الطمأنينة

تمهيد

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾1.كثيرة هي مواقف الحياة ومواردها وفرصها التي تزلزل الإنسان، فتمنعه من الاستفادة الصّحيحة والتّوجّه المركّز والثّبات واتّخاذ الموقف المناسب، لهذا احتاج العاقل إلى الطّمأنينة لكي يثبت وعاء وجوده أمام نزول الفيوضات الرّحمانيّة، فتستقرّ في قلبه ثمّ تتّحد مع نفسه فتصبح عنوان هويّته وسِمة شخصيّته.

ما أحوج المجاهد إلى الطّمأنينة في ساحات الوغى. والأحوج منه ذاك الذي تحيط به مغريات الدّنيا فتسلبه لبّه من شدّة هزاهزها. وفي مجالس العلم وفي العبادة وفي كلّ عمل نقوم به، تكون الطّمأنينة عاملًا أساسيًّا في تحصيل الفوائد والوصول إلى النّتائج. فما هي الطّمأنينة؟ ومن أين تنشأ؟ وكيف يمكننا تحصيلها؟

ما هي الطّمأنينة؟

لا تحتاج الطّمأنينة إلى تعريفٍ علميّ لأنّها من الأمور التي يدركها الوجدان نظرًا لتحقّقها في عالم الأبدان. فالجسد المطمئنّ شرط في الصّلاة، ويقابلها الاضطراب والتّزلزل والحركة العشوائيّة التي لا تعرف وجهةً، وما ينبغي أن نعرفه أنّ الطّمأنينة هي ثبات الإيمان واستقراره في القلب، وتمركز التّوجّه والتّخيّل في الخيال. ولها حضور وتجلٍّ في جميع مراتب النّفس.

لكنّ الأصل في بحثنا هذا هو طمأنينة القلب وسكونه التي ينبغي أن تنعكس في عالم المثال بصورة اطمئنان الخاطر، يقول الإمامقدس سره: “من الآداب القلبية المهمّة للعبادات ـ وخصوصًا العبادات الذكرية ـ الطمأنينة. وهي غير الطمأنينة التي اعتبرها الفقهاء رضوان الله عليهم في خصوص الصلاة. وهي عبارة عن أن يأتي السالك بالعبادة مع سكون القلب واطمئنان الخاطر، لأنّ العبادة إذا أُتي بها حال اضطراب القلب وتزلزله، فلا ينفعل القلب بها، ولا يحصل أثر منها في ملكوت القلب ولا تصير حقيقة العبادة صورة باطنيّة له”2.

وبهذا البيان يُعلم أنّ طمأنينة الخاطر من أعظم أسباب استقرار الفضائل ورسوخها في النّفس.

وإذا انعكست الطّمأنينة القلبيّة في عالم الخيال والمثال ظهرت في عالم الملك والظّاهر وتجلّت في حركة الأعضاء والجوارح، فلا يزيغ البصر ولا تتذبذب الأذن ولا تتحرّك الأيدي ولا ترجف الأرجل ما دامت مطمئنّة.

إنّ الطّمأنينة في المراتب المختلفة علامة ودليل على استقرار الفيض الإلهيّ وقرب اتّحاده بالنّفس الذي يُعدّ عنوان الكمال الحقيقيّ. إنّ أكثر النّاس يتمتّعون من حينٍ لآخر بفيوضات رحمانيّة قد تصل إلى حدّ المكاشفات والمشاهدات. لكنّ الكمال الحقيقيّ في صيرورة هذه الكمالات أو الأنوار والفيوضات حالة راسخة وهيئة ثابتة في النّفس، الأمر الذي يحصل بفضل الطّمأنينة.

فلو أراد الله بعبدٍ خيرًا، منحه الطّمأنينة قبل أن يفيض عليه بأنوار الكمالات المختلفة. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “الطمأنينة واليقين والثبات والإخلاص وأمثالها من الإفاضات الرّحمانيّة والإلقاءات المُلكية”3.

ويقول قدس سره: “مقام الاطمئنان وطمأنينة النّفس، وهو في الحقيقة المرتبة الكاملة من الإيمان. قال تعالى مخاطبًا خليله: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾4″5.

والطّمأنينة علامة إلهيّة على التّكامل حيث يقول الإمام قدس سره: “أمّا أهل الآخرة، فإنهم كلّما ازدادوا قرباً من دار كرم الله، ازدادت قلوبهم سرورًا واطمئنانًا”6.

آثار الطّمأنينة

للطّمأنينة آثار لا عدّ لها ولا حصر، ونحن ننقل منها أهم ما جاء في كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره.

1- العصمة

“إنّ نفي الشكّ يستلزم نفي العيوب القلبيّة والقالبيّة، بل يستلزم العصمة، لأنّها ـ العصمة ـ أمر على خلاف الإرادة والاختيار، وإنها لا تكون من الأمور الطبيعية والجبلّية، بل هي حالة نفسية، وأنوار باطنية تتفجّر من نور اليقين الكامل والاطمئنان التام”7.

2- سبب لتأثير العبادة والذّكر

“من إحدى نكات تكرار العبادات وتكثير الأذكار والأوراد أن يتأثّر القلب بها وينفعل حتى يتشكّل باطن السالك شيئا فشيئا من حقيقة الذكر والعبادة، ويتّحد قلبه بروح العبادة. وطالما لم يكن للقلب اطمئنان وسكون وطمأنينة ووقار، لا يكون للأذكار والنسك فيه تأثير، ولا يسري أثر العبادة من ظاهر البدن وملكه إلى ملكوته وباطنه ولا يؤدي إلى القلب حظوظه من العبادة. وهذا من الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلى بيان، ويعلم بأدنى تأمّل”8.

3- التغلّب على جنود الشّيطان

“إنّ طمأنينة النّفس واستقامتها هي التي تجعل الغلبة للإنسان في مواجهة جنود الجهل، وتحفظه في مجابهة حزب الشيطان، وتجعله يسيطر على قوّتي الغضب والشهوة، فلا يستسلم لهما، بل هي التي تُسخّر لطاعته جميع قواه الباطنية والظاهرية”9.

  1. التّقوى التّامّة

“إن الإنسان يستطيع القيام بجميع الواجبات الفردية والاجتماعية، فلا ينحرف ولا يسقط في المعاصي في أيّ مرحلة من مراحل حياته الماديّة والروحيّة، وذلك ببركة التحلّي بهذه القوّة الروحانية العظيمة، أي ملكة الاستقامة والطمأنينة”10.

5- عدم الخوف من الأعداء

“فبها (أي الطمأنينة) قام زعماء الدّين في وجه الملايين من الجاهلين دون أن يسمحوا لكثرة هؤلاء بأن توجد فيهم أدنى وهن، وهذه الرّوح العظيمة هي التي جعلت الأنبياء العظام ينهضون فرادى لمواجهة العقائد الجاهلية الباطلة التي سيطرت على العالم، دون أن يدخلهم أدنى خوف أو رهبةٌ بسبب وحدتهم وكثرة مخالفيهم، وبها تغلّبوا على تلك العقائد الجاهليّة وغيّروا العادات التي أوجدتها في الناس، واستبدلوها بصبغتهم التّوحيديّة”11.

6- سبب للقوّة العظيمة

“لَمَّا سَأَلَ عُمَرُ (أمير المؤمنين عليه السلام) فَقَالَ: “يَا أَبَا الْحَسَنِ لَقَدِ اقْتَلَعْتَ مَنِيعاً وَأَنْتَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ خَمِيصاً، فَهَلْ قَلَعْتَهَا بِقُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ؟ فَقَالَ: مَا قَلَعْتُهَا بِقُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ وَلَكِنْ قَلَعْتُهَا بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ وَنَفْسٍ بِلِقَاءِ رَبِّهَا مُطْمَئِنَّةٍ رَضِيَّةٍ”12.

أسباب الطّمأنينة

إنّ جميع الكمالات والكرامات إفاضات إلهيّة ومِنن ربّانيّة. لكن على الإنسان أن يحفظ لها في نفسه الوعاء والاستعداد. ومن جملة الأسباب التي تمهّد لحصول الطّمأنينة في النّفس حسبما جاء في كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره:

1- ترك حبّ الجاه والمقام

“إنّ هدوء النفس والطمأنينة الحاصلة من ترك حبّ الجاه والمقام وسائر تفرّعاته، تمنع النفس من أن تخطو خطوات تخالف العدالة والرويّة. إنّ الإِنسان البسيط غير المتكلّف يتحمّل المنغّصات ولا تتقطع حبال صبره، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير وقته. أمّا إذا اقتلع جذور حبّ الدنيا من قلبه اقتلاعًا، فإنّ جميع المفاسد تهجر قلبه وتحلّ محلّها الفضائل الأخلاقيّة السّامية”13.

2- التوجّه إلى تعمير الآخرة وعالم الغيب

“إذا كانت وجهة القلب نحو تعمير الآخرة، والمعارف الحقّة، وعالم الغيب، لحصل له وئام مع الملكوت الأعلى، الذي هو عالم الملائكة وعالم النفوس الطيّبة السّعيدة، والذي يكون هذا العالم بمثابة الظل النّورانيّ لعالم الطّبيعة، واعتبر العلوم التي تفاض عليه من العلوم الرّحمانيّة الملكيّة والعقائد الحقّة وغدت الخواطر من الإلقاءات والخواطر الإلهيّة، ويتطهّر من الشكّ والشرك ويتنزّه منهما، وحصلت الاستقامة والطّمأنينة في النّفس، وصارت أشواقها أيضًا على ضوء تلك العلوم، وإرادتها على ضوء تلك الأشواق”14.

3- شرح الصدر

“فالمتحلي بشرح الصدر لا يولي أهميّةً لما يراه في نفسه من كمال وجمال ومال ونفوذ وحشمة ولا يستعظمه، لأنّ سعته الوجودية كبيرة إلى درجة تجعله يتغلّب على جميع الورادات القلبية، فلا يضيق وعاؤُهُ الوجودي بشيءٍ. وهذه السّعة في الصدر وليدة معرفة الحقّ تعالى، وهي التي توصل قلوب المتألهين للأنس بالله إلى مقام الاطمئنان والسكينة والطمأنينة”15.

4- إشراقة نور التّوحيد

“إنّ القلب الذي أشرق فيه نور التّوحيد ومعرفة الكمال المطلق يتحلّى بالطّمأنينة والثبات والتأني والاستقرار، وإنّ القلب الذي تنوَّر بمعرفة الحقّ جلَّ وعلا يرى عيانًا أنّ مجاري الأمور بيد قدرته تعالى، ويرى نفسه واجتهاده وحركته وسكونه هو، وكذلك حركات وسكنات جميع الموجودات صادرة منه تبارك وتعالى، لأنّ زمام أمورها ليس بيدها بل بيده عزَّ وجلّ، مثل هذا القلب لا يعتريه اضطراب أو تسرّع أو تذبذب”16.

5- الحلم

“الحلم من شُعَبِ اعتدال القوّة الغضبية، وهو ملكةٌ تؤدّي إلى حصول الطمأنينة في النفس، فلا تهيج فيها القوّة الغضبية بسرعة أو في غير الموارد المناسبة، ولا تفقد زمام أمرها إذا واجهت ما لا ترغب فيه أو ما تكرهه أو ما لا يلائمها”17.

كيفيّة تحصيل الطّمأنينة؟

إنّ الاتّصال بالأسباب المذكورة هو العنصر المحوريّ في تحصيل الطّمأنينة وجعلها ملكة نفسانيّة راسخة. ويذكر الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة من النّصائح المفيدة في هذا المجال، يمكن أن تشكّل برنامجًا مهمًّا.

1- مخالفة الشّيطان

“من الوضوح بمكان أنّك إذا خالفت الشّيطان فترة من الزّمان، ولم تلقَ بالاً لوساوسه، لانقطع طمعه عنك، وعادت الطمأنينة والسكون إلى نفسك”18.

2- العلم الصّحيح

“عبّر الإمام عليه السلام عن العلم بـ (المُحكمة)19 لأجل أنّ العلم الصحيح لنورانيته وضيائه في القلب، يوجب الاطمئنان، ويدحض الريب والشك”20.

3- إزالة حبّ الدّنيا

“وبصورة عامة، فإنّ العلاج الجذريّ لمعظم المفاسد إنما يتحقّق بمعالجة حبّ الدنيا وحبّ النفس، وبذلك تتحلّى النفس بالسكينة والطمأنينة، فيهدأ القلب حينئذٍ ويصبح الاطمئنان قوّة وملكة فيه، فيتساهل بشأن الأمور الدنيوية ولا يهتم بأيِّ مأكل ومشرب، ويتعامل بهدوءٍ وتساهل مع من يزاحمه في أيّ أمر من أمور الدنيا، لأنّ محبوبه ليس طعمة أهل الدنيا لكي يهيج من أجلها”21.

و”إنّ أهل الدنيا دائمًا في تعب ونصب، وإنّهم لم يتمتّعوا باطمئنان في الروح واستقرار في الجسم، وإذا حلّت بهم مصيبة، خارت قواهم وحيويّتهم وزال جَلَدهم وصبرهم أمام الحوادث التي تداهمهم. وهذا لا يكون إلاّ نتيجة شكّهم وعدم إيمانهم بالقضاء الإلهيّ وعدله، فتكون هذه الأمور من الحزن والهمّ والتّعب. نتيجة لهذا التزلزل”22.

موانع الاطمئنان

1- طلب الشهوات

“حال القلب المحتجب، المحروم من معرفة الله، الواقع في حجب التوجّه للنفس والشهوات واللذات الحيوانية، فهو مضطربٌ لخوفه فوات اللذات الحيوانية، فصاحبه فاقد للطمأنينة يقوم بأعماله بعجلةٍ وتسرُّع”23.

2- اللغو والكلام القبيح

“فيما يرتبط بخصوص آثار اللغو والكلام القبيح ينبغي الالتفات إلى شدّة اضراره على الرّوح، فهو يسلب النّفس الصّلاح والصّفاء والسّلامة والوقار والطّمأنينة والسّكينة”24.

3- الرّكون إلى الأسباب وعدم إرجاعها إلى الله

“إن المحتجب عن الحقّ تعالى، والمتوجّه إلى الأسباب العاديّة ويراها مستقلّة في فاعليّتها، يتشبّث بها ـ عملياً وقلبيّاً ـ فينقطع عن الحقّ، وتزول الطمأنينة والثقة بالله من نفسه، ويحل محلّها الاضطراب والتزلزل: ولأنّ الأسباب العاديّة لا تحقّق له ما يطمح إليه ولا تطفئ نار حاجته، لذا فإنّ حال الاضطراب والتوقان، والتمسّك والتشبّث بالدنيا وأهلها تشتد فيه كل يوم حتّى تغرقه بالكامل في بحر الدنيا”25.


هوامش

1- سورة الفجر، الآيات 27 – 30.

2- معراج السالكين، ص 31.

3- الأربعون حديثًا، ص 433.

4- سورة البقرة، الآية 260.

5- معراج السالكين، ص 26.

6- الأربعون حديثًا، ص 156.

7- (م.ن)، ص 581.

8- معراج السالكين، ص 31-33.

9- جنود العقل والجهل، ص 324.

10- جنود العقل والجهل، ص 325.

11- (م.ن)، ص 325.

12- بحار الأنوار، ج21، ص 40.

13- الأربعون حديثًا، ص167-168.

14- (م.ن)، ص 434.

15- جنود العقل والجهل، ص 304.

16- (م.ن)، ص 326.

17- جنود العقل والجهل، ص 329.

18- الأربعون حديثًا، ص 441.

19- قال المؤمنين عليه السلام يقول: “يا طالب العلم إن العلم ذو فَضَائِلَ كَثِيرةٍ، فَرَأسُهُ التَّواضُعُ، وَعَيْنُهُ البَرَاءَةُ مِنَ الحَسَدِ، وأذُنُهُ الفَهْمُ، وَلِسَانُهُ الصِّدقُ، وحِفْظُهُ الفَحْصُ، وَقَلْبُهُ حُسْنُ النِّيَّةِ، وَعَقْلُهُ مَعْرِفَةُ الأشْيَاءِ وَالأُمُورِ، وَيَدُهُ الرَّحْمَةُ، وَرِجْلُهُ زِيَارَةُ العُلَمَاءِ، وَهِمَّتُهُ السَّلاَمَةُ، وَحِكْمَتُهُ الوَرَعُ، وَمُسْتَقَرُّهُ النَّجَاةُ، وَقَائدُهُ العَافِيَةُ، وَمَرْكَبُهُ الوَفَاءُ، وَسِلاحُهُ لِينُ الكَلِمَةِ، وَسَيْفُهُ الرِّضَا، وَقَوْسُهُ المُدَارَاةُ، وَجَيْشُهُ مُحَاوَرَةُ العُلَمَاءِ، وَمَالُهُ الأدَبُ، وَذَخِيرَتُهُ اجْتِنَابُ الذُّنوبِ، وَزَادُهُ المَعْرُوفُ، وَمَاؤُهُ المُوادَعَةُ، وَدَليلُهُ الهُدَى، وَرَفِيقُهُ مَحَبَّةُ الأخْيَارِ” الكافي، ج1، ص 48.

20- الأربعون حديثًا، ص 427.

21- جنود العقل والجهل، ص 235.

22- الأربعون حديثًا، ص 594-595.

23- جنود العقل والجهل، ص 326.

24- (م.ن)، ص 350.

25- (م.ن)، ص 205.

26- الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في يوم عرفة.

27- سورة الأنفال، الآيات 9-10.

28- سورة الحج، الآية 11.

29- بحار الأنوار، ج64، ص 303.

30- الكافي، ج2، ص 421.

Loading