.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

ركائز الخلافة

خطأ العلاقة الاجتماعية

العلاقة بين الخطين

نشأت المجتمع البشري

 

ركائز الخلافة

وعملية الاستخلاف الرباني للجماعة البشرية على الأرض بهذا المفهوم الواسع تعني:

أولاً، انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد، وهو المستخلف، أي الله سبحانه وتعالى، الذي إستخلفها على الأرض بدلاً من كل الانتماءات الأخرى، والإيمان بسيد واحد ومالك واحد للكون وكل ما فيه، وهذا هو التوحيد الخالص الذي قام على أساسه الإسلام وحملت لواءه كل ثورات الأنبياء، تحت شعار لا إله ألا الله.

(صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون) (البقرة:138).

(يا صاحبي السجن،أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) (يوسف:39).

ثانياً، إقامة العلاقات الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله، وتحرير الإنسان من عبودية الأسماء التي تمثل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت: (ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها) (يوسف:40).

ثالثاً، تجسيد روح الاخوة العامة في كل العلاقات الاجتماعية بعد محو ألوان الاستغلال والتسلط، فما دام الله سبحانه وتعالى واحداً، ولا سيادة إلا له، والناس جميعاً عباده، ومتساوون بالنسبة إليه، فمن الطبيعي أن يكونون اخوة متكافئين في الكرامة الإنسانية والحقوق والواجبات الاجتماعية، ولا تفاضل ولا تمييز في الحقوق الإنسانية ولا يقوم التفاضل على مقياس الكرامة عند الله تعالى إلا على أساس العمل الصالح تقوى أو علماً أو جهاداً: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)(النجم: 39).

رابعاً، أن الخلافة أمانة، والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب، إذ بدون ادراك الكائن أنه مسؤول لا يمكن أن ينهض بأعباء الأمانة أو يختار لممارسة دور الخلافة:(أن العهد كان مسئولاً) (الإسراء/34). فهي من ناحية تعني الارتباط والتقيد، فالجماعة البشرية التي تتحمل مسؤوليات الخلافة على الأرض إنما تمارس هذا الدور بوصفها خليفة عن الله، ولهذا فهي غير مخولة أن تحكم بهداها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه الله سبحانه وتعالى، لأن هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف، وإنما تحكم بالحق وتؤدي إلى الله تعالى أمانته بتطبيق أحكامه على عباده وبلاده.

وتعني المسؤولية من ناحية أخرى إن الإنسان كائن حر، إذا بدون الاختيار والحرية لا معنى للمسؤولية، ومن أجل ذلك كان بالإمكان أن يستنتج من جعل الله خليفة على الأرض أنه يجعل الكائن الحر المختار الذي بإمكانه أن يصلح في الأرض، وبإمكانه أن يفسد أيضاً، وبإرادته واختياره يحدد ما يحققه من هذه الإمكانات[1]. (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) (الإنسان/3).

 

خطأ العلاقة الاجتماعية

تتضمن العلاقة الاجتماعية خطين، هما: خط علاقة الإنسان مع الطبيعة، وخط علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان. ويمثل الخط الأول مصالح الإنسان الطبيعية، ويمثل الخط الثاني مصالح الإنسان الاجتماعية.

ويختلف هذان الخطان أحدهما عن الآخر، ويستقل عنه استقلالاً نسبياً، مع وجود هامش من التأثير المتبادل المحدود بينهما.

 ويواجه الخط الأول، الذي يمثل علاقات الإنسان مع الطبيعة، من خلال استثمارها وتطويعها وإشباع حاجاته الحياتية منها، مشكلة رئيسية. وهي: التناقض بين الإنسان والطبيعة.

ولهذا التناقض حل مستمد من قانون موضوعي يمثل سنة ثابتة من سنن التاريخ وهو: قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة. ذلك لأن الإنسان كلما تضائل جهله بالطبيعة وكلما إزدادت خبرته بأسرارها وقوانينها، إزداد سيطرة عليها وتمكنا من تطويعها وتذليلها. أن الخبرة تتولد من الممارسة، والممارسة بدورها تولد خبرة جديدة.

إن هذا القانون يقدم الحل المستمر والمتنامي لهذا التناقض. فان معرفة الإنسان بالطبيعة من خلال ممارسته لها، تكسبه خبرة جديدة. وهذه الخبرة الجديدة تعطيه سيطرة جديدة على ميدان جديد من ميادين الطبيعة. وهذه الممارسة تتحول بدورها الى خبرة. وهكذا تنمو الخبرة الإنسانية باستمرار وبشكل تراكمي ما لم تحصل كارثة طبيعية أو بشرية.

والقران الكريم يشير إلى هذا القانون التاريخي بقوله: (وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)(إبراهيم/ 34).

والمستفاد من هذه الآية الكريمة أن (السؤال) المذكور فيها لا يراد منه الدعاء، لأن الآية تتكلم عن الإنسانية ككل، عمن يؤمن بالله، ومن لا يؤمن، من يدعو الله ومن لا يدعوه، إضافة إلى أن الدعاء لا يتضمن تحصيل الشيء والطلب على نحو حتمي، بينما الآية تتحدث عن استجابة فعلية بإعطاء ما سأل عنه، وعليه فالسؤال الفعلي والمطلب التكويني هو الذي يحقق باستمرار التطبيقات التاريخية لقانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة.

أما الخط الثاني من العلاقات الاجتماعية، أي علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، فيواجه مشكلة أخرى هي: التناقض الاجتماعي داخل الجماعة البشرية ذاتها.

وجوهر هذه المشكلة هو التناقض بين الإنسان القوي والإنسان الضعيف، الذي يتيح للأول استغلال الثاني واستضعافه. إن هذا التناقض هو الذي يؤدي إلى انقسام المجتمع الإنساني إلى طائفتين: طائفة المستكبرين وطائفة المستضعفين.

وحل هذا التناقض في المذهب الاجتماعي القرآني يكمن في تغيير المحتوى الداخلي للإنسان، في حل التناقض الداخلي في الإنسان بين نوازع الخير ونوازع الشر التي يشير إليها القرآن بقوله: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) (الشمس:7 ـ 10).

إن تصفية التناقضات الاجتماعية لا تتحقق ما لم يتم حل هذا التناقض الداخلي في الإنسان. ولذلك، فإن الإسلام يرى أن حل التناقض الاجتماعي يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع حل التناقض الإنساني الداخلي. بل أن ترك التناقض الداخلي على حاله والانشغال بتصفية التناقضات القائمة على الساحة الاجتماعية بصيغها السياسية والاقتصادية والتشريعية، كما تفعل المدارس الاجتماعية الوضعية، لا يؤدي إلا إلى حل مبتور للمشكلة الاجتماعية.

أن الحل الموضوعي للمشكلة الاجتماعية يجب أن يتم على مستويين: مستوى (الجهاد الأكبر) وهو العمل على تصفية التناقض الرئيسي الكائن في أعماق الإنسان، ومستوى (الجهاد الأصغر) الذي ينصب على تصفية كافة أشكال التناقضات الاجتماعية الفوقية الأخرى.

وبهذا يختلف المذهب الاجتماعي القرآني عن المدارس الاجتماعية الوضعية (كالماركسية والرأسمالية) والتي لم تكشف الترابط الموضوعي بين التناقض الإنساني والتناقض الاجتماعي، بل وربما أخطأت في فهم العلاقة بينهما[2].

وسنعود إلى هذه المسألة في فصل (جوهر المشكلة الاجتماعية) وفصل (الديناميكيا الاجتماعية) وفصل (التغيير الاجتماعي).

 

العلاقة بين الخطين

توجد بين خطي العلاقة المعنوية (خط العلاقات الاجتماعية، وخط العلاقات الطبيعية)علاقة تأثير متبادل نسبية. فالكل من الخطين لون من التأثير الطردي، أو العكسي، على الخط الآخر.

ويبرز القران الكريم هذا التأثير المتبادل في محورين:

المحور الأول، تأثير خط علاقات الإنسان مع الطبيعة على خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان.

ومؤدى هذا المحور أنه كلما نمت قدرة الإنسان على استثمار الطبيعة واتسعت سيطرته عليها وازداد اغتناءً بكنوزها، أصبح أكثر قدرة على تحقيق الاستغلال في خط علاقاته مع أخيه الإنسان.

 وبهذا الصدد نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى:(كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)(العلق: 6).

ومفاد هذه الآية أن الإنسانية بقدر ما تتمكن من الطبيعة وتتوصل إلى وسائل إنتاج أقوى وأوسع، بهذا القدر تنفتح أمام الأقوياء والأثرياء إمكانيات واغراءات استثمار أدوات الإنتاج في سبيل استغلال الضعفاء، حيث يستطيع الإنسان المالك لوسائل الإنتاج أن يمارس قدراً أكبر من استغلال الآخرين، إذا لم يحل تناقضه الداخلي، أي إذا استسلم لنوازع الشر الكامنة فيه[3].

 إن (الطغيان) هو النتيجة الحتمية لتصور الإنسان أنه (غني) ولهذا نجد أن القرآن الكريم يركز على مفهوم (فقر) الإنسان واحتياجه الدائم إلى الله، ضمن مخططه الأشمل لحل التناقض الإنساني الداخلي، وبهذا الصدد نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى:

(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) (فاطر: 15).

(ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء)(محمد: 38).

إن الإنسان المالك للثروة ويتصور نفسه غنيا ًوغير محتاج لأحد بما في ذلك الله سبحانه وتعالى، مثل قارون، الذي وردت قصته في القرآن، مثل هذا الإنسان سوف يطق لنفسه عنان استغلال الآخرين، وسرقة جهودهم، وإقامة علاقاته الاجتماعية على أساس الظلم والطغيان.

أما الإنسان الذي يملأ كيانه الشعور باحتياجه إلى الله في رزقه وقوته وثروته، فإنه سوف يحرص على إقامة علاقاته الاجتماعية على أساس العدل والحق والرحمة لأن ذلك هو سر استمرار غناه وثروته، ومفتاح سعادته ورخائه، لأن هذا الوضع الاقتصادي الذي حققه مربوط برضى الله عنه ورضا الله لا يتحقق إلا حين يكون الإنسان عادلاً مع الآخرين، حريصاً على حفظ حقوقهم.

ولذا نجد أن (رأس المال) في المجتمع الرأسمالي هو أداة الاستغلال والاضطهاد واستضعاف الناس وسرقة حقوقهم، وشراء ضعاف الناس منهم، بل وشراء السلطة السياسية أيضاً. أو كما يعبر الإمام علي (ع) بأن من ملك رأس المال ملك السلطان.

أما في المجتمع الإسلامي فإن رأس المال هو (نعمة) بيد الغني يتعامل معها على أساس قانون:(لئن شكرتم لأزيدنكم) (إبراهيم/7) ويتحقق الشكر على النعمة والثراء بإشاعة العدل بين الناس، ومساعدة الفقراء والمحتاجين وإخراج حقوقهم من المال: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (الذاريات:19) (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) (المعارج/24) وإخراج حق الله منه كالخمس والزكاة والصدقات والضرائب المالية التي يفرضها ولي الأمر: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)(التوبة/103) وبذلك يكون أنفاق المال في ضوء الأحكام الإسلامية هو الطريق إلى مرضاة الله، باعتباره هدف الإنسان المسلم:

(مثل الذين ينفقون أموالهم في سيبل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم * الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون *  قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم * يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان عليه تراب، فأصابه وابل فتركه صلداً، لا يقدرون على شيء مما كسبوا،والله لا يهدي القوم الكافرين * ومثل الذين ينفقون أموالهم إبتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير) (البقرة: 261 – 265).

أما المحور الثاني، فهو تأثير خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان على خط علاقات الإنسان مع الطبيعة.

ومؤدى هذا المحور أنه كلما جسدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة واستوعبت قيمها، وابتعدت عن أي لون من ألوان الظلم الاستغلال، ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة، (وأخرجت الأرض أثقالها)(الزلزلة/2) وتفتحت الطبيعة عن كنوزها، وأعطت المخبوء من ثرواتها، ونزلت البركات من السماء، وتفجرت الأرض بالنعمة والرخاء،ذلك لأن العدالة الاجتماعية هي الإطار الأنسب لتحقيق التنمية الإنتاجية بأعلى درجاتها.

ويشير القران الكريم إلى هذا بقوله:

(وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءاً غدقاً) (الجن:16).

(ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) (المائدة: 66).

(ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) (الأعراف/ 96).

ومفاد هذه الآيات أن مدى الظلم في المجتمع يتناسب تناسباً عكسياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة، ويتناسب مدى العدل فيه تناسباً طردياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة [4].

وليست هذه القاعدة ذات محتوى غيبي فقط، وإنما هي تشكل سنة من سنن المجتمع، لأن الظلم يخلق مجتمعاً ممزقاً متناحراً مشتتاً بل وبعمل على تمزيق طاقات المجتمع، وبعثرة إمكانياته، كما سوف نلاحظ عند الحديث عن المجتمع الفرعوني، وفي مجتمع كهذا لا يستطيع الإنسان أن يحشد قواه الحقيقية من أجل السيطرة على الطبيعة واستثمارها.

أما مجتمع العدل... فهو مجتمع تتوحد فيه الطاقات والإمكانيات وتتساوى فيه كل الفرص، وهذا هو سر الازدهار الذي تتحدث عنه الروايات في المجتمع المعصوم، بقيادة الإمام المهدي (عج)، ذلك لأن هذا المجتمع يجسد العدل بأعلى درجاته، مما يؤدي إلى الازدهار الاقتصادي والإنتاجي بأجلى  صوره[5].

ويلاحظ أن هذا الفهم للعلاقة الاجتماعية يلعب دوراً كبيراً في رسم الاتجاه العام للتشريع الإسلامي فالمعروف أن هذا التشريع يتألف من نوعين من الأحكام أو العناصر، هما: العناصر الثابتة، والعناصر المتحركة حيث أن العناصر الثابتة لا تتغير بتغير الأزمان والظروف والمكان، بينما تتغير العناصر المتحركة بتغير هذه العوامل.

فالعناصر الثابتة في التشريع الإسلامي تعبر عن مساحة (الاستقلال) النسبي لخطى العلاقة: علاقة الإنسان مع الإنسان وعلاقة الإنسان مع الطبيعة.

أما العناصر المتحركة فهي تعكس مساحة التأثير المتبادل بين الخطين[6].

وهذه المساحة هي التي تسمى فقهياً بمنطقة الفراغ[7] في التشريع الإسلامي، والتي تركت للحاكم الشرعي لكي يملأها وفقاً لمؤشرات إسلامية عامة، نوجزها بالمؤشرات الخمس التالية:

أولاً، اتجاه الشريعة الذي تكشف عنه مجموعة من الأحكام المنصوصة في القرآن والسنة.

ثانياً، الهدف المنصوص كحكم ثابت.

ثالثاً، القيم الاجتماعية التي أكد الإسلام على الاهتمام بها.

رابعاً، اتجاه العناصر المتحركة على يد النبي.

خامساً، الأهداف التي حددت لولي الأمر[8].

 

الفصل الثالث

نشأت المجتمع البشري

يرتبط الحديث حول نشأة المجتمع البشري بمعرفة الغاية من الخلق، ويحسن بنا أن نعرف هذه الغابة ـ حسب الأطروحة القرآنية ـ قبل البدء بطرح التصورات الوضعية حول المسألة وما ورد في المذهب الاجتماعي القرآني بخصوصها.

أوضح القران الكريم غاية الخلق وإيجاد المجتمع البشري على الأرض في عدة آيات منها:

(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات: 56).

(وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض، كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينه الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون(النور:55).

(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)(التوبة:33).

والمستفاد من مجموع الآيات السابقة أن الله خلق الخلق ـ وهو الغني عنهم ـ من أجل وصولهم إلى كمالهم المنشود المتمثل بإخلاص العبادة له. والكمال الذي يتعين على الجماعة البشرية أن تحققه يتمثل بوجود الفرد الكامل، والمجتمع الكامل، والدولة الكاملة،حيث يتم بناء حياة الفرد والمجتمع والدولة وفقاً للتعاليم الإلهية باعتبار أن هذا هو طريق الكمال الوحيد. وتحقيق هذا الكمال مرتبط بمرور الإنسان بمراحل من التجربة والممارسة والاختبار والابتلاء في إطار حياة جمعية يوفرها المجتمع البشري الذي يسير بمجمله نحو تحقيق الدرجات العليا من الكمال من خلال مسيرته التكاملية في الوجود[9].

وقد حاول علماء الاجتماع الوضعي ـ والذين مارسوا دراساتهم بمعزل عن المعرفة الإلهية ـ تفسير نشأة المجتمع البشري على الأرض، وقد أسفرت هذه الدراسات عن تبلور عدد من النظريات في هذا المجال.

فهناك (نظرية التعاقد الاجتماعي) التي تفترض أن الأفراد الأوائل، عندما تشابكت مصالحهم وتعقدت أحوالهم ولمسوا أن الحالة الفطرية السابقة التي كانت سائدة بينهم من قبل لا تستقيم مع ما استحدث في شؤونهم ـ لجأوا إلى التعاقد لإنشاء حياة منظمة، بمعنى أن المجتمع نشأ صناعياً وعن قصد وروية وقام على أساس الإرادة والتعاقد.

وهناك (النظرية الأنثروبولوجية) التي ترى أن المجتمع وليد تطور حياة الإنسان من الكهف إلى القرية ثم إلى المدينة، وأن الإنسانية قطعت تاريخاً شاقاً طويلا حتى وصلت إلى المرحلة الاجتماعية المنظمة. وتفترض هذه المدرسة أن البشرية قطعت المراحل التالية في تطورها: مرحلة الصيد وقطف الثمار، ثم مرحلة رعي الأنعام والزراعة ثم مرحلة قيام المدن والأمصار وقيام الإمبراطوريات القديمة، ثم مرحلة الدول القومية الحديثة.

وهناك (النظرية النفسية) وهي في الواقع عبارة عن آراء خاصة ومتباينة لعلماء النفس أكثر من كونها نظرية متكاملة. فبعض علماء النفس يفسر نشأة الحياة الاجتماعية بالرجوع إلى غريزة حب التجمع، وبعضهم يفسر الحياة الاجتماعية بالرجوع إلى غرائز الأبوة والأمومة والبنوة، ويفسر آخرون نشأة المجتمع بالرجوع إلى عنصري الخير والشر الذين تنطوي عليهما كل طبيعة إنسانية، ويرجع بعض علماء النفس نشأة المجتمع إلى غريزتي حب التسلط وحب الخضوع، ويذهب غيرهم إلى تفسير نشأة الحياة الاجتماعية بظاهرة التقليد ولا سيما تارد  ولاكومب وأتباعهما.

وهناك (النظرية البيولوجية) التي تفسر نشأة المجتمع بالرجوع إلى القوانين البيولوجية، فالمجتمع جسم حي ويمثل مظهراً من مظاهر الحياة العامة ويسير وفق القوانين التي تسير عليها الظواهر البيولوجية، ويعتبر الفيلسوف الإنجليزي (هربرت سبنسر) والعالم الروسي ليلنفلد من أشهر أنصار هذه المدرسة في العصر الحديث.

وهناك (نظرية التفاعل الاجتماعي)التي ترجع نشأة الحياة الاجتماعية إلى تفاعل العلاقة بين الأفراد، فقد أدى النمو المتزايد في هذا التفاعل وسرعة تطوره إلى قيام الحياة الاجتماعية المستقرة، ومعظم أنصار هذه المدرسة من العلماء الإنجليز والأميركيين المحدثين الذين بهرهم ما قطعته الشعوب الأوربية والأميركية من تطور سريع واضطراد في النمو منذ بداية القرن التاسع عشر.

وأخيراً هناك (النظرية الاجتماعية) التي تقرر النشأة التلقائية للحياة الاجتماعية لأن الإنسان حيوان اجتماعي ونزوعه إلى الاجتماع فطري وتلقائي، والطبيعة هي التي تدفع الأفراد إلى حياة الاجتماع بما ركب فيهم من فطرة وتلقائية وحياة الاجتماع هي التي تعطي الفرد وجوده الحقيقي وتضفي عليه مقومات شخصيته، لأن الإنسان الفرد في الكون ليس له وجود، وهذا ما ذهب إليه أوجست كونت ودافع عنه دوركايم دفاعاً حاراً[10].

ويعتبر المذهب الاجتماعي القرآني نشوء المجتمع البشري قراراً إلهياً، فعند ما خلق الله آدم، باعتباره ممثلاً للمجموعة البشرية، قرر له السير في طريق تكامله لتحقيق العبادة الخالصة لله، باعتباره خليفة الله، ولا يتحقق هذا الغرض إلا في إطار الحياة الاجتماعية ولذا وضع الله في الإنسان ما يجعل نزوعه إلى التجمع أمراً فطرياً وطبيعياً، وتركزت القوة التي تدفع الإنسان إلى بعاملين هما:

العامل الأول، التناسل أو الجنس: حيث يقول القرآن الكريم (زين للناس حب الشهوات من النساء) (آل عمران/ 14)، فبعد أن اكتشف الإنسان غريزته الجنسية أخذت تلح عليه لإشباعها، وهذا ما كان يدفعه إلى الاجتماع بالجنس الآخر، وهكذا ظهرت (العائلة) كأول وحدة في البناء الاجتماعي. يقول العلامة الطباطبائي: (والذي يظهر من التأمل في حالة هذا النوع أن أول ما ظهر من الاجتماع فيه الاجتماع المنزلي بالازدواج، لكن عامله الطبيعي وهو جهاز التناسل، أقوى عوامل الاجتماع، لعدم تحققه إلا بأزيد من فرد واحد أصلاً، بخلاف مثل التغذي وغيره)[11].

 أما العامل الثاني فهو (توسيط الإنسان غيره في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته وتحميل إرادته عليه)[12] حيث يشير إليه القرآن بقوله: (ليتخذ بعضكم بعضاً سخرياً) (الزخرف/32).

فقد اخذ الإنسان(آدم وزوجته ومن معهما) يستخدم الأشياء من حوله لحظة هبوطه، فأخذ يتصرف بالماديات، والنباتات، والحيوانات، في مأكله ومشربه، ولم يقتصر الاستخدام على هذا، وإنما امتد ليشمل (سائر أفراد نوعه من الآدميين فيستخدمها كل استخدام ممكن ويتصرف في وجودها وأفعالها بما يتيسر له من التصرف)[13].

ويقسم القران الكريم حياة الإنسان إلى الأرض ثلاث أدوار هي: دور الحضانة، ودور الوحدة، ودور التشتت والاختلاف[14].



[1] خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء {ضمن كتاب: الإسلام يقود الحياة) ص133 ـ 139.

[2] التفسير الموضوعي للقرآن، المحاضرة 12.

[3] ن. م.،المحاضرة 13.

[4]  ن. م. المحاضرة 13.

[5] ن. م. المحاضرة 13.

[6] ن. م. المحاضرة 14.

[7] ن. م. المحاضرة 13.

[8] إقرأ كراس: صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي.

[9] للتفصيل إقرأ: تاريخ الغيبة الكبرى، محمد الصدر ص 201 ـ 239.

[10] للتفصيل اقرأ: علم الاجتماع ومدارسه، د. مصطفى الخشاب، جـ2، صـ 126 – 140.

[11] الميزان، جـ4،ص 92 ـ 93.

[12] ن. م. ص93.

[13] ن. م.، ج2، ص116 ـ 117.

[14] التفسير الموضوعي، المحاضرة 14.

 

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست