.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الأصول الأربعة للفضائل

أمّهات الفضائل:

الأصل الأول [العفّة]:

الأصل الثاني [الشجاعة]:

الأصل الثالث [الحكمة]:

الأصل الرابع [العدالة]:

جذور الأخلاق ودوافعها  

النظرية الأولى: المصلحة الفردية

النظرية الثانية: الإشتراكية:

النظرية الثالثة: المسؤولية والضمير:

النظرية الرابعة: الدين:  

 

الدرس الرابع

الأصول الأربعة للفضائل

ضرورة القوى الثلاث:

قد يتوهم البعض أن النفس لا داعي لأن تتركب من هذه القوى الثلاث الآنفة الذكر، بل يكفي أن يوجدها خالقها بقوة واحدة فقط وهي (القوة العقلية) لكي يسهل اتصافها بمكارم الأخلاق وذلك لأن بقية القوى هي عبارة عن شر محض وشقاء دائم وبلاء على الإنسان ولا منفعة من وراءها أبداً.

وهذا التوهم باطل وذلك لأن الإنسان بأمس الحاجة إلى هذه القوى الثلاث بأجمعها وليس إلى القوة العقلية فحسب ؛ إذ كيف يجلب الإنسان لنفسه المنفعة – كالأكل والشرب واللبس والزواج والتناسل والتي يعتبر بعضها أساس بقاء الجنس البشري على وجه الأرض – لولا وجـود (القوة الشهوية) في نفسه؟ وكيف يستطيع الدفاع عن نفسه وعن عرضه وماله من الأعداء ما لم تتوفر لديه (القوة الغضبية

والنتيجة: إن الإنسان بأمس الحاجة إلى وجود هذه القوى الثلاث للنفس وليس إلى وجـود قوة واحدة فقط، بل إن سعادته تكمن من خلالها، وبالتالي فان وجود هذه القوى بأجمعها يعد خير وبركة وسعادة لا أنه شر محض وشقاء كما قد يتوهم، وقد بينا في الدرس السابق فلسفة وجود كل قوة من القوى الثلاث فراجع.

لا إفراط ولا تفريط:

يقول الإمام الصادق (ع): (واعلم إن لكل شئ حدا فإن جاوزه كان سَرَفاً وان قَصَّر عنه كان عجزاً)[1].

سبق وأن أشرنا إلى أن أفعال الإنسان صادرة عن إحدى هذه القوى الثلاث، فتكون مرة جميلة ومرة قبيحة وذلك فيما إذا كانت صادرة عن قوة واحدة فقط، أما إذا اتحدت هذه القوى الثلاث (العقلية والغضبية والشهوية) فسوف يصدر نوع خاص من الأفعال تختلف عن تلك الأفعـال التي كانت صادرة عن واحدة فقط، وهذا هو المطلوب.

لذلك كان من الضروري على الإنسان الموازنة بين هذه القوى الثلاث، فلا يميل إلى جانبي الإفراط والتفريط لأن ذلك يؤدي إلى الزيادة أو النقصان وبالتالي إلى السقوط والخسران.

أمّهات الفضائل:

إن الفضائل الرئيسية في الإنسان والتي يسمونها (أمهات الفضائل) والتي ترجع إليها جميع الأخلاق الفاضلـة، هي أربع أصول يُعبرَّ عنها بالملَكات – بفتح اللام – وهي: (العفة والشجاعة والحكمة والعدالة).

وهذه الأصول والملكات الأربعة لم تأت اعتباطاً وصدفة، وإنما أتت نتيجة لسلوك طريق الاعتدال والوسط في كل قوة من القوى الثلاث وبالتالي نتيجة للموازنة والامتزاج بين القوى بشكل عام، وعدم الميل إلى جانبي الإفراط والتفريط.

ولننظر كيف تحصل وتتكون هذه الأصول والملكات في نفس الإنسان من خلال ما يلي:

الأصل الأول [العفّة]:

لو نفّذ الإنسان أوامر (القوة الشهوية) بشكل مطلق وأطاعها في شهوة الأكل والشرب والنوم والجماع، ولبىّ رغبتها وأعطاها كلما تشتهي، فسوف يتصف بحالة (مذمومة) تسمى بـ [ الشَّرَه ] وهي نتيجة الميل إلى جانب (الإفراط) في هذه القوة.

وإذا عصى الإنسان جميع أوامر هذه القوة بشكل مطلق ولم يلب رغباتها حتى الضرورية منها، بل حاول كبتها عن كل ما تريد وذلك بأن منعها مثلاً من الأكل والنوم والزواج مطلقاً وما شـابه ذلك من الأمور المهمة لنوع الإنسان، فسوف يتصف بحالة (مذمومة) تسمى بـ [الخُمود] وهي نتيجة الميل إلى جانب (التفريط) في هذه القوة.

وأما إذا سلك الإنسان حد الاعتدال والوسط في هذه القوة وذلك باستعمالها كما ينبغي وبالمقدار المعقول والمتوازن وعلى قدر الحاجة، فسوف يتصف بحالة (ممدوحة) تسمى بـ (العفة) وهي أول أصل من أصول الأخلاق الفاضلة.

ولذا حذر الإسلام من حالتي الإفراط والتفريط في القوة الشهوية سواء في الأكل أو الجنس أو النوم، ففي التحذير من حالة الإفراط بالنسبة للأكل يقول الرسول (ص): (لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فان القلوب تموت كالزرع إذا كثر عليه الماء)[2].

وقال (ص): (ان الشيطان ليجري في ابن أدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش)[3].

ويقول لقمان لولده: (إذا امتلات المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الاعضاء عن العبادة)[4].

ويقول المسيح عيسى ابن مريم (ع): (يا بني إسرائيل لا تكثروا الأكل فانه من أكثر الأكل أكثر النوم ومن أكثر النوم أقل الصلاة ومن أقل الصلاة كتب من الغافلين)[5].

فالإفراط في الأكل مذموم لما يؤدي من مضار روحية وجسدية.

وواضح ان جانب التفريط أي الجوع الشديد مذموم أيضا ولهذا ورد النهي من الشارع المقدس عن صوم الوصال والإضراب عن الطعام وغير ذلك مما يضر بالفـرد، وحد الاعتدال في ذلك بيّنه الله في قوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا}[6].

وكذلك ورد التحذير من الإفراط والإسراف في شهوة الجنس لما في ذلك من آثار غير محمودة وفي هذا المجال نجد الحديث المروى عن أمير المؤمنين (ع): (من أراد البقاء ولا بقاء فليقل غشيان النساء)[7]، والسر في ذلك أن هذا الأمر قد يؤدي إلى الابتعاد عن طريق الآخرة وسيطرة القوة الشهوية على القوة العقلية فيكون العقل خادماً بعد أن جعله الله مخدوماً.

وأما التفريط في هذه الشهوة (الجنس) والامتناع عنها كليا فقد اعتبره الإسلام من الشذوذ لأنه خروج عن الطبيعة والفطرة التي أودعها الله في ابن آدم، وفي نفس الوقت يعد هذا التصرف كبتا لطاقة كامنة في النفس وهذا الكبت سيعود بعواقبه الوخيمة على صاحبه، يقول (ص): (لا رهبانية في الإسلام) [8].

ولذا حث الإسلام على الاعتدال في هذه القوة بين الإفراط والتفريط وذلك عن طريق الزواج المشروع فهو الأسلوب السليم والأمثل حيث يقول الرسول (ص): (من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه أغض للبصر وأحصن للفرج)[9].

ويقول (ص): (من احب ان يلقى الله تعالى طاهراً مطهراً فليلقه بزوجة)[10].

وهكذا الكلام ينطبق على النوم فالاعتدال فيه بين الإفراط والتفريط هو المطلوب.

ومن خلال ما تقدم يتبين لنا معنى الإفراط والتفريط المذمومين في القوة الشهوية، كما عرفنا الاعتدال الممدوح والذي يطلق عليه (العفة).

الأصل الثاني [الشجاعة]:

لو نفّذ الإنسان جميع أوامر (القوة الغضبية) ولبىّ رغباتها دون قيد وأطلق لها العنان، فيغضب لأتفه الأسباب ويضرب هذا ويشتم ذاك وينتقم من الناس ويكيد بهم ويتوثب عليهم بأنواع الأذى والمكر، فسوف يكون متصفاً بحالة (مذمومة) تسمى بـ [التَّهَوُّر] وهي نتيجة الميل إلي جانب (الإفراط) في هذه القوة.

وإذا لم يعتبر بهذه القوة وإنما ألغى أوامرها بشكل مطلق فيترك الغضب كلياً ويشعر بالخوف من كل شي حتى من ظله ولا يدافع عن نفسه حتى لو نهب ماله أو هتُك عرضه، ويرتعد من ذكر السيف أو البندقية ويسالم الأعداء.. إلى غير ذلك، فحينئذ يكون متصفا بحالة (مذمومة) تسمى بـ [الجُبن] وهي نتيجة الميل إلى جانب (التفريط) في هذه القوة.

وأما إذا سلك الإنسان حد الإعتدال والوسط في هذه القوة بأن استعملها في وقت الحاجة وبالمقدار الذي ينبغي ولم يخضع لها في كل حال، فسوف يكون متصفا بحالة (ممدوحة) تسمى بـ (الشجاعة) هي ثاني أصل من أصول الأخلاق الفاضلة.

وفي هذا الصدد أولى الإسلام هذا الجانب عناية كبيرة من اجل المحافظة على حد الاعتدال في القوة الغضبية فلا إفراط ولا تفريط، فاعتبر الميل إلى جانب الإفراط في هذه القوة من المهلكات فحذر منه، يقول تعالى: {ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة}[11].

وفي ذم الغضب يقول الرسول (ص): (الغضب يفسد الايمان كما يفسد الخل العسل)[12]، ولا شك أن الرسول (ص) يقصد بالغضب هنا الغضب في غير محله والذي هو (التهور) إذ أن مفاسده كثيرة فقد يسب ويشتم ويهتك الحرمات ويقتل النفس المحترمة ويفتري على الآخرين بما هم منهم بُراء، وقد روي أن الصادق (ع) قال كان أبي يقول: (أي شئ أشد من الغضب؟ إن الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرم الله ويقذف المحصنة)[13].

إذا كانت حالة الإفراط مذمومة وتؤدي إلى تلك المفاسد فإن حالة التفريط في هذه القوة أيضا مذمومة ولها مفاسد كثيرة من الذل والهوان والرضا بالعار والفضيحـة والأسر بيد الآخرين وتعطيل حدود الله وعدم الدفاع عن النفس والدين والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. الخ، ولذا قيل [من أاستغضب فلم يغضب فهو حمار].

والاعتدال بين الإفراط والتفريط هو المطلوب فيغضب في الحالات التي تستدعي الغضب عقلا وشرعا وأما في الحالات الأخرى فلا، وبهذه الصورة تبرز الحالة المحمودة وهي (الشجاعة).

الأصل الثالث [الحكمة]:

لو تجاوز الإنسان حد الإستقامة في (القوة العقلية) بأن استخدمها في المكر والخداع أو استخرج أموراً دقيقة غير مطابقة للواقع أو ادعى حكمة باطلة أو عقيدة فاسدة، أو استنتج معادلة خاطئة أو قضية مخالفة للبديهيات فإنه سيتصف بحالة (مذمومة) تسمى بـ [الجَربَزَة][14] وهي نتيجة الميل إلى جانب (الإفراط) في هذه القوة.

وإذا جمّد الإنسان هذه القوة وجعلها خاملة، ولم يكلفها حتى عن إدراك أبسط الأمور وأجلى الحقائق وأوضح البديهيات، ولم يستخدمها فيما يتصل بالعلم مطلقاً، وأبقــاها في ظلمة الجهل، فإنه سيتصف بحالة (مذمومة) تسمى بـ[البَلادة] وهي نتيجة الميل إلى جانب (التفريط) في هذه القوة.

وأما إذا سلك الإنسان حد الاعتدال والوسط في هذه القوة بأن استعملها في حل المعادلات وإقامة الأدلة والبراهين للوصول إلى حقائق الأمور وسخرها للتمييز بين الحق الباطل والخير والشر، فحينئذ يكون متصفاً بحالة (ممدوحة) تسمى بـ [الحـكمة] وهي ثالث أصل من أصول الأخلاق الفاضلة.

ولذا فالملاحظ واضحا أن استعمال الفكر في غير مورده أو في الموارد التي لا ينبغي استعماله فيها يسمى بـ (السفه والحُمْق) وكأمثلة على ذلك: السحر والطلسمات والشعوذة والكهانة والتنجيم فكل هذه العلوم يمكن تعلمها ولكن ما هي ثمارها؟ وأي نتاج سينتج منها؟ إنه الكذب والدجل والتفريق بين الأخ وأخته، أو يكون الهدف من العلم: الجدال والمراء والمماراة أو الوصول إلى المناصب الدنيوية أو لكي يشار إليه بالبنان فيصاب بالغرور والعجب وكل هذا من أسباب الهلكة، بل ربما أدى تعلم بعض العلوم إلى مخالفة البديهيات والأوائل العقلية وإفساد العقائد الحقة، وهذا كله نتائج الميل إلى جانب الإفراط في هذه القوة، وفي الدعاء المشهور: (أعوذ بك من علم لا ينفع)[15].

وأما الميل إلى جانب التفريط ليس بأقل ضرراً من الجانب الآخر، ونعني بالتفريط في هذه القوة: خلو النفس عن العلم وتعطيل القوة الفكرية في الموارد التي ينبغي استعمالها فيها مع الإلتفات إلى ذلك والثبات عليه، وهذا ما يسمى بـ (البله والبلادة) وهذا من المهلكات العظيمة التي تجر الأفراد والأمم إلى الويلات، يقول النبي (ص): (أغد عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً لهم ولا تكن الخامس فتهلك)[16].

ويقول أمير المؤمنين (ع): (أغد عالماً أو متعلماً ولا تكن الثالث فتعطب)[17].

 إذاً فحالتا الإفراط والتفريط مذمومتان ومهلكتان، يقول أمير المؤمنين (ع): (قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك فالجاهل يغتر الناس بتنسكه والعالم ينفرهم بتهتكه)[18].

وضبط هذه القوة والاعتدال فيها يتم بتعلم العلم النافع وتعليمه لمن يستحقه والابتعاد عن الجهل ومالا ينفع من العلم، وقد روي ان رسول الله (ص) دخل المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال: ما هذا؟ فقيل: علاّمة، فقال: وما العلاّمة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والأشعار العربية، فقال: ذاك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه، ثم قال: (إنما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة وما خلاهن فهو فضل[19])[20].

وحالة الاعتدال المحمودة في هذه القوة تسمى بـ (الحكمة).

الأصل الرابع [العدالة]:

إن لكل واحدة من قوى النفس وغرائزها حقوق يجب أن تُوفَّى إليها كاملة غير منقوصة، ولكل واحدة منها  ـ  في نفس الوقت  ـ  ميول شاذة يجب إن يُضرب من دونها ألف حجاب وحجاب، ولا يتم ذلك إلا بضبط النفس والتي هي عبارة عن ملَكَة (العدالة) وهي إعطاء كل ذي حق حقه من هذه القوى، ووضعه في موضعه الذي ينبغي له؛ وهذه الملكة (العدالة) تحصل نتيجة لإجتماع وإمتزاج الثلاث الملكات (العفة والشجاعة والحكمة) مع بعضها البعض.

ويسمى جانب (الإفراط) فيها [ظلماً] وجانب (التفريط) فيها [انظلاماً].

والنتيجة: كل الفضائل الأخلاقية بلا إستثناء هي فروع تنشأ من هذه الأصول الأربعة، فالجود والحياء والورع والصبر والشكر والغيرة والنصيحة والكرامة والتواضع والتودد والحلم والمروّة.. إلى غير ذلك من الأخلاق الفاضلة، هي فروع لهذه الملكات والأصول الأربعة.

للقراءة والتأمل

قال أمير المؤمنين (ع): (إن الله خص الملَك بالعقل دون الشهوة والغضب، وخص الحيوانات بهما دونه، وشرف الإنسان بإعطاء الجميع، فإن إنقادت شهوته وغضبه لعقله صار أفضل من الملائكة لوصوله إلى هذه المرتبة مع وجود المنازِع، والملائكة ليس لهم مزاحم)[21].

الأسئلة

السؤال الأول: هل وجود القوة الشهوية والغضبية في النفس ضروري؟ ولماذا؟

السؤال الثاني: ما هي أمهات الفضائل الأخلاقية؟

السؤال الثالث: تكلم عن حالة الافراط والتفريط والاعتدال في أحد القوى الثلاث؟

السؤال الرابع: أوصل بين العمود (أ) بما يناسبه من العمود (ب):  

 

(ب)

 

(أ)

جانب التفريط في القوة الغضبيه

 

جانب الإفراط في القوة الشهوية

حالة الشره

 

حالة التهور

جانب الإفراط في القوة العقلية

 

حالة التفريط في القوة الشهوية

حالة الخمود

 

جانب التفريط في القوة العقلية

جانب الإفراط في القوة الغضبية

 

حالة الجربزه

حالة البلادة

 

حالة الجبن

السؤال الخامس: كيف تكونت ملكة العفة وملكة العدالة؟

 

الدرس الخامس

جذور الأخلاق ودوافعها

في الدرس السابق كان الكلام حول الأصول الأربعة (العفة، الشجاعة، الحكمة، العدالة) وأنها هي الأساس للأخلاق الفاضلة، كما عرفنا أيضا أن كل واحدة من هذه الفضائل هي حد وسط بين الإفراط والتفريط في الغرائز والقوى النفسية.

وفي هذا الدرس نرى من المناسب جداً البحث عن جانب من الجوانب المتعلقة بالأخلاق ألا وهي: جذور الأخلاق، وبعبارة أخرى: الدعائم والدوافع التي تدفع بالإنسان نحو الأفعال الخلقية.

فما هو الدافع الذي يجعل الإنسان يتخلق بهذا أو ذاك؟ وما هو الرادع الذي يجعله يجتنب الأفعال السيئة؟

للإجـابة على هذا التساؤل لابد من طرح بعض الأقوال والنظريات في هذه المسألة ومن ثم نطرح القول الأصح حسب النظرية الإسلامية.

النظرية الأولى: المصلحة الفردية:

أنصار هذه النظرية يرون أن أخلاق الإنسان ليس لها جذور سوى المحافظة على المصالح الفردية، فكل إنسان يحب أن يكون الآخرون صادقين معه، وهذا لا يتحقق إلا إذا صدق هو مع الآخرين، إذ أنه لو كذب عليهم لكذبوا عليه وفقد بذلك الهدف الذي يسعى إليه، ولو شتم الآخرين أو سبهم أو قذفهم أو أهانهم لقابلوه بمثل ذلك أو أكثر، وهكذا لو تعدى على أموال الناس فإنهم سيعاملونه بالمثل كما إذا سرق من جاره شيئاً فسوف يقوم جاره بنفس العمل تجاهه، وهكذا في سائر التصرفات.

فالإنسان إذا سعى لإيذاء الآخرين، ومارس أعمالاً سيئة فإن أثرها السلبي يعود عليه، وبالتالي فعليه أن يترك الأعمال السيئة ويمارس الأعمال الحسنة ليجلب إلى نفسه المصلحة.

فيتضح من خلال هذه النظرية أن جذور الأخلاق التي يمارسها الناس من صدق ووفاء وحلم وصلة وعفة.. الخ، إنما هي المصلحة الفردية.

مناقشة النظرية:

إن هذه النظرية تفترض احترام الآخرين وعدم الاعتداء عليهم، وهذا جانب مهم في المعاملة الاجتماعية ؛ ولكن هذه النظرية المطروحة بعمومها ليست صحيحة بل هي سقيمة وعقيمة ومضادة للأخلاق في نفس الوقـت، والسبب في ذلك أنها تعطي للقوي الحق في إستخدام قوته ضد الضعفاء، حيث أن الإنسان عادةً إنما يراعي مصلحته فيمـا إذا كان الطرف الآخر قوياً مثله في نفس المستوى، أما إذا كان الآخر ضعيفاً أمامه فلا يبقى معنى لمراعاة المصلحة، بل سوف يتسلط على الآخر ويسحقه، ومثال ذلك ما نراه بين الدول العظمى العالمية حيث أن بعض الدول العظمى تراعي المصلحة فيما إذا قابلتها دولة عظمى فهي لا تتحرش بها لأنها تعرف النتيجة السيئة المعاكسة لهذا التحرش، أما إذا قابلتها دولة أقل مستوى من قوتها، فلن يردعها رادع من إستضعافها ونهب ثرواتها وتسويتها بالأرض ؛ هذا مضافاً إلى أن هذه النظرية تؤدي إلى إباحة الكثير من المنكرات والأخلاق الرذيلة كالزنا واللواط بحجة أنها لا تضر بالآخرين فيما إذا تراضيا الطرفان!!

والحاصل أن هذه النظرية سخيفة وباطلة وغير مقبولة لأنها لا تعتمد على أساس إنساني وأخلاقي بل تعتمد على المصالح الذاتية كما هو واضح، كما أشار أمير المؤمنين (ع) في وصيته لابنه الحسن (ع) حيث قال: (يا بنى اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم واحسن كما تحب أن يحسن إليك..)[22]، ولا شك أن الإمام (ع) إنما عنى الجانب الإنساني في المعاملة وهو المطلوب.

النظرية الثانية: الإشتراكية:

وهي عكس النظرية الأولى، ومؤدى هذه النظرية يقول: إننا إذا أردنا أن يستقيم الناس في أخلاقهم ولا يعتدي بعضهم على بعض فعلينا أولاً إقامة مجتمع ليس فيه قوي أو ضعيف، ونساوي بين الجميع في ثرواتهم وممتلكاتهم، ونقضي على التفاوت الطبقي والملكية الفردية الخاصة فلا نجعل أحداً يملك هذا وآخر لا يملك، بل على كل فرد أن يقدم من العمل للمجتمع بمقدار حاجته، ويأخذ بمقدار حاجته وعندها سيتحقق العدل والأمن والسلام وتنعدم العداوات والأحقاد، ويعيش الكل أخوة على هذا الأساس.

مناقشة النظرية:

هذه النظرية غير سليمة أيضاً وذلك لأمور:

أولاً: إنها أعطت الجانب المادي (المالي) الحجم الكبير في الوقت الذي لم تول الجانب المعنوي أي إهتمام، ونحن نعلم أن المعاملة القائمة على أساس مادي تفشل ولا تدوم طويلا وهذا واضح.

ثانياً: إننا نرى أن المجتمعات التي طبقت هذه النظرية مليئة بالمفاسد والإعتداءات والمذابح، والإتحاد السوفيتي أوضح شاهد على هذا، وفي النهاية حيث رأيناه كيف سقط هذا الإتحاد وتلاشى في النهاية.

ثالثاً: أن الملكية الفردية الخاصة ليست هي وحدها الكفيلة بإعطاء الإنسان الإمتيازات بل إن الإمتيازات للإنسان تحصل من أسباب أخرى غير الملكية الفردية الخاصة وعلى سبيل المثال: العلم: فإن الإنسان المتفوق في الجانب العلمي سيبقى متفوقا مهما ألغينا الملكية الفردية الخاصة، وكذلك الشهرة والمنصب والجمال، أفلا يؤدي هذا إلى العدوان والحسد مثلاً على أقل التقادير؟

والحاصل أن القيم لا تنحصر في المال حتى نجعله الأساس في الأخلاق، فلابد إذاً من البحث عن شئ آخر.

النظرية الثالثة: المسؤولية والضمير:

هذه النظرية ذهب إليها (سارتر) – أحد العلماء الغربيين  ـ  حيث يقول: إن الإنسان حر لا يقيده شئ من القيود الطبيعية أو غير الطبيعية، فهو الذي يدير نفسه ويحدد مستقبله ومصيره كما أنه مسؤول عن الآخرين أيضـاً، وذلك بنوع العمل الذي يقوم به، فإذا قام بعمل ما فكأنه يقول للمجتمع: هكذا يجب أن تعمل، ومن ثم يشاركه الآخرون هذا الإحسـاس فالكل مسؤول عن الكل.

وبعبارة أخرى إن داخل الإنسان دافع نحو الحسن ورادع عن القبيح بحيث يلتذ بالأعمال الحسنة وينفر من الأعمال السيئة القبيحـة، فنراه يشعر بلذة عميقة عندما يمسح على رأس يتيم ويتألم عند رؤية شيخ عجوز على قارعة الطريق قد أنهكته علته.

مناقشة النظرية:

إن في بعض هذا الكلام نصيب من الصحة، والقرآن الكريم أشار لذلك أيضاً بقوله تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها}[23].

لكننا لا نستطيع أن نجعل الضمير والوجدان هما المحركين الأساسيين لأسباب:

الأول: إن الكثير نراهم يضحون بأموالهم وثرواتهم ويحسنون للآخرين ويساعدوهم، لكن في حدود معينة، أما إذا اقتضت هذه المساعدة التضحية بحياتهم فإنهم سيتوقفون ولا يقدمون نحو ذلك.

الثاني: إن هذا الضمير وهذا الشعور ليس خاصاً بالإنسان بل إن الحيوانات لها هذه الغرائز وهذه العواطف أيضاً.

الثالث: إن الضمير قابل للقوة والضعف، فهو يتقوى بالتمرين وإتباع الأنظمة لكنه يضعف عند المخالفة شيئاً فشيئاً حتى يموت الضميـر فتنعدم الأخلاق، فالضمير في الواقع بحاجة إلى دعامة تقويه وتزوده بالطاقة.

الرابع: لو فرضنا أن الضمير لوحده يمنع من الإساءة إلى الآخرين ويحفز على الإحسان إليهم، فهل ان هذا الضمير يتكفل أيضا بمنع الإنسان من سائر التصرفات السلبية الخاصة بالفرد فيما لو خلا بنفسه لشرب الخمر وتناول المخدرات والنظر إلى المشاهد الجنسية الفاضحة وأمثال ذلك؟ وأخيرا فإن هذه النظرية ترفض وجود إله له علاقة بهذه الأخلاق وصدورها من الإنسان فهي تصدر عن ضميره ووجدانه فحسب.

النظرية الرابعة: الدين:

لقد لاحظنا أن النظريات المتقدمة الذكر لم تعتمد الهدفية من أفعال الإنسان والقيم المعنوية التي يسعى إليها.

ونحن نعرف أن قيمة العمــل يحددها الهدف لذلك العمل بل إن مقدار التضحية يعتمد على نوعية الهدف، فبمقدار قدسية الهدف الذي تطرحه النظرية السابقة لم يصل إلى حد التضحية بالنفس من أجله، مما يشير إلى أن ذلك الهدف لم يكن مقدساً بالدرجة المطلوبة وبالتالي فلا بد من الإعتراف والتسليم بأن وراء هذه الأفعال هدفا سام ومقدسا يستحق التضحية حتى بالنفس ويكون هو الدافع لأفعال الخـير، وهو الرادع لأفعال الشر وبصورة دائمة ومستمرة، وبالتالي يكون دعامة قوية لصلاح الفرد والمجتمع.

إن هذه الدعامة هي [الدين]، فإن الأخلاق لا يمكن أن تستقر بدون الدين، وهذا ما قاله حتى بعض الغربيين، يقول الكاتب الروسي " دستويفسكي " [لو لم يكن الله موجوداً لأبيح كل شئ] ويقصد بقوله: [لو لم يكن الله موجوداً]: (لو لم يكن الدين موجوداً).

النظرية المختارة:

إذا فالنظرية الصحيحة هي [الدين] حيث لا يمتنع الإنسان من فعل قبيح منافٍ للخلق ما لم يكن متعلقاً بدين مّا يردعه عن ذلك.

هذا ما نشاهده في أنحاء العالم على مر العصور، فالفئة التي لا تعترف بالدين تكون أخلاقها متأخرة جداً أو على الأقل لا تدوم سوى فترة يسيرة ثم تتبدل بأخلاق أخرى.

وللتوضيح أكثر نقول: إن الإنسان كتلة هائلة من الغرائز ومجموعة من الشهوات اللامحدودة، بحيث لو تُرك وشأنه لجر نفسه ومجتمعه للويلات، وما يعانيه المجتمع المعـاصر من إنتكاسة في الأخلاق ليس إلا من إطلاق العنان لهذه الغرائز مثل حب الذات والمال والجاه وغريزة الغضب والجنس والإنصياع لها بلا قيود.

وفطرة الإنسان على السجايا الكريمة والفضائل قد لا تستطيع لوحدها الوقوف أمام هذه الغرائز ومقاومتها ما لم يعززها بأمر آخر وهو الإعتقاد بالله تعالى واليوم الآخر ووجود ثواب لمن التزم الإستقامة وعقاب لمن خالف ذلك.

وبهذا يكون الدين والعقيدة والإيمان بالله خير وسيلة لتنمية السجايا النبيلة، وأكبر دعامة للأخلاق الفاضلة للفرد والمجتمع وقد نطق القـرآن بهذه الحقيقة إذ يقول تعالى: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين}[24]، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين }[25]، وقوله تعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدعّ اليتيم ولا يحض على طعام المسكين}[26].

كما أن الرسول (ص) أعلن عن الهدف من بعثته فقال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)[27]، إنه أتى لإيقاظ الضمائر الميتة بواسطة الدين إذ هو المحرك الأساسي، وهذا ما حدا بعلماء الاجتماع إلى إن يعتبروا الدين افضل دعامة للأخلاق وأن الأخلاق إذا فصلت عن العنصر الإعتقادي فإنها فاشلة في تأدية رسالتها ومهمتها.

وكمثال على كون الدين هو الذي يجعل الضمير يقظا قصة سحرة فرعون الذين عاشوا تحت ظله فانهم لم يملكوا التضحية بالنفس إلا بعد إيمانهم بموسى (ع) وربه تعالى حيث استيقظت ضمائرهم بسب هذا الاعتقاد الراسخ، وقد أفصحوا عن ذلك فقالوا لفرعون: {لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا}[28].

نعم إنهم آمنوا بموسى (ع) والتزموا بالدين فلم يعبأوا بتهديد فرعون لهم بالقتل يقول تعالى: {..لأقطعن أيدكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنّا إلى ربنا منقلبون..}[29].

وفي النهاية يجب أن نعرف أن الضمير لوحده غير كافٍ لصيانة الأخلاق ما لم يدعم بالدين ولاسيما دين الإسلام الذي فاق جميع الأديان من خلال أوامره ونواهيه، والمتحصّل من كل ما سبق بطلان سائر النظريات وصحة النظرية التي تقول إن جذر الأخلاق ودعامتها هو الدين.

للقراءة والتأمل

ـ جاء إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم رجل تزوج حديثاً وقال له: يا رسول الله، أتمنى الشهادة فادعُ الله أن تكون من نصيبي!!

ـ تزوج حنظلة بإمرأة من اجمل نساء المدينة ودخل بها ليلاً، فلما اصبح التحق بالرسول (ص) في أحد وقدم نفسه شهيداً في ذلك اليوم، وبعد انتهاء المعركة رأى الرسول (صلّى الله عليه وآله سلم) الملائكة تغسل حنظلة فعرف بغسيل الملائكة وذلك لأنه لم يجد وقتا عند مفارقته لزوجته كي يغتسل من جنابته شوقاً إلى الجهاد والجنة.

هذان شاهدان على ان الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر أفضل دعامة للأخلاق.

الأسئلة

السؤال الأول: توجد عدة نظريات حول جذور الأخلاق ودعائمها اذكرها؟

السؤال الثاني: كيف ترد باختصار على النظرية الأولى وهي المصلحة الفردية؟

السؤال الثالث: أشار القرآن إلى أن للإنسان ضميراً يدعوه إلى الخير ويردعه عن الشّر، أذكر دليلاً على ذلك؟

السؤال الرابع: ما هي النظرية الصحيحة لدعامة الأخلاق؟

السؤال الخامس: حاول أن تستدل بآية قرآنية غير المذكورة في الدرس على أن الإيمان بالله واليوم الآخر هو الدعامة القوية للأخلاق؟

 


[1] مستدرك الوسائل ج2 ص360.

[2] تنبيه الخواطر ج1 ص46.

[3] الأخلاق لعبدالله شبر ص 124.

[4] نفس المصدر السابق.

[5] تنبيه الخواطر ج1 ص 47.

[6] الاعراف ايه 31.

[7] سفينة البحار ج 1 ص 180.

[8] مستدرك الوسائل ج 14 ص 155.

[9] احياء العلوم ج 2 ص 72.

[10] مستدرك الوسائل ج 14 ص 149.

[11] البقرة آية 195.

[12] البحار ج 73 ص 266.

[13] البحار ج 73 ص 274.

[14] الجربزه: الحماقة

[15] البحار ج 2 ص 63.

[16] البحار ج 1 ص 159.

[17] البحار ج1 ص 169.

[18] الحقائق في محاسن الأخلاق ص 135.

[19] فضل: أي زيادة.

[20] البحار ج 1 ص 211.

[21] جامع السعادات ج 1 ص 67.

[22] نهج البلاغة وصية 31.

[23] الشمس آية (7-8).

[24] التوبة آية 109.

[25] النساء آية 135.

[26] الماعون آية (1 - 3).

[27] البحار ج 16 ص 210.

[28] طه آية 72.

[29] الشعراء آية (49 - 50).

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست