.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

السلبية الرابعة

السلبية الخامسة: ضعف الفهم لبواعث الحياة

السلبية السادسة: الصراع الثقافي

السلبية السابعة: ظاهرة لوم النفس

 

 

السلبية الرابعة:

أما السلبية الرابعة فنتيجة طبيعية هي الأخرى لضياع الغايات والوسائل الإسلامية من مجتمعاتنا الإسلامية. وتكمن في فقدان التربية في المجتمعات الإسلامية لغاياتها ووسائلها الإسلامية اللهم إلا من قبيل الترقيع, وعدم الفهم الواضح لجوهر الفكر الإسلامي ولغاياته, ووسائله. ومن قبيل تخصيص بعض دروس في التربية الإسلامية. وكأنها الإسلام قد اقتصر في بنيانه على بعض العبادات وحفظ بعض سور القرآن, وبعض الأحاديث النبوية الشريفة وترديدها دون فهم في غالب الأحيان.

ولم يعد الإسلام موجهاً للفكر التربوي, ولا للممارسات التربوية في كافة عناصر العملية التربوية. ولا للممارسات الإدارية بالذات.

وبذلك فقدت مكونات المناهج ترابطها واتصالها في نطاق إطار الفكر التربوي الإسلامي, ولذلك نرى أن الأجزاء المكونة للمناهج الدراسية لا تتمثل في الفكر الإسلامي ولا تسير في نطاقه في كثير من الأحوال؛ إن لم يكن في كلها.

ولذلك فإننا نجد شروداً في بعض أجزاء من المقررات, وبعداً عن السياق الإسلامي. بل نجد أن بعض المقررات الدراسية قد تتناول تفسيرات تبعد بأبنائنا عن هذا الفكر الإسلامي. وقد تبرز تناقضات مع هذا الفكر. مع أن الفكر الإسلامي لا يتناقض في ظاهره, ولا في باطنه مع حقائق العلوم الطبيعية. وإنما قد ينشأ مثل هذا التناقض من سوء الفهم والتفسير لكلا المجالين: العلمي والديني.

ومن العجيب أن تحدث محاولات من الشيوعيين, ومن الرأسماليين ومن غيرهم لربط حياتهم, وتربيتهم بعقيدتهم الاجتماعية ـ اشتراكية أو رأسمالية ـ ويحاول فلاسفة أولئك وهؤلاء أن يحددوا فلسفة المجتمع, وأهدافه, وسياسته العامة, وفلسفته وأهدافه, وسياسته التربوية في ضوء هذه العقيدة أو ما تسمى أحياناً بالأيديولوجية.

ولا نحاول أن نربط فلسفتنا, وأهدافنا, وسياستنا العامة, وفلسفتنا, وأهدافنا وسياستنا التربوية بعقيدتنا الاجتماعية الإسلامية.

إن لعقيدتنا نظرة وتفسيراً للكون, وللطبيعة, وللإنسان, والتاريخ وللغايات وللوسائل البشرية في هذه الحياة. وكل ذلك التفسير يكون فكرنا, ويكون فلسفتنا ومواقفنا في الحياة من كل شيء, وتبدو مجموعة الدراسات, والعلوم الطبيعية والإنسانية معالجات لمجموعة من الجزئيات التي يشملها هذا الكون. وبالتالي تدخل في نطاق التفسير الكلي للكون, وللطبيعة, وللإنسان, وللتاريخ الذي يشمله فكرنا, وهو ذلك الفكر الذي تتضمنه بهذه العقيدة الاجتماعية الإسلامية.

وأي مادة من مواد الدراسة, أو مقرر, أو فرع تخصصي يجد موقعه في ظل هذا التفسير, وذلك الإطار, كما يجد مواطن التحامه بباقي التخصصات, ومواطن ارتباطه بالحياة التي يحياها البشر ساعين نحو غرضهم وغايتهم في هذه الحياة.

وسيجد كل فرع تخصيصي محتواه, وقد أثرى بمضامين هذه العقيدة, وأثرى بما تعكسه فيه هذه المضامين من مكونات ثقافية أبدعها البشر وأنتجوها.

وستجد التخصصات نفسها, وقد التحمت مع بعضها في منظومة مرتبطة الحلقات؛ رباطها هو الفكر الإسلامي, ومحتواها هو المحتوى الثقافي الإسلامي.

ستجد أحداث التاريخ ـ مثلا ـ تفسيراً إسلامياً للحوافز والدوافع التي دفعت إليها, وللغايات التي تشرئب لها أعناق البشر. وستجد النماذج البشرية الإسلامية التاريخية تفسيراً في ظل الروح الإسلامي وسيجد التاريخ البشرى كله تفسيراً في ظل النظرة الإسلامية.

وستجد الظواهر الكونية تفسيراً في ظل هذا الإطار الإسلامي أيضاً, كما ستجد الأنشطة البشرية في استثمار الطبيعة, ودراستها, وفهمها من أجل السيطرة عليها تفهماً وتقبلاً, وحفزاً من هذه العقيدة الإسلامية.

وستجد الظواهر النفسية, والعقلية, والروحية, والاجتماعية, تفسيراً عبقرياً في محتوى هذه العقيدة. فهل من باحثين في أعماق هذه العقيدة لإبراز عبقريتها المعجزة في مجال هذه الظواهر؟

هذا السؤال تطرحه هذه العقيدة على أهلها في هذا العصر بالذات, وهو عصر حاولت قوى كثيرة أن تجتهد في إيجاد تخريجات, وتفسيرات لهذه الظواهر مبتعدة عن فكر خالق الكون, والإنسان!!. فهل في هذا منطق.

السلبية الخامسة ـ ضعف الفهم لبواعث الحياة:

لاشك أن من السلبيات التي خيمت على الثقافة في بلادنا تلك الأفكار الخاطئة والتفسيرات الخرافية لبواعث الحياة في الإسلام. ومن هذه الأفكار الخاطئة مثلاً ما خضعت له عقيدة (القضاء والقدر) من فهم خاطئ كما كانت مسئولة عن ذلك الجمود الفكري, والركود الثقافي, والاجتماعي, والتخلف الاقتصادي.

ولقد وجد في القرن التاسع عشر من المفكرين الإسلاميين من أمثال الإمام الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وقبلهما وجد رفاعة رافع الطهطاوي وغيره لإبراز معاني الاستخلاف في الأرض وعمارتها, ومعاني النهوض والاجتهاد البشري في مجال الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية.

ولقد أهتم الشيخ محمد عبده بإبراز معنى التوكل واختلافه عن معنى التواكل وضرب لذلك أمثله من القرآن الكريم[1]. وكان هدفه من ذلك تجديد بواعث الحياة في الفكر الإسلامي بما يعكس اتجاهات إيجابية في واقع الحياة الاجتماعية والاقتصادية. ولقد كان لكل ممن ذكرنا أيضاً ومن لم نذكر جهد في هذا السبيل. كما كان لنمو حركة التعليم والتحديث في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أثر في زوال كثير من هذه المفاهيم الخاطئة من الثقافة الإسلامية.

السلبية السادسة ـ الصراع الثقافي:

إن الصراع الثقافي ظاهرة من ظواهر المجتمع الإسلامي المعاصر, وهو نتيجة للظروف المعاصرة فأسبابه كثيرة, ومظاهره متعددة. فمن أسبابه عدم وضوح قيمنا في فكرنا, وغياب النموذج المجسد لها في حياتنا, وفي نفس الوقت تتدخل المحاولات من جانب أعداء الفكر الإسلامي لتقديم قيم أخرى مجسدة في واقع الحياة المعاصرة لتحل محل القيم الإسلامية. وقد نأخذ بها تحت ضغط الظروف المحيطة بنا. ومع أخذنا بها إلا أننا نحس باستمرار بأنها لا تتوافق مع روحنا وحسنا. كما نحس بأن شيئاً ما ينقصنا باستمرار. ما هو؟. يقول البعض إنها القيم الإسلامية. ونتلهف عليها, ولكن هيهات لنماذجها التجسيدية أن تشق طريقها في أرض الواقع بفعل التراكمات السلبية التي تكونت عبر التاريخ. ولذلك نظل متطلعين للإسلام وتطبيقاته في صعوبة بالغة.

وأما مظاهره فعديدة منها أننا نأخذ بأسلوب من أساليب العصر, وفي أعماقنا رفض له. ومع ذلك نستمر في الأخذ به. ومنها ما يوجد من تيارات فكرية متصارعة, بعضها يأخذ بالاتجاهات المعاصرة, دون ربطها بإطارنا الفكري. وكأننا نبدأ الحياة عن جديد متجاهلة أن الماضي هو مدخل الحاضر, وأن الحاضر هو مدخل المستقبل. وهو المشكل له, وبعضها الآخر يأخذ بالاتجاهات السلفية دون محاولة لتكييفها مع العصر ظناً منه أن الماضي مقدس, وأنه خلق ليبقى ولا يتغير. وهو بذلك يسير عكس التيار, وبعضها الثالث يحاول التوفيق بين الاتجاهين. وقد يخطئه التوفيق. ورابع التيارات يحاول التوفيق, ولكنه لا يجد الاستجابة الكاملة من غالبية الناس, ومن بيدهم مقاليد الأمور.

السلبية السابعة ـ ظاهرة لوم النفس:

وهي ظاهرة حادة في ثقافتنا. حينما نقسوا على أنفسنا قسوة شديدة في محاسبتها صحيح أنه من المرغوب فيه حساب النفس قبل أن تحاسب (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا). لكنه صحيح أيضاً أن (كل ابن آدم خطاء, وخير الخطائين التوابون)[2]. إننا في غمرة محاسبة النفس. وهي قيمة كبرى في المسلك الإسلامي, تظهر أمامنا السلبيات والأخطاء, ونتجاهل الإيجابيات والصوابات. ومع أن النفس المسلمة تكتئب للأخطاء؛ فإن لومنا لها ينسينا هذه الإيجابيات الحافزة للحياة وللسلوك.

والسبب في ذلك ما نشأنا عليه وما كنا نلقنه من أن الدين منجاة من عذاب جهنم. فكانت الآيات المختارة لنا صغاراً تحرصنا في هذه الزاوية, وتبرز لنا مشاهد القيامة المروعة, والمصير الذي ينتظر مرتكبي الذنوب والأخطاء.

وبذلك كان مدخل الدين إلينا هو الترهيب لا الترغيب, وكأنما محمد الرحمة المهداة لم يكن إلا نذيراً فقط, ولم يكن بشيراً للعالمين. ويظل هذا المدخل يحدث أثره في النفوس حتى يكبر الصغار ويشبون على (الخوف الديني) إن صح هذا التعبير. ويظل الحال كذلك حتى ينمو الدين في نفوس المسلمين فيدركون أنه دين الرحمة قبل أن يكون دين عذاب.

وأن الله سبحانه وتعالى وسعت رحمته كل شيء (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً)[3].

أو يظل الحال كذلك حتى ينفر كثير من المسلمين من إسلامهم لأنهم لم يروا منه إلا الوجه العقابي.

وهذه الظاهرة ـ ظاهرة لوم النفس ـ قد طبعت فكرنا المعاصر. فحينما نريد أن نحلل ثقافتنا لا يكون همنا وشاغلنا الأعظم إلا ذكر السلبيات وتحليلها, مغفلين للإيجابيات ودوافعها وعظمتها في حياتنا. وكأنما حياتنا كلها سلبيات!![4].

ولا يكون من هم أمام (الوعاظ وخطباء المساجد) إلا تذكرة المسلمين بالموبقات وعقوباتها والنار ولهيبها وعذاب الآخرة وشدته, إن هذا الجانب لا شك هام في الوعظ الديني (فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)[5]. ولكن أن يقتصر الوعظ والكلام الديني باستمرار على هذا الجانب دون سواه فهو ذلك ما ندرك خطورته على الدين.

وتبنى الإسلام كحركة الإصلاح في المجتمع لا يتأتى برصد السلبيات والنهى عنها وتأنيب النفس البشرية عليها, وإنما يتأتى بتنشيط الجانب الإيجابي والفعال في خلق المسلم, ليكون إنساناً متحضراً يلتزم الجدية في القول وفي العمل, ويحترم النظام في التفكير وفي الممارسة, ويعشق التعاون في أوقات الرخاء وفي أوقات الشدة, ويأخذ العفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين.

ولست أظن كل هذا أو حتى بعضه يمكن تحقيقه ما لم نجتهد لإصلاح الإطار المجتمعي الخارجي الذي يتحرك فيه هذا الإنسان المنتسب إلى الإسلام بطريقة عصرية, لنساعده على الالتفات إلى وتبنى الأوامر التي أوجبها عليه الإسلام, وألزمه أن يكون بمقتضاها عضواً إيجابياً صالحاً في المجتمع المسلم, والتي ألزمه القرآن بها قبل أن يبصره بالنواهي حيث لم يرد في القرآن نهى عن المنكر إلا واقترن به بل سبقه أمر بمعروف.

(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر){آل عمران: 104}

(يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) {آل عمران: 114}.

(يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة) {التوبة: 71}.

(قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به) {الرعد: 36}.

(ما أتاكم به الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) {الحشر: 7}[6].

ولذلك فلا يفوتنا أن نذكر في نهاية تتبعنا لبعض السلبيات أن نذكر بعض الإيجابيات في الحياة الإسلامية ظلت تحافظ على نفسها على مر العصور. فمنها الترابط الاجتماعي القوي خاصة في البيئات الريفية والصحراوية, فهذا الترابط وإن كان لهذه البيئات أثر أساسي في تكوينه والإبقاء عليه واستمراره إلا أن محتوى هذا الترابط فيه كثير من القيم الإسلامية. فهو يجسد مثلا قيم الإخاء والتعاطف والتراحم بالمعنى الإسلامي. ويمكن لهذه النماذج الإيجابية أن تنمو وأن تستثمر لتكوين الإطار القيمي الإسلامي من جديد لمجتمع متماسك متعاون لتحقيق الخير الأسمى في كل أبعاده المادية والمعنوية.

ومن هذه الإيجابيات تمسك بعض المفكرين الإسلاميين به, وفهمه والدفاع عنه على مر عصور التاريخ مما حفظ له قوة الدفع والاستمرار وحفظ له روحه, ومعانيه باستمرار.

ومنها أيضاً (شموله) الذي يجعله قادراً على استيعاب التغير والتقدم واستيعاب المعاني والمفاهيم التي تنبثق من كل عصر ومن كل بيئة. فهو نفسه لا يتغير ولكن الذي يتغير هي الحياة بتجددها, وهذا التغير باستمرار وإلى الأبد يجد مكانه وموقعه تحت إطاره الفكري الشمولي المتكامل المتناسق المترابط. وهذا هو الذي يجعل لمفاهيمه فهماً على قدر الزمان والمكان. ثم فهما متجدداً بتجدد الزمان والمكان وهذا ما يفسر نسبته وإطلاقه. فهو نسبى يسمح للناس في كل زمان ومكان باستيعابه. وهو مطلق من حيث قدرته على تغطية كل زمان ومكان فهو أزلي أبدي ثابت مطلق.

ولعل من أهم إيجابيات هذا الدين الإسلامي أنه عامل تغيير مستمر للحياة نفسها, ولقوة هذه الإيجابية فسوف نناقشها بشيء ما من التفصيل.


[1]  عثمان أمين, رائد الفكر المصري, الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.

[2]  حديث شريف.

[3]  قران كريم.

[4]  فهمى هويدى, " الدين.. أو السكين " مقال في مجلة العربي, سبتمبر 1977, ص28ـ031

[5]  قران كريم

[6]  محمد رضا محرم, " خبرات العصر وتحقيق العدل الإسلامي ". مقال في الطليعة رداً على محمد أحمد خلف الله في العدد الصادر في يناير 1976 ـ العدد الأول ـ ص88 ـ السنة الثانية عشرة.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست