.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

 

 

الدين الإسلامي عامل تغيير اجتماعي:

لقد وصل علماء الاجتماع في تحليلاتهم الخاصة بالعقيدة بوجه عام إلى أن من أهم وظائفها هي تدعيم أنماط المؤسسات الاجتماعية. ومع ذلك فهناك حقيقة هامة أخرى مؤداها أن الدين لا يدعم باستمرار الوضع القائم ولكنه أيضاً يستثير الصراع الاجتماعي, كما يفتح الباب للتغير الاجتماعي. فدور العبادة التي يجتمع بها أعداد من المواطنين يمكنهم أن يتلقوا أفكاراً. وقيماً تقاس عليها كثير من الأوضاع القائمة, ومن ثم فإن نوعاً من عدم الرضا على الأوضاع القائمة تحركهم نحو التغيير[1].

ولعل الآية الكريمة القائلة: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) توضيح موقف الإسلام من التغيير الاجتماعي, وتوضيح أن نقطة البدء في التغيير هي بناء البشر. ثم يعقب بناء البشر تغيير المجتمع.

إن قيم الإسلام إذا ما استوعبها الناس, واستوعبوا نظمه, وأهدافه, وشموله, وتكامله, ومبادئ العدالة, والمساواة, والحرية فيه فمما لا شك فيه أنهم سوف يحاولون تغيير الأوضاع الاجتماعية بحيث تتمثل ما في الإسلام من جوهر... وسيظلون يتطلعون إليه كمخلص لهم من الأنماط الاجتماعية التي لا تحقق لهم السعادة في حياتهم.

وهذا الاستيعاب الديني هو المحرك الأساسي لكثير من الثورات الإسلامية مثل الثورة الوهابية, والثورة المهدية, والحركة السنوسية, والحركة الإسلامية في مصر في القرن العشرين.

وهذا الاستيعاب الديني لا يتحقق عشوائياً أو بمحض الصدفة, وإنما يتحقق بالدارسة الواعية, والفهم العميق لاتجاهات الفكر الإسلامي, وأثرها في حياة الناس.

ومن هنا كانت التربية بمفهومها الشامل, المدرسي وغير المدرسي هي المدخل الوحيد لتلك الدراسة, وذلك الفهم الديني, ولذلك نجد أن القائمين بهذه الثورات هم علماء الدين الأذكياء الذين استطاعوا أن ينظروا إلى الإسلام بمنظار شمولي. وبهذا المنظار الشمولي استطاعوا أن يبرزوا جواهره القيمية, وتشريعاته الاجتماعية, والاقتصادية, والسياسية وأن يبسطوها للعامة, فتندفع العامة معهم مؤمنون بما يقولون وما يفعلون.

وإذا أردنا أن نتبين قوة الإسلام التجديدية, وقدرته الفائقة على التغيير فإن تمثل المجتمع الجاهلي لدليل قوي على ذلك.

فلقد كان مجتمعاً تجمعت فيه (كل انحرافات البشرية وشذوذها).مجتمع غابت عنه الفضيلة, والحكمة والعاطفة البشرية, غاب عنه العلم, والمنطق البشري, والخلق الإنساني. والأمثلة على ذلك عديدة تجل عن الحصر فهو مجتمع يعبد أصناماً لا تنفع ولا تضر, فاقدة للحس والحركة؛ والحيوية والحياة!. وهو يقتل فيه الأب أولاده خشية إملاق. (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت). أليس هذا قتل لأقوى العواطف في الإنسان, وهي عاطفة الأبوة والأمومة!! كما ساد في هذا المجتمع الكذب والسرقة والزنا والقتل والاغتصاب كظواهر عامة فيه, ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة لهم حتى قبل البعثة ظاهرة بشرية نادرة, ولذلك أطلقوا عليه الصادق الأمين تمييزاً له عن هذا المجتمع الشاذ.

وهنا تظهر قوة الإسلام الحقيقية في التغيير وكأنما يختار هذا المجتمع ليضرب مثلا للبشرية عبقرياً معجزاً. ليثبت من خلاله قدرته على التغيير السريع القوي ففي مدى زمني قصير جداً لا يبلغ نصف القرن كانت قد تغيرت خريطة العالم كلها. واختار الإسلام حدود الجزيرة العربية لينشر ألويته على بلاد من أفريقيا وآسيا متطلعاً إلى بقية قارات العالم. فإذا ما قارناه بدين آخر. مثل دين نوح مثلا لرأينا البون شاسعاً جداً.

فلقد مكث سيدنا نوح يدعو الناس ما يقرب من تسعمائة وخمسين سنة فما آمن معه إلا قليل!!.

فإذا كان للإسلام هذه القوة في التغيير والتجديد فلماذا لم يعم بلاد العالم كلها حتى الآن وخاصة أوربا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرهما من البلاد التي تحمل مشعل الحضارة المعاصرة. وهل يقتصر على تغيير وبعث البلاد المتخلفة والشاذة مثلما حدث في بدايته؟.

الواقع أن هناك سوء فهم قاسي للإسلام عند كثير من المفكرين على مختلف تخصصاتهم في بلاد العالم المعاصر وخاصة في أوربا. فهم لم يدركوا الإسلام بعد بعمقه, وبشموله, وبعقلانيته, وباحتضانه للفكر المختبر في مجالات العالم والكون والطبيعي.

ولعل ذلك قد كان سبباً رئيسياً لعدم اعتناق أوربا له حتى اليوم, فالعقلانية التي يؤمنون بها. ويقدسونها لا يجدونها في المسيحية مما يجعلهم يعممون على العقائد الدينية كلها بما فيها الإسلام بأنها لا تخضع لها. فإذا كان اعتناقهم للمسيحية لا يخضع للمنطق العقلاني هذا, ولا يدركون في إطارها أية صلة بين المسيحية (العقيدة) والعلم الطبيعي فما الذي يدفعهم إلى ترك دين لا يخضع للعقلانية, ولا يحتضن العلم الطبيعي إلى دين آخر يخضع في فهمهم لهذه اللاعقلانية واللاعلمية.

ونتساءل من المسئول عن ذلك الوضع؟. نحن المسلمون المسئولون عن ذلك لسببين رئيسيين:

أولهما: أن غالبية مفكرينا المقتدرين لم يستوعبوا كل أبعاد عقلانية الإسلام وعلميتة حتى يمكنهم أن يقدموه للعالم الإسلامي أولا. وللعالم الإسلامي ثانياً في صورته الحقيقية.

وثانيهما: أن العالم الإسلامي نفسه قد تأثر بمعتقدات تعصب لها. وليس لديه ـ لدرجة كبيرة ـ استعداد لدراسة غيرها, واستيعابها للسبب الذي ذكرناه سابقاً وهو اقتناعه بأن الأديان كلها تتناقض مع فكرتي العقلانية والعلمية ولا تخضع لهما.

وفي هذا يقول أحد علماء الاجتماع الغربيين وهو ديفيد بروبينو ما يلي: (إن الدين يوجد في جميع المجتمعات البشرية, وهو أسلوب حياة اجتماعي يؤدي بها إلى علاقة مع جميع مظاهر الحقيقة غير العقلية وغير التجريبية)[2].

فإذا كان الأمر كذلك فما الذي يجعل الأوربيين والأمريكيين مثلا أن يتحولوا من دين لا عقلاني, ولا علمي!. أما إذا برزت معالم العقلانية والعلمية في ديننا لا نحني له العلماء الغربيون بصفة خاصة, وغير الغربيين بصفة عامة.

ومع ذلك فإن أعداداً لا بأس بها تعتنق الإسلام اليوم في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية, وكندا.

ما هي الأسباب الرئيسية في إدخال هذه السلبيات في ثقافتنا:

إن عوامل كثيرة قد تكاتفت للنيل من ثقافتنا. ومن أهمها التخلف الاقتصادي والتخلف الفكري, والتخلف الاجتماعي بوجه عام. كل ذلك كان سبباً في فقداننا الوعي والإدراك.

وكذلك تعتبر القوى العالمية المعادية للإسلام عوامل مسببة للتخلف الثقافي بوجه عام, وعوامل أساسية في محاربة الثقافة العربية الإسلامية وغرس السلبيات بها.

فالروح الصليبية العدائية للإسلام, والروح الصهيونية المضادة لهذا الدين, وما وراءهما من تنظيمات ماسونية, وما خلفهما من مخططات سرية قد استهدفت النيل من هذه الثقافة العربية الإسلامية, فحاولت إضعافها بشتى الطرق, فغزتها من كافة المداخل, واستخدمت أدنأ الأسلحة, وأخسها في غلاف من السلوفان الذي أحياناً ما كان ينسب إلى العلم. والدراسة التجريبية.

وحينما غزتنا الثقافة الغربية كنا في حالة ركود تامة: ركود اجتماعي, وتخلف اقتصادي وضعف فكري وروحي بفعل عوامل كثيرة؛ منها الخلافات والحروب التي نشبت بين أمراء المسلمين, ومنها الخدع اليهودية التي تعرض لها الإسلام منذ وجد على ظهر الأرض, ومنها الاستعمار التركي وإدخاله مفاهيم خاطئة في مفاهيم الإسلام بل إحلال هذه المفاهيم الخاطئة

محل مفاهيم الإسلام ذاتها, فأثرت كثيراً في الحياة في جميع جوانبها السياسية والجهادية, والاقتصادية, والاجتماعية, وأصيبت الحياة بالجمود والتخلف خاصة في مفاهيم العمل والإنتاج.

والحق أن الغزو الثقافي الغربي في بداية القرن التاسع عشر كان يحمل معه مثيرات كثيرة أيقظت الوعي الإسلامي عند المسلمين في مصر على خصائص ثقافية لم يحسوا بغربتها عنهم, وإن كانت غير موجودة في حياتهم في زمن تلك الغزوة. ولكنها كانت في الأعماق الفكرية لهم. وترددها كتبهم وقرآنهم. ومن هذه المثيرات حياة الديمقراطية الجديدة ومجالسها التي أيقظت عند المسلمين فكرة الشورى في الإسلام, ومنها أيضاً العلم ومسح الأراضي وقياسها ورسم الخرائط. وهذه الأخرى أيقظت عندهم معاني لكلمات وألفاظ كانت تتردد بينهم عن تاريخ لعلماء ومفكرين نشأوا في ظل الإسلام كانت لهم مثل هذه التجارب والمحاولات. وهذه بعض الأمثلة البسيطة على تلك المثيرات ولكنها عديدة تجل عن الحصر.

وحينما استيقظ المسلمون ودب فيهم الوعي الثقافي الإسلامي بفعل هذه المثيرات حاولت التقوى الأوربية أن تنال من هذه اليقظة وأن توحلها إلى يقظة تسير في ركاب ثقافتها المادية. ومن هنا كانت المحاولات الواضحة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي لتغريب مصر.

ولقد استهدفت هذه القوى التأثير على جميع وسائط التربية, ونقل الثقافة استهدفت الأسرة لتكسبها عادات, وتقاليد, وعرف, وتنظيمات قد لا تتمشى مع الإسلام في كثير منها.

واستهدفت التأثير على وسائل النشر. والدعاية, والإعلام المختلفة من إذاعة وتلفيزيون, وصحافة, وكتب أدبية وكتب علمية حتى نعيش في جو محالف إلى حد كبير أو صغير مع قيم الإسلام, ومضامينه, وأهدافه, وتفسيراته للحياة, والوجود, وللكون, وللإنسان, ولأصله, ولمصيره.

وفي الوقت الذي حاولت فيه هذه القوى محاربة القيم ذات المحتوى الإسلامي في أمتنا كانت تحاول هذه القوى أن تدرسها لتأخذ منها ما يفيدها في حياتها ولكنها تضعها في إطار فكرها هي.

أخذت منا مثلا قيمة العلم, والبحث العلمي ومناهجه, ولكنها حاولت أن تباعد بينه وبين إطارنا, وأخذت منا قيمة العمل وإتقانه والإخلاص فيه, وبنت حضارتها به, وحاولت أن تباعد بينه, وبين إطاره الحقيقي... الإطار الإسلامي... وأخذت قيم العدالة, والمساواة, والحرية, والإخاء, وحاولت أن تصيغها في ثياب المدنية الغربية, وفي إطارها محاولة إبعاد عن منظومتها القيمية الإسلامية.

وأخذت منا نظام التعليم, وجوهر التربية, ولكنها شتتتها, فتشتت هذه المجتمعات الغربية بسبب ذلك. وناقضت كل نظرية تربوية أخرى, لأنها افتقدت الربط بالمصدر الأصلي الذي اقتبست منه, وبالتالي ناقض كل مجتمع في أوربا شقيقه الأوربي, وراح يتصارع معه في حروب لا نهاية لها...

وحينما اقتبسنا منهم في الوقت الحاضر اقتبسنا هذه الأفكار المتصارعة في بلادنا, والمتصارعة في نفس الوقت مع قيمنا فعشنا الصراع محتدماً مريراً.

ولكن لماذا هذا العداء للإسلام ولقيمه من قبل الغرب والصهيونية والشيوعية؟.

الواقع أن الإسلام لا يعادي إلا الظلم والجور واستغلال الإنسان. والغرب وقد استبد به الظلم. وسيطرت عليه مجموعات من القوى الاستعمارية, والقوى الكهنوتية والقوى الإلحادية. فإن هذه القوى تخشى على كياناتها منه. ولذلك فقد اشتركت في مخططات للنيل منه في عصور التاريخ المختلفة منذ أن ظهر الإسلام كقوة عالمية مؤثرة, ولقد اختلفت هذه المخططات من وقت لآخر. كما اختلفت حدة هذا العداء من وقت لآخر, ومن مجتمع لآخر. ولكنها لم تختف يوماً ما, ولم تغفل لحظة من لحظات التاريخ في مواصلة عدائها للإسلام, ورسم المخططات للإجهاز عليه!!.

وفي الوقت الذي يعجز فيه المسلمون عن اليقظة الحضارية الإسلامية لأسباب التخلف التي سبق ذكرها يحاول الغرب أن يقدم لهم نماذج حضارية براقة مشفوعة بالإغراء الجنسي, والإغراء المالي استدانة, ورهناً.

وتقدم هذه النماذج الحضارية من خلال السينما, والمسرح, والصحافة, والقصص الجنسي المبتذل.

كما تقدم من خلال الأزياء, وبيوت عرضها, ومن خلال الأسفار والاحتكاكات الثقافية التي تتيح الفرص للشباب والشواب ... بل تغريهم بمسايرة حياة المجون الأوربية.

ولقد نجح الغرب في خلق مجموعات متخصصة من أبناء البلاد الإسلامية لتبنى هذه النماذج الحضارية الغربية بما تحويه من قيم هادمة لقيمنا الإسلامية.

كما نجح في غزو الإطار التربوي في القطاع التربوي على مستوى التربية المدرسية كذلك! وتبنى أبناء الإسلام هذا الغزو بالوعي وباللاوعى.


[1] david PROENOE SOOIOiJU appleton new uork second edition p

[2] Religion is present in all human societies and is a socially recognized way of entering into a

relationship with the aspects of reality that are nonrational or nonempirical

المرجع السابق ص439

 

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست