الجوانب التطبيقية في تربية الأبناء

قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ‹‹ما نحل والدٌ ولده أفضل من أدبٍ حسن››.

استعرضنا وإياكم في الأسبوع الماضي أنّ أهم ما يعطيه الأب أو الأم لأبنائهما الأدب والعلم، لأنهما الجناحان اللذان يطير بهما الأبناء إلى الآفاق العالية، ويحلقون بهما في سماء المجد والفضيلة، ويستطيعون من خلالهما اجتياز كل العقبات التي تواجه الابن أو البنت في حياتهما. بالإضافة إلى أنّ هناك مجالاً تطبيقياً لا بد من الالتفات إليه من قِبل الأبوين، لما يمتاز به من أهمية كبرى، يستطيع من خلاله الأبناء أن يتكيفوا بإيجابية مع المحيط الاجتماعي. وهذا الجانب التطبيقي أشارت إليه بعض الروايات, وذكرته بتفصيل أكثر روايات أخرى, وسوف أُوضح هذا الجانب التطبيقي في نقاط متعددة:

أولاً: النظافة.

من الجوانب التطبيقية التي أوليت عناية في الجانب الأدبي, وحُضّ عليه في الروايات, النظافة في البدن واللباس، ونحن نسمع كثيراً الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة من أهل البيت، كالحديث المشهور: ‹‹النظافة من الإيمان››، أو الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله: ‹‹لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة››، ومع وجود هذا الكم من الأحاديث، التي نتعاطى معها نظرياً، إلا أننا لا نجسدها عملياً في المجال التطبيقي التربوي للأبناء، وبالخصوص مسألة النظافة التي تحتل أهمية فائقة في إعطاء الإنسان جنبة من الشعور بتكيف شخصيته مع الواقع الاجتماعي، بمعنى أن لا يشعر ذلك الإنسان بنفور الآخرين أو اشمئزازهم منه نتيجة لعدم اعتنائه بنظافة بدنه أو لباسه، ولذلك ورد الحث والحض الأكيدان على أهمية العناية بالنظافة في البدن واللباس، ويكفينا الحديث – الآنف الذكر – ‹‹النظافة من الإيمان››، فهذا الحديث يشير إلى أنّ النظافة من الإيمان، وذلك على أساس أنّ النظافة بمثابة العمل الصالح في بعض مُفرداته، إما أنّ النظافة يتحقق بها الإيمان فتكون جزءاً يتكئ عليها الإيمان بكل أبعاده، وإما أنها تُنَمِّي وترفع درجة الإيمان في شخصية المؤمن، لذا على الأبوين أن يهتما برعاية الأبناء في نظافة الثياب والمظهر الحسن واللائق, بالخصوص في فترة المراهقة.

مراحل الطفولة في حياة الإنسان:

ومن هنا لابد من التأكيد على أنّ الاهتمام بالأبناء يبدأ من فترة الطفولة التي تمر بمرحلتين :

الأولى: الطفولة المبكرة: وهي من الثالثة إلى الخامسة.

الثانية: الطفولة المتوسطة: وهي من السادسة إلى الحادية عشر.

بالإضافة إلى هاتين المرحلتين، هناك مرحلة المراهقة والشباب التي لا تقل أهميةً عن المرحلتين السابقتين، وهذه المرحلة تبدأ من الحادية عشر إلى السادسة عشر أو السابعة عشر. وبعضهم يُعبر عن هذه المرحلة بالطفولة المتأخرة.

في هذه المراحل الثلاث على الأبوين أن يُركزا على الأطفال والشباب مسألة النظافة في بُعدها الشمولي، ولذلك، قد نجد أنّ بعض الناس بالرغم من حُسن مظهره، إلا أنه لا يهتم -مثلاً- بنظافة فمه, وبالتالي، يتقزز الآخرون منه أثناء حديثه معهم، أو يُنظر إليه بنظرة لا تليق به، وحتى يحصل التكيف والتلاؤم مع هذا الولد فيستطيع أن ينطلق في مجالات الحياة بإيجابية، على الأبوين أن يعطياه دروساً عملية وتطبيقية في النظافة.

ثانياً: الطَّعام.

وهو يرجع – أيضاً- إلى الجانب التطبيقي في التربية، وقد أشارت الروايات إلى أهميته من ناحيتين:

الأولى: حِلِيَّة الطعام:

إنّ الأبناء – منذ المراحل الأولى لطفولتهم المبكرة، التي تبدأ من الثلاث سنوات إلى سن السادسة والسابعة – في أمس الحاجة إلى توجيه الأبوين في أهمية الانتباه إلى حلية الطعام، الذي يتناولونه، وأنه وفق الضوابط الشرعية، وبالخصوص عندما يذهب الأولاد إلى المدرسة، ومن المؤسف أن نجد بعض الآباء لا يهتم بمسألة الحلية في الطعام, بحجة أنّ الأولاد غير مكلفين، والولد وإن كان غير مكلف من ناحية أنه لا يحرم عليه تناول الطعام غير الحلال, لأنه غير بالغ، ولكن يجب أن ننتبه إلى أنّ جانب التكليف مناط بالأب في وجوب تجنيب أبنائه أكل الطعام الحرام هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية هناك آثار وضعية وسلبية للطعام الحرام على الأبناء، لأنّ الطعام لا ينظر إليه فقط من جانب الحلية والحرمة، بل، هناك الآثار السيئة, التي تعود بالضرر على من يأكل الطعام المحرَّم حتى لو لم يعلم بحرمته. ولذلك على الآباء أن يُعلما الأبناء بالآثار السلبية للحرام، لأنّ الله لا يُحرِّم شيئاً إلا لوجود أضرار كبيرة على الإنسان، إمّا من الناحية الظاهرية (الخارجية)، أي تؤثر على جسم الإنسان، وإما من الناحية النفسية و المعنوية، فهناك بعض الأطعمة لا نعلم السبب والعلة في حرمتها، ولكننا ندرك أنّ الله تبارك وتعالى إذا حرَّم شيئا لا يحرمه إلا لوجود أثر سلبي وضرر يعود على الإنسان، فإذاً على الآباء أن يوليا عناية كبيرة لمسألة الحلية والحرمة في الطعام.

الثانية: الغذاء الصحي:

وهي أيضا من الأهمية بمكان، بمعنى أن يتعرف الأبوان على الغذاء الصحي الذي يبني شخصية الابن من الناحية الذهنية والعقلية والجسمية, وهناك العشرات من الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام تشير إلى الغذاء الصحي للأطفال، بل حتى إلى ما يعود إلى الأطعمة التي تتناولها الأم التي ترضع الابن لتحقق التغذية السليمة، لأنّ هذا الحليب يتكون من الطعام الذي تأكله الأم، كذلك هناك أهمية للطعام في فترة الطفولة أو الشباب أو المراهقة, ولذا، علينا أن نُعلم أبناءنا بالإضافة إلى حلية الطعام نوعية الطعام الذي يبني جسم الإنسان بناءً سليماً، ولكي تتضح الفكرة أستعرض بعض الأمثلة، فنجد بعض الأطفال يتناولون أطعمة, لا تعود عليهم بالنفع فحسب, وإنما تعود عليهم بالأضرار، كبعض الأطعمة التي فيها مواد حافظة ومضرة، يتضرر بها الطفل بالإصابة ببعض الأمراض المعضلة (الخبيثة), التي لا يُشفى منها، فمن الضروري أن نُفهم هذا الطفل, أنه لا يتاح له ممارسة حريته بتناول كل طعام يريده دون مسؤولية من الأبوين، بل على الأبوين أن يُعلما الأبناء الأطعمة المفيدة التي تبني أجسامهم، فقد قرأت في بعض الكتب التربوية وسمعت أيضاً من بعض الأخصائيين من علماء التغذية عن أهمية تناول وجبة الإفطار صباحاً للأبناء قبل ذهابهم إلى المدرسة، وذلك لأنهم يتلقون دروساً تحتاج إلى تحريك العقل وبذل جهد فكري، ولا توجد فائدة في هذه الأغذية الخفيفة التي قد تُشبع الإنسان، ولكن لا تعود عليه بالنفع، ولا يكون لها دور في تغذية المخ وعمل الذهن والعقل، وهناك بعض الأغذية أُشير إليها في الروايات، وأكد على أهميتها العلم الحديث، وذلك، مثل الزبيب كطعام يُشغل الذهن، لأنّ عمل الذهن يحتاج إلى غذاء خاص يختلف عن الغذاء الذي يتناوله الجسم، وهذه مسؤولية الأبوين، بمعنى أن نُفهم الابن ضرورة تناول بعض الأغذية, ليتاح لدماغه وذهنه أن يشتغل بفاعلية في الحصص الأولى من الدراسة, أو في أيام الامتحانات, مثل أن يتناول العنب أو التفاح أو الزبيب، لأنّ هذه الأغذية تعود بفائدة كبيرة وهي غذاء خاص للذهن، وقد أشارت الروايات إلى أهميتها في تشغيل الذهن، فإذا أردنا لأبنائنا أن يتفوقوا دراسياً أو أن نحافظ على صحتهم الذهنية، علينا أن نركز عليهم في أهمية بعض الأغذية الخاصة في وجبة الصباح، حتى أنني سمعت من أحد طلبة العلم الذي يهتم بهذا المجال حديثاً رائعاً وجميلاً, يقول أنه ليس من العبث أن نجد بعض الفنادق الراقية – خمس نجوم مثلاً- تُقدم الفاكهة وتجعلها في متناول الجميع في فترة الصباح وقبل وضع وجبة الإفطار، كي يُتاح للإنسان أن يتناول الفواكه باعتبارها غذاء لدماغ الإنسان، وهذه أيضاً من المسؤولية للأبوين، وهنا أريد أن أضيف أمراً هاماً يتعلق ببعض الأفراد وبالخصوص الشباب والمراهقين، الذين يكون لديهم اهتماماً بالرشاقة في جسمه، مما يؤدي بهم إلى ترك بعض الأغذية الهامة، وبالتالي، يعود عليهم بالضرر الوبيل لحاجة أجسامهم الماسة لهذه الأغذية، وهؤلاء يحتاجون إلى تنبيه من قِبل الأبوين على أنّ الاهتمام بالرشاقة لا يكون على حساب بناء الجسم بناءً سليماً وصحياً، وهذا أيضاً جانب تطبيقي أشارت إليه طائفة من الروايات في العناية بصحة الأبناء من ناحية الغذاء الحلال ، ونوعية الغذاء الذي يبني الجسم والعقل والنفس بناءً سليماً.

ثالثاً: النوم.

وهو أيضاً هام في الجانب التطبيقي, وأشارت إليه طائفة من آي القرآن الكريم والروايات كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}(النبأ: 9- 11), مسألة النوم لا تقل أهمية عن الغذاء الذي يتناوله الإنسان، لأنّ النوم يتعلق بالصحة ويتعلق بالإبداع للشخصية، وبعبارة أخرى أنّ النوم الكافي يؤثر تأثيراً إيجابياً على شخصية الإنسان، لأنه يتيح للإنسان الذي بذل جهداً كبيراً أن يُجمَّ قواه. والروايات ركزت على فترتين هامتين للنوم، نوم القيلولة والنوم المبكر، مع ملاحظة أنّ الروايات أشارت إلى وجود فترات بسيطة يكره النوم فيها. وأريد أن أنبه في مسألة التربية على النوم المبكر للأولاد، لمن يريد أن يكون أبناؤه من المبدعين.

أهمية النوم المبكر.

النوم المبكر لا يقل عن التغذية السليمة في جنبيتها اللتين أشرت إليهما، والحال أنّ الوضع الحالي لنا لا يساعد على النوم المبكر، بل يساعد على النوم المتأخر، مما يجعل الابن يذهب إلى المدرسة وهو في غاية التعب والعنت، فلا يتاح له أن يتلقى دروسه بحالة من الوئام مع نفسه، لأنه يمارس ضغطاً نفسياً، فتجده يُغَفِّي في أثناء دراسته، لأنه لم يأخذ النوم الكافي وهذه جنبة تطبيقية في التربية، على الأب أن يمارس ويعلم أبناءه أهمية النوم المبكر بشكل تطبيقي وأثره الإيجابي على حياته كما يُعلمهم أهمية الغذاء الصحي والحلال، وأحياناً قد تفرض الظروف على الإنسان السهر، كما يحدث ذلك في شهر رمضان، فلا يتاح للناس أن يناموا فترة الليل، إلا أنّ من الضروري أن ينام الإنسان ولو قسطاً بسيطاً من الليل . وهناك بعض من الناس لا يُعطي أهمية لمسألة النوم، ويترك الابن وشأنه, متى شاء أن ينام، ومتى شاء أن يستيقظ، وأهمية تنظيم النوم ليس فقط للأبناء، بل حتى للإنسان نفسه، إذا أراد أن يتفوق ويُبدع ويُعطي وأن يجعل من نفسه رقماً، عليه أن يأخذ قسطاً من النوم، وحتى يتضح الدور الهام للنوم ننظر إلى أنّ الدول الظالمة التي تمارس أنواعاً من التعذيب تستخدم عملية التسهير، وسلب النوم من الإنسان. والإنسان إذا منع عنه الغذاء هذا أسهل من أن يمنع عنه النوم، لأنه يستطيع أن يقاوم ترك الغذاء، ولكنه لا يقاوم عقلياً ترك النوم. ولذلك علينا أن نولي في الجانب التربوي مسألة النظام والانتظام والتعليم التطبيقي للنوم، وأخذ القسط من الراحة في فترة غير متأخرة من أول الليل، وهذا لا يعني أنه ينام بعد المغرب مباشرة، ولكن لا أتركه يتأخر عن النوم إلى الساعة العاشرة بالنسبة إلى الشباب، وأما بالنسبة للأطفال فلا أتركه يتأخر عن الساعة التاسعة أو الثامنة والنصف، لأنّ هذا يرجع عليه بالنفع.

العوامل المؤثرة في سلوك الإنسان.

أختم هذه الجوانب الهامة بالتأكيد على ما ذكره العلماء من أنّ هناك عوامل ثلاثة تُؤثر في سلوك الإنسان هي:

الأول: المحيط الذي يعيش في كنفه.

الثاني: الوراثة، التي لها أهمية كبيرة وأشارت إليها الروايات.

الثالث: الجانب التربوي، وبالخصوص الجانب التطبيقي منه، وهو أهم عامل مؤثر على حياة الإنسان في أبعادها المختلفة، ولذلك نجد قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}(لقمان: 17, 19) وهذه الآيات تشير إلى الجانب التربوي التطبيقي الذي مارسه لقمان الحكيم عليه السلام مع ابنه، من خلال توجيهه المباشر بأن يفعل كذا ولا يفعل كذا. وهذا درس عظيم نستفيده في التربية التطبيقية والعملية لأبنائنا، فلا يمكن أن يتجاوب معك الابن إذا علمته نظرياً أهمية النوم المبكر، وهو يراك تسهر إلى الصباح، فمن الصعوبة أن يطبق ذلك، إلا أنه حتى لو كنت تسهر، لكن لا تجعل ابنك يسهر، لأنك إذا كانت لك القدرة على تحمل الضرر، فلا تجعل ابنك يتحمل هذا الضرر الجسمي والصحي والنفسي والعقلي.

Loading