ 170).

(بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) (الزخرف/22).

وهذا هو موقف المجتمعات (الإسلامية) القائمة في أقاليم العالم الإسلامي اليوم، والتي نسميها (بالمجتمعات المخضرمة) إزاء نوعين من دعوات التغيير: الدعوات التغييرية الإسلامية، والدعوات العلمانية المعاصرة، فالمجتمعات المخضرمة ترفض كلا الدعوتين، ولكن لأسباب مختلفة، فهي ترفض الدعوى التغييرية الإسلامية بسبب ما توارثته من قيم وتقاليد وعادات بالية تقف عائقاً في طريق تغيير وتطوير هذه المجتمعات على أساس إسلامي، ذلك التطور الذي توقف يوم فقدت حيوية ارتباطها بالإسلام، وثورية دورها في تطبيقها ونشره، وأما رفضها للدعوات العلمانية فلأن هذه المجتمعات تتصور مخطئة بأن ما بين يديها من موروثات اجتماعية هو الإسلام الذي (تعتز) بالتمسك به، ولا تحبذ الخروج عليه.

غير أن تمسك المجتمع المحافظ والمخضرم بمثله الأعلى المنخفض لا يمكن أن يستمر لأن هذا الاستمرار يفترض (سكوناً) أبدياً للمجتمع، وهذا يخالف الطبيعة الجوهرية للمجتمعات الإنسانية، إن هذا المجتمع سوف يفقد ولاءه بالتدريج لمثله الأعلى المنخفض، لأن هذا المثل الأعلى بحد ذاته سوف يفقد فاعليته وقدرته على التأثير، بعد أن أصبح قالباً جامداً مفروضاً على المجتمع، وغير قادر على إستيعابه، وتطويره، وقيادة وحركته وتصعيدها نحو مستقبل أرحب.

وستكون حالة فقدان الولاء بداية النهاية بالنسبة لهذا المجتمع، حيث يدخل دورة جديدة في حياته، فإما أن تكون نهايته فيها، وهذا هو أجله، أو أن تصعد قوى جديدة فيه إلى قمة الهرم الاجتماعي وتمسك بزمام قيادته.

وحين يفقد المجتمع ولاءه لمثله الأعلى، فإن القاعدة الجماهيرية الواسعة التي يستند عليها سوف تتمزق وتتشتت وتتبعثر، لأن وحدتها كانت مستمدة من مثلها الأعلى المنخفض الذي فقد قابليته على التأثير. وهذه الحالة هي التي يصورها القران الكريم بقوله:

(بأسهم بينه شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) (الحشر/14).

إن التناقضات سوف تنتشر في صفوف المجتمع، فيتحول إلى قلوب متفرقة وأهواء مشتتة وأرواح مبعثرة. ومجتمع بهذا الحال ليس مجتمعا سوياً، وإنما هو شبح مجتمع. وفي ظل هذا الحال سوف ينصرف كل فرد فيه إلى همومه الصغيرة وقضاياه الشخصية[2].

وحينما يصل المجتمع إلى هذه النقطة، ويكون أمام ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول، أن يتداعى المجتمع أمام غزو عسكري من الخارج، لأن مجتمعاً ممزقاً من هذا النوع يشكل إغراء قويا أمام القوى الخارجية الطامعة لغزوه والسيطرة عليه، وهذا ما حصل للمجتمع الإسلامي الذي كان قائماً في العراق عشية الغزو المغولي له. والذي انهار بفتح بغداد وسقوط الدولة العباسية.

الاحتمال الثاني، الذوبان والانصهار في مثل أعلى أجنبي مستورد من الخارج، كما حصل للمجتمع الإسلامي المخضرم الذي كان قائماً في تركيا عشية الحرب العالمية الأولى، والذي إنهار بصعود دعاة التغريب، وبقيادة كمال أتاتورك، إلى قمة الهرم السياسي.

الاحتمال الثالث، أن تنمو في أعماق المجتمع بذور العودة إلى المثل الأعلى المطلق من جديد بمستوى وصيغة تناسبان العصر الذي يعيشه المجتمع, وهذا ما تحاول أن تحققه اليوم العناصر الخيرة في أقاليم عديدة من العالم الإسلامي.

وقد واجهت الأمة الإسلامية الاحتمالين الثاني والثالث حينما دخل عصر الاستعمار، فكانت أمام مفترق طرق: أما الانصهار في مثل أعلى من الخارج، حيث كان يقف على ناصية هذا الطريق أشخاص مثل رضا خان في ايران وأتاتورك في تركيا أو العودة إلى المثل الأعلى المطلق للأمة الإسلامية حيث كان رواد الفكر الإسلامي الحديث، أمثال جمال الدين الأفغاني، يقفون على ناصية هذا الطريق، ويدعون الأمة الإسلامية إلى استئناف الحياة الإسلامية والرجوع إلى الله[3].

(إن إلى ربك الرجعى) (العلق: 8).

 

الحركة الاجتماعية في ظل المثل الأعلى المحدود

إن أغلب المجتمعات القائمة الآن في دول العالم الثالث تتحرك في إطار مثل أعلى محدود، حيث استلم القيمومة الفكرية والسياسية في هذه المجتمعات وجال نشطوا وبرزوا في مرحلة العمل من أجل الاستقلال السياسي لهذه البلدان عن الدول المستعمرة (أو المستكبرة) التي كانت تحكمها.

وحين نظر هؤلاء القادة الجدد إلى مستقبل مجتمعاتهم رأوه بمنظارهم الشخصي البشري المحدود، وقالوا لمجتمعاتهم ما قاله فرعون للمجتمع المصري:

(قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى) (غافر/ 29).

وقد انطوت هذه الرؤية البشرية المحددة على خطأ كبير، ذلك أن القادة الجدد اعتبروا رؤيتهم المحدودة للمستقبل مثلا أعلى مطلقاً، وهذا تحويل غير موضوعي للنسبي إلى مطلق، حيث أن مستقبل المجتمعات البشرية أوسع من أن تحيط به عقول هؤلاء القادة وتستوعبه، وهنا يكمن الخطر على المجتمع وتطوره. فإن المثل الأعلى المحدد الذي وضعه هؤلاء سوف يمد المجتمع بطاقة للحركة ولاشك. ولكن هذه الطاقة محددة، لأنها انعكاس للمشكل الأعلى المحدود، والرؤية المستقبلية المحددة، ولهذا ستكون حركة المجتمع حركة محدودة أيضاً، أن المثل الأعلى المحدود الذي حرك المجتمع حركة محدودة سرعان ما يصل إلى حدوده القصوى، وسوف تنفد طاقته المحركة، فيتحول بعد فترة إلى مثل أعلى منخفض من النوع الأول، بعد أن يصبح جزءاً من تاريخ المجتمع وتراثه وتقاليده وليس نزوعاً نحو المستقبل والكمال.

إن تحويل النسبي إلى مطلق يؤدي إلى تطويق حركة الإنسان ويجمد قدرته على التطور والإبداع، ويعقد الإنسان عن ممارسة دوره الطبيعي المفتوح[4].

وهذا هو ما يشير إليه القران الكريم بقوله:

 (ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولا) (الإسراء/ 22).

وتمر حركة المجتمع في ظل المثل الأعلى المحدود بأربع مراحل هي:

المرحلة الأولى، مرحلة فاعلية هذا المثل، حيث يكون له بحكم كونه مشتقاً من طموح مستقبلي، فاعلية وعطاء وتجديد وقدرة على الدفع والتحريك، بقدر ما يكون له ارتباط بالمستقبل. ولكن عطاء المثل الأعلى المحدود في هذه المرحلة عطاء عاجل وليس عطاء مستمراً على طول الخط المستقبلي الطويل. وإلى هذه الحقيقة يشير القران الكريم:

(من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً * كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً) (الإسراء/ 18 ـ 20).

وفي هذه المرحلة تكون السلطة السياسية التي تحكم المجتمع باسم هذه المثل الأعلى ذات قدرة معينة على العطاء والقيادة والتحريك.

المرحلة الثانية مرحلة تحول المثل الأعلى المحدود إلى تمثال أو صنم بعد أن غطت حركة المجتمع المساحة المستقبلية المحدودة التي كان المثل الأعلى يعبر عنها. إن المثل الأعلى المحدود ألان تحول إلى مثل أعلى منخفض أو تكراري. وفي هذه المرحلة يتحول الحكام والقادة الذين يعبرون عن هذا المثل الأعلى إلى سادة وكبراء، بتعبير القرآن، وتتحول الأمة إلى قطيع من المنقادين والمطيعين... وبهذا الصدد نقرأ قوله تعالى:

(وقالوا: ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) (الأحزاب:67).

المرحلة الثالثة، مرحلة الامتداد التاريخي للسادة الكبراء حيث تتحول السلطة السياسية في المجتمع إلى طبقة حاكمة تتوارث الحكم، عائليا أو طبقيا أو حزبيا أو بأي شكل من أشكال الوراثة. وهذه الفئة الحاكمة عبارة عن طبقة مترفة منعمة خالية من الطموحات الكبيرة ومشغولة بالهموم الصغيرة. يقول القرآن الكريم بهذا الشأن:

(وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) (الزخرف:23).

المرحلة الرابعة، مرحلة تمزق المجتمع، بعد أن يفقد الناس ثقتهم وإيمانهم بالمثل الأعلى المحدود، الذي صار منخفضا، وفي هذه المرحلة التي هي من أخطر المراحل في حياة المجتمع، يسيطر المجرمون على دفة الحكم[5]:

(وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها، ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم) (الأنعام:123).

ويعتبر المجتمع والنظام الحاكم فيه بحكم المنهار. وعادة يبقى المجتمع قائما في هذه المرحلة بفعل ثلاثة عوامل هي: سياسة الترغيب والترهيب التي يمارسها المجرمون، أو الدعم الخارجي، أو عدم وجود حركة اجتماعية قادرة على تغيير الوضع القائم. وهذه كلها عوامل ليست أصيلة في بقاء أي مجتمع أو نظام. وإذن فإن حياة المجتمع في هذه الفترة اصطناعية ومفتعلة وليست طبيعية أو ذاتية.

 

الحركة الاجتماعية في ظل المثل الأعلى المطلق

(يا آيها الإنسان،إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) (الانشقاق/6).

لاحظنا فيما تقدم أن المثل العليا الوضعية (المنخفضة والمحدودة) تشكل قيدا على المجتمعات البشرية يؤدي إلى تجميد حركتها، ثم انهيارها. وهذا يعني أن هذه المثل لا تصلح لبناء الحياة الاجتماعية السعيدة ولا تستطيع مواكبة الطبيعة الجوهرية للمجتمعات البشرية، ونعني بها الحركية والتكاملية. ولحل هذه الإشكالية يطرح القرآن ليس فقط مفهوم الحركة في ظل المثل

الأعلى المطلق، وإنما الحركة باتجاه المثل الأعلى المطلق، استنادا إلى حقيقة أن المسيرة الإنسانية بحاجة إلى مثل أعلى مطلق يستطيع أن يستوعبها، ويهديها سواء السبيل، مهما تقدمت، وامتدت على خطها الطويل، ويمحو من طريقها كل الآلهة الذين يطوقون المسيرة ويعيقونها[6]: وبالرجوع إلى الآية التي افتتحنا بها هذه الفقرة، نتوصل إلى الاستنتاجات التالية بخصوص حركة المجتمع في ظل وباتجاه المثل الأعلى المطلق:

أولا، إن هذه الحركة حقيقة موضوعية قائمة، وليست اقتراحا تقدمه الآية، بقرينة قوله تعالى: (إنك كادح إلى ربك) فالكادح هنا – وقد جاء بصيغة اسم الفاعل وليس بصيغة فعل الأمر – حالة متلبسة بالإنسانية. فالإنسانية – على نحو الإجمال والعموم سائرة نحو الله ولا يمكن أن يشذ عن هذه المسيرة أحد. إن كل تقدم يحرزه الإنسان على مدى تاريخه الطويل هو في الحقيقة تقدم نحو الله سبحانه، في نهاية المطاف. وحتى تلك المجتمعات التي لم تتخذ الله مثلا أعلى لها هي في الواقع تتجه نحو الله بلحاظ ما تحققه من إنجازات تقدمية مهما كانت ضئيلة ونسبية. حيث أن هذه الإنجازات سوف تؤدي إلى تعزيز التراكمات الإيجابية في المسيرة الإنسانية. ونحن نعلم بأن مجموع هذه التراكمات له دخل كبير في إقامة المجتمع المعصوم، الذي هو أعلى مراحل التطور الإنساني.

غاية ما في الأمر أن المجتمعات التي تتخذ الله مثلا أعلى مطلقا تتقدم تقدما واعيا ومسؤولا ومثابا عليه نحو غايتها، بينما يكون تقدم المجتمعات الأخرى تقدما غير مسؤول، ومنفصلا عن الوعي التاريخي، وغير مثاب عليه.

ثانيا، إن هذه الحركة حالة مستمرة في المجتمع ولا يمكن أن تتوقف إلا حينما يتوقف المجتمع عن الإيمان بالمثل الأعلى المطلق. ويكمن سر استمراريتها في قوة الدفع والزخم الثوريين اللذين يوجدهما الله في الإنسان والمجتمع عند الإيمان به. إن الإيمان بالله طاقة حركية لا تنضب، إضافة إلى أن المسافة الفاصلة بين الإنسان المحدود وبين الله المطلق لا نهائية، كما أن الطريق المؤدي إلي الله طريق لا نهائي. وهذا يعني أن السير نحو الله يفرض التحرك باستمرار وبالتدرج النسبي نحو المطلق بلا توقف. إن كل خطوة يخطوها الإنسان نحو الله تقربه منه, ولكن لن يأتي ذلك اليوم الذي (يصل) فيه الإنسان إلى نهاية الطريق، لأن النسبي لا يحيط بالمطلق, خاصة إذا عرفنا أن الله (لا يوجد في نهاية الطريق) بالمعنى المكاني، وإنما هو يوجد في كل نقطة من نقاط الطريق(وهو معكم أينما كنتم) (الحديد/4).

ثالثا، إن حركة المجتمع باتجاه المثل الأعلى المطلق حركة تكاملية وتصاعدية وذلك لاعتبارين، الأول لأنها حركة جوهرية تستهدف تحقيق بالفعل ما يكتنفه الوجود الإنساني من إمكانيات تطور كامنة فيه بالقوة، باعتبار أن الحركة الجوهرية سير انتقالي في الوجود ونزوع ذاتي في الشيء نحو تحقيق كماله.

أما الاعتبار الثاني فلأنها حركة تستهدف التشبه بصفات الله المطلقة وتحقيق مدلولاتها الاجتماعية على المستوى الإنساني، ومن المعلوم أن الإنسان لا يمكن أن يحقق الكمال في ذاته بالقياس إلى صفات الله, فهو كلما حقق درجة من الرقي تبقى أمامه درجات لا نهائية من الارتقاء، كما يفهم على سبيل المثال من قوله تعالى (وفوق كل ذي علم عليم) (يوسف/76).

رابعا،إن هذه الحركة نحو المطلق تنطوي على جانبين: كمي ونوعي.

فأما الجانب الكمي فيحصل باعتبار ما ذكرنا من أن خط سير هذه الحركة غير نهائي، وبالتالي فإن مجال التطور والإبداع سيبقى مفتوحا دائما أمام الإنسان والمجتمع ومتسعا لكل الإمكانيات. إن حركة المجتمع سيكون بمقدورها دائما أن تضيف جديدا إلى تطوره على عكس الحال حينما يتبنى المجتمع مثلا أعلى منخفضا أو محدودا، حيث أن مثل هذه المثل تحد من حركة المجتمع وتعيقها، كما مر بنا.

أما الجانب الكيفي الذي تحققه حركة المجتمع في ظل المثل الأعلى المطلق فيتمثل بإعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل (أو للتناقض) الإنساني، ذلك الحل الذي يتجسد بإيجاد الشعور بالمسؤولية الموضوعية لدى الإنسان. فإن الإنسان بحكم إيمانه بالمثل الأعلى المطلق ذي الوجود الموضوعي ينشأ لديه بصورة موضوعية شعور ذاتي بالمسؤولية تجاه هذا المثل الأعلى. إن هذا المثل حقيقة موضوعية وواقع عيني منفصل عن الإنسان، مما يوفر للمسؤولية شرطها الموضوعي. حيث أن المسؤولية الحقيقية لا تقوم إلا بين جهتين مسؤول ومسؤول عنه. وإذا لم يكن هناك جهة أعلى منه بشكل مطلق، لا يمكن أن يكون شعوره بالمسؤولية شعورا موضوعيا وحقيقيا.

وهذا ما تعجز عن توفيره المثل العليا المنخفضة والمحدودة, فهذه المثل ما هي إلي إفراز إنساني، والإنسان لا يمكن أن يشعر بصورة حقيقية بالمسؤولية الموضوعية تجاه ما يفرزه ويصنعه هو (إن هي إلا أسماء سميتموها)(النجم:23). نعم قد تستطيع هذه المثل أن تفرض القوانين والعادات ولكنها كلها غطاء ظاهري، وكلما وجد الإنسان مجالا للتحلل من هذه القوانين والعادات الوضعية فإنه سوف يفعل.

خامسا، إن المثل الأعلى المطلق يوفر لحركة المجتمع باتجاهه ضمانات تحفظ هذه الحركة من الانحراف أو التوقف، وهذه الضمانات هي:

الضمان الأول، الرؤية الفكرية الواضحة للمثل الأعلى المطلق، من خلال ما تقدمه عقيدة التوحيد التي تنطوي على الإيمان بالله، والتي توحد كل الغايات والطموحات والتطلعات البشرية وتوجهها صوب هذه المثل الأعلى المطلق، الذي يجمع كل صفات الخير والكمال:

(وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت على) (النمل:19). وتعلمنا عقيدة التوحيد أن نتعامل مع صفات الله وأخلاقه لا بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا فقط، وإنما بوصفها رائدا عمليا وهدفا لمسيرة المجتمع العملية ومؤشرا لها.

الضمان الثاني, الطاقة الروحية المستمدة من هذا المثل الأعلى المطلق والتي تشكل رصيدا ووقودا مستمرا للإرادة البشرية. وتستمد هذه الطاقة من عقيدة يوم القيامة،التي تجسد الامتداد التاريخي المستقبلي للإنسان وتعلمه أن الساحة التاريخية الدنيوية الصغيرة مرتبطة ارتباطا مصيريا بمساحات قادمة، في عالم البرزخ, ويوم القيامة، وأن مصير الإنسان والمجتمع في تلك الساحات العظيمة مرتبط بدورهما وإنجازاتهما في الدنيا, وهذه الطاقة التي تنعش إرادة الإنسان وتحفظ له دائما قدرته على التجديد والاستمرار.

الضمان الثالث, الصلة الموضوعية القائمة بين الإنسان ومثله الأعلى المطلق والتي تتجسد في النبي الذي يركب بين العنصرين الأول والثاني ويمارس دور القيادة التاريخية للمجتمع البشري والمسيرة التكاملية للإنسانية نحو الله تعالى.

الضمان الرابع، القيادة الرسالية التي تحرس الحركة الاجتماعية وتحفظها من الانحراف وتقود المعركة ضد القوى التي تبرز بعد مرحلة النبوة وتحاول أن تنصب مثلا منخفضة أو تكرارية وآلهة مزيفة ومصطنعة، مما يتعين على المجتمع أن يقاوم محاولات التحريف والتزييف تحت إشراف القيادة الرسالية، وتتجسد هذه القيادة بالإمامة، وثم بامتدادها الطبيعي المرجعية الرشيدة[7].



[1] فلسفتنا، ص 230 ـ 234 ـ 357 ـ 359 ـ 391 ـ 392.

[2] التفسير الموضوعي، المحاضرة 9.

[3] ن.م. المحاضرة 10.

[4] الفتاوى الواضحة، ص 596.

[5] التفسير الموضوعي، المحاضرة 10

[6] الفتاوي الواضحة،ص596

[7] التفسير الموضوعي، المحاضرة 11.

 

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست