وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية، ويدلّ عليه الإجماع والكتاب والسنّة والاعتبار.
أمّا الأول: فمن المسلمين كافّة.
وأما الثاني:
فقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]
والأمر يدلّ على الوجوب، والنسبة إلى الأمّة منكّرة تدلّ على كونه كفائياً.
وقال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113، 114].
وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ..} [التوبة: 71].
وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..} [آل عمران: 110].
وقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
وأمّا الثالث: فقد أشير إلى بعضها.
قال الباقر عليهالسلام في حديث طويل: «إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحلّ المكاسب وتردّ المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر فأنكروا بقلوبكم واتّعظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم.. الحديث» (1).
وقال الصادق عليه السلام: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله سئل عن أفضل الإسلام، فقال: الايمان بالله، قال: ثمّ ماذا؟ قال: صلة الرحم، قال: ثم ماذا؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. الحديث» (2).
وقال عليهالسلام: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله، فمن نصرهما نصره الله، ومن خذلهما خذله الله» (3).
والأخبار كثيرة لا تحصى، فإذن تبيّن انّهما من أفضل الواجبات وأنّ تركهما من أبغض المحرّمات بعد الشرك بالله سبحانه كما ورد في النبوي (4).
وقد دلّ بعض ما تقدّم من الآيات والأخبار على كونه كفائياً.
وفي الخبر عن الصادق عليهالسلام: «[سُئل] عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب على الأمّة جميعاً؟ فقال: لا، الحديث» (5).
ومنه يظهر ضعف القول بوجوبه عيناً.
واعلم أنّ المنكرات إمّا مكروهة أو محرّمة، والمنع عن الأولى مستحبّ، والسكوت عليه مكروه، والثاني واجب، وهي أي المنكرات وإن أمكن استعلامها من الكتب الفقهيّة لاشتمالها عليها الا أنّها متفرّقة في أبوابها ويعسر الاطّلاع عليها وجمعها ولم يشيروا إلى ما شاع في المساجد والأسواق والحمّامات والطرق من المنكرات، واعتاد الناس بها، ونحن (6) نشير إلى بعضها إجمالاً، فممّا اعتيد عليه في المساجد ما يشاهد كثيراً فيها من إساءة الصلاة وترك شرائطها وآدابها وقراءة القرآن باللحن، والاشتغال بالمنع عن أمثال ذلك أهمّ من الاشتغال بالنوافل لكونها فريضة يتعدّى إلى الغير فائدتها، وهي أهمّ من النافلة التي يقتصر عليه.
ويستحب المنع عن تراسل المؤذنين في الأذان وتطويلهم مدّ الكلمات والانحراف عن صوب القبلة فيه لكونها مكروهة.
وكذا تكثير الأذان في مسجد واحد في أوقات متعاقبة بعد طلوع الفجر، إذ لا فائدة فيه إذا لم يبق في المسجد نائم ولم ينته الصوت إلى غير من في المسجد.
وكذا الاذان قبل الصبح، فإنّه مشوّش للصوم والصلاة الا إذا عرف بذلك.
وكذا الواعظ الخارج عن الحق في وعظه بالكذب أو البدعة يجب منعه، ولا يجوز حضور مجلسه الا لإظهار ردّه على كافّة الناس أو من أمكن منهم والا فلا يسمع أصلاً، وإذا كان كلامه مائلاً إلى الارجاء وتجرئة الناس على المعاصي وجب منعه.
وكذا إذا تزيّن للنساء وأكثر من الأشعار والحركات والإشارات إليهنّ مع حضورهنّ وجب منعه، ويتبيّن ذلك بقرائن الحال، بل لا يسلم الوعظ الا لظاهر الصلاح والسكون والوقار، والأحسن ضرب الحائل بينهنّ وبين الرجال حسماً لمادّة الفساد ومنعهنّ عن حضورها إذا خيفت الفتنة بهنّ.
ومنه أيضاً اجتماع الناس يوم الجمعة أو في شهر رمضان فيها لبيع الأدوية والأطعمة والتعويذات وقيام السؤّال وقراءتهم وإنشادهم للأشعار وأمثالها، بل قد يكون بعضها محرّمة بالأصالة لكونها تلبيساً وكذباً في المسجد وخارجه فمنعه واجب حينئذ.
وكذا كل بيع فيه كذب وتلبيس.
أو بالعرض كتضييق المكان على المصلين وتشويش صلاتهم عليهم.
ومنه تمكين المجانين والصبيان والسكارى من دخولها، ولا بأس بالصبي إذا لم يلعب، ولا يحرم لعبه ولا السكوت عليه إلا إذا أخذ المسجد ملعباً، فيجب المنع عنه حينئذ، وكذا المجنون إذا لم يخش نطقه بفحش أو شتم أو كشف عورة أو إيذاء مسلم، وكذا السكران، فإن خيف منه القيء أو الأذية أو كان مضطرب العقل وجب إخراجه، وإلا فلا. وممّا اعتيد عليه من منكرات الأسواق الكذب في المرابحة وإخفاء العيب، فعلى العالم بكذب البائع إعلام المشتري وسكوته مراعاةً له مشاركة في الخيانة.
وكذا العالم بالعيب، وإلا كان راضياً بضرر أخيه وهو حرام.
وكذلك التفاوت في الذراع والمكيال والميزان، ويجب على العارف به تغييره إن أمكنه أو رفعه إلى الحاكم.
وكذا الربويات وسائر التصرفات الفاسدة، وبيع الملاهي والتصاوير والتماثيل والأواني المتخذة من الذهب والفضة، وثياب الحرير وقلانس الذهب.
وكذا التلبيس على المشتري في الثياب المقصورة بكونها جديدة، وانخراق الثوب بالرفو ونحو، وكل ما فيه تلبيس وغش، فإنّها كثيرة لا تحصى.
ومما اعتيد عليه من منكرات الشوارع وضع الاساطين والدكّات متصلاً بالأبنية المملوكة، وغرس الأشجار ووضع الخشب وأحمال الأطعمة والحبوب وغيرهما في الطريق إن كان مؤدّياً إلى التضييق والإضرار بالمارّة ولم يكن ممّا يشترك الكافة في الحاجة إليه ونحوها ربط الدوابّ الا بقدر الحاجة لأنّها مشتركة المنافع، فلا يختص بها أحد الا بقدر الحاجة التي تراد لأجلها الشوارع في العادة، وسوق الدابة وعليها الشوك بحيث يضرّ الناس ويمزّق ثيابهم مع إمكان عدمه، وتحميل الدوابّ ما لا تطيقه، وذبح القصّاب على الطريق أو على باب دكّانه وتلويث الطريق بالدم وطرح الكناسة على جوادّ الطرق وتبديد قشور البطّيخ أو رشّ الماء بحيث يخاف منهما التزلّق وإرسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط إلى الطرق الضيّقة وأمثال ذلك.
وممّا اعتيد عليه في الحمّامات من (7) كشف العورات والنظر إليها وأخذ الصبيان والأمارد للخدمة بحيث يخشى منهم الفتنة وغير ذلك، أو في الضيافات أي بعضها من (8) لبس الحرير واستعمال الأواني المحرّمة والصور الحيوانية والاسراف في الطعام والبناء والمصاحبة بطريق البدعة أو اللهو واللعب المحرّمين أو ما يختلف في حليّته وحرمته وشرب المحرّمات أو أكلها واتّخاذ الفواحش فيها وغير ذلك ممّا لا يمكن حصره، وقس على ما ذكر منكرات الجامع ومجالس القضاة ودواوين السلاطين ومدارس الفقهاء ورباطات المتصوّفة وخانات الأسواق.
ومن المنكرات العامة تكاهل الناس بأسرهم عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف مع جهلهم لشروط الصلاة وآدابها في البلاد، فكيف بالقرى والبوادي وكذا سائر مسائل دينهم، فعلى كلّ من تعلّم مسألة أن يعلّمها الجاهل بها، ولو كان عامياً والانسان لا يولد عالماً بالشرع.
والاثم على الفقهاء أشدّ؛ لأنّ قدرتهم في تبليغ العلم إلى من لا يعلم أظهر وهو بهم أحرى وأليق، والمحترف لو ترك حرفته بطل المعاش، وهؤلاء قد تقلّدوا أمراً لا بدّ منه في صلاح الخلق وحرفتهم تبليغ ما بلغ عن الرسول صلى الله عليه وآله، فإنّ العلماء ورثة الأنبياء، فلا يجوز للعالم القعود في البيت مع ما يرى من مواظة الناس على هذه المنكرات مع إمكانه في حقّه واجتماع شرائطه فيه، بل حقّ المسلم أن يبدأ بنفسه وإصلاحها بأداء الفرائض وترك المحرّمات مع العلم بها بالتعلّم من أهلها ثم تعليم أهله وأقاربه ثمّ جيرانه ثمّ أهل محلته ثم أهل بلده ثم السواد المكتنف له ثم أهل القرى والبوادي وهكذا إلى أقصى العالم، فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد والا كان واجباً على كلّ من يسعه ذلك مادام جاهل على وجه الأرض باقياً ولا يقدمّ عليه الا فرض عين أو كفاية أهمّ منه.
وأمّا أركانهما فأربعة:
أحدها: المحتسب، ويعتبر في وجوبهما عليه كونه مكلّفاً مؤمناً، ولا يشترط العدالة على الأظهر في أفراد الحسبة الصادرة عن آحاد المكلّفين.
نعم يشترط في الناصب نفسه لتربيتهم وإرشادهم نيابة عن الرسول والأئمّة عليهم السلام، مضافاً إلى سائر شروط الاجتهاد، ويشترط القدرة أيضاً، فلا حسبة على العاجز ولو بالخوف على نفسه من مكروه أو العلم بعدم التأثير فيه، بل يحرم فيما يتوقّع فيه ضرر بدنيّ أو عرضيّ أو ماليّ لقوله تعالى : {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وورد النهي عنه في الأخبار الا أنّ عليه أن لا يحضر مجالس المنكر حينئذ، ويعتزل في بيته الا لحاجة مهمّة أو واجب، وهذا ممّا يختلف باختلاف الأزمان والأحوال ودرجات المكاره التي تنال بالحسبة، والانسان على نفسه بصيرة، ولا يشترط إذن الحاكم في ما لا ينجرّ إلى الفساد والفتنة من مراتب الحسبة كالوعظ بالكلام اللطيف والسبّ والتعنيف بما لا يشتمل على محرّم، والقهر الفعلي ككسر الملاهي وإراقة الخمر واختطاف الثوب منه إذا لم يخف مكروهاً.
وأمّا ما ينجرّ إليهما فنعم على الأظهر.
والثاني: ما فيه الحسبة، وهو كلّ منكر موجود في الحال ظاهر للمحتسب من دون تفحّص معلوم كونه منكراً من غير اجتهاد، والمنكر أعمّ من المعصية، فمن رأى مجنوناً يزني وجب عليه منعه، ولا يجوز للآحاد على من فرغ عنه أو علم أنّه سيأتي به الا الوعظ، بل لو أنكر حرم ايضاً؛ لأنّه سوء ظنّ به، ولا يجوز التجسّس على المستتر للنهي، والظهور يشمل الشمّ والسمع واللمس.
وبالجملة هو ما يفيد العلم من دون طلب الأمارات المعرّفة.
وثالثها: المحتسب عليه، ولا يشترط كونه مكلّفاً لما عرفت من وجوب منع الجنون والصبي عن مثل الشرب والزنا.
نعم يشترط كونه إنساناً فلا حسبة على الحيوان، وإن وجب منع البهيمة عن إتلاف زرع المسلم مثلاً، فإنّه ليس من قبيل الحسبة التي هي المنع عن المنكر لحق الله صيانة له عن المنكر، بل هو لحفظ مال المسلم الواجب عقلاً ونقلاً، فافهم.
ورابعها: نفس الاحتساب وأوّله التعرّف ثم التعريف ثم النهي ثم الوعظ ثم التعنيف ثم التغيير باليد ثم التهديد بالضرب ثم إيقاعه ثم شهر السلاح ثم الاستظهار بالأعوان والجنود.
وتفاصيل ما أشرنا إليه في الأركان موكولة إلى الكتب الفقهيّة وغيرها من مطولات الفّن.
وللمحتسب آداب يرجع حاصلها على العلم والورع وحسن الخلق.
فعن النبي صلى الله عليه وآله: «لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر الا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم يأمر به، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه» (9).
فالفاسق يسقط أثره من القلوب ولا ينتفع بحسبته.
__________________
(1) الكافي: 5 / 56، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ح 1، وفيه: «والفظوا بألسنتكم».
(2) الكافي: 5 / 58، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح 9 مع تلخيص وتغيير، وكان عليه أن يقول: «قيل: ثمّ ماذا».
(3) الكافي: 5 / 59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح 11، وفيه: «فمن نصرها أعزّه الله».
(4) الكافي: 5 / 58، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح 9، وورد فيه كونهما من أبغض المحرمّات بعد الشرك وقطيعة الرحم.
(5) المحجة البيضاء: 4 / 107، الكافي: 5 / 59.
(6) من هنا إلى آخر الفصل أخذه المصنّف (ره) من الإحياء (ج 2 / 3312 إلى 343) ملخّصاً.
(7) كذا، والظاهر زيادتها.
(8) كذا، والظاهر زيادتها.
(9) إحياء العلوم: 2 / 333 ـ 334.
المرجع الالكتروني للمعلوماتية