التعاليم الإسلامية في تربية الأبناء

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ‹‹ما نَحِلَ والدٌ ولدَهُ أفضلَ من أدبٍ حسن››.

الأبناء يشكلون الوجود المستمر للإنسان، والإنسان يبقى ببقاء أبنائه وذريته، وكل إنسان يحاول جاداًّ أن يخلد، ويبقى ذكره الحسن والمحمود بين الناس من الواضح أنّ البقاء والدوام لله تبارك وتعالى، ولكن الله تبارك وتعالى منح الإنسان ما يجعله خالداً، وما يجعل الإنسان خالداً هو أمران:

الأمر الأول: العمل الصالح.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً}(الكهف:46).

الأمر الثاني: الذرية.

ذرية الإنسان توجب له البقاء والخلود، والله تبارك وتعالى منح الإنسان غريزة حب البقاء من ناحية، وحبه لأولاده من ناحية أخرى، إلا أن الكثير من الناس لا يفقه هذه النّعمة العظيمة، ولا يُحسن العناية بأولاده كي يوصلهم إلى الكمال المنشود، الذي يُهيئهم للرقي بمجتمعهم إلى مستوى عالٍ من الرفاه والأمن والسلامة، وبالتالي يُؤهلهم لنيل السعادة الدنيوية والأخروية، وهذا ما ركّزت عليه الأحاديث الكثيرة، التي تُؤكد على أهمية إعطاء الأبناء عناية فائقة، تعود على الأسرة والمجتمع بالخير الوفير.

جوانب تَفَوُق وصَلاح الأبناء:

هنالك أُسس ذات أهمية فائقة، يمكن من خلالها أن يصبح ذلك الابن لَبِنَة صالحة في المجتمع، وهذا ما أكدته الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة من أهل البيت عليهم السلام، عندما ركّزت على أمرين في غاية الأهمية:

الأول: الأدب.

قبل الدخول في لُب هذا الموضوع لا بد من الوقوف قليلاً عند كلمة الأدب، فعندما نقول أدِّبْ ولدك, فالمراد من الأدب في اللغة هو الرياضة، يعني اجعل ولدك يرتاض، ومعنى ذلك، أن يمارس عملاً يستمر عليه ليحقق اِنجازاً، ويحقق مكتسباً، فإذاً لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى اكتساب المهارة أو التفوق إلا من خلال الارتياض، سواءً كان في المجال المعنوي لشخصيته، أو في المجال المادي، ولذا, جاءت الكلمة الخالدة لإمامنا أمير المؤمنين عليه السلام: ‹‹وأيم الله إنها نفسي أروّضها على التقوى››، بمعنى أنّ الإمام عليه السلام يرسم لنا طريقاً في بناء النفس من الناحية المعنوية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالارتياض، الذي يوصله إلى مرتبة الكمال من ناحية خلال التأديب المستمر لنفسه، وإذا غفل عن هذا النحو من التأديب فإنه سوف يعود إلى حالته الأولى، ولن يستطيع الحفاظ على ما كان عليه، وبالتالي، سوف يرجع متقهقراً إلى الوراء، ولذا، نجد المصطفى صلى الله عليه وآله يقول- في تأكيده على التأديب – ‹‹ما نحل والدٌ ولده أفضل من أدبٍ حسن›› فهذا الحديث يريد أن يُركز على مسألة هامة ترتبط بالجانب التربوي في حياة الأبناء، لأننا نجد أنّ بعض الناس يكرم أبناءه، فيشتري لهم الهدايا المتعددة ويسعى في تحقيق رغباتهم، وهذا أمر حسن ومُشجَع عليه من الناحية الشرعية. ولكننا نجد أنّ كلمة أدب في الحديث فيها إطلاق، بحيث لا تقتصر على الجانب المادي، بل تشمل كل الوسائل المتاحة التي من شأنها بناء شخصيته وتطويره ورفع مستواه على كل الأصعدة، وهذا أهم من العطاء المادي، بل يمكن أن يحوّل الأب العطية المادية إلى أدب، وذلك، من خلال تبديل تلك العطية المادية باتخاذ مربياً له، أو أن يشتري له كتاباً، أو يلحقه بإحدى الدورات التدريبية التي تُعنى بشحذ العقل ورسم الخطط للتفوق العلمي وتحقيق النجاح في كل المجالات، أو أن يفسح له المجال كي يسافر لإتقان أو دراسة مادة محددة ومعينة لتنعكس إيجابياً على شخصيته وتطوير قدراته، فنجد أنّ هذا الأمر قد حُضّ عليه من لدُن الشريعة الإسلامية من خلال هذا الحديث الذي ذكرناه أو الأحاديث الأخرى التي تشير إلى أنّ الكرامة لا تتحقق للأبناء إلا من ناحية حسن الأدب، قال النبي صلى الله عليه وآله : ‹‹أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم›› فالإكرام يتحقق بحُسن الأدب.

فإذاً الأمر الأول الذي تؤكد عليه الأحاديث هو الاهتمام بالجانب الارتياضي أو الرياضي، بمعنى تلقين الأبناء الاستمرار في إتقان مهارات تؤدي بهم إلى الرقي والكمال والفاعلية الكبرى التي تعود بالخير عليهم وعلى أهليهم ومجتمعهم.

الأمر الثاني: طلب العلم.

التوكيد على طلب العلم قد ورد في أحاديث كثيرة، وبالخصوص في مجال حض الأولاد على طلب العلم، ولا يراد من العلم هاهنا العلم الشرعي فحسب، وإن كان العلم الشرعي يمثل أهمية كبرى, بمعنى أنّ على الإنسان أن يُعلِّم أبناءه ما يحتاجونه في أمور دينهم، وهذا واجب، كذلك إذا استطاع أن يجعلهم من المتخصصين أو من العلماء أو من طلبة العلم، فهذا أمر في غاية الحُسن، حتى لو كان موظفاً فإنه يُتاح له ذلك، بمعنى أن يحصل على بعض المعارف الدينية بالدراسة. ولكنّ الأمر بطلب العلم للأبناء لا يختص بالجانب الديني فقط، لأنّ العلم يُراد به ما يشمل كل المجالات التي تُسهم في التقدم العلمي والمعرفي للبشرية جمعاء، قال صلى الله عليه وآله : ‹‹مرو أولادكم بطلب العلم›› ويقول إمامنا الصادق عليه السلام: ‹‹لا يزال المؤمن يورِّث أهل بيته العمل والأدب الصالح حتى يدخلهم الجنة›› وهنا جاء التوكيد على الأمرين معاً، الاهتمام بالأولاد من ناحية الآداب العامة، وكيفية تعامله مع أبويه وإخوته وسائر الناس حتى ذلك الآخر الذي يختلف معه في الرأي، فهذا كله يرتبط بجانب الأدب والأخلاق، وهناك جانب آخر وهو إتقان المعرفة في كل شيء، وتحويلها إلى واقع عملي وسلوكي، فقد يُكون للإنسان معرفة بشيء ولكنه لا يستطيع أن يطبقه. فنجد أنّ البعض عندما تسأله عن أحسن الأمور وأفضلها فإنه يُجيبك بأن تكون تقياً، أو تكون مؤدباً، أو غير ذلك، ولكنه لا يرشدك إلى الجانب التطبيقي والأسلوب الأمثل الذي تسلكه كي تصل إلى ذلك الأدب. ولذا، نجد أنّ الأحاديث على جُنبة التطبيق العملي، لأنّ الأدب يعني الارتياض، أي، تُروّض نفسك على التعامل بمحاسن الأخلاق مع الآخرين، والسيطرة على الغضب وغير ذلك. ولذلك، نجد أنّ الإمام الصادق عليه السلام في الحديث المتقدم يوصي بإعداد برامج مستمرة في التربية للأولاد وفق أمرين أساسين، هما العلم والأدب. ويمكن للإنسان أن يُقدم العلم على الأدب، أو الأدب على العلم، لأنهما الجناحان اللذان يطير بهما الإنسان في الصعود إلى درجات الكمال المادي والمعنوي.

التطبيق العملي لتربية الأبناء.

يقول المصطفى صلى الله عليه وآله إشارة إلى بعض المجالات التطبيقية: ‹‹أدبوا أولادكم على ثلاث خصال، حب نبيكم, وحب أهل بيته, وقراءة القرآن›› ومعنى الحب للنبي هنا هو رمز أو إشارة وإيماءة إلى قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}(الأحزاب:21)، فحُب المصطفى صلى الله عليه وآله يُراد به أن يبدأ الإنسان بالميل العاطفي للنبي صلى الله عليه وآله والحب له والتأثر به ثم الاقتداء به، والترقي في درجات الاقتداء والإتباع حتى الوصول إلى أعلى درجاته ومراتبه، ثم يقول صلى الله عليه وآله: ‹‹وحب أهل بيته›› وأيضاً يعتبر هذا النحو من الحُب لآل البيت الأطهار عليهم السلام له أهميته الفائقة، وهذا ما أشار له القرآن في قوله تعالى : {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(الشورى:23)، والأمر الثالث هو ‹‹وقراءة القرآن››. هذه ثلاث خصال من الآداب التي نُعَلِّم بها أبناءنا أو نروضهم عليها, فنبدأ معهم في التوكيد على هذه المفردات، أولاً أن يقتدي بالمصطفى من خلال الميل العاطفي والقلبي له صلى الله عليه وآله ، وكذلك، يميل إلى أهل البيت عليهم السلام في التضحية والإيثار والشهامة والكرم والانضباط على وفق مبادئ الإسلام، وقراءة القرآن الحقيقية، فلا يُراد هاهنا من القراءة أن يكون الإنسان قارئاً لألفاظ القرآن فقط، بل وردت أحاديث توضح أنّ معنى قراءة القرآن هي في تطبيقه عملياً، بل ورد في بعض الروايات: ‹‹كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه››. ولذا، نجد النبي صلى الله عليه وآله يجسد القرآن، كما ورد في الحديث لما سُئِل عن خلق النبي صلى الله عليه وآله , أجيب أنّ خلقه القرآن. وعندما نُعَلِّم أبناءنا قراءة القرآن فإننا ندعوهم للتخلق بالقرآن. ويقول إمامنا أمير المؤمنين عليه السلام: ‹‹علموا صبيانكم من علمنا أهل البيت›› فالإنسان دائماً يحتاج إلى القدوة الحسنة في حياته، وأنا أتذكر في السابق – في جيلنا – كان هناك تذكير متكرر على ضرورة الاقتداء بالنبي وأهل بيته في المجالس العامة والبيوت التي نذهب إليها في شهر رمضان، ونجد أنه عندما يأتي بعض قُرَّاء القرآن من كبار السِّن كانوا يُؤكدون على هذه الكلمة التي ذكرتها، ولا تزال تلك الكلمات ترن في مسامع السامعين لها، لما لها من تأثير إيجابي على من يسمعها، ‹‹علموا صبيانكم من علمنا ماينفعهم الله به›› وعندما نريد أن نغرس في أولادنا إحدى الفضائل والأخلاق التي يتصف بها أهل البيت عليهم السلام كالإيثار أو مساعدة الآخرين أو الإسهام في البناء الاجتماعي فلابد من تعليمهم ذلك من خلال القصص الهادفة الواردة عن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام ، وتمثل سلوكاً عملياً في شخصياتهم، لأنّ الابن إذا استمع إلى هذه القصص سوف تترسخ معالم الفضيلة في نفسه، وبالتالي لا ينزلق يميناً أو شمالاً.

التربية في أحاديث الأئمة عليهم السلام.

هنالك أحاديث كثيرة وردت عن أهل البيت عليهم السلام تبين ضرورة الالتفات إلى غرس المفاهيم الصحيحة في فكر الابن إذا كان في سنين عمره الأولى، وسوف نستعرض حديثين من هذه الأحاديث في غاية الأهمية, لكونهما يعتبران مَعْلَمَان من المعالم في الجانب التربوي للإنسان.

البناء العقدي للابن في طفولته.

الحديث الأول: ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : ‹‹بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليه المرجئة››. هذا الحديث نحتاج إليه كثيراً في عصرنا الراهن، لأنّ هناك نظريات وأفكار كالسيل المنهمر الهاطل على الناس لاحد لها، وهذه النظريات تستهدف عقول وأذهان أبنائنا، فمثلاً في عصر الإمام الصادق عليه السلام كانت المرجئة هي الوسيلة الإعلامية الظاهرة والمنحرفة التي تسعى للتأثير في البناء العقدي للشباب وحديثي السن، والإمام يحذر المجتمع الإسلامي من هذه الأفكار، ويدفعهم إلى غرس المفاهيم العقدية في نفوس الأبناء كي تتغلغل في ذواتهم، وتصبح حصناً منيعاً من دخول شبهات المرجئة بحيث أنّ ذلك الولد يستطيع أن يجيب عنها وعليها, وهو مستقر الجأش، مطمئن النفس، ثابت الجِنَان. والإمام عليه السلام عندما يقول: ‹‹بادروا››، فهو يريد أن يؤكد على ضرورة المسارعة بمعنى أن لا يسبقك الغير في طرح الشبهات, فتأخذ مجالها في أذهان أبنائك، وهذا أدب رائع في الجانب التربوي. ولا بد هنا من التأكيد على مسألة هامة نغفل عنها كثيراً ترتبط بأبنائنا الصغار حيث أننا نتيح لهم الاستماع أو مشاهدة البرامج الحوارية في الفضائيات أو النت، والتي تمس العقيدة بشكل مباشر، مع أنهم ليس لديهم الحصانة عن الانزلاق أو التأثر بتلك الشبهات. وهذا يتطلب سعياً حثيثاً من الأسرة في إرشاد الأبناء ووضع الخطط الكفيلة بتحصينهم عقائدياً وأخلاقياً، وانتقاء الدروس والمحاضرات التي تتناسب مع مستواهم العقلي، وعلى المربي مسؤولية كبيرة في هذا المجال، وذلك من خلال الطرح المتكرر في مناسبات مختلفة للمفاهيم التي تخلق فيه شخصية ذات إيمان، لا تتأثر بما يُلقى إليها وعليها من شبهات. وهناك فرق بين الشبهات التي طرحت في عصر الإمام، والتي كانت تقتصر على المجال العقائدي فقط، بينما نجد في عصرنا الحاضر أنّ الشبهات أصبحت تشمل كل المجالات الفكرية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية. ولعل الجانب الأخلاقي يمتاز بهذا النحو من الاستهداف الإعلامي أكثر من غيره من المجالات الأخرى، ولذا، كان من الضروري أن تهتم الأسرة بالحفاظ على لأبنائها من أي فساد أخلاقي، وغرس الفضائل فيهم، والاهتمام بالجانب الروحي لهم وتنميته من خلال الجانب العبادي، وحثهم على المواظبة على قراءة الأدعية والأذكار الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ، وهذا الغذاء الروحي يصقل شخصيته المعنوية، ولا يسمح باستماعه إلى الغناء أو الكلمات البذيئة والغير مؤدبة, وبالتالي لن يتأثر بما يَسمع أو يستمع إليه. وعندما يقول الإمام: ‹‹بادروا أحداثكم بالحديث›› فلا يقصد من الحديث أنني أحدثه فقط القرآن الكريم وحديث أهل البيت عليهم السلام ، بل، المقصود كل كلام حسن يعود بالفائدة عليه, ويُحصن شخصيته.

استثمار الصحيح لطفل حداثة ل لبناء.

الحديث الثاني: يقول إمامنا أمير المؤمنين: ‹‹إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي من شيء قبلته›› يشير عليه السلام إلى جانب الاستعداد للتلقي عند الولد في السنوات الأولى منذ السبع سنوات فما فوق، وهذا العمر في غاية الأهمية, لأنه يؤكد على معالم الخير والفضيلة لشخص الابن والبنت، ثم يقول الإمام عليه السلام: ‹‹فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويستغل لبك›› لأنّ الإنسان إذا تقدم في العمر كان من الصعب عليه التأثر والتغير، كما أنّ الإنسان في هذه المرحلة العمرية المتقدمة تكون المفاهيم مزدحمة في ذهنه وتسبب له نوعاً من التشويش، بينما لو كان في ريعان الصبا فإنّ تأثره سوف يكون أسرع وأقوى. لأنّ ذهنية الابن مثل الأوتاد في الأرض، وكالجبال الراسية التي تمسك شخصية الإنسان.

وأنا أدعو المؤمن والمؤمنة التي تريد أن تنطلق بحسب ماجاء في الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله , وعن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام أن يكتبوا بعض الآيات القرآنية والأحاديث المؤثرة كلوحات فنية تكتب بخط حسن، كي نزين بها بيوتنا، ونتذكر عندما نشاهدها بعض القيم والأخلاق الرائعة والجميلة، التي نسعى إلى تطبيقها.

Loading