.

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

المجتمع

الاجتماع الإنساني..ضروري

أيهما اسبق، الفرد أم المجتمع

الكينونة الاجتماعية

 

المجتمع

بحوث في المذهب الاجتماعي القرآني

محمد عبد الجبار

 

كلمة الناشر

يسر (دار الأضواء) أن تقدم إلى القراء الأعزاء مساهمة في نشر الفكر الإسلامي والتعريف به والدفاع عنه, بالحجة المنطقية الدافقة كتاب (المجتمع) للأستاذ (محمد عبد الجبار) الذي هو محاولة جادة لتأطير مذهب جديد في الاجتماع ذلك هو (المذهب القرآني) الذي نعتبره بديلا عن المذاهب الوضعية في هذا المجال، مثل المذهب الاجتماعي الماركسي أو المذهب الاجتماعي الرأسمالي وغيرهما من المدارس والمذاهب الاجتماعية

ولا تنطلق هذه المدرسة من الفراغ.. وإنما تتخذ الآيات القرآنية الكريمة أساسا في بلورة الفكرة أو النظرية مع الاستفادة الكاملة من الدراسات الإسلامية الرائدة في هذا المجال.

وتجسد هذه المحاولة قناعة تقول إن الحاجة إلى المذهب الاجتماعي القرآني ليست حاجة أكاديمية بقدر ما هي حاجة عملية.فالأمة الإسلامية تمر بمرحلة نهوض وانبعاث جديدين. ويحتاج الرواد إلى فهم الملابسات الاجتماعية التي تكتنف هذه المرحلة.حتى يكون الفهم صحيحا ومفيدا ينبغي إن ينبثق من هذا المذهب لاعتبارين هما:
أولا: لأن أسس المذهب الاجتماعي القرآني مقررة في القرآن وهذا لا يقبل الخطأ.

ثانيا: لان المذهب الاجتماعي القرآني هو المركب الحضاري الوحيد القادر على استيعاب الأمة.

الناشر

الفصل الأول

المجتمع

لم تستخدم كلمة (المجتمع) في القرآن, بل استخدم بدلا عنها كلمات (الأمة) و(القرية) للدلالة على ما نقصده حاليا بكلمة المجتمع‎, وذلك كما في قوله تعالى:

(وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها) (الأنعام:113)

(و ما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) (الحجر: 4)

(وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) (القصص: 58)

(تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم) (البقرة: 141)

(كان الناس أمة واحدة) (البقرة :213)

(ما تسبق من أمة اجلها وما يستأخرون) (الحجر: 5)

والمقصود من المجتمع تلك الجماعة (أو الجماعات) من الناس الذين يعيشون في ارض واحدة وتوحد بينهم الأنظمة والقوانين والتقاليد والآداب والعادات، ويعيشون حياة اجتماعية واحدة[1].

ويعرف (هو بهوس) المجتمع بأنه مجوعة من الأفراد تقطن على بقعة جغرافية محددة من الناحية السياسية ومعترف بها، ولها مجموعة من العادات والتقاليد والمقاييس والقيم والأحكام الاجتماعية والأهداف المشتركة المتبادلة، التي أساسها الدين واللغة والتاريخ والعنصر. وهناك من عرف المجتمع بأنه جميع العلاقات بين الأفراد وهم في حالة تفاعل مع منظمات وجمعيات لها أحكام وأسس معينة، فالعلاقات الإنسانية التي تربط الأفراد لا بد أن تحدد طبيعة المؤسسات الاجتماعية الموجودة في المجتمع. ويمكن استعمال كلمة مجتمع لتعني الشبكة المعقدة من العلاقات الاجتماعية التي قام الإنسان بتنظيمها ورسم معالمها[2]

 وحين نأخذ البقعة الجغرافية التي يتواجد فيها الناس،نقول المجتمع الأمريكي, والمجتمع البريطاني, والمجتمع السوفيتي، والمجتمع المصري.

وحين نأخذ طبيعة النظام الذي يطبقه المجتمع، فإننا نقول المجتمع أو المجتمعات الرأسمالية في أميركا وبريطانيا وفرنسا، وهكذا.و نقول المجتمع أو المجتمعات الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وفي الصين, وغيرهما. وكذلك نقول المجتمع الإسلامي، الذي كان قائما في المدينة المنورة على عهد الرسول (ص) ومن جاء بعده.

والملاحظ أننا نشتق اسم المجتمع تارة من الإقليم الجغرافي القائم فيه,ضمن حدوده السياسية المعروفة، كما في قولنا المجتمع الأمريكي, أو البريطاني، أو المصري.. الخ, وبديهي أن هذه التسمية لا تميز مجتمعا عن آخر إلا بمقدار ما تعنيه كلمة أمريكي، أو بريطاني، أو مصري من معان عامة بالنسبة لذهن القارئ، أو السامع.

وقد نشتق الاسم من القاعدة الفكرية والعقائدية التي يؤمن بها المجتمع المقصود، والتي تنبثق منها (الأنظمة) القانونية والتشريعية والسياسية له.وعلى هذا الأساس نقول المجتمع الاشتراكي، والمجتمع الرأسمالي،باعتبار أن كلا من الاشتراكية والرأسمالية نظام فكري وسياسي واقتصادي وحضاري يتم بناء المجتمع المعني في ضوئه وعلى أساسه.

ولن نناقش حاليا القول بان الاقتصاد (قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج) هو العامل الأساس في بناء المجتمع وإعطائه هويته،كما تقول الماركسية،حيث سنتناول ذلك في مرحلة لاحقة من هذا البحث، لكننا نكتفي ألان بالقول أن النظرية القرآنية تعتبر (الفكر) هو القاعدة البنائية للمجتمع، وعلى هذا الأساس يتم تحديد هوية المجتمع.

الاجتماع الإنساني..ضروري

والمستفاد من القرآن الكريم أن الحياة الإنسانية ضرورية بالنسبة للإنسان, أو بعبارة ابن خلدون في مقدمته (الاجتماع الإنساني ضروري)، وهو ضروري، كما يرى الفارابي, لتطور الإنسان.

ويرى العلامة الطباطبائي أن (كون النوع الإنساني نوعا اجتماعيا لا يحتاج في إثباته إلى كثير بحث, فكل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك، ولم يزل الإنسان يعيش في حال الاجتماع على ما يحكيه التاريخ والآثار المشهورة الحاكية لأقدم العهود التي كان هذا النوع يعيش فيها ويحكم على هذه الأرض)[3]

 فحين خلق الله الخلق بدأ بآدم، في إطار غاية عامة لخلق الكون كله بما فيه الإنسان، لم يرد سبحانه وتعالى لكل فرد من أفراد هذا النوع الإنساني أن يعيش منفردا، منعزلا,في عالم خاص به، وإنما أراد منهم أن يلتقوا: الرجل بالمرأة لتكوين الأسرة، والأسرة بالأسرة لتكوين العشيرة والقبيلة، والقبيلة بقبيلة لتكوين الشعب والقومية، والشعب بالشعب لتكوين الأمة (فتكون الأمة الواحدة ذات قوميات وشعوب متعددة كالأمة الإسلامية) وأخيرا تكوين (الأمة العالمية) أو المجتمع العالمي، الذي سوف نسميه بالمجتمع المعصوم، ونعني به أوسع إطار اجتماعي للحياة الإنسانية العادلة والمتكاملة، وضمن خصائص معينة سوف يأتي الحديث عنها في فصل لاحق من هذه الدراسة.

وعليه، فلا معنى للحديث عن الإنسان الفرد، فهذا لم يوجد إلا في أذهان الكتاب والفلاسفة، مثل دانيل ديفو في كتابه (حي بن يقظان) وبالتالي، فلا معنى للخوض في جدال فلسفي عقيم حول:

هل الاجتماع الإنساني ضروري أم لا، فالمشاهدة التاريخية واليومية تغنينا عن الجدال، لأن الحقيقة البديهية تقول: أن الحياة الاجتماعية ضرورية وفي هذا كفاية

وبهذا الصدد نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى:

(يا أيها الناس: إنا خلقناكم من ذكرا وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم) (الحجرات: 13).

فالآية الكريمة، كما تشمل على درس أخلاقي وهو جعل التعارف غاية التشعب والقبلية تنبيها على منع التفاخر بذلك، تشير أيضا إلى النكتة الاجتماعية في كيفية خلقة الإنسان حيث تبين أنه خلق على وجه ينتهي إلى تشكله. إلى أمم وقبائل مختلفة، والانتساب إلى الأمم والقبائل يفيد معرفة الأشخاص وتمييزهم بعضا عن بعض، وهو شرط أساسي في الحياة الاجتماعية، فلولا هذا الانتساب الذي هو الوجه المشترك بين الأفراد من جهة، وجه الامتياز من جهة أخرى، لتعذر معرفة الأشخاص وتمييزهم.

وبالنتيجة لم يمكن تشكيل الحياة الاجتماعية القائمة على روابط الأفراد، فالانتساب إلى الآمة والقبيلة وغيره من الخصائص والمميزات الطبيعية كالاختلاف في اللون والشكل والحجم تعتبر أساسا في الهوية الشخصية للفرد، إذ لولا الاختلاف في هذه الأمور وفي الانتساب لكان أفراد الإنسان كالمنتوجات المتحدة الشكل من مصنع واحد حيث لا يمكن تمييزها بعضا عن بعض، وإذا كان كذلك لم يمكن تشكيل التمدن البشري الذي يتوقف على ارتباط الأفراد وتبادل الآراء والأفكار والمعلومات. وإذن فالانتساب إلى الشعوب والقبائل له حكمة وغاية طبيعية, وهو التمييز ومعرفة الأشخاص، فلا ينبغي أن يجعل ذلك مبررا التفاخر والاستعلاء، فإن أساس الكرامة والشرف هو التقوى.

كما نقرأ قوله تعالى (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهراً) (الفرقان:54)

وهذه الآية تقرر أيضا بأن الروابط النسبية والسببية بين البشر،التي هي أساس الارتباط والتعارف من الأمور التي جعلت في أصل خلقة البشر لغاية طبيعية عامة.
ونقرأ أيضا قوله تعالى
: (أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ورحمة ربك خير مما يجمعون) (الزخرف:32).

والآية الكريمة وردت ردا على استبعاد المشركين إعطاء وسام النبوة لمحمد (ص)، فقال تعالى: (أهم يقسمون رحمة ربك.؟) استفهام انكاري بالنسبة إلى تقسيم المواهب الطبيعية بين الخلائق, ويجيب تعالى بأن وسائل العيش من الاستعداد الذاتي والأسباب الطبيعية مقسومة على الخلق من قبله تعالى ليسخر بعضهم بعضا في رفع حوائجه، وبذلك يصبح الجميع في خدمة الجميع، ورحمة ربك ـ أي الموهبة النبوة ـ خير مما يجمعون.

ومفاد هذه الآية الكريمة أن الناس ليسوا سواسية من حيث الإمكانات والاستعدادات الذاتية، إذ لو كانوا كذلك، وكان كل واحد منهم يملك ما يملكه غيره، وفاقدا لما يفقده، لم تكن بينهم حاجة البعض إلى البعض الآخر، وبالتالي لم يتحقق الترابط والخدمات المتبادلة، فأفراد الإنسان مختلفون من حيث القابليات والإمكانيات الجسمية والنفسية والعقلية والعاطفية، وقد فضل الله بعضهم عل بعض في بعض المواهب بدرجات، وربما يفضل البعض الآخر على البعض الفاضل في مواهب أخرى، وبذلك أصبح كل فرد محتاجا إلى الآخرين ومنساقا إلى عقد الترابط بينهم. وعلى هذا الأساس بنيت الحياة الاجتماعية المترابطة. فهذه الآية تدل أيضا على أن التمدن البشري أمر طبيعي[4].

 

أيهما اسبق، الفرد أم المجتمع

تحديد من هو الأسبق: الفرد أم المجتمع، من المسائل التي أشغل علماء الاجتماع الوضعي أنفسهم بها زمناً طويلاً. فمن قائل أن الأصالة والأسبقية للفرد، وعلى هذا الأساس بنى كل تصوراته الاجتماعية والحياتية اللاحقة، والتي أفرزت بعد ذلك المذهب الرأسمالي الذي يقوم على أساس الحرية الفردية والملكية الخاصة. ومن قائل أن الأصالة للمجتمع وعلى هذا الأساس بنى كل تصوراته الاجتماعية والحياتية اللاحقة، والتي أفرزت بعد ذلك المذهب الماركسي الذي يقوم على أساس الملكية العامة لوسائل الإنتاج وهيمنة الدولة الكاملة في الحياة الاقتصادية للمجتمع.

ولا احسب أننا بحاجة الآن إلى الدخول في معمعة جدلية حول هذه المسألة، خاصة وأن علماء الاجتماع الوضعي أنفسهم كفوا عن البحث فيها وتجاوزوها.

يقول ادواردكار: (إن السؤال عمن يأتي قبل ـ المجتمع أم الفرد ـ هو مثل السؤال عن الدجاجة والبيضة، حتى لو عالجته كسؤال تاريخي فليس بوسعك أن تجري تبسيطاً واحداً له، بطريقة أو أخرى، دون أن تحتاج إلى تبسيط معاكس وأحادي مماثل. إن المجتمع والفرد لا ينفصلان فهما ضروريان ومتممان لبعضهما وليسا ضدين)[5].

ويكفينا بعد هذا أن نقول أن المذهب الاجتماعي الإسلامي قرر، وقبل أكثر من 1400 سنة، ومن دون الخوض في جدال فلسفي عقيم، أصالة الفرد وأصالة المجتمع في نفس الوقت، وأعطى لكل منهما حقه ونصيبه الواقعي على مستوى التصورات وعلى مستوى البناء. وتستند فكرة أصالة المجتمع وأصالة الفرد إلى تصور واقعي لحقيقة المركب الاجتماعي ودور الفرد فيه وعلاقته معه.

ويرى هذا التصور أن المجتمع مركب حقيقي من نوع المركبات الطبيعية إلا أنه يتركب من النفسيات والأفكار والعواطف والميول والإرادات دون الأجسام والظواهر. فهو تركيب من الثقافات، كما أن العناصر المادية بالتفاعل مع بعض تمهد الطريق لحدوث ظاهرة جديدة، وبالعبارة الفلسفية أجزاء المادة بالفعل والانفعال والكسر والانكسار فيما بينها تستعد لقبول صورة جديدة وماهية حادثة، كذلك أفراد الإنسان يدخلون في نطاق المجتمع وكل منهم يحمل مواهبه الفطرية وثروته المكتسبة من الطبيعة، ثم يندمجون مع بعض بنفوسهم ونفسياتهم وتتحقق نفس جديدة يعبر عنها بالروح الجماعية، فهذا التركيب تركيب طبيعي أيضاً، ولكنه لا يشبه شيئاً من التركيبات الطبيعية الأخرى، وهو مركب طبيعي من جهة أن أجزاءه تؤثر وتتأثر كل من الآخر تأثراً عينياً خارجياً يوجب التغيير في الأجزاء وكسب هوية جديدة. ولكنه يتميز عن سائر المركبات الطبيعية في أن الكل والمركب هنا ليس موجوداً واقعاً له هويته الخاصة، بخلاف تلك المركبات الطبيعية فإن ذات الأجزاء تتبدل بعد التركيب من جراء التفاعل مع بعض ويتحقق المركب كأمر واقعي موحد. فالوجود حينئذ هو أمر واحد ذو أجزاء وقد تبدلت كثرة الأجزاء إلى وحدة الكل.

وأما تركيب المجتمع يتحقق من الأفراد فهو تركيب الواقعي لأن التفاعل واقعي يتحقق بين الأفراد ـ وهم أجزاء المجتمع ـ فتتبدل الصورة الفردية إلى صورة جماعية، ألا أن كثرة الأفراد لا تتبدل حقيقة إلى وحدة الكل، فليس هناك واحد حقيقي تنحل فيه الكثيرات، بل الكل هنا موجود اعتباري انتزاعي هو مجموعة الأفراد[6] ونستطيع أن نلاحظ أن هذا التصور الواقعي للمركب الاجتماعي يرفض من جهة انحلال وجود الأفراد(أجزاء المجتمع) في الكل، ويرفض وجوداً مستقلاً للمجتمع على غرار المركبات الكيمياوية وبذلك يلتزم بأصالة الفرد. ومن جهة أخرى يلتزم بوجود تركيب من قبيل التركيب الكيمياوي بين الشؤون الروحية والفكرية والعاطفية للأفراد، ويلتزم بأن الفرد يكتسب ماهية جديدة بالاندراج في المجتمع، هي الماهية الاجتماعية، وبالرغم من عدم وجود ماهية مستقلة للمجتمع نفسه وبذلك فهو يلتزم بأصالة المجتمع فبناءاً على هذا التصور تحدث ظاهرة جديدة واقعية وحية من جراء التفاعل والتأثير والتأثر المتقابل بين الأجزاء (الأفراد) وهذا الأمر الجديد هو الروح الجماعية والشعور والوجدان والإرادة الاجتماعية، وهو أمر زائد على الشعور والوجدان والإرادة والفكر الفردي للأفراد، وهذه الروح غالبة على الشعور الفردي[7].

 

الكينونة الاجتماعية

يعطي القران للمجتمع وجوداً وأجلاً وكتاباً وشعوراً وفهماً وعملاً وطاعة ومعصية [8]

 ومن الواضح أن الأمة لو لم تكن موجودة بوجود عيني حقيقي لم يصح افتراض المصير والفهم والشعور والطاعة والعصيان لها وهذا يدل على أن القران يؤيد وجود نوع من الحياة للمجتمع هي الحياة الاجتماعية فالحياة الاجتماعية ليست مجرد تمثيل واستعارة بل هي حقيقة واقعية، كما أن الموت الاجتماعي حقيقة بدوره أيضا[9]

بهذا الصدد، نقرأ في القران الكريم قوله تعالى (ولكل آمة اجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)(الأعراف:34).

وأيضاً قوله تعالى (لكل آمة اجل فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (يونس: 49).

ونلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين أن الآجل أضيف إلى الآمة أي إلى الوجود الاجتماعي للناس، لا إلى هذا الفرد بالذات، أو هذا الفرد بالذات وإذن، فهناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكل إنسان بوصفه الفردي، أجل وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد وللأمة بوصفها مجتمعاً ينشئ ما بين أفراده العلاقات والصلات القائمة على أساس مجموعة من الأفكار والمبادئ، فهذا المجتمع الذي يعبر عنه القران بالآمة له أجل، وموت، كما أن الفرد له أجل وموت، كما أن موت الفرد يخضع لأجل وناموس كذلك الأمم لها آجالها، وهناك نواميس تحد لكل آمة هذا الأجل[10].

ونجد في القران الكريم أيضاً تمييزاً بين عمل الفرد وعمل المجتمع، ونلاحظ تبعاً لهذا أن القران يتحدث عن كتاب للفرد وكتاب للأمة.

فعن كتاب أعمال الفرد نقرأ: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً، إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً) (الإسراء:13).

هذا الكتاب خاص بكل إنسان على حدة، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعماله، من حسناته وسيئاته وهفواته وسقطاته وصعوده وهبوطه إلا أحصاها وفي يوم القيامة سوف يعطي كل إنسان كتابه. أما بخصوص كتاب الأمة، فنقرأ قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية، كل أمة تدعى إلى كتابها، اليوم تجرون ما كنتم تعملون. هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) (الجاثية: 28 ـ 29).

وفي هذا الكتاب يسجل الله أعمال الأمة، أي العمل الذي يتألف من ثلاثة أبعاد: البعد الفاعلي، والبعد الغائي، والبعد المادي وهو العمل الذي ينطوي على هدف وغاية، ويكون في نفس الوقت ذا أرضية أوسع من حدود الفرد.

بل أن الذي يستظهر ويلاحظ من عدد آخر من الآيات الكريمة انه لا يوجد فقط كتاب للفرد وكتاب للمجتمع، بل يوجد أيضاً إحضار للفرد وإحضار للمجتمع (أو الأمة) بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة معنى الإحضار الفردي نقرأ قوله تعالى (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً، لقد أحصاهم وعدهم عداً، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) (مريم 93 ـ 95).

وعن الإحضار الجماعي نقرأ قوله تعالى: (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن) (التغابن:9).

وهذا هو إحضار المجتمع أو الأمة بين يدي الله تعالى، والمستأنس به من سياق الآيات الكريمة أن الإحضار الجماعي يكون من اجل إعادة العلاقات الاجتماعية إلى نصابها الحق، ولهذا سمى القران الكريم هذا الإحضار بيوم التغابن حيث يجعل التغابن عن طريق حضور المجتمع كله، ويقوم المغبون فيه ـ في الدنيا ـ بأخذ حقه ممن ظلمه[11].

ونقرأ في القران الكريم أيضا: (زينا لكل أمة عملهم) (الأنعام/108).

وتدل هذه الآية على أن كل أمة لها شعور واحد، ومقاييس خاصة وأسلوب خاص للتفكير وأن الادراك والشعور الجماعي لكل أمة يختص بها، وإن كل أمة لها مقاييسها في الحكم، وخصوصاً في المسائل المربوطة بالادراكات العملية، ولكل أمة ذوقاً أدرا كيا خاصا وربما تستحسن أمة عملاً بينما تستقبحه أمة أخرى، فالجو الاجتماعي الخاص للأمة يصنع ذوقها الادراك.

 ونقرأ في القران الكريم قوله تعالى: (وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فأخذتهم، فكيف كان عقاب) (غافر/5).

وهذه الآية تتحدث عن إرادة سوء اجتماعية لمحاولة فاشلة في معارضة الحق، وتحكم الآية الكريمة بأن جزاء هذا العمل والارادة الاجتماعية هذا العذاب العام الشامل.

ثم أن هناك موارد في القران الكريم ينسب العمل الصادر من الفرد إلى مجتمع والعمل الصادر من جيل إلى الأجيال المتأخرة، وذلك فيما كان لهم جميعاً فكر اجتماعي واحد، وإرادة اجتماعية واحدة، وكما يقال: لهم روح اجتماعية واحدة.

مثال ذلك ما ورد في قصة ثمود حيث عمد أحدهم إلى عقر ناقة صالح والقران ينسب ذلك إلى القوم بأجمعهم، فعقروها، فأعتبرهم جميعاً مجرمين كما أعتبرهم جميعاً مستحقي العقاب، فقال تعالى: (فدمدم عليهم ربهم).

وقد أوضح ذلك الإمام علي (ع) في إحدى خطبه في نهج البلاغة، حيث قال (يا أيها الناس إنما يجمع الناس الرضا والسخط) فبين الإمام أن الرضا والسخط مقياس الوحدة في المصير، فإذا رضي الناس ـ أي أفراد المجتمع ـ عامة بعمل – وإن أتى به واحد منهم – فهم مشتركون في حكمه وجزائه، وكذلك اجتماعهم على السخط بالنسبة إلى عمل، قال الإمام علي (ع): إنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا، فقال: (فعقروها، فأصبحوا نادمين).

وهنا ينبغي أن نشير إلى أن الرضا بالمعصية ما دام مجرد رضا في النفس ولم يصاحبه عمل خارجي لا يعتبر ذنباً، فلو أذنب أحد وعلم به آخر قبل العمل أو بعده ففرح بذلك لم يعتبر مذنباً، بل إرادة الذنب والعزم عليه لا يعد ذنباً أيضاً ما لم يصل إلى مرحلة العمل، وإنما يعد الرضا بالذنب ذنبا إذا كان مؤثراً في إرادة المجرم وتصميمه وعمله، كما إذا كان الذنب جريمة اجتماعية، فالجو الاجتماعي وروح الجماعية، تستقبل الذنب وترضى به وتسير نحوه ويباشر العمل فرد من أفراد ذلك المجتمع في حين أن تصميمه وإرادته للعمل جزء من تصميم الكل وإرادته، وهكذا يعد الذنب ذنباً للجميع وهذا هو المراد من كلام الإمام علي، الذي ورد تفسيراً للآية الكريمة، وأما مجرد الفرح والرضا من دون أن يكون لهما مدخلية في الذنب فلا يعدان ذنباً.

وقد نسب القران بعض الأعمال التي ارتكبتها الأجيال السابقة إلى الجيل المتأخر، كما نسب أعمال بني إسرائيل في عهود الأنبياء السابقين إلى اليهود في عهد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وقد حكم عليهم باستحقاق الذلة والمسكنة لقتلهم الأنبياء بغير حق، والسر في ذلكم أن هؤلاء ـ من جهة النظر القرآنيةـ استمرار لأولئك القوم، بل هم قوم واحد بلحاظ الروح الاجتماعية[12].

وقد شرح العلامة الطباطبائي هذه الفكرة وبين أن المجتمع إذا اصبح ذا فكرة اجتماعية واحدة وروح اجتماعية واحدة، كان حكمه حكم الفرد الواحد من الإنسان، وقال: (إن أفراد مجتمع إنساني إذا تفكروا تفكراً اجتماعياً فصلاحهم وتقواهم أو إفسادهم وإجرامهم وإحسانهم وإساءتهم إنما هي ما لمجتمعهم من هذه الأوصاف إذا أخذ ذا شخصية واحدة وهكذا صنع القران في قضائه على الأمم والأقوام التي ألجأتهم التعصبات المذهبية أو القومية أن يتفكروا تفكيرا اجتماعياً كاليهود والأعراب وعدة من الأمم السالفة فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين ويعاقب الحاضرين ويوبخهم بأعمال الغائبين والماضين كل ذلك لأنه القضاء الحق فيمن يتفكر فكراً اجتماعيا)[13].

ولكن هذا القول لا ينبغي أن يجرنا إلى الوهم الذي وقع فيه عدد من المفكرين والفلاسفة الأوربيين حينما توهموا بأن المجتمع كائن عملاق له وجود وحدوي عضوي متميز عن سائر الأفراد وكل فرد فيه ليس إلا بمثابة الخلية في جسم الكائن العملاق، كما تصور هيجل مثلاً، بحيث يتخذ العملاق من كل فرد فيه نافذة له على الواقع، بقدر ما يجسد في هذا الفرد من قابلياته هو، وإذن، فكل إبداع إنما هو إبداع ذلك العملاق وما الأفراد إلا نوافذ يعبر فيها المجتمع عن إبداعاته وقابلياته وأفكاره، إن هذا التصور غير صحيح، ولسنا بحاجة إليه ولسنا بحاجة إلى الإغراق في الخيال إلى هذه الدرجة لكي ننحت هذا العملاق الأسطوري من هؤلاء الأفراد[14].


[1] انظر:المجتمع والتاريخ مرتضى مطهري،ص 15.

[2] معجم علم الاجتماع، دينكن ميتشل، ترجمة: د. إحسان محمد الحسن، ص 226

[3] الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين طباطبائي،ج4 ص92

[4] المجتمع والتاريخ، ص 17 ـ 19.

[5]  ما هو المجتمع ؟ إدواردكار، ترجمة: ماهر كيالي وبيار عقيل، ص33.

[6]  المجتمع والتاريخ، ص21 ـ 22.

[7]  ن. م.، ص23 ـ 24.

[8]  الميزان، ج4، ص96.

[9]  المجتمع والتاريخ ص24.

[10]  المجتمع والتاريخ ص24.

[11]  ن، م، المحاضرة 6.

[12] المجتمع والتاريخ،ص 25ـ27.

[13]  الميزان ج4، ص 105ـ  106

[14] التفسير الموضوعي للقران، المحاضرة 6.

 

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست