.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

نظرية نسبية الأخلاق

الحسن والقبح العقليان:

العنوان الأولي والثانوي للأفعال:

مسالك تهذيب الأخلاق

2ـ مدح العقـلاء:  

نظرة في المسلك الأول

نظرة في المسلك الثاني:

أسباب الحب لله:

خلاصة الفرق بين المسالك الثلاثة:

 

الدرس السادس

نظرية نسبية الأخلاق

من المسائل الجديرة بالبحث والدرس في قضايا الأخلاق مسألة نسبية الأخلاق بمعنى أن الأخلاق التي يمارسها الإنسان ويتجمل بها هل هي ثابتة أم أنها متغيرة؟ وبعبارة أخرى هل أن أخلاقيات القرون الأولى تختلف عن القرون الوسطى أو القرون المتأخرة أم هي هي؟ وهل أن للزمان تأثيراً في تغيير هذا الخلق نفسه من حسن إلى غير حسن؟ وهل من الممكن أن تكون الأخلاق في عصر الفلاحة غير الأخلاق في عصر الآلة والاقتصاد والتطور أم أنها ثابتة؟ وأخيراً هل يمكن أن تكون أحد الصفات الأخلاقية كالصدق مثلاً صفة غير أخلاقية في بعض الظروف، أم أن الصدق حسن مهما تغيرت الظروف وتعددت الأسباب؟

إننا إن قلنا بنسبية الأخلاق فلن نتمكن من وصف فعلٍ ما بأنه فعل خلقي بشكل مطلق، مضافاً إلى انه يصعب علينا بالتالي وضع منهج ثابت للتربية صالح لكل عصر.

وإن قلنا بعدم نسبية الأخلاق  ـ  كما هو الحق  ـ  فما معنى كون الكذب مثلاً ممدوحاً في بعض الأحيان وكذلك التكبر والغضب وأمثالها مع أنها مذمومة في حد ذاتها؟

وهكذا الكلام في سائر الصفات المحمودة إذ أنها تكون في بعض الأحيان مذمومة مع أنها محمودة في حد ذاتها، أو ليس حسن الشيء وقبحه ذاتي؟!

الحسن والقبح العقليان:

للإجابة على التساؤلات السابقة نرى من الضروري إعطاء قاعدة عامة نعرف بواسطتها أن هذا الفعل (حسن ممدوح) أو(قبيح مذموم)، وهذه القاعدة ترجع إلى العقل إذ أنه يدرك (حُسن) هذا الشيء و(قُبح) ذاك وليس له القدرة على ذلك.

هذا بخلاف الأشاعرة[1] الذين قالوا إن العقل لا يمكن إدراك (حسن) هذا أو (قبح) ذاك، وإنما الشرع وحده هو الذي يتكفل بتوضيح وتبيين حسن هذا أو قبحه.

ولا نريد الخوض في هذه المسألة العقائدية أكثر من هذا المقدار، لكن الذي عليه أهل الحق والتحقيق هو: أن العقل بنفسه له القدرة على إدراك حسن (الحسن) وقبح (القبيح) بغض النظر عن وجود المشرع وعدم وجوده فالعقل يستقل بالحكم على بعض الأفعال بأنها قبيحة كالكذب والنفاق والسرقة.. الخ، كما يستقل أيضاً بالحكم على البعض الآخر من الأفعال بأنها حسنة كالصدق والحلم والكرم والرأفة واحترام حقوق الآخرين ولا نعني بهذا أن العقل يدرك كل شيء من دون الشرع كما هو واضح[2].

العنوان الأولي والثانوي للأفعال:

يقصد بالعنـوان الأولي: الصفة التي يتصف بها الشيء نفسه بغض النظر عن الصفات الطارئة عليه.

ويقصد بالعنوان الثانوي: الصفة الزائدة والطارئة على الشيء غير صفته الأولية.

فمثلاً نقول إن استخدام التلفـاز والراديو جـائز بعنوانه الأولي كأي جهاز آخر، لكنه حرام بالعنـوان الثـانوي وذلك فيما إذا استخدم في الفساد كاستماع الغنـاء والنظر إلى الأفلام اللاأخلاقـية وأمثـالها، فإذاً استخدام هذه الأجهزة جائزة بالعنـوان الأولي وحـرام بالعنـوان الثانوي وبالتالي فليس في هذا أي تناقض.

إذا توضح هذا فهنا نقول إن كون هذا الفعل ممدوحاً تارة ومذموماً تارة أخرى ليس تحت عنوان واحد ومن جهة واحدة لكي نقول بنسبية الأخلاق بل إن ذلك عند اختلاف العناوين والجهات وإلا فالحكم ثابت، ولنضرب لذلك عدة أمثلة:

المثال الأول: الصدق والكذب:

فإن العقل يدرك (قبح) الكذب وأنه مفتاح للشرور ومصدر للأضرار كما أنه يدرك أيضا (حسن) الصدق وانه مصدر الثقة بين الناس كل هذا بالعنوان الأولي للصدق والكذب لكن هذا العقل الذي كان يحكم بقبح الكذب نراه يستحسن الكذب لكن بالعنوان الثانوي لا الأولي، كما في بعض الموارد مما يخرجه عن كونه قبيحا بالنظر إلى ذاك المورد بالذات.

 كما أنه لا يستحسن الصدق في بعض الموارد بالعنوان الثانوي لا الأولي وباعتبار أن الشرع المقدس يتماشى مع العقل جنبا إلى جنب فقد ذكر كبار الفقهاء وعلماء الأخلاق بالاستناد إلى أحاديث مخصوصة أنه يجوز الكذب في بعض الموارد:

منها: دفع الضرر أو الفساد أو الشر أو دفع القتل عن النفس أو عن أحد المسلمين أو الحفاظ على العرض والمال المحترم قال الرسول (ص): (احلف بالله كاذباً ونجّ أخاك من القتل)[3]، فلو دار الأمر بين ان يرتكب الكذب حتى ينجي أخاه المسلم من القتل أو يصدق فيقتل أخوه فلا شك ان العقل يحكم برجحان الكذب وتعيّنه ولا يرى مجالا للصدق في هذه الحالة.

ومنها: إصلاح ذات البين إذ تترتب عليه آثار إيجابية كبيرة قال الرسول (ص): (ليس بكذاب من اصلح بين أثنين)[4]، وقال (ص): (كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين رجلين يصلح بينهما)[5].

ومنها: في الحرب فإن الحرب خدعة فإذا كان الكذب سبباً في الغلبة على الأعداء المتمردين جاز استخدامه واصبح حسناً، وقد روي عن أم كلثوم قالت: (ما سمعت رسول الله (ص) يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقـول القول يريد الإصلاح والرجل يقول القول في الحرب والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها)[6].

وعلى هذا فلو حصل بين الزوجين جدال أو خلاف حول مسائل معيّنه من المسائل الأسرية أو المنزلية فقد يؤدى استمراره إلى الانفصال والطلاق الذي سيدمّر الأسـرة، وأمكن التخلص من هذه المشكلة بكذبة من أحدهما بحيث لا تؤدى إلى مشاكل اكبر، فهنا لا يعد الكذب قبيحاً بل يكون مستحسناً عقلاً وشرعاً.

وسنتحدث عما يتعلق بالصدق والكذب وعن الحالات المسوغة للكذب ومسائل التورية بشكل أوسع في دروس لاحقة من الجزء الثاني من هذا الكتاب إن شاء الله، والحاصل أن الكذب بعنوانه الأولى قبيح لكن بعنوانه الثانوي ليس كذلك.

المثال الثاني: التواضع والتكبر:

فان الأول صفة ممدوحة والثاني صفة مذمومة، كل هذا بالعنوان الأولي المعقول لكن العقل كما يدرك (حسن) التواضع لمن يستحقه، فانه يدرك أيضاً (قبح) التواضع لمن لا يستحقه، فان التواضع للغنيّ من أجل غناه مذموم قبيح، يقول أمير المؤمنين (ع): (من أتى غنياً فتواضع لغنائه ذهب الله بثلثي دينه)[7].

وهكذا التواضع الذي يؤدّي إلى الذّل والهوان والحقارة، يقول الإمام الصادق (ع): (إنّ الله عزّوجل فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه)[8].

وهكذا التواضع النّابع من الخوف أو الطّمع إذ هو مذموم أيضاً، يقول الإمام العسكري (ع): (ما أقبح بالمؤمن أن تكون له حاجة تذلّه)[9].

وكذا بالنسبة للتكبر فانه وان كان مذموماً بعنوانه الأولى لكنه ممدوح بعنوانه الثانوي وذلك فيما إذا تكبر على المتكبر المتجبر بل إن التكبر في هذه الحالة يعدّ عبادة بل هو التواضع، يقول أمير المؤمنين (ع): (التكبر على المتكبرين هو التواضع بعينه)[10]، ويقول الله تعالى في صفات المؤمنين: {أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين}[11].

المثال الثالث: الحلم والغضب:

فالعقل يدرك أن الحلم (حسن) بعنوانه الأولى وفي موضعه المعقول أما في غير موضعه فمذموم، وهكـذا الكـلام فـي الغضب فهو (قبيح) إلا إذا كان في موضعه كالغضب لله تعالى أو لاستنقاذ حق ضائع أو لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففي مثل هذه الحالات لا يكون الغضب مذموماً بل يكون راجحاً مطلوباً يقول تعالى في صفة المؤمنين: {أشدّاء على الكفار}[12] ويقول تعالى: {واغلظ عليهم}[13].

 وقد أشـرنا إلى هذا في الدرس الرابع من هذا القسم فراجع.

المثال الرابع: أكل لحم الميتة:

إذ أنه حرام قبيح إلا إذا كان لحفظ النفس من الهلاك فانه حسن مباح بالمقدار الضروري، وقد بحث الفقهاء هذه المسألة في الفقه بما يغنينا عن ذلك.

المثال الخامس: لمس الرجل جسد المرأة:

فانه غير جائز بل وقبيح ومخالف للعفة ولكن في الظروف الاستثنائية والحالات الضرورية كالأمراض المستعصية أو إنقاذها من الغرق إذا تطلب ذلك مس جسدها فعندئذ يكون هذا الأمر حسناً وجائزاً.

المثال السادس: الوفاء والغدر:

إذ أن الوفاء من الأخلاق الحميدة ولكن ليس على الإطلاق لأن ترك الوفاء لأهل الغدر أمر مقبول ولعل فيه مصلحة عامة في بعض الأحيان يقول أمير المؤمنين (ع): (الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله سبحانه والغدر لأهل الغدر وفاء عند الله سبحانه)[14].

المثال السابع: العفو عن المسيء:

يعد من مكارم الأخلاق لكن عندما يكون العفو سببا لتجرؤ المسيء وتماديه بحيث يؤدّي إلى الإضرار بالغير فمن الأفضل في هذه الحالة معاقبته وعدم العفو عنه، يقول الإمام السجاد (ع): (وحق من ساءك أن تعفو عنه وإن علمت أن العفو يضر انتصرت، قال الله تبارك وتعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل}[15])[16].

المثال الثامن: الظـن:

فهو من الصفات الذميمة في الحالات الطبيعية، لكن حينما تنقلب الموازين ويسيطـر الظلم والجور على العدل والفساد على الصلاح ففي هذه الحالة تكون هذه الصفة حميدة، يقول الإمام الهادي (ع): (إذا كان زمانٌ العدلُ فيه أغلب من الجور فحرام أن يظن بأحد سوء حتى يعلم ذلـك منه وإذا كان زمانٌ الجورُ أغلب فيـه من العدل فليس لأحـد أن يظن بأحـد خيرا ما لم يعلم ذلك منه)[17].

وهكذا يجرى الكلام في اغلب الصفات الأخلاقية، والأمثلة على ذلك كثيرة.

والخلاصة: إن كثيراً من الأفعال تكون حسنة بعنوانها الأولي وقبيحة بعنوانها الثانوي والعكس.

وهذا لا يعني كون الأخلاق نسبية إذ أنها مهما تغيرت من ظرف إلى أخر فإنها منسجمة مع العقل ومع الإسلام أيضاً، وبعبارة أخرى أن نفس العقل الذي قدحكم بحسن هذا الفعل بعنوانه الأولي قد حكم أيضا بقبح نفس الفعل لكن بعنوانه الثانوي، ومن هنا فإننا نستطيع أن نقول أن بإمكاننا وضع منهاج في التربية الأخلاقية صالح لجميع العصور، لكن في نفس الوقت علينا أن نكون على درجة من الوعي والإدراك في تشخيص الحالات مستعينين في ذلك بالشرع المقدس باعتباره اعقل العقلاء، وقد ورد في الحديث: (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)[18]، وكما ورد أيضاً (لا ضرر ولا ضرار)[19]، والكلام في هذا المجال لا تسعه هذه الوريقات فيطلب في مضانه.

تنبيه:

إن بعضاً قد يفهم مما سبق أن جميع الأفعال الحسنة قد تنقلب إلى أفعال سيئه إذا تطلبت الظروف، فيقال أن العفة مثلاً كانت في السابق حسنة لان المصلحة تقتضي ذلك فكان من الأفضل التأكيد عليها، أما الآن وفي عصر الآلة الذي يتطلب تواجد المرأة في ساحة العمل ومشاركة الرجل في الحياة المعيشية وتنمية عجلة الاقتصاد فإنه لا معنى للعفة والالتزام بالحجاب! هذا ما قد يظنه البعض.

لكن هذا ليس صحيحاً إذ أن العفة من الأمور التي يتطلبها كل عصر وعلى اختلاف الظروف لان العفة عبارة عن انقياد القوة الشهوانية للقوة العاقلة فليس من المعقول أن نجعل الشهوة هي السلطان المسيطر على العقل ولو في لحظة من اللحظات.، إذ لابدّ من أن نجعل القوة العقلية مخدومة من قبل سائر القوى لا خادمة لها.

للقراءة والتأمل

في واقعة يرويها التاريخ خلاصتها: أن عبد الله بن حذافه بن قيس القرشي أسرته الروم مع مجموعة من المسلمين وعرضت عليه التنصّر فأبى فأمر بإلقائه في زيت يغلي فبكى فسئل عن بكائه فقال إني أتمنى أن تكون لي أكثر من نفس افديها لله فأمر قائد الروم بإطلاق سراحه، لكن عرض عليه أموراً من بينها قال له: قبّل رأسي فأبى، فقال له: قبّل رأسي أطلقك مع ثمانين من المسلمين، قال: أمّا هذا فأفعل فقبل رأسه فأطلقه مع ثمانين من المسلمين، وبعد أن عاد إلى المدينة كان البعض يقول له: قبّلت رأس العلج الكافر، فيقول: أطلق الله بهذه القبلة ثمانين من المسلمين.

والشاهد أن القبلة لرأس هذا الكافر مذمومة بالعنوان الأولى وممدوحة بالعنوان الثانوي.

وتشخيص مثل هذه الحالات تحتاج كما سبق إلى الدقة من الفقهاء أنفسهم فضلاً عن سائر الناس.

الأسئلة

السؤال الأول: ما هو مفهوم نظرية نسبية الخلاق؟

السؤال الثاني: هل يمكن للعقل إدراك حسن الشيء وقبحه؟ وما رأي الأشاعره في ذلك؟

السؤال الثالث: اذكر ثلاثة موارد يكون الكذب فيه ممدوحاً؟

السؤال الرابع: حاول الإتيان بمورد غير ما ذكر في الدرس يكون الفعل ممدوحاً بعنوانه الأولي ومذموماً بعنوانه الثانوي؟

الدرس السابع

مسالك تهذيب الأخلاق

     في الدرس الخامس ذكرنا النظريات المطروحة حول جذور الأخلاق ودوافعها، وهنا نذكر الأساليب والمسالك المتبعة في إصلاح أخلاق الإنسان وتهذيبها حيث برزت عدة من المسالك في هذا الصدد، ونحن نطرحها وسنبين أيها أولى من سواها وأيها أقرب وأكثر ضماناً من غيرها.

المسلك الأول:

وهو المسلك المأثور عن علماء الأخلاق القدماء اليونانيين وغيرهم، وأساس هذا المسلك يعتمد على أمرين:

1ـ تحقيق الغايات الدنيوية:

فقناعة الإنسان بما عنده مثلاً توجب العزة والعظمة في أعين الآخرين والاستغناء عما في أيديهم بخلاف الطمع والشره فإنه يوجب الفقر والذلة، وهكذا الشجاعة فإنها توجب الدفاع عن النفس والخوض في معارك النزال والأهوال، وهذا بعكس الخوف والجبن الذين يوجبان القلق والاضطراب الدائم والسكوت عن الحق في كثير من الأحيان وعدم القدرة على رد المعتدي، فلأجل أن يحافظ الفرد على مكانته وهيبته فلا بد من تهذيب أخلاقه.

2ـ مدح العقـلاء:

إذ أن العقلاء يميزون بين الفعل السيء والفعل الحسن فلأجل أن يثني العقلاء على هذا الفرد ويصير محبوبا في قلوبهم فإنه يقوم بالأعمال الحسنه ويتصف بالصفات المحمودة كالعفة وذلك لكونها سببا للذكر الجميل بين الناس في الحياة والممات، وكذلك تصنّع الكرم والجود الذي يوجب ثناء الآخرين أيضا وهكذا في سائر الصفات المحمودة، وفي نفس الوقت يجتنب عن رذائل الصفات لكونها سببا في الذم والاستنكار من جانب العقلاء.

فالمسلك الأوّل إذاً يرتكز على تحقيق متطلبات الحياة الاجتماعية وإقامة الحق الاجتماعي فيهذب الإنسان أخلاقه من أجل ذلك.

نظرة في المسلك الأول:

هذا المسلك وإن كان يؤدي بعض الغرض لكن لم يستعمله القرآن الكريم ولم يعتمده في تهذيب الأخلاق، وذلك لأن المحرك إليه متعلق بجانب العباد لا بجانب المعبود تبارك وتعالى، فقد تكون غالب حركاته وأفعاله من اجل الرياء والسمعة أمام الناس، وهذا ينافي ما أمر الله به من الخلوص في جميع الأفعال وبالتالي الوقوع في مصيدة الشيطان التي تؤدي إلى الجحيم، يقول أمير المؤمنين (ع): (ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس ويكسل إذا كان وحده ويحب أن يحمد في جميع أموره)[20].

وسنتناول البحث حول الرياء والإخلاص في الموضع المناسب ان شاء الله.

المسلك الثاني:

وهو المسلك المتبع لدى الأنبياء (ع) والبارز من خلال الكتب السماوية والدعوات الدينية، ويعتمد هذا المسلك على الغايات الأخروية فهو يبين المنافع الأخروية والسعادة الأبدية التي تحصل بسبب التحلي بالفضائل والأخلاق الحسنة، كما يبين المضار والمفاسد الأخروية والشقاوة الأبدية التي تحصل بسبب ممارسة الرذائل والأخلاق السيئة، والقرآن الكريم مليء بذكر الغايات الأخروية كقوله تعالى: {إن الله اشتـرى مـن المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}[21]، ويقول سبحانه وتعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين}[22]، ويقول سبحانه وتعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً}[23]، ويقول سبحانه وتعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}[24]، ويقول سبحانه وتعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالداً فيها}[25].

ويقول سبحانه وتعالى: {أليس في جهنم مثوى للمتكبرين}[26].

وكما أن القران ذكر هذا المسلك فالأحاديث الواردة عن النبي (ص) وأهل بيته (ع) أشارت إلى هذا المسلك في كثير من المناسبات كقول الإمام الصادق (ع) في ثواب صلة الرحم: (إن صلة الرحم والبر ليهونان الحساب ويعصمان من الذنوب فصلوا أرحامكم وبروا إخوانكم ولو بحسن السلام ورد الجواب)[27].

وفي عقاب الغناء والزنا ومستخدم المزمار والدف يقول الرسول (ص): (يحشر صاحب الغناء في قبره أعمى واخرس وابكم ويحشر الزاني مثل ذلك وصاحب المزمار مثل ذلك وصاحب الدف مثل ذلك)[28].

وفي عقاب النميمة والكذب يقول (ص): (لما اسري بي رأيت امرأة رأسها رأس خنزير وبدنها بدن حمار عليها ألف ألف لون من العذاب فسئل (ص): ما كان عملها؟ فقال (ص): (إنها كانت نمّامة كذّابة)[29].

فالآيات المتقدمة وهذه الأحاديث وغيرها، والتي لاحظنا تنوعها تصب في مصب واحد وهو تحديد الثواب الجزيل المترتب على الفضائل كما تحدد العذاب الشديد المترتب على الرذائل، والقرآن والسنة النّبوية مليئة بالتشجيع على كل عمل حسن والتحذير من كل عمل قبيح لأن الأول سبب للسعادة ودخول الجنة أما الآخر فسبب للشقاوة ودخول النار، وقد جمعت الآية الآتية ترغيب الناس لفعل الخيرات يقول تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}[30]، كما أن في الآية الآتية ترهيب للناس وتحذير لهم من فعل الشرور يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}[31].

نظرة في المسلك الثاني:

هذا المسلك حسن جيد ويؤدي إلى الغرض من الاستقامة وإصلاح النفس وتهذيب الأخلاق لكنه ليس هو هدف أولياء الله المحبين، وهذا المسلك ليس من مختصات القرآن الكريم وإنما ذكرته الكتب السماوية الأخرى أيضاً.

المسلك الثالث:

وهذا المسلك هو افضل المسالك لتهذيب الأخلاق واكمل الطرق لتربية النفس، وهو كما يقول السيد الطباطبائي (قده): من مختصات القرآن الكريم إذ لا يوجد في شيء مما نقل إلينا من الكتب السماوية وتعاليم الأنبياء (ع) ولا في المعارف المأثورة من الحكماء الإلهيين[32] ويعتمد هذا المسلك على حب الله والفناء في ذاته المقدسة والانشغال به تعالى عمن سواه بحيث لا يرى هدفا له في حياته إلا خالقه ولا أمل يريد تحقيقه إلا رضاه بصرف النظر عن وجود جنة للثواب ونار للعقاب، فهذا القسم من الناس يعتبرون القرب من الله هو الجنة والنعيم والبعد عنه هو العذاب والجحيم، كما يقول الإمام السجاد (ع) في إحدى مناجياته: (يا نعيمي وجنتي ويا دنياي وآخرتي)[33]، ويقول: (الهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولاً)[34]، فالمحبون لله حبا حقيقيا يذوبون في عبادته وما يقربهم منه ويستلذون بما يرضيه ويستعيذون به من هجرانه والغفلة عنه، انهم لا يفكرون في مخالفته فضلا عن الوقوع فيما يسخطه ويعتبرون مجرد التفكير في معصيته ذنباً عظيماً وجرماً كبيراً.

إن هذا القسم من الناس عاشوا حالة العشق لربهم فلا يرون في قلوبهم إلا الله ولا أمل لهم سواه، لقد وصل بهم هذا الحب إلى عدم الاستقرار، فهم مثلا يتمنّون حلول الليل عليهم كي يخلون بمحبوبهم ويناجونه ويسهرون في لقائـه، هؤلاء هم الذين وصفهم أمير المؤمنين (ع) بقوله: (ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ويقول لقد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم..)[35]، وروي أن عيسى (ع) مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم فقال لهم ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا الخوف من النار، فقال حق على الله أن يؤمن الخائف ؛ ثم تجاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا وتغيرا، فقال لهم ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا الشوق إلى الجنة، فقال حق على الله أن يعطيكم ما ترجون، ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا وتغيرا كأن على وجوههم المرايا من النور، فقال ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا حب الله عز وجل!! فقال أنتم المقربون، وفي رواية قال لهم (أنتم أولياء الله حقا معكم أمرت أن أقيم)[36]!!

نعم إن هذه الفئة لا همّ لهم سوى محبوبهم الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى، فهم لا يفعلون شيئا من الخيرات طمعا في جنة أو ثواب ولا يتركون شيئا من الشرور خوفا من نار أو عقاب بل كل أعمالهم تنطلق من حبهم لله ونيل قربه ورضاه.

أسباب الحب لله:

إن هؤلاء المحبين إنما سرى حب الله في عروقهم لأنهم لا يرون محبوباً مستحقا للحب سواه ولا محبوب في الحقيقة غيره وذلك لأسباب ثلاثة.

السبب الأول: حب الذات:

وهو أمر فطري فلا نجد إنسانا إلا محبًا لذاته فمن باب أولى أن يكون محبا لمن أوجد هذه الذات وهو الله جل شأنه فهو موجدها من العدم إلى الوجود ومن الظلمة إلى النور وهو قوام كل ذات موجودة والمنعم عليها بسائر النعم، وكمثال على هذا: من يستظل تحت شجرة فإنه يحب هذا الظل لحبه لذاته فكيف لا يحب الشجرة نفسها التي هي أساس الظل، فالله هو مكون كل موجود وسبب كل نعمة ولهذا فقد احبه المحبون، وفي الحديث عن الرسول (ص): (أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه)[37]، وعن أمير المؤمنين (ع) انه قال: (إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار)[38].

السبب الثاني: حب الكمال والجمال:

وهذا أمر فطري فالإنسان بفطرته يميل نحو الكمال والجمال فيحب مثلاً ان تكون لديه زوجة تسعده ومنزل يعيش فيه وذرية من نسله كما انه يحب إن يكون عالماً وثرياً ووجيهاً إلى ما هنالك من الأمور التي يعتقد فيها الكمال مع أنها أمور اعتبارية وكمالها مشوب بالنقص وجمالها صوري، ولا يوجد جمال خالص وكمال مطلق إلا لله عز اسمه فهما منحصران فيه وكل كامل سواه فكماله فرع لكماله وكل جميل مقتبس جماله منه تعالى، وما دام الله هو الكمال المحض والجمال الخالص فهو أحق أن يكون محبوباً وحري بان يكون معشوقاً.

السبب الثالث: طلب العزة والقوة والملك:

إن كل فعل يراد به غير الله سبحانه وتعالى فالغاية المطلوبة منه إما عزة في المطلوب يطمع فيها أو قوة يخاف منها أو ملك يريد الوصول إليه، والعارفون بالله المحبون له لديهم يقين بأن ذلك كله بيد الله تعالى لا بيد غيره إذ يقول تعالى {إن العزة لله جميعاً}[39]، ويقول سبحانه: {إن القوة لله جميعاً}[40]، ويقول سبحانه وتعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}[41]، فهؤلاء لا يتعززون بالناس ولا يلجأون إليهم لكي يقفوا معهم في الأزمات الصعبة، ولا يسعون نحو أبواب الملوك ليتزلفوا إليهم طلباً لمنصب أو جاه، لأن كل هذه الأمور عندهم اعتباريه لا حقيقة لها إلا عند الله الخالق تبارك وتعالى.

فمن خلال هذه الأسباب وأمثالها أنغرست أشجار محبة الله في أفئدتهم وسرت في عروقهم فانقطعوا عن كل شئ سوى الله، وانطبع هذا العلم والإدراك على أفعالهم وتصرفاتهم فكلها إلهية ملكوتية فلا يخطون خطوة إلا للتقرب إلى الله تعالى ولا يرجون ولا يخافون إلا الله ولا يرضون ولا يغضبون إلا لله وفي الله، وبذلك تستقيم أخلاقهم بصورة طبيعية.

هذا خلاصة المسلك الثالث المختص بالقرآن الكريم.

خلاصة الفرق بين المسالك الثلاثة:

الفرق بين هذا المسلك الأخير وسابقيه واضح جلي إذ أن أصحاب المسلك الأول المتقدم الذكر يسعون إلى الفضائل من أجل مدح العقلاء لهم، ويحذرون الرذائل لأنها تؤدي إلى ذمهم.

وأصحاب المسلك الثاني يسعون إلى الفضائل لأنها توصلهم إلى الجنة ويجتنبون الرذائل لأنها تورطهم في الدخول إلى النار.

أما أصحاب المسلك الأخير فإنهم يسعـون إلى الفضائل ويجتنبون الرذائل من أجل ذات الله لا غير فلا يفكرون بالثناء الجميل من الناس ولا يلتفتون من خلال ذلك إلى دنيا ولا آخرة ولا جنة ولا نار وإنما الهمّ الوحيد لهم ربهم لحبهم له، وهذا المسلك الثالث افضل المسالك وأقربها وأخصرها للوصول إلى تهذيب النفس والتحلي بمكارم الأخلاق، وهو مسلك الأحرار في الدنيا وكفى شرفاً لهذه الفئة أن يكون قائدهم وقدوتهم أمير المؤمنين (ع) الذي يقول: (ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك وإنما وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك)[42].

للقراءة والتأمل

في الحديث عن النبي (ص): (أنه بكى شعيب من حب الله عز وجل حتى عمي فرد الله بصره ثم بكى حتى عمي فرد الله عز وجل بصره، فلما كانت الرابعة أوحى الله إليه يا شعيب إلى متى يكون هذا بداً منك؟ إن يكن هذا خوفاً من النار فقد أجرتك وإن يكن شوقاً إلى الجنة فقد أبحتك، فقال: إلهي وسيدي أنت تعلم أني ما بكيت خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنتك ولكن عقد حبك على قلبي فلست أصبر أو أراك[43] فأوحى الله جل جلاله إليه أما إذا كان من أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران)[44].  

وأدعوه سراً بالمنى فيجيب

ألاحظه في كل شيء رأيته

وكلي وأجزائي فأين يغـيب

ملأت به قلبـي وسمعي وناظري

مهلاً فإن مدامعي تطفيه

يا محرقاً بالنار وجه محبه

واحذر على قلبي لأنك فيه

أحرق بها جسدي وكل جوارحي

 

الأسئلة

السؤال الأول: وفق بين عمود (أ) وعمود (ب):

العمود (ب)

العمود (أ)

م

الأنبياء والكتب السماوية

المسلك الأول

1

خاص بالقرآن الكريم

المسلك الثاني

2

علماء الأخلاق القدماء

المسلك الثالث

3

السؤال الثاني: اذكر آيتين وحديثين تبين الجزاء الأخروي لبعض الأعمال (غير ما ذكر في الدرس)؟

السؤال الثالث: اذكر أسباب حب الله مع التحدث عن احدها باختصار؟

السؤال الرابع: اذكر الفرق بين المسلك الثاني والمسلك الثالث؟

توجيه:

        حاول حفظ مناجاة المحبين للإمام السجاد (ع) من كتاب مفاتيح الجنان.

 


[1] وهي إحدى الفرق الاسلاميه التي تنسب لأبي الحسن ألا شعري.

[2] للتزود اكثر تراجع الكتب الكلامية أيسرها تناولا كتاب العدل الإلهي للشهيد المطهري.

[3] المكاسب للشيخ الانصاري ج4 ص 190.

[4] البحار ج 72 ص 253.

[5] البحار ج 72 ص 254.

[6] البحار ج72 ص253.

[7] البحار ج 72 ص 196.

[8] الكافي ج 63.

[9] حياة الامام العسكري للقرشي ص98.

[10] شرح ابن ابي الحديد ج 20 كلمة 410.

[11] المائدة آية 54.

[12] الفتح آية 29.

[13] التوبة آية 73.

[14] غرر الحكم ص289.

[15] الشورى آية 41.

[16] رسالة الحقوق ج2 ص523.

[17] البحار ج17 ص216.

[18] البحار ج 11 ص 56.

[19] البحار ج 5 ص 280.

[20] البحار ج 13 ص 415.

[21] التوبة آية 111.

[22] آل عمران آية 133.

[23] آل عمران آية 30.

[24] النساء آية 10.

[25] النساء آية 93.

[26] الزمر آية 60.

[27] البحار ج 4 ص 131.

[28] البحار ج 79 ص 253.

[29] البحار ج 75 ص 264.

[30] المطففين آية 26.

[31] التحريم آية 6.

[32] الميزان ج 1 ص 358.

[33] مناجاة المريدين للإمام السجاد (ع).

[34] مناجاة المحبين للإمام السجاد (ع).

[35] نهج البلاغة خطبة المتقين.

[36] جامع السعادات

[37] البحار ج 17 ص 14.

[38] تفسير مواهب الرحمن للسبزواري ج 1 ص 35.

[39] يونس آية 65.

[40] البقرة آية 165.

[41] آل عمران آية 26.

[42] البحار ج 70 ص 186.

[43] معنى قوله أو أراك: يعني أراك قبلتني حبيباً.

[44] البحار ج 12 ص 381.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست