.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

المجتمع الإسلامي

مجتمع الخلافة الربانية

البعد السياسي للخلافة

البعد الاقتصادي للخلافة

 

  الفصل الحادي عشر

المجتمع الإسلامي

المجتمع الإسلامي هو التجسيد الحي للأطروحة الإسلامية للحياة الإنسانية وهو الترجمة الأمنية للمذهب الاجتماعي القرآني. وقد جعل القران الكريم إقامة المجتمع الإسلامي (أمرا) إلهيا واجبا على جميع المؤمنين، حيث يقول:

(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) (البقرة:209).
وفي تفسير هذه الآية يقول العلامة الطباطبائي:

(السلم والإسلام والتسليم واحدة، وكافة كلمة تأكيد بمعنى جميعا، ولما كان الخطاب للمؤمنين وقد أمروا بالدخول في السلم كافة، فهو أمر متعلق بالمجموع وبكل واحد من أجزائه، فيجب ذلك على كل مؤمن، ويجب على الجمع أن لا يختلفوا في ذلك، ويسلموا الأمر لله ولرسوله (ص) وأيضا الخطاب للمؤمنين خاصة، فالسلم المدعو إليه هو التسليم لله سبحانه بعد الإيمان به، فيجب على المؤمنين أن يسلموا الأمر إليه، ولا يذعنوا لأنفسهم صلاحا باستبداد من الرأي ولا يضعوا لأنفسهم من عند أنفسهم طريقا يسلكونه من دون أن يبينه الله ورسوله[1] .

وبالتأمل في كلمة (أدخلوا) الواردة في الآية الكريمة يتضح أنها تعني أن السلم المقصود ما هو إلا كيان متميز يطالب المسلمون بالدخول فيه، وليس هو صفة شخصية يقم بها الفرد المؤمن منفصلا عن بقية المؤمنين.

فالآية تدعوا إلى إقامة كيان محسوس يتميز بالاستسلام والخضوع للخالق وتسليم القيادة العملية له،وهذا الكيان هو: المجتمع الإسلامي.

فلا يريد القران الكريم من الإنسان المسلم المؤمن بالله سبحانه وتعالى الاستسلام والخضوع الشخصي له فحسب وإنما يريد منه بعد كل هذا أن يكون عاملا من أجل الكيان الإسلامي الذي يتميز بطابع الاستسلام والخضوع للخالق، وهو بعد ذلك يطالب المسلمين جميعا بالانخراط ضمن هذا الكيان الواحد المستسلم[2].

ويقوم المجتمع الإسلامي على أرضية تتألف من العناصر التالية:

أولا، العقيدة، وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي التي تحدد نظرة المسلم إلى الكون بصورة عامة.

ثانيا، المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء، في ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.

ثالثا,العواطف والأحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها إلى صف تلك المفاهيم، لأن المفهوم ـ بصفته فكرة إسلامية عن واقع معين ـ يفجر في نفس المسلم شعورا خاصا تجاه ذلك الواقع ويحدد اتجاهه العاطفي نحوه. فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية، والمفاهيم الإسلامية بدورها منبثقة من العقيدة الإسلامية الأساسية[3].

وبناء على هذه الأرضية فإن القاعدة الأساسية في بناء المجتمع الإسلامي هي الإيمان بالله، وبصفاته فتوحيد الله هو الشرط الضروري لإقامة المجتمع الإسلامي، وتمييزه عن غيره من المجتمعات الجاهلية.

وتوحيد الله يعني إعلان الولاء المطلع له، باعتباره المثل الأعلى المطلق للمجتمع الإسلامي.إن المجتمع الإسلامي يطرح جانبا المثل العليا المزيفة: المنخفضة والمحدودة, التي تتخذها المجتمعات البشرية المنحرفة عن الخط العام للمسيرة الإنسانية نحو الله سبحانه وتعالى.

واتخاذ الله مثلا أعلى مطلقا يؤثر تأثيراً نوعيا على مسيرة المجتمع الإسلامي.فقد عرفنا في الصفحات السابقة من هذه الدراسة أن اتخاذ الله مثلا أعلى يجعل المجتمع في حالة حركة مستمرة من أجل (الاقتراب) من هذا المثل الأعلى وتجسيد الغايات والأهداف التفصيلية التي يضعها في واقع الحياة. ولما كانت أأجأااايتينتبشستن

المسافة الفاصلة بين الواقع الفعلي للمجتمع، وبين صورته النموذجية في ضوء المثل الأعلى المطلق، مسافة لا نهائية، كان السير باتجاه المثل الأعلى المطلق سيرا لا نهائيا أيضا، وكان التكامل الذي يحققه المجتمع الإسلامي في مسيرته هذه تكاملا ذا درجات لا نهائية أيضا.

(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار، رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا، يبتغون فضلا من الله ورضوانا * سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطاه، فآزره، فاستغلظ، فاستوى على سوقه، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار * وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما)(الفتح:29).

ويرفض المجتمع الإسلامي تبعا لحركته التكاملية المتواصلة كل العقبات التي تقف في طريق كماله، سواء كانت هذه العقبات (مثلا عليا مزيفة) تحاول اعتراض المسيرة ومزاحمة المثل الأعلى المطلق في موقعه وصلاحياته، أم عقبات اجتماعية يصنعها الناس لأنفسهم مثل العادات والتقاليد الباطلة، أو المعتقدات والتصورات الخرافية، أو المفاهيم والممارسات الخاطئة، أم المعيقات التي تخلقها أوضاع سياسية واقتصادية تتناقض مع مسيرة التقدم نحو الله.

كما أن المجتمع الإسلامي يسخر كل إمكاناته وطاقاته ويوحدها من أجل مواصلة حركته التكاملية التقدمية وتطوير أبعاد هذه الحركة سواء على صعيد علاقات أبناء المجتمع مع بعضهم البعض، أم على صعيد علاقة المجتمع الإسلامي من المجتمعات القائمة الأخرى، أم على صعيد علاقة المجتمع الإسلامي مع الطبيعة الهادفة إلى استكشاف كل إمكانات الطبيعة وتسخيرها من أجل سعادة الإنسان، أم على صعيد علاقة المجتمع الإسلامي مع حركة التاريخ والمساهمة الفعالة في هذه الحركة من أجل تحقيق غايتها وهدفها الأعلى وهو تحقيق المجتمع المعصوم على الأرض.

مجتمع الخلافة الربانية

واتخاذ الله مثلا أعلى يعني أن المجتمع الإسلامي يتبنى الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية التي تقوم على أساس فكرة الاستخلاف. وإذن فإن المجتمع الإسلامي هو في الحقيقة وواقع مجتمع الخلافة الربانية. بل ان المجتمع الإسلامي هو الإطار الاجتماعي الوحيد الذي يفجر طاقات الإنسان وإبداعاته ويفتح له أوسع أبواب المساهمة في أعمار الأرض ـ حسب التوجيه القرآني ـ ولعب دوره الإيجابي المرسوم في حركة التاريخ البشري والمسيرة الإنسانية الهادفة نحو الله سبحانه وتعالى. إن مجتمع الخلافة الربانية هو الصيغة الوحيدة الملائمة لتحقيق التقدم الإنساني. إن الخلافة الربانية تقضي بطبيعتها على كل العوائق المصطنعة والقيود التي تجمد الطاقات البشرية وتهدر إمكانات الإنسان، وبهذا تصبح فرص النمو متوفرة توفرا حقيقيا. والنمو الحقيقي في مفهوم الإسلام هو أن يحقق الإنسان الخليفة على الأرض في ذاته تلك القيم التي يؤمن بتوحيدها جميعا في الله عز وجل، الذي استخلفه واسترعاه أمر الكون،فصفات الله وأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين والجور الذي لا حد له، هي مؤشرات للسلوك في المجتمع الخلافة، وأهداف الإنسان الخليفة، وقد جاء في الحديث: (تشبهوا بأخلاق الله)، ولما كانت هذه القيم على المستوى الإلهي مطلقة ولا حد لها وكان الإنسان الخليفة كائنا محدودا، فمن الطبيعي أن تتجسد عملية تحقيق تلك القيم إنسانيا في حركة مستمرة نحو المطلق وسير حثيث نحو الله. وكلما استطاع الإنسان من خلال حركته أن يتصاعد في تحقيق تلك المثل ويجسد في حياته بصورة اكبر فأكبر عدالة الله وعلمه وقدراته ورحمته وجوده ورفضه للظلم والجبروت سجل بذلك انتصارا في مقاييس الخلافة الربانية واقترب نحو الله في مسيرته الطويلة التي لا تنتهي إلا بانتهاء شوط الخلافة على الأرض.

ولم يكن من الصدفة أن يوضع العدل أصلا ثانيا من أصول الدين ويميز عن سائر صفات الله تعالى، وإنما كان ذلك تأكيدا على أهم صفات الله في مدلوله العملي ودوره في توجيه المسيرة الإنسانية وذلك لأن العدل في المسيرة وقيامها على أساس القسط هو الشرط الأساسي لنمو كل القيم الخيرة الأخرى، وبدون العدل والقسط يفقد المجتمع المناخ الضروري لتحرك تلك القيم وبروز الإمكانات الخيرة.

إن الخلافة الربانية حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوة، وهي حركة لا تتوقف لأنها متجهة نحو المطلق. وأي هدف آخر للحركة سوى المطلق سيكون هدفا محدودا وبالتالي يجمد الحركة ويوقف عملية النمو في خلافة الإنسان.

إن المجتمع الإسلامي الذي يتحمل مسؤولية الخلافة ويجسدها هو الذي يوفر لهذه الحركة الدائبة نحو هدفها المطلق الكبير كل الشروط الموضوعية ويحقق لها مناخها اللازم[4].

أن هذا المجتمع هو الكيان الوحيد الذي يمكنه أن يؤدي الدور الإنساني المجيد ويكفل للبشرية المتردية الحياة السعيدة والرفاه الاجتماعي والمنفعة والكرامة، وهو وحده الذي يقدر أن ينتشلها من وهذه الرذيلة ويخلصها من براثن الشك المرير الذي تعانيه من جراء ما يكتنفها من ظلام الفراغ الروحي والعقيدي، وما يحوطها من قلق نفسي من هذه الأدواء التي جرت بعض المجتمعات المدينة الحديثة إلى التوغل الفظيع في متاهات اللذة السافلة والانحرافات الجنسية والسيوكولوجية وانتشرت بسبب ذلك الأمراض العصبية بشكل هائل حتى كادت أن تكون هي الطابع المميز لها وانهارت الأسرة إلى الحضيض. لم يكفل لها العلم شيئا من ذلك بعد أن لمست أخطاءه بيدها ووجدتها جلية واضحة في حضارتها التي يعاني أمراضها وأسقامها، فمهما توسلت المدنية الحديثة إلى استنباط وسائل الراحة والاستقرار ومهما تفنن العلم الحديث في اصطناع السعادة، فهو لا يمكنه أن يكفل للإنسانية استقرارها النفسي أو أن يحل تعقد حياتها الاجتماعية أو يخلق لها الركيزة النفسية التي تلجأ إليها.

إذن، فالإنسانية بحاجة إلى صيغة اجتماعية تركن إليها وتهدف إلى تحقيقها، بعد أن فشلت الحضارات الوضعية، وبخاصة حضارة القرن العشرين، بشقيها الماركسي والرأسمالي، في تحقيق سعادتها،بل وعانت على يديها المصائب والآلام.

وليس أمامنا صيغة اجتماعية تلائم الإنسانية تكفل لها السعادة والاستقرار وتخلصها مما تعانيه من أدواء وأسقام وتنتشلها من براثن الشك والفراغ العقيدي وتربط كيانها بجميع جوانبها وجهاتها ربطا صحيحا متينا، ليس أمامنا سوى المجتمع الإسلامي الذي دعا الإسلام إلى إقامته، فالاستسلام لله سبحانه وتعالى من قبل الإنسان هو قوة خلاقة ومادة صلبة، ويسير بالإنسان نحو مستقبل أفضل وحياة سعيدة[5].

(أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) (الأنعام:122).
إن إقامة مجتمع الخلافة الربانية المجتمع الإسلامي، ضرورة حضارية  وأمانة إنسانية ومسؤولية تاريخية وواجب شرعي.

 

البعد السياسي للخلافة

ويتميز مجتمع الخلافة الربانية سياسيا عن المجتمعات الأخرى. فإن الجماعة البشرية أو الأمة هي التي تحكم نفسها في المجتمع الإسلامي بوصفها خليفة عن الله، والله أناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون وأعماره اجتماعيا وطبيعيا، كما هو واضح من آية الاستخلاف في سورة البقرة، وفي غيرها من الآيات[6].

إن الأمة هي التي تمارس القيادة السياسية والاجتماعية بتطبيق أحكام الله، وتمارس الأمة الإسلامية هذا الدور السياسي في إطار القاعدتين القرآنيتين التاليتين:

القاعدة الأولى: (وأمره شورى بينهم) (الشورى/38).

القاعدة الثانية: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)(التوبة/71).

فإن القاعدة الأولى تعطي للأمة صلاحية ممارسة أمورها عن طريق الشورى ما لم يرد نص خاص على خلافة ذلك.

والقاعدة الثانية، تتحدث عن الولاية وأن كل مؤمن ولي الآخرين. ويريد بالولاية تولي أموره بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والنص ظاهر في سريان الولاية بين كل المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية، وينتج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثرية عند الاختلاف[7].

وتمارس الأمة حقها في القيادة في إطار الشريعة الإسلامية، هذا يعني أن الشريعة الإسلامية هي المراقب العام للأمة في ممارستها لأعباء الخلافة الربانية بما في ذلك شؤون القيادة السياسية.وهذه الرقابة هي ما يسميه القران الكريم بالشهادة. وهي وظيفة كان يقوم بها الأنبياء ومن يأتي النص على تعيينهم (شهداء) بعد النبي.

وفي عصرنا الراهن يتعين على الأمة أن تعد من بين أبنائها من يتخصص في دراسة وفهم الشريعة الإسلامية، ليصل إلى مرتبة الاجتهاد المطلق, ليتاح له مراقبة سير الأمة، أو الشهادة عليها، في ضوء الشريعة وهي تمارس خلافتها الربانية، عملا بقوله تعالى:

(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم)(التوبة:122).

وهكذا يتضح أنه لا سلطان على الأمة سوى سلطان الله (ممثلا في شريعته)، وسلطان إرادتها المشخصة برأي الأكثرية فيها.

 

البعد الاقتصادي للخلافة

ويتجسد البعد الاقتصادي للخلافة الربانية في المجتمع الإسلامي بأمرين رئيسين هما: التفسير الخلقي للملكية، والضمان الاجتماعي.

أولا: التفسير الخلقي للملكية، وهو مجموعة التصورات المعنوية التي قدمها القرآن الكريم عن الملكية، ودورها وأهدافها وعمل على إشاعتها بين الأفراد لتصبح قوى موجهة للسلوك ومؤثرة على تصرفات الأفراد التي تتصل بملكياتهم وحقوقهم الخاصة.

وأساس هذه التصورات هو مفهوم الخلافة نفسه، الذي يضفي طابع الوكالة على الملكية الخاصة ويجعل من المالك أمينا على الثروة ووكيلا عليها من قبل الله تعالى الذي يملك الكون وجميع ما يضم من ثروات. فالمال مال الله، وهو المالك الحقيقي، والناس خلفاؤه في الأرض وأمناؤه عليها وعلى ما فيها من أموال وثروات:

(هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا) (فاطر/39).
والله تعالى هو الذي منح الإنسان هذه الخلافة ولو شاء لأنتزعها منه:

(إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم من يشاء)(الأنعام/173).

وطبيعة الخلافة تفرض على الإنسان أن يتلقى تعليماته بشأن الثروة المستخلف عليها ممن منحه تلك الخلافة:

(آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير)(الحديد:7).

كما أن من نتائج هذه الخلافة أن يكون الإنسان مسؤولا بين يدي من استخلفه خاضعا لرقابته في كل تصرفاته وأعماله:

(ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون)(يونس:14).

والخلافة في الأصل هي للجماعة كلها، لأن هذه الخلافة عبرت عن نفسها عمليا في إعداد الله تعالى لثروات الكون ووضعها في خدمة الإنسان والإنسان هنا هو العام الذي يشمل الأفراد جميعا ولذا قال تعالى:

(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)(البقرة:29).

وأشكال الملكية المختلفة، بما فيها الملكية الفردية والحقوق الخاصة، إنما هي أساليب تتيح للجماعة أداء رسالتها في أعمار الكون واستثماره. قال تعالى (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم)(الأنعام:165).

فالملكية والحقوق الخاصة التي منحت لبعض دون بعض فاختلفت بذلك درجاتهم في الخلافة هي ضرب من الامتحان لمواهب الجماعة ومدى قدرتها على حمل الأعباء، وقوة دافعة لها على إنجاز مهام الخلافة، والسباق في هذا المضمار. وهكذا تصبح الملكية الخاصة في هذا الضوء أسلوب من أساليب قيام الجماعة بمهمتها في الخلافة وتتخذ طابع الوظيفة الاجتماعية كمظهر من مظاهر الخلافة الربانية، لا طابع الحق المطلق والسيطرة الأصيلة. وقد جاء عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: إنما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث وجهها الله ولم يعطكموها لتكنزوها.

ولما كانت الخلافة في الأصل للجماعة، وكانت الملكية الخاصة أسلوبا لإنجاز الجماعة أهداف هذه الخلافة ورسالتها،فلا تنقطع صلة الجماعة ولا تزول مسئوليتها عن المال لمجرد تملك الفرد له، بل يجب على الجماعة أن تحمي المال من سفه المالك إذا لم يكن رشيدا لأن السفيه لا يستطيع أن يقوم بدور صالح في الخلافة. ولذلك قال الله تعالى:

(ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها وأكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا)(النساء/5).
ونلاحظ أن القران يوجه الخطاب في الآية المتقدمة إلى الجماعة، لأن الخلافة في الأصل لها، ونهاها عن تسليم أموال السفهاء إليهم، وأمرها بحماية هذه الأموال والإنفاق منها على أصحابها، وبالرغم من أنه يتحدث إلى الجماعة عن أموال السفهاء فقد أضاف الأموال إلى الجماعة نفسها فقال(لا تؤتوا السفهاء أموالكم). وفي هذا إشعاع بان الخلافة في الأصل للجماعة، وأن الأموال أموالها بالخلافة، وإن كانت أموالاً للأفراد بالملكية الخاصة. وقد عقبت الآية على هذا الإشعاع بالإشارة إلى أهداف الخلافة ورسالتها، فوصفت الأموال قائلة: (أموالكم التي جعل الله لكم قياما) فالأموال قد جعلها الله للجماعة، يعني أنه استخلف الجماعة عليها، لا ليبذورها أو يجمدوها، وإنما ليقوموا بحقها ويستثمروها ويحافظوا عليها، فإذا لم يتحقق ذلك عن طريق الفرد فلتقم الجماعة بمسئوليتها.

وعلى هذا الأساس يستشعر الفرد المسؤولية في تصرفاته المالية أمام الله تعالى، لأنه هو المالك الحقيقي لجميع الأموال، كما يحس بالمسؤولية أمام الجماعة أيضا لأن الخلافة لها بالأصل، والملكية للمال إنما هي مظهر من مظاهر تلك الخلافة وأساليبها ولهذا كان من حق الجماعة أن تحجر عليه، إذا لم يكن أهلا للتصرف في ماله لصغر سنه أو سفه عقله، وأن تمنعه من التصرف في ماله بشكل يؤدي إلى ضرر بليغ بسواه، وكذلك أن تضرب على يده إذا جعل من ماله مادة للفساد والإفساد كما ضرب رسول الله (ص) على يد سمرة بن جندب وأمر بقطع نخلته الخاصة ورميها حين إتخذها مادة فساد، وقال له: إنك رجل مضارب.وحين أعطى الإسلام المالكية الخاصة مفهوم الخلافة جردها عن كل الامتيازات المعنوية التي اقترنت بوجودها على مر الزمن للمسلم بأن ينظر إلها بوصفها مقياسا للاحترام والتقدير في المجتمع الإسلامي، ولا أن يقرنها بنوع من القيمة الاجتماعية في العلاقة المتبادلة، حتى جاء في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) أن من لقي فقيرا مسلما فسلم عليه خلاف سلامه على الغني لقي الله عز وجل يوم القيامة وهو عليه غضبان.

إن الملكية في مجتمع الخلافة الربانية أداة لا غاية، فالمسلم الذي اندمج كيانه الروحي والنفسي مع الإسلام ينظر إلى الملكية باعتباره وسيلة لتحقيق الهدف من الخلافة العامة وإشباع حاجات الإنسانية المتنوعة، وليست غاية بذاتها تطلب بوصفها تجميعا وتكديسا شرها لا يرتوي ولا يشبع.

وقد جاء في تصوير هذه النظرة الطريقية إلى الملكية عن رسول الله (ص) أنه قال:ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وليست فأبليت, وتصدقت فأبقيت، وقال في نص آخر: يقول العبد مالي، وإنما له من ماله ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس.

إن هذه النظرة إذا نشأت وسادت وأصبحت عامة لدى أفراد المجتمع الإسلامي أصبح لها من القوة ما يحدد سلوك الأفراد ويعدل من الانعكاسات النفسية للملكية ويطور من المشاعر التي توحي بها الثروة إلى نفوس الأغنياء. وبذلك يصبح مفهوم الخلافة قوة محركة موجهة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية[8].

ثانيا, الضمان الاجتماعي، ويستمد هذا المبدأ، بوصفه جزءا من عناصر المذهب الاقتصادي الإسلامي مبرراته المذهبية من أساسين هما: التكافل العام وحق الجماعة في موارد الدولة الإسلامية.

الأساس الأول، التكافل العام. وهو المبدأ الذي يفرض فيه الإسلام على المسلمين كفاية كفالة بعضهم لبعض ويجعل من هذه الكفالة فريضة على المسلم في حدود ظروفه وإمكانياته، يجب عليه أن يؤديها على أي حال كما يؤدي سائر فرائضه.

والضمان الاجتماعي الذي تمارسه الدولة على أساس هذا المبدأ للتكافل العامل بين المسلمين يعبر في الحقيقة عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال ما يكلفون به شرعا, ورعايتها لتطبيق المسلمين أحكام الإسلام على أنفسهم،فهي بوصفها الأمينة على تطبيق أحكام الإسلام والقادرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولة عن أمانتها ومخولة حق إكراه كل فرد على أداء واجباته الشرعية، وامتثال التكاليف التي كلفه الله بها، فكما يكون لها حق إكراه المسلمين على الخروج إلى الجهاد لدى وجوبه عليهم، كذلك لها حق إكراههم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين, إذا امتنعوا عن القيام بها. وبموجب هذا الحق يتاح لها أن تضمن حياة العاجزين وكالة عن المسلمين، وتفرض عليهم في حدود صلاحياتها مد هذا الضمان بالقدر الكافي من المال الذي يجعلهم قد أدوا الفريضة وامتثلوا أمر الله تعالى.

وقد ربط الإسلام بين هذه الكفالة ومبدأ الأخوة العامة بين المسلمين ليدلل على أنها ليست فريضة التفوق في الدخل فحسب وإنما هي التعبير العملي عن الأخوة العامة، سيرا منه على طريقته في إعطاء الأحكام إطارا خلقيا يتفق مع مفاهيمه وقيمه، فحق الإنسان في كفالة الآخر له مستمد في مفهوم الإسلام من أخوته له،واندراجه معه في الأسرة البشرية الصالحة، والدولة تمارس في حدود صلاحيتها حماية هذا الحق وضمانه. والحاجات التي يضمن هذا الحق إشباعها هي الحاجات الشديدة. وتعني شدة الحاجة كون الحاجة حياتية بحيث تتعسر الحياة بدون إشباعها.

وهكذا يتضح أن الضمان الاجتماعي الذي يقوم على أساس التكافل الاجتماعي يتحدد بحدود الحاجات الحياتية للأفراد التي يعسر عليهم الحياة بدون إشباعها.

الأساس الثاني حق الجماعة في مصادر الثروة, باعتبار أن هذه المصادر خلقت للجماعة كافة، لا لفئة دون أخرى, لقوله تعالى(خلق لكم ما في الأرض جميعا)(البقرة:29).

وهذا الحق يعني أن كل فرد من المجتمع الإسلامي له الحق في الانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها. فمن كان من أبناء المجتمع الإسلامي قادرا على العمل في أحد القطاعات العامة أو الخاصة، كان من وظيفة الدولة أن تهيئ له فرصة العمل في حدود صلاحياتها، ومن لم تتح له فرصة العمل أو كان عاجزا فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم[9].



[1] الميزان، ج2، ص101

[2] رسالتنا، ص 125ـ 126

[3] اقتصادنا، ص 270 ـ 271

[4] خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، ص 141 ـ142.

[5]  رسالتنا، ص 141 ـ 129

[6]  خلافة الإنسان ص132 .

[7]  ن. م. ص171.

[8] اقتصادنا، ص 512ـ 506.

[9] ن. م.,ص 629 ـ637.

 

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست