اليقين
تمهيد
إنّ اليقين وإن كان من درجات الإدراك ومراتبه إلّا أنّه خلقٌ فاضلٌ وملكة نفسانيّة محمودة كما جاء في الحديث الذي نقله الإمام الخمينيّ قدس سره في “الأربعون حديثًا” عن كتاب من لا يحضره الفقيه: “بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قالَ: “إنَّ الله خَصَّ رَسولَهُ صلى الله عليه وآله وسلمبِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ فَامْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنْ كَانَتْ فِيكُمْ فَاحْمَدُوا اللهَ وَارْغَبُوا إِلَيْهِ فِي الزَّيَادَةِ مِنْهَا، فَذَكَرَهَا عَشْرَةً: اليَقينُ وَالقَنَاعَةُ وَالصَّبْرُ وَالشُّكْرُ وَالحِلْمُ وَحُسْنُ الخُلْقِ وَالسَّخَاء وَالغِيرَةُ وَالشَّجَاعَةُ وَالمُرُوَّةُ”1. وإنّ بعض الأخلاق يكون أُفقها إلى المجاهدة أقرب. وبعضها الآخر يكون أُفقها إلى الثّمار والنّتائج أقرب. واليقين هو من الصّنف الثّاني، ولهذا، قال الإمام قدس سره: “إنّ الطّمأنينة واليقين والثبات والإخلاص وأمثالها من الإفاضات الرّحمانية والإلقاءات الملكية”2.
فما هي حقيقة اليقين وموقعه في عالم المعنويّات؟ وما هو دوره في بناء الإنسان وتكميله؟
التعريف العلميّ
يعلم من جعل الشكّ ضدًّا لليقين في حديث جنود العقل والجهل أنّ اليقين عبارة عن رسوخ المعرفة في النّفس بحيث يزول معه أيّ احتمال مخالف مهما كان ضئيلًا.
ولا شكّ بأنّ هذه المعرفة التي لا تزلزلها الشّكوك عبارة عن إدراك الواقع كما هو. وليس الواقع في حقيقة الأمر سوى ظهور التّوحيد الذي ملأت آياته أركان السّماوات والأرض. ولهذا، قال الإمام الخمينيّ قدس سره: “إنّ اليقين في الحقيقة هو ثمرة التّوحيد ومحفوفٌ ومحدودٌ به”3.
إنّ تحديد الملكات النّفسانيّة بآثارها أو ظهوراتها أمرٌ شائعٌ في الأخلاق، ولهذا أشار الإمام الخمينيّ قدس سره عند نقل حديث الإمام الصّادق عليه السلام: “ليس شيء إلّا وله حدّ. فقلت: وما حدّ التوكّل؟ قال: اليقين. قلت: فما حدّ اليقين؟ قال: أن لا تخاف مع الله شيئًا”4. وحدّ الشّيء هو منتهاه، ولعلّ المقصود هنا هو أنّ التوكّل ينتهي إلى اليقين، فيصير المتوكّل صاحب مقام اليقين، كما أنّ اليقين ينتهي إلى التّوحيد الفعليّ فلا يرى الإنسان حينئذٍ ضارًّا ولا نافعًا ولا مؤثّرًا ولا مقدّرًا سوى الحقّ تعالى. أو لعلّ المقصود أنّ التوكّل محفوفٌ ومحدودٌ باليقين”5.
علامات اليقين
لليقين علامات كثيرة في الحياة والسّلوك نذكر منها بعضها بحسب ما ورد في كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره:
1- الأنس بذكر الله
“نحن الضّعفاء في الإيمان لسنا من أصحاب اليقين، وإلاّ لما كنّا نستمرّ في غفلتنا، ونعانق النّوم حتّى الصباح. لو أنّ يقظة الليل تكشف للإنسان حقيقة الصّلاة وسرّها، لأنس بذكر الله والتفكّر في الله، ولجعل الليالي مركوبه للعروج إلى قربه تعالى، ولما كان ثمّة ثواب له إلا جمال الحقّ الجميل وحده”6.
2- مجانبة رضا الناس ولومهم
“عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “مِنْ صِحَّةِ يَقينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أنْ لا يُرْضِيَ النّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَلا يَلومَهُمْ عَلى ما لَمْ يؤته اللهُ، فَإنَّ الرِّزْقَ لا يَسوقُهُ حِرْصُ حَريصٍ، وَلا يَرُدُّهُ كَراهِيَةُ كارهٍ، وَلَوْ أَنَّ أحَدَكُمْ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَما يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَما يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ. ثُمَّ قالَ: إنَّ اللهَ بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالرّاحَةَ فِي الْيَقينِ وَالرِّضا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ”… فالإنسان الذي يتمتّع بيقينٍ صحيح، والذي يكون واقفًا على مجاري الأمور، يجب عليه في اللحظة التي لا يفتر فيها عن طلب الرّزق، بل ينهض بوظائفه العقليّة والشّرعيّة في الاكتساب، ولا يوصد أبواب الطّلب على نفسه، يعرف أنّ كلّ شيء من الذّات المقدّس الحقّ المتعالي، وأنّه لا يؤثّر موجودٌ آخر في الوجود ولا في كمالات الوجود. إنّ الطالب والطلب والمطلوب، منه سبحانه… جعل الإمام الصادق عليه السلام في هذا الحديث الشريف، علامتين على صحّة اليقين وسلامته، أحدهما: لا يُرضي الناس بسخط الله. والآخر: “لا يلوم الناس على ما لم يؤته الله. وهاتان العلامتان من نتائج كمال اليقين. كما أنّ ما يقابلهما يكون من آثار ضعف اليقين وسقم الإيمان ومرضه”7.
3- الرضا بحكم الله وقضائه
“النّاس ينقسمون في هذه الدّنيا إلى هاتين الطبقتين: إمّا يقودهم يقينهم إلى الاعتقاد بأنّ الأسباب الظاهريّة، والمؤثّرات الشّكليّة مسخّرة تحت الإرادة الإلهيّة الكاملة الوجوبيّة، فلا يجدون دورًا لغير الحقّ، ولا يلتمسون من غيره شيئًا. فهم آمنوا بأنّه المالك والمؤثّر في الدّنيا والآخرة، واعتنقوا بكلّ إيمان ويقين غير مشوب بالنّقص والتّرديد، آية من الآيات المباركة القرآنية وهي: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء﴾8. حيث يرون بأنّ الله سبحانه هو مالك ملك الوجود، وأنّ جميع العطايا من ذاته المقدّس، وأنّ القبض والبسط في الوجود وكمالاته منه سبحانه حسب ترتيب النّظام والمصالح الكامنة. ومن البديهي أنّ أبواب المعارف تنفتح على هؤلاء الأشخاص، وتتحوّل قلوبهم إلى قلوب إلهيّة، لا يعبؤون برضا النّاس ولا بسخطهم، ولا يرومون إلاّ رضا الحقّ المتعالي، ولا يطمعون إلاّ فيه ولا يطلبون إلاّ منه، ولا تترنّم قلوبهم إلاّ بهذا الكلام: إلهي إنْ أعْطَيْتَني فَمَن ذا الَّذِي يَمْنَعُني؟ وَإنْ مَنَعْتَنِي فَمَن ذَا الَّذِي يُعْطِينِي. إنّهم يغمضون أعينهم عن النّاس وعطاياهم ودنياهم، ويحدّقَون في الحقّ جلّ جلاله بكلّ حاجة وفقر، وهؤلاء الأشخاص لا يبيعون رضا العالم بأسره، بسخط الحقّ المتعالي. كما قال أمير المؤمنين عليه السلام. وفي نفس الوقت الذي لا يعبؤون بأحد غير الحقّ المتعالي، ويرون أنّ الكائنات بأسرها فقيرة إلى الله، ينظرون إلى كلّ شيء بعين ملؤها العظمة والرّحمة والحنان، ولا يلومون أحدًا على شيء إلاّ من أجل إصلاح وضعه وتربيته. كما أنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا كذلك، لأنّهم يعتبرون النّاس من المرتبطين بالحقّ ومن مظاهر جماله وجلاله، ولا يسمحون لأنفسهم إلاّ بالنّظر إلى عباد الله بكلّ لطف ومحبّة. ولا يؤنّبون في قلوبهم أحدًا على نقصه أو فتوره، وإذا لاموا أحدًا بألسنتهم فلأجل المحافظة على المصالح العامّة وإصلاح أحوال العائلة البشرية. وهذا من نتائج وثمرات الشجرة الطيبة لليقين والإيمان، والمعرفة بالحدود والشريعة الإلهية”9.
4- الروح والراحة في الدنيا
“الحقّ المتعالي قد جعل الرَوْحَ والرّاحة في اليقين والرّضا، والهمّ والحزن في الشكّ والسّخط، وذلك على أساس القسط والعدل. ولا بدّ أن نعرف أن الرَوْحَ والراحة وكذلك الهمّ والحزن تعود إلى الأمور الدنيويّة وكسب العيش، وطلب الرزق، نتيجة وقوعها إثر تقدير الأرزاق وتقسيمها. وإن كان إرجاعهما إلى الأمور الأخروية على أساس بيان آخر، أيضًا صحيحًا… وعليه اعلم أنّ الإنسان الذي يعتقد بالحقّ وتقديره اعتقادًا يقينيًّا، ويعتمد على الرّكن الرّكين الذي يتمتّع بالقدرة المطلقة، والذي يقرّر الأمور بأسرها على ضوء المصالح الغيبيّة، والذي له الرّحمة الكاملة المطلقة والجود المطلق، من المعلوم أنّ بمثل هذا اليقين تتذلّل الصّعاب عنده وتهون أمامه المصائب، ويختلف كثيًرا في طلبه لمعيشته عن أهل الدّنيا وأهل الشكّ والشّرك.
إنّ الذين يعتمدون على الأسباب الظّاهرية، يعيشون دائمًا عند طلب الرّزق في حالة من القلق والاضطراب، ولو اصطدموا بمشكلة، لعظمت عندهم وضاقت الحياة في أعينهم لأنّهم لا يجدونها محفوفة بالمصالح الغيبيّة التي يعلمها الله ويجهلها الإنسان. وخلاصة الكلام إنّ من يرى سعادته، في تحصيل هذه الدّنيا، يواجه في طلبها هذا الآلام والعَناء، وتُسلب عنه الرّاحة والبهجة، وتستنزف قواه وطاقاته في هذا الطّلب. كما نرى أنّ أهل الدنيا دائمًا في تعب ونصب، وأنّهم لم يتمتّعوا باطمئنان في الرّوح واستقرار في الجسم، وإذا حلّت بهم مصيبة، خارت قواهم وحيويّتهم وزال جلدهم وصبرهم أمام الحوادث التي تداهمهم. وهذا لا يكون إلاّ نتيجة شكّهم وعدم إيمانهم بالقضاء الإلهيّ وعدله، فتكون هذه الأمور من الحزن والهمّ والتّعب. نتيجة لهذا التّزلزل”10.
كمال اليقين
إنّ اليقين كغيره من الكمالات المعنويّة ذو مراتب ودرجات. وقد أشار الإمامقدس سره إلى أعلى درجاته، وهي المتحقّقة في الأنبياء: “إنّ مراتب اليقين والإيمان مختلفة على مستوىً لا يمكن عدّها وبيانها. وإنّ اليقين الكامل للأنبياء والاطمئنان التامّ الذي يحظون به، الحاصلان من المشاهدة الحضوريّة هو الذي يعصمهم من الآثام. إنّ يقين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام قد أبلغه إلى مستوى يقول “وَالله لَوْ أُعْطِيتُ الأقالِيمَ السَّبْعَةِ بِما تَحْتَ أفْلاكِها عَلى أنْ أَعْصَى الله في نَمْلَةٍ أسْلُبُها جَلْبُ شَعِيرةٍ ما فَعَلتُهُ”11″12. و”إنّ مصدر جميع الخطايا والمعاصي التي تصدر من الإنسان، هو النقص في اليقين والإيمان”13.
وفي شرحه لحديث الإمام الصّادق عليه السلام الوارد في مصباح الشّريعة يقول قدس سره “وكمال اليقين مشاهدة حضور المحبوب”14.
هوامش
1- من لا يحضره الفقيه، ج3، ص 554.
2- الأربعون حديثًا، ص 433.
3- جنود العقل والجهل، ص 210.
4- الكافي، ج2، ص 57.
5- جنود العقل والجهل، ص 210.
6- الأربعون حديثًا، ص 238.
7- الأربعون حديثًا، ص 589 – 590.
8- سورة آل عمران، الآية 26.
9- الأربعون حديثًا، ص 591-592.
10- الأربعون حديثًا، ص 594.
11- نهج البلاغة، ص 347.
12- الأربعون حديثًا، ص 581.
13- (م.ن).
14- معراج السالكين، ص 75.