.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

البعد العالمي للخلافة

وحدة المجتمع الإسلامي

الخصائص العامة للمجتمع الإسلامي

المجتمع الفرعوني

 

البعد العالمي للخلافة

وللمجتمع الإسلامي باعتباره المجتمع المجسد للخلافة الربانية، دور حضاري على الصعيد العالمي. وقد حدد القرآن الكريم الدور العالمي للمجتمع الإسلامي بالشهادة على البشرية، كما نفهم من الآيات التالية:

(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)(البقرة:143).

(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله)(النساء:135).

(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط)(المائدة:8).

(وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا، ليكون الرسول عليكم شهيدا، وتكونوا شهداء على الناس)(الحج/78).

وللشهادة على البشرية معنى دقيق ذكره المفسرون محصلته أن الله سبحانه وتعالى أودع في هذه الأمة ما تستطيع به القيام بدورها إزاء الأمم الأخرى)[1].

ودور هذه الأمة ـ باعتبارها الأمة التي تتجسد فيها الخلافة الربانية ـ أن تقوم بقيادة الأمم الأخرى ـ قيادة فكر وتنوير، وقيادة حكم وتوجيه ـ في مسيرتها التاريخية من أجل تحقيق الخلافة الربانية العامة في الأرض.

إن المجتمع الإسلامي ـ حين قيامه واستكماله مقوماته ـ مسؤول عن المجتمعات البشرية الأخرى القائمة في الأرض. وهذه المجتمعات على اختلاف أسمائها وألوانها لا تخرج عن نوعين: إما مجتمعات مستضعفين أو مجتمعات مستكبرين.

ومسؤولية المجتمع الإسلامي تتراوح من تبليغ هذين العالمين (عالم المستكبرين وعالم المستضعفين) بالرسالة الإسلامية بالحكمة والموعظة الحسنة والطرق السلمية، إلى شن الجهاد المسلح ضد أئمة الكفر من أجل إسقاط عالم المستكبرين وتحرير عالم المستضعفين.

وسيكون المجتمع الإسلامي مسؤولا يوم القيامة أمام الله عن هذه العالمين وعما قدمه من أجل إبلاغهما بالإسلام والشهادة عليهما في محكمة العدل الإلهي في ذلك اليوم العظيم.

وبإمكاننا أن نتصور أن مسؤولية المجتمع الإسلامي العالمية تتلخص بالنقاط التالية:[2]

أولا ـ حمل نور الإسلام ومشعل الرسالة العظيمة إلى العالم كله. وهذا يعني أن على المجتمع الإسلامي أن يسخر كل ما يتاح له من قدرات من أجل تبليغ الإسلام. وتلعب وسائل الإعلام الإسلامية (الإذاعة والتلفزيون والصحف والسينما) دورا عظيما في هذا المجال:

(يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا)(الأحزاب: 45).

(الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا)(الأحزاب: 39).

ثانيا ـ الوقوف إلى جانب الحق والعدل في القضايا الدولية وتقديم المثل الأعلى للإسلام من خلال ذلك، حيث يشكل المجتمع الإسلامي بؤرة العدالة الوحيدة في عالم يعج بالمظالم ويسبح في ظلامات القهر والعبودية. أن المجتمع الإسلامي منحاز بالضرورة إلى قضايا التحرر في أميركا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا وإلى الزنوج في أمريكا من أجل نيل حقوقهم، وإلى الأفارقة ضد سياسات التمييز العنصري الذي تمارسه أنظمة الأقليات البيضاء في أفريقيا، وإلى كل شعوب العالم التي تناضل من أجل تحقيق انعتاقها السياسي واستقلالها الاقتصادي وضمان حقها في تقرير مصيرها.

ثالثا ـ مساعدة كل المستضعفين والمعذبين في الأرض ومقاومة الاستعمار والطغيان،حيث أن الانحياز المعنوي والقلبي ـ وهو أضعف الإيمان ـ لا يكفي في تحرير الإنسان. بل لا بد من العمل، حتى لو كان القتال بعينه، من أجل إنهاء عصور الاستعمار والتبعية وتحرير المستضعفين في الأرض، وذلك امتثالا لقوله تعالى:

(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا)(النساء:75).

 

وحدة المجتمع الإسلامي

إن المجتمع الإسلامي يضطلع بمسؤوليات جسام ومهام خطيرة على المستوى الداخلي وعلى المستوى الخارجي. ولذا فإن هذا المجتمع بحاجة ماسة إلى (القوة).

(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)(الأنفال: 60).

ولئن تعددت أشكال القوة، فهناك القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الاقتصادية،فإن مصدر القوة الأول في المجتمع الإسلامي هو الإيمان بالله.

(فإن العزة لله جميعا)(النساء/139).
(ولله العزة، ولرسوله، وللمؤمنين)
(المنافقون/8).

أما المصدر الثاني للقوة فهي الوحدة. بل أن الوحدة هي الإطار العام الذي يحفظ القوة من التشتت والضياع.

إن المجتمع الإسلامي يقوم على قاعدة التوحيد. وقاعدة كهذه جديرة بأن تخلق مجتمعا موحداً في التصور والعقيدة، وموحدا في الولاء والانتماء، وموحدا في الموقف والفعل.

ولذا نجد أن القرآن يخصص حيزا كبيرا للدعوة إلى الوحدة كما يظهر في الآيات الكريمة التالية:

(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)(آل عمران:103).

(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم)(آل عمران/105).

(وأن هذا صرا طي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)(الأنعام:135).

(وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)(الأنفال:47).

(إن الله يحب الذي يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)(الصف/4).

بل إن القران يرفض تعدد المواقف واختلافها من القضايا المصيرية التي تواجه المجتمع الإسلامي ويطالب بموقف موحد إزاءها، كما في قوله تعالى:

(فما لكم في المنافقين فئتين؟)(النساء:88).

ويدعو القران إلى الإصلاح ورأب الصدع والانشقاق إذا حصل داخل المجتمع الإسلامي، حتى وإن تطلب الأمر استعمال القوة:

(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله)(الحجرات:9).

إن الوحدة شعار من شعارات الإسلام الكبرى التي لا يفتأ يدعو إليها وتحقيقها في الواقع المعاش، لتكون للمسلمين القوة والمنعة والغلبة حين يلتحمون مع عدوهم في صراع.

وهذه (الوحدة الإسلامية) تتميز في أصولها ومظاهرها عن الوحدة التي تبشر بها الرأسمالية الغربية والاشتراكية الماركسية.

ففي المجتمعات الرأسمالية تجد المجتمع موحدا في الظاهر ولكن الوحدة فيه تقوم على وحدة المصالح الشخصية والحزبية أو الطبقية، فإذا حدث ما يهدد مصلحة من هذه المصالح حدث الانشقاق والتصدع وتبين أن الوحدة الظاهرة كانت سرابا خادعا.

وفي المجتمعات الماركسية، ومن قبلها المجتمعات النازية والفاشية، نجد المجتمع موحدا في الظاهر، ولكنها وحدة مفروضة من الخارج. وحدة تقوم على إنكار كل قيمة حقيقية للفرد الإنساني ولما له من مجال خاص يجب أن ينمو فيه نموا حرا يتيح لكافة قواه أن تبدع وتزدهر، وحدة تقوم على القسر ولا تقوم على الطواعية والاختيار, وحدة يفرضها إرغام الدولة ولا يبعث إليها الشعور النابع من العقل والقلب، ومن ثم فمصير وحدة كهذه إلى الزوال عند أول فرصة تلوح للأفراد الذين يتوقون إلى تحقيق ذواتهم. وكل وحدة لا تنشأ من الداخل وحدة مزيفة لا تلبث أن تزول لأنها لا واقع لها في نفوس الأفراد. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله:

(بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى)(الحشر:14).

إن الوحدة الحقيقية الصحيحة هي المعبرة عن حاجة نفسية عميقة توشج بين الأفراد برباط من الحب والمودة والألفة، ولا شئ كالدين يمكن أن يبعث على وحدة من هذا القبيل والوحدة القائمة على الدين هي الوحدة النابعة من القلب، الثابتة الراسخة مهما تنوعت مصالح الأفراد والأحزاب والطبقات لأنها وحدة تقوم على أصل ثابت عند الجميع مشترك بين الجميع.

وهذه هي الوحدة الإسلامية.فهي ليست وحدة المصالح وليست وحدة الإرغام وإنما هي وحدة القلوب المؤمنة بالله،العاملة لله،الداعية لله.

إن الوحدة الإسلامية هي الوحدة المسايرة لواقع الكائن الإنساني، الوحدة التي تترك للفرد مجاله وشخصيته وتهيأ له جميع وسائل النمو والإبداع والتفتح وتوازن بين طاقاته فلا تغلب فيه طاقة على طاقة ولا استعداد على استعداد والإسلام يساير الواقع فلا يدعو المسلمين إلى الوحدة، ثم يترك في صميم الكيان الاجتماعي العناصر التي تهددها بل هو يعني بما يوفر لهذه الوحدة الثبات والديمومة وينظم مصالح الأفراد والطبقات والمصالح العامة ويوفر لها الانسجام فلا تتصادم فتؤدي بالمجتمع إلى التصدع والانحلال.

وقد تحققت هذه الوحدة بين المسلمين في أروع مظاهرها على عهد رسول الله (ص) وبها تحققت للمسلمين الغلبة على أعدائهم. ولكن واقع المسلمين الموحد الزاهر تغير حين تغير المسلمون، وبعدوا عن الإسلام وتوزعت قلوبهم وعقولهم دعوات أخرى غير الإسلام واستأثرت بنشاطهم أهداف غير أهداف الإسلام. لقد تفرق المسلمون ـ الأمة الرائدة الواحدة ـ طرائق قددا، وطوائف متعددة، وشعوبا مختلفة وأوطانا متباعدة، فضعفت شوكتهم وذهبت ريحهم، وهذا ما يريده الاستعمار والأعداء لهم[3].

 

الخصائص العامة للمجتمع الإسلامي

ومن خلال التصورات الماضية حول المجتمع الإسلامي نستطيع تحديد خصائصه العامة بما يلي:

أولا ـ أن المجتمع الإسلامي (مجتمع إيماني) بمعنى أنه مجتمع قائم على أساس الإيمان بالله الذي يجمع الناس في بوتقة اجتماعية واحدة هي المجتمع الإسلامي. وهذا هو قوله تعالى: (إنما المؤمنون أخوة) (الحجرات:10). فالقاعدة البنائية الأساسية في المجتمع هي الإيمان بالله. ويبقى المجتمع الإسلامي قائما ما بقي الإيمان بالله.

وعلى أساس الإيمان بالله تقوم العلاقات الداخلية في المجتمع الإسلامي. وهذه القاعدة تتجاوز الوشائج الأخرى وتقطعها حتى بين الأب وابنه والأخ وأخيه لو افترقا إلى مؤمن وكافر.

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون *  قل: إن كان آباؤكم وأبناءكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين)(التوبة: 23 ــ24).

(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم)(المجادلة: 22).

وعلى أساس الإيمان بالله يتم التفاضل داخل المجتمع الإسلامي: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(الحجرات:13), وبالتالي فإن المجتمع الإسلامي يتجاوز معايير التفاضل الأخرى التي تتمسك بها المجتمعات الإسلامية: الطبقة، والمهنة، والعنصر، والعائلة، وغيرها.

وعلى أساس الإيمان بالله يجري تقسيم الحقوق والواجبات في المجتمع، فالمسلم دمه حرام وعرضه حرام وماله حرام. وحقوق المؤمن على المؤمن تشمل قائمة طويلة تجعل المجتمع الإسلامي كالجسد الواحد، في عبارة الرسول (ص)، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

ثانيا، أن المجتمع الإسلامي مجتمع فكري مبدئي، تحكمه وتوجه حياته وحركته تصورات عقائدية عامة عن الكون والحياة والإنسان والمجتمع. إن المجتمع الإسلامي ليس مجتمعا طبقيا، ولا حزبيا ولا قوميا ولا إقليميا.فهذه قواعد للبناء الاجتماعي يتجاوزها القرآن والإسلام ويعتبرها مخلفات تاريخية، تركتها الإنسانية في سياق تطورها العام من المجتمع الفطري الموحد، مرورا بمرحلة الاختلاف، ومازالت البشرية تواصل تقدمها باتجاه تحقيق مجتمع الفكرة العالمي الموحد.

وينتج عن هذه الميزة أن القيادة العليا في المجتمع الإسلامي قيادة ذات مواصفات فكرية خاصة، بحيث تكون أرقى نموذج بشري ممكن يجسد العقيدة الإسلامية.

ثالثا,أن المجتمع الإسلامي مجتمع إنساني، في التصورات والتوجهات والممارسات والعلاقات، ان الإنسان يكشف ذاته في المجتمع الإسلامي ويحققها وينسجم معها. أن هذا المجتمع ـ بوصفه تعبيرا عن العقيدة الإسلامية ـ يعترف بالذات الإنسانية ويتعامل معها، كما هي وكما خلقها الله، يتعرف بكل طاقات الإنسان وكل حاجاته وكل كيانه وكل ما أودع فيه من غرائز وميول، ونقاط ضعف وقوة. وبذلك يأمن الإنسان من أن يفقد إنسانيته أو أن يكون غريبا عنها في المجتمع الإسلامي.

وعلى هذا، يكون المجتمع الإسلامي مسؤولا مسؤولية تامة عن حفظ حقوق الإنسان حفظا تاما في إطار الشريعة الإسلامية. أن حق الحياة، وحق الاعتقاد، وحق العمل، وحق التعبير... وغيرها من الحقوق الإنسانية تجد ضمانها الواقعي في المجتمع الإسلامي.

ولما كان المجتمع الإسلامي إنسانيا فهو، بالضرورة، عالمي التوجه والتطلع، لا تحده حدود الإقليم، أو اللون. لقد ألغى الإسلام هذه الفوارق والفواصل، ليوحد البشرية كلها في إطار إنساني موسع موحد: (وما أرسلناك إلا كافة للناس)(سبأ:28).

لقد أعلن الإسلام حربا شعواء على الحواجز اللونية والاجتماعية والقومية التي تفصل بين المجموعات الإنسانية ونادى بأن ما هو مشترك بين الناس هو الأصل، وهو الجدير بالاستجابة، وأما ما هو مفرق فليس إلا عارضا لا يجوز أن يجعل أساسا للتفريق والتحزيب والانتقام[4].

إن المجتمع الإسلامي هو الإطار الطبيعي الذي تنمو فيه (الأصول المشتركة) بين الناس وتتوارى فيه (الفروع المختلفة) التي تميز هذا عن ذاك[5].

 

الفصل الثاني عشر

المجتمع الفرعوني

الفرعونية ظاهرة منحرفة في البناء الاجتماعي جوهرها قيام فرد أو طبقة أو جماعة بالانفراد بالسلطة السياسية والاستكبار في الأرض واستضعاف الناس والتنكر لله وللدين وفرض إرادة النظام على الشعوب بالقهر والإرهاب والطغيان.

 وهذا هو المستفاد من قوله تعالى في وصف الفرعونية:

(إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا, يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين)(القصص:4).

ويولي المذهب الاجتماعي القرآني اهتماما كبيرا بظاهرة الفرعونية وشرح طبيعتها وأبعادها ومضاعفاتها على المسيرة الإنسانية.

نقرأ في القرآن قوله تعالى:(إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة)(النمل/34).

والمفهوم من هذه الآية أن من طبيعة الأنظمة الفرعونية إذا سيطرت على بلد ما أن تشيع فيه الفساد وتبيح الحرمات وتحطم القوة المدافعة عنه، وعلى رأسها زعماء ذلك البلد وتجعل أهله أذلة.

إن القران عندما يتعرض لأحوال الفراعنة الذين حكموا الأرض يذكر جشعهم وطمعهم الذي لا يعرف الحدود، ويصور لنا كيف أنهم ما كانوا يتركون حتى أموال الضعفاء والمساكين طمعا وجشعا.

وهاهو فرعون, أحد ملوك مصر الذين حملوا أنفسهم على رقاب الشعب المصري، يبلغ به الطمع والحرص أن يعد نفسه مالكا لأرض مصر وأنهارها وما فيها من خيرات: (ونادى فرعون في قومه، قال: يا قوم أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون؟) (الزخرف/51).

أن الفرعونية حكم استبدادي. والقران الكريم يأتي بفرعون نموذجا للحاكم المستبد والحكومة الاستبدادية،ثم يستعرض ما كان يفكر به فرعون، ويقوم به، انطلاقا من هذه الطبيعة، وبمقتضى هذه الصفة.

فالقران الكريم يصف فرعون بأنه كان مستكبرا عاليا مسرفا متجاوزا الحد، فهو يرى نفسه فوق الآخرين وإرادته فوق إرادتهم، إذ يقول: (ثم بعثنا من بعد موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا، وكانوا قوما مجرمين)(يونس/75).

(فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، وإن فرعون

لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين)(يونس:83).

(ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين)(المؤمنون/45ـ46).

(ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين، من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين) (الدخان /31 ــ30).

ومن البديهي لمن يعتبر نفسه أعلى من الآخرين أن يطغى على الله تعالى ويعصيه ويفسد في الأرض، وهذا حال النظام الفرعوني، إن النظام الفرعوني يعتقد أن على الجميع أن يروا رأيه ويتبعوا فكرته، كما قال فرعون: (وما أريكم إلا ما أرى) (غافر/29), بحيث تصبح روية النظام هي مقياس الصح والخطأ والحلال والحرام والمقبول والمرفوض. حتى أن فرعون يستغرب أن يغير بعض أبناء المجتمع معتقداتهم دون الرجوع إليه والاستئذان منه.

(قال: آمنتم له قبل أن آذن لكم ؟ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النحل، ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) (طه/71).

ويبلغ الاستكبار بالنظام الفرعون أنه يستهين بالمجتمع ولا يحترم رأيه ولا يحفظ كرامته، كما فعل فرعون بالشعب المصري، كما يحكي القران الكريم: (فاستخف قومه) (الزخرف /54).

وعادة تمارس أجهزة الإعلام والأمن دورا كبيرا في استخفاف الشعب والضحك عليه وحمله على طاعة فرعون وتصديقه في كل ما يقول ويريد،حتى لو ناقض نفسه بين فترة وأخرى، ذلك لأن الشعب المستخف به لا عقل له ولا رأي، فكيف يستطيع تمحيص الآراء وغربلة الأنباء ونقد المواقف؟‍‍‍‍ ‍!

ومن الطبيعي أن يفقد المجتمع الفرعوني ثقته بنفسه وبفكره وبعقله فيطيع فرعونه طاعة عمياء، كما يحكي القرآن الكريم:

(فاستخف قومه، فأطاعوه، إنهم كانوا قوما فاسقين) (الزخرف:54).

وتبلغ الفرعونية أقصى درجات انحرافها وفسادها واستكبارها حينما ينصب فرعون من نفسه إلها ويجعل منها مثلا أعلى للمجتمع ويطلب من الناس عبادته من دون الله:

(وقال فرعون: يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري)(القصص:38).

(فحشر فنادى، فقال: أنا ربكم الأعلى) (النازعات:24 ـ23).


[1] الميزان، جـ 1، ص 319ـ 323.

[2]  لمحة تمهيدية، ص15.

[3] رسالتنا، ص 55 ـ 60.

[4] الميزان جـ 4 ص 92 ـ133.

[5] ن. م.، ص 95.

 

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست