.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

انهيار المجتمعات

الكفر بالله

الذنوب

الشيطان

الفساد

سنتان في الانهيار الاجتماعي

الاستدراج والتراكم

 

الفصل العاشر

انهيار المجتمعات

تتعرض المجتمعات للموت والحياة، كما يتعرض الأفراد. وهذا المفهوم يتحدث عنه القران الكريم بكثرة ووضوح شديدين.

فحول حياة المجتمعات نقرأ قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (الأنفال:24).

والآية واضحة في الدلالة على أن حياة المجتمع متوقفة على الاستجابة لدعوة الله ورسوله. وتقوم هذه الدعوة التي بها حياة المجتمع على التوحيد، والعدل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فهذه هي أسس (الحياة) في المجتمع.

حيث يمثل التوحيد القاعدة العقائدية السليمة للمجتمع، ويمثل العدل إقامة العلاقات الاجتماعية على نحو متوازن، فيما يجسد الأمر بالمعروف ديمومة تصعيد الجانب الإيجابي الخير في بناء المجتمع ويتجسد النهي عن المنكر ديمومة التصدي العام لكل مظاهر الانحراف وعوامل الهدم، هذان الأمران الأخيران (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) مثلهما في الحقيقة مثل (ورشة الصيانة) للبناء الاجتماعي القائم على التوحيد والعدل.

وعلى النقيض من ذلك، يتفكك البناء الاجتماعي وينهار ويموت المجتمع حين لا تتحقق الاستجابة لدعوة الله والرسول، وقد يكون الموت بطيئا إذا كان المجتمع في الأصل قائما على أساس هذه الاستجابة، كما في المجتمع الإسلامي الأول، ثم يبدأ الانحراف يدب في أوصاله بالتدريج, وهو عامل هدم للمجتمع، حتى إذا وصل الانحراف درجة من القوة تفوق ما يستطيع البناء أن يحتمله سقط وانهار.

وقد لا يكون المجتمع في الأصل قائما على أساس الاستجابة لله وللرسول، وإنما على أساس مفاهيم وضعية بشرية ومثل هذا المجتمع حتمي السقوط، وتستغرق عملية الانهيار زمنا قد يقصر أو يطول, ولكن النتيجة واحدة، هي انهيار المجتمع، كما حصل في المجتمع الروماني، والمجتمع النازي، والكثير من الحضارات الجاهلية المادية التي سادت... ثم بادت، وعلى هذا الأساس نقول: أن الديمقراطية الرأسمالية محكوم عليها بالانهيار والفشل المحقق في نظر الإسلام، وذلك بسبب مفاهيمها المادية الخالصة، التي لا يمكن أن يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها، ويستمد خطوطه العامة من روحها وتوجيهها[1].

(وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا،كان ذلك في كتاب مسطورا) (الإسراء:58).

 

الكفر بالله

إن بناء المجتمع على غير أساس (التوحيد والعدل) يعني الكفر بالله، واتخاذ الشيطان وتبني مثل عليها منخفضة ومحدودة، ومخالفة السنن التاريخية والاجتماعية ومنها الدين والفطرة الإنسانية، وارتكاب الذنوب, وشيوع المظالم والانحرافات السياسية والاقتصادية والأخلاقية، ومعاداة المصلحين ومحاربتهم، وبناء المحتوى الداخلي للفرد والمجتمع بناء منحرفا، وتمزق وحدته وتصاعد صراعاته الداخلية، وهذه كلها عوامل للهدم تحدث عنها القران وحذر المسلمين من الوقوع بها.

فالكفر بالله يعني إقامة الحياة الاجتماعية وفقا للصيغة الثلاثية التي ذكرت في فصل (عناصر المجتمع)، وهذه الصيغة تستبعد الله سبحانه وتعالى من البناء الاجتماعي وتتنكر للفطرة الإنسانية، وبمعنى آخر أنها تخرج عن الإطار الديني للحياة، ونحن قد عرفنا أن الدين سنة اجتماعية وتاريخية تشكل اتجاها عاما في الحياة الإنسانية، وسنة من هذا النوع تقبل التحدي لفترة من الزمن، ولكن ليس إلى ما لا نهاية، وهي تسحق الذي يخرجون عليها في نهاية المطاف، ولذا فإن المجتمع اللاديني محكوم عليه بالانهيار إن عاجلا أو آجلا.

إن الكفر بالله يعني اتخاذ مثل عليا ـ منخفضة أو محدودة ـ للمجتمع وهذه المثل سوف تؤدي إلى تجميد حركة المجتمع وإعاقة تطوره وسيره، وبالتالي تكون سببا في تشققه وتفتته وانهياره.

(ذلك من أنباء القرى نقصه عليك، منها قائم وحصيد * وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شئ لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب * وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد) (هود:101 ـ102).

(مثل الذي اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) (العنكبوت:41).

إن الكفر بالله هو العامل الرئيسي في انهيار المجتمعات باعتباره القاعدة الفاسدة التي تنبت كل المفاسد وعوامل التخريب الأخرى، ذلك أن سلوكيات الناس, في مجتمع الكفر بالله، وعلاقاتهم ببعض، وعلاقاتهم بالمجتمعات الأخرى، وعلاقاتهم بالطبيعة، ستكون كلها ـ بحد ذاتها ـ عوامل هدم وتخريب للمجتمع لأنها سلوكيات وعلاقات خاطئة، ومنحرفة، ومخربة، وظالمة، إضافة إلى كونها سببا لنزول العقاب الإلهي بشكل مباشر أو غير مباشر.

إن أنواع المظالم التي تشهدها المجتمعات البشرية، كالظلم السياسي والظلم الاقتصادي، والظلم الاجتماعي، وظواهر الاستعمار والاستغلال والتمييز العنصري، وسوء توزيع الثروة على الصعيد العالمي، والتفاوت الطبقي، والمفاسد الأخلاقية، والسلوكية كلها ظاهرات متفرعة عن ظاهرة الكفر بالله ورسالاته. وهذا هو معنى قوله تعالى:

(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) (طه/ 124).

(ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق) (الحج/ 31).

 

الذنوب

كما أن الذنوب تؤدي إلى هلاك المجتمعات وانهيارها،كما يتضح من الآيات الكريمة التالية:

(ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكنّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قوما آخرين) (الأنعام/6).

(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين) (الأنفال:55).
إن الذنوب هي المظهر المادي الملموس للكفر بالله، أو الشرك به،أو الانحراف عنه. إنها تعني ممارسة الحياة بالصيغ التي تخالف أحكام الله، سواء على الصعيد الفردي أم على الصعيد العام، سواء كانت هذه الممارسة سياسية أو اقتصادية أو سلوكية.

ويكمن دور الذنوب في انهيار وهلاك المجتمع في عاملين، أحدهما العامل الغيبي المتمثل بعذاب الله. والثاني العامل المادي، حيث أن الذنوب عبارة عن (تعامل خاطئ) مع الأشياء والأشخاص والقضايا فيما حول الإنسان. وكل تعامل خاطئ لا بد أن يؤدي إلى نتائج خاطئة، وهذا النتائج مدمرة في ذاتها وتتناسب درجة الدمار مع درجة التعامل الخاطئ, ودرجة نتائجه الخاطئة، تناسبا طرديا،فكلما كانت درجة التعامل والنتائج كبيرة كلما كانت الآثار المدمرة كبيرة أيضا. كالذي يعلب بالمسدس بصورة خاطئة، فقد يؤدي هذا التصرف الخاطئ إلى انطلاق رصاصة طائشة تقتل المخطئ، أ, من يجلس بقربه. كذلك الزنا واللواط مثلا، فهما ذنبان يجسدان تعاملا خاطئا مع المسألة الجنسية،أو الربا، الذي هو ذنب يجسد تعاملا خاطئا على الصعيد الاقتصادي، وهكذا بالنسبة للذنوب الأخرى.

وبهذا المعنى يكون المجتمع مستحقا للعذاب الإلهي، أو الاستئصال. فإن الله سبحانه وتعالى لا يأخذ بعقابه الشديد أحدا، ولا يبدل نعمته على أحد نقمة إلا إذا كان ظالما يبدل نعمة الله كفرا بآياته، فهو لا يعذب بعذابه إلا مستحقه[2].

إن المجتمع الغارق بذنوبه (قرحة) أو (حالة سرطانية) في جسم البشرية، ولا بد من استئصاله وإزالته، وذلك يتم بالاهلاك الإلهي المباشر، كما حدث في عصور مضت، أو بفعل السنن الإلهية في المجتمع والتاريخ، كما حصل ويحصل في عصورنا الحاضرة، أو بفعل تنامي بذرة الإيمان والطاعة بشكل يؤدي إلى اختلال بناء مجتمع الذنوب وتولي بذرة الإيمان والطاعة السيادة والقيادة، كما في قوله تعالى:

(إن الأرض لله، يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين) (الأعراف:128).

 

الشيطان

والذنوب، بلحاظ آخر،تجسيد لطاعة الإنسان للشيطان الذي يزين المعصية له:

(الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء) (البقرة: 268).

(ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا)(النساء:60).

(ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر)(النور:21).

إن الشيطان هو قوة التخريب والهدم في المجتمع البشري، وثمة عداوة تاريخية بين الإنسان والشيطان تعود إلى الأيام الأولى لخلق الجنس البشري يوم رفض إبليس السجود لآدم، والاعتراف بخلافته على الأرض تكبرا وغرورا وحقدا وتعصبا لجنسه، ومنذ ذلك الحين أقسم الشيطان على تخريب الجماعة البشرية وإعاقتها عن قيامها بدورها المرسوم. وقد مارس الشيطان هذا العمل في مرحلة الحضانة، كما في قصة الشجرة، ولا بد أنه مارسه في مرحلة الفطرة، كما في قصة قابيل وهابيل وهو يمارس هذا الدور على طول مرحلة الاختلاف بشكل أوسع النطاق.

إن صراع مع الشيطان هو أحد حقائق الحياة الاجتماعية التي يجب أن يعيها الإنسان، فالعداوة بينه وبين الشيطان أصيلة، وعليه أن يأخذ حذره، ويتجنب مكره، ويطور قدراته لمواجهة الشيطان:

(إن الشيطان للإنسان عدو مبين) (يوسف:5).

(ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) (النساء:119).

(وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم ـ وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين) (العنكبوت/38).

(ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون * فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين)(الأنعام:42 ـ45).

ويجب أن نشير مختصرا هنا إلى أن القران يؤكد على أن الدور الهدام للشيطان سوف يتلاشى في المستقبل حيث تحقق البشرية درجة راقية من التطور والتقدم في مسيرتها المقتربة من الله سبحانه وتعالى، وذلك ما يشير إليه المقطع القرآني الآتي:

(قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) (الحجر: 36ـ38).

فرغم أن الشيطان كان يتمنى أن يظل يلعب دوره السلبي في المسيرة الإنسانية إلى يوم القيامة (يوم يبعثون) إلا أن الله أنبأه وأنبأنا أن ذلك الدور سيكون ممكنا فقط إلى (يوم الوقت المعلوم) وهو نهاية مرحلة الاختلاف،على تفصيل تضيق به صفحات هذه الدراسة ويخرجها عن منهجها المرسوم.

وللمحتوى الداخلي للإنسان والمجتمع دخل كبير في حياة المجتمع أو موته، باعتباره ـ كما تقدم ـ الأساس الذي يقوم عليه البناء الاجتماعي، فإذا كان المحتوى الداخلي صالحا كان البناء الاجتماعي صالحا وقادرا على البقاء والنماء أما إذا غير الناس من محتواهم الداخلي الصالح واتخذوا محتوى داخليا جديدا فاسدا، فإن ذلك سوف يؤدي إلى تبدل أوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية نحو الأسوأ، وبالتالي انهيار مجتمعهم، كما في قوله تعالى:

(ذلك بأن الله لم يكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) (الأنفال: 54).

والمستفاد من هذه الآية ـ في هذا المجال أن العقاب الإلهي ـ وهو تعبير عن انهيار المجتمع وهلاكه ـ إنما يعقب نعمة إلهية سابقة، لا تزول نعمة من النعم الإلهية ولا تتبدل نعمة عقابا إلا مع تبدل محلها وهو النفوس الإنسانية، فالنعمة التي أنعم الله بها على قوم إنما أفيضت عليهم لما استعدوا لها في أنفسهم، ولا يسلبونها ولا تتبدل بهم نقمة إلا لتغييرهم ما بأنفسهم من الاستعداد وملاك الإفاضة وتلبسهم باستعداد العقاب[3].

الفساد

ويلعب الفساد دورا كبيرا في انهيار المجتمع (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، أولئك هم الخاسرون) (البقرة:27).

والفساد على ثلاثة أنواع، فهناك الفساد الأخلاقي، والفساد السياسي، والفساد الاقتصادي.

وقد أشار القران الكريم إلى أثر الفساد في تدمير المجتمع في سياق قصة لوط، حيث كانت الفاحشة منتشرة في ذلك المجتمع، حيث يقول:

(ولوطا إذا قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء، بل أنت قوم مسرفون * وما كان جواب قومه إلا أن قالوا: أخرجوهم من قريتكم انهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين)(الأعراف/80ـ84).

وللفساد السياسي أثر أكبر في تدمير المجتمع، ويرجع هذا الأثر إلى الدور الكبير الذي تلعبه السلطة السياسية في حياة المجتمعات والأمم. والنظام السياسي الصالح يكون سببا في صلاح المجتمع وبقائه وتقدمه، حين تتوفر له الشروط اللازمة، كما أن النظام السياسي الفاسد يكون سببا في تفسخ المجتمع وانهياره وبهذا الصدد يقول القران الكريم:

(وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، وما يمكرون إلا بأنفسهم) (الأنعام/123).

وعادة يقوم المجرمون المتسلطون على مجتمعاتهم بتدمير هذا المجتمعات إرضاء لمصالحهم وأهوائهم ونزواتهم المجنونة:

(إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون)(النمل/34).

ولعل من مظاهر الفساد السياسي:الاستكبار في الأرض، الذي يؤدي إلى انفجار المجتمعات من داخلها، فانهيارها، كما يحصل في أغلب الحالات بالنسبة للنظم الديكتاتورية. يقول القران الكريم:

(وقارون وفرعون وهامان، لقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض، وما كانوا سابقين *  فكلا أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا) (العنكبوت/39ـ40).

وتنبثق من الفساد السياسي ظاهرتان أخريان، هما: التنازع، ومحاربة المعارضة الصالحة إلى حد الإبعاد.

فأما التنازع والاختلاف فيحصل في المجتمع الإسلامي إذا ابتعد عن خط الإسلام الواقعي، وفي المجتمع غير الإسلامي حين يفقد المجتمع ولاءه لمثله الأعلى المنخفض والمحدود. وفي كلا الحالين يؤدي التنازع والاختلاف إلى ضعف المجتمع، وانهياره، لأن مثل هذا التنازع يصرف ويهدر طاقات المجتمع وقواه في معارك جانبية وداخلية، كما يشير القران الكريم بقوله:(ولا تنازعوا، فتفشلوا، وتذهب ريحكم) (الأنفال/46).

وأما محاربة المعارضة الصالحة إلى حد الإبعاد، فتحصل عادة في المجتمع الفاسد الذي لا يطبق شريعة الله. ففي مثل هذه المجتمعات قد تظهر معارضة صالحة. قد تكون بسبب بعثة نبي، أو ظهور مصلح على خط نبي ـ تعمل على هداية المجتمع الفاسد، ودعوته إلى الله، وتغييره. ومن الطبيعي أن يقاوم المترفون، وأكابر المجرمين والفراعنة، هذه المعارضة ويعملوا على القضاء عليها بكل ما يتاح لهم من قوة وإمكانية. ولكن قد يفشل هؤلاء في ذلك في بعض الحالات، فيصلون إلى نقطة اللاعودة في علاقتهم مع المعارضة الصالحة، وهذه النقطة تتلخص في تخيير المعارضة الصالحة بين أمرين: إما أن تترك دينها، أو تترك المجتمع وتغادره إلى أرض جديدة.

وهذا ما حصل في مجتمع النبي شعيب وغيره حيث يحكي القران: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا، أو لتعودن في ملتنا، فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم  الأرض من بعدهم) (إبراهيم: 14ـ13).
غير أن الخيار الثاني،أي إخراج المعارضة الصالحة من البلاد، لن يكون في صالح النظام السياسي الفاسد، وإنما في صالح المعارضة الصالحة، لأنه يعبر عن نقطة ضعف في النظام السياسي الفاسد ويجسد فشله في القضاء على المعارضة الصالحة، من جهة، كما أنه يتيح فرصة جديدة للمعارضة الصالحة للتنفس والتخلص من ضغط النظام السياسي الفاسد، ولتطوير خططها وأساليبها باتجاه العودة إلى أرضها ووطنها. وهذه سنة تاريخية واجتماعية عظيمة تحدث عنها القران في أكثر من موضع،كما في قوله تعالى:

(وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها, وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا * سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، ولا تجد لسنتنا تحويلا) (الإسراء:77,76).
(وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلناهم فلا ناصر لهم)
(محمد/13).

وتنص هذه السنة على أنه إذا وصلت المقاومة المضادة للدعوة النبوية إلى مستوى إخراج النبي من بلده، بعد العجز عن القضاء عليه بالوسائل الأخرى، فإن المجتمع المعارض سوف لن يلبث بعد إخراج الرسول إلا قليلا[4].

وقد تحققت هذه السنة ـ النبوءة بأروع تجسيد لها بعودة الرسول محمد (ص) فاتحا منتصرا بعد أن أخرجته قريش من مكة، فخرج مهاجرا إلى يثرب، التي اتخذها نقطة انطلاق جديدة له، ثم شن معركة العودة بعد ثماني سنوات، لتتكلل بالنصر العظيم(إن الذي فرض عليك القران لرادك إلى معاد) (القصص/85).

ويبقى لدينا الفساد الاقتصادي، ممثلا في سوء استغلال الثروات الطبيعية، وسوء توزيع الثروة، وسوء التدبير، الإسراف، والترف وما إلى ذلك ومن شأن الفساد الاقتصادي أن يؤدي إلى خلق توترات سياسية، ومفاسد أخلاقية، ومظالم اجتماعية.

(وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها، فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا  *  وكنا نحن الوارثين)(القصص/58).

(وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)(النحل:112).

وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) (الإسراء/16).

(وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)(هود/117).

 

سنتان في الانهيار الاجتماعي

الاستدراج والتراكم

في معرض الحديث حول كيفية انهيار المجتمعات يذكر القران الكريم سنتين هما:سنة الاستدراج وقانون التراكم.

فأما سنة الاستدراج فترد في المقطع القرآني التالي:

(ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك، فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون *  فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون *  فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)(الأنعام:42ـ45).

ومفاد هذه الآيات الكريمة أن الله سبحانه وتعالى يرسل إلى الأمم والمجتمعات من يذكرونهم بالتوحيد، والتضرع وإخلاص الإنابة إليه، ثم يبتليهم بأنواع الشدة والمحن ويأخذهم بالبأساء الضراء ولكن بمقدار لا يلجئهم إلى التضرع ولا يضطرهم إلى الابتهال والاستكانة لعلهم يتضرعون إليه بحسن اختيارهم، ويلين قلوبهم فيعرضوا عن التزيينات الشيطانية وعن الإخلاد إلى الأسباب الظاهرية، لكنهم لم يتضرعوا إليه، بل أقسى الاشتغال بأعراض الدنيا قلوبهم وزين لهم الشيطان أعمالهم، وأنساهم ذكر الله.

فلما نسوا ذكر الله سبحانه فتح الله عليهم أبواب كل شئ وصب عليهم نعمه المتنوعة صبا حتى إذا فرحوا بما عندهم من نعم، واغتروا، واستقلوا بأنفسهم من دون الله، أخذهم الله بغتة ومن حيث لا يشعرون به، فإذا هم يائسون من النجاة، شاهدون سقوط ما عندهم من الأسباب فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين[5].

وهذه السنة ـ أعني سنة الاستدراج والمكر ـ لخصها الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى:

(والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم أن كيدي متين)(الأعراف/183).

وأما قانون التراكم فيرد ذكره في قوله تعالى:

(ليميز الله الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض،، فيركمه جميعا، فيجعله في جهنم، أولئك هم الخاسرون)(الأنفال/37).

يوجد في داخل كل مجتمع محوران هما: محور الخبائث، ومحور الطيبات، ويشكل كل محور مركز استقطاب في ذلك المجتمع، فمحور الخبائث يستقطب عناصر الشر والفساد، بينما تتجمع عناصر الخير والصلاح حول محور الطيبات.

ولما كانت الديناميكية هي الطبيعة الجوهرية للحياة الإنسانية فإن (الاستقطاب التراكمي) لابد أن يكون مصحوبا بالحركة على مستويين: أفقي وعمودي. ونعني بالحركة على المستوى العمودي حركة المحور مع نفسه، والحركة على المستوى الأفقي تعني حركة المحور مع غيره، وهي حركة يغلب عليها عادة طابع الصراع أو التدافع بين المحورين المتناقضين.

إن حركة محور الخبائث على المستوى العمودي تؤدي إلى تراكم مختلف أنواع الخبائث وتجمعها في إطار واحد، وقد يبدو هذا التراكم للوهلة الأولى نوعا من النمو، ولكنه في الحقيقة ـ وحسب الكشف القرآني تضخم وانتفاخ مصاحب بالعد التنازلي المؤدي إلى ساعة الصفر التي تعلن (انفجار) محور الخبائث أو بتعبير آخر انهياره وسقوطه، وهذا ما يسميه القرآن بالحبط، ولن نحتاج إلى تعليل غيبي لتفسير انهيار محور الخبائث بفعل تراكماته المتواصلة لأن هذه التراكمات ستؤدي إلى نتيجتين هما: الأولى: زيادة المتناقضات داخل محور الخبائث نفسه، بسبب الطبيعة غير المتجانسة للخبائث المتراكمة، والثانية: زيادة ردود الفعل الرافضة لتضخم الخبائث في الوسط الاجتماعي، مما يزيد في حدة الصراع بين محورية الأساسيين. وعندما يصل العد التنازلي إلى الصفر، بمعنى عندما يصل تراكم الخبائث إلى (السقف) ينهار محور الخبائث وتبدأ دورة جديدة في الحياة الاجتماعية. وقد تبدأ المرحلة الجديدة بحالة من الفراغ، أو تعويم السلطة، بحكم كونها مرحلة انتقالية، لكنها سوف تستقر باستلام محور الطيبات زمام القيادة والتوجيه، وبهذا يحكم محور الخبائث على نفسه بالموت[6].


[1] الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية، ص 76

[2] الميزان، جـ 9، ص 102

[3] ن. م، ص 101.

[4] التفسير الموضوعي، المحاضرة 4.

[5] الميزان، جـ 7، ص 89 ـ92.

[6]  تأملات قرآنية، ص72 ـ 75

 

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست