كسب القلوب وتألفها

كسب القلوب وتألفها

لا سبيل إلى الإنسان في كسب الآخرين إلا من خلال الفعل الحسن، والقول الطيب الجميل، بل حتى الفعل الحسن إن كان لا يصاحب قولا جميلا يكون مذموماً وذلك بأن يتبع العمل الحسن منّة. قال تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} البقرة: 263

ومن هنا كان للكلام أثر على المُلقي قبل المُلقى عليه، وذلك لأن فعله يوجب أثرا تكوينيا عليه في حياته الدنيوية والأخروية، ولذلك رتب الله أحكاماً، وقوانيناً شرعية على الكلمات التي يقولها الإنسان بقصد واختيار، ومنها جعل العقود من بيع، وشراء، وتوكيل، وزواج، وطلاق كله من خلال كلمات تقال. ولذلك جاء في الدعاء يقول المتزوج في ليلة العرس حينما يخلوا بزوجته: «اللهم وبكلماتك استحللت فرجها» الكافي 5: 503

وأفضل صورة يمكن تصويرها لذلك هو قول الله تعالى حينما يصف الكلمة الطيبة بأنها مثل الشجرة المثمرة التي تكون عالية وقطوفها دانية وهي منتجة في كل حين: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء # تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} إبراهيم: 24ـ25

ومتى كان السالك إلى الله لا يقول إلا الطيب، ولا يتفوه إلا بالذكر الحسن والكلمات الجميلة فأنه يمتلك من القلوب ما لا يملكه غيره. ففي الرواية: «الكلمة الطيبة صدقة» بحار الأنوار 74: 85 ، وبخلافها القول الفاحش، والبذيء فأنه أمر مرفوض جدا حتى مع من لا يستحق الخطاب وذلك لأن الكلام يخرج من القلب والذي هو معدن النفس ومن هنا قال الشاعر:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما **** جعل الكلام على الفؤاد دليلا

ولأن للكلام والتي مفردها كلمة أثر قوي اشتق من معنى كلم وهو الجرح، وما ذلك إلاّ لأنّ الكلمة لها أثر تؤثر به، كالجرح الذي يجرحه الإنسان بواسطة السيف أو الخنجر أو السكين.

ولكي نفهم لماذا أعطى الإسلام كل هذه الأهمية للكلمات في العقود وغيرها، وما للكلمات السيئة من تأثير على الآخرين، وكيف أن الجهل بها يؤدي إلى عدم اتضاح الرؤية ننقل هذه الحادثة:
إنّ وفدًا من أوربا جاء لزيارة إيران في زمن الشيخ البهائي (رحمه الله)، الشيخ البهائي كان من العلماء الأفذاذ، شخصية لامعة، والله تبارك وتعالى أعطاه بالإضافة إلى العلم حسن الخلق، دماثة، لين عريكة، كلمة طيبة، لا يسيء إلى أحد، وإنما يغضب لله، انطلاقًا من توجيهات الشارع المقدس، وعادة كان الملك آنذاك الشاه عباس الصفوي، يفخر بأنّ الشيخ البهائي من علماء البلاط، فكان يحضر إذا جاءت الوفود من دول مختلفة ليتحدث إليهم ببيان فلسفة الأحكام وأهمية التقيد، أو الانضباط بأوامر الشارع المقدس. فلما جاء ذلك الوفد من أوربا طرح أحدهم إشكالا على الشيخ البهائي فقال له:

إنما تتمسكون بعادات بالية وقديمة لأنّ المدار في الأحكام على الرضا، فلا ينبغي أن تتقيدوا بهذه الكلمات التي تتفوهون بها في بعض العقود كعقد النكاح؟

فلما سمع إشكاله ردّ الشيخ البهائي عليه قائلا له: لا تأكل خراك.

قال ذلك وخرج الشيخ ولم يعقب بأي كلمة أخرى، فغضب السائل واعتبرها إهانة لدولته، فهو يمثل وفد دولة. فاشتط غضباً وأخذ يتمتم بكلمات الغضب، وهو يقول لمن كان حاضرا في المجلس: هكذا علمكم الإسلام التعامل مع الضيوف بالأخلاق الحسنة والطيبة؟ أهذه هي أخلاق الإسلام؟

ثم أنتظر مجيء الشاه عباس الصفوي ليشتكي إليه على الشيخ البهائي، فلما جاء الشاه عباس، تكلم معه هذا الأوروبي قائلاً له: أتعلم ماذا قال الشيخ لي؟ فحكى له القصة، بالفعل تعجب الشاه عباس كيف يصدر من الشيخ البهائي هذا الكلام، مع أنّ الشيخ من المعروفين بدماثة الخلق، وحسن العريكة والملاطفة والكلمات الطيبة، فكيف قال لممثل الوفد هذه الكلمات؟ فاستدعى الشاه عباس الشيخ البهائي، فلما جاء الشيخ البهائي ودخل، سلّم على الوفد المكوّن؛ من عدة أشخاص بسلام جميل ولاطفهم ومازحهم واحداً واحداً حتى ذلك الذي غضب عليه. فتعجب فسأل الشاه عباس الشيخ البهائي عن سر تصرفه وقوله ؟

فأجاب الشيخ: هو من قال إنّ التمسك بمجرد عادات بالية وقديمة والكلام لا تأثير له، فأردت أن أخبره بموقفٍ عملي بتأثير الكلام، ثم أنا لم أشتمه وإنما نهيته قلت له: لا تأكل خراك، لم أقل له كل خراك، ومع ذلك غضب وتأثر فكيف لو أنني أمرته بعكس ذلك ؟

فكان فعل الشيخ أكبر درس لهذا الشخص ولنا، في أن الكلمات التي يقولها الإنسان لها تأثير كبير على الآخرين، من هنا أيها السالك إلى الله لا تجعل فمك مفتوحاً، ولا تقل كل ما تعلم، حتى لو كان حقاً بل التزم الصمت واجعل حديثك، القول الطيب، ولا تتفوه بكلمات نابية أو كلمات خبيثة، فأنها تؤدي إلى القطيعة، وإلى العداوة وإلى البغضاء حتى لو صدرت على سبيل المزح؛ لأنها تؤدي إلى الحنق والغيظ. ولذا على الإنسان أن يتعامل دائمًا مع الغير من خلال أوعية تحمل المعاني الجميلة والكلمات اللطيفة بالخصوص مع أقرب المقربين إليك مثل أولادك أصدقائك زوجتك، مع أمك وأبيك. وخص الله سبحانه وتعالى الوالدين أكثر من عدم التفوه لهم بأي كلمة فيها معاني التأفف والتضجر: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} الإسراء: 23

Loading