.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الحديث العلوي وبيان الإمام الخميني دام ظله

 

  ختام من مسك

(الحديث العلوي وبيان الإمام الخميني دام ظله)

ونحن نختم هذه الأوراق، بحديث شريف رواه الكليني (ره) في الكافي الشريف، عن مولى الموحدين أمير المؤمنين عليه السلام، وروى الشيخ الصدوق (رض) مثله عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، أنه كان من جملة وصايا النبي صلى الله عليه وآله لعلي، والحديث هكذا بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام، قال، قال أمير المؤمنين عليه السلام:

"ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحب أن يحمد في جميع أموره".

قال الإمام الخميني دام ظله:

حيث أن هذه السيئة الخبيثة ربما تكون خفية لا يعرفها الشخص المبتلى بها أيضاً، ويزعم أن عمله خالص وهو في الباطن من أهل الرياء، فلهذا ذكروا لها علامة ليعرف الإنسان بها سريرته، ويكون في صدد العلاج:

إن الإنسان يشاهد من نفسه أنه إذا كان وحده لا يرغب في الطاعات، وإذا أتى بعبادة تكلفاً أو على حسب عادته لم يأت بها بنشاط ورغبة بل يأتي بها غير تامة وغير نقية، ولكن إذا حضر في المساجد والمجامع واشتغل بعبادة في محضر عام فيعملها بنشاط وعلاقة وسرور وحضور القلب، فيحب أن يطول ركوع صلاته وسجودها، ويأتي بمستحباتها، ويحسن أجزاءها وشرائطها، وإذا تنبه عقله لذلك وسأل نفسه عن سبب ذلك فتضع النفس فخها على أصول التقدس والتعبد، فتقول تعمية للإنسان: إن نشاطك هذا من جهة أن العبادة في المساجد أكثر مثوبة، أو أن الصلاة مع الجماعة كذا وكذا، أو أنه إذا كان في مجتمع غير المساجد تقول: إنه يستحب للإنسان أن يحسن عمله عند الناس ليقتدي به الناس ويتأسوا به ويرغبوا في الدين فتغرر بالإنسان بأية وسيلة استطاعت، والحال أن هذا السرور والنشاط ليس منبعثاً إلا عن المرض القلبي المبتلى به هذا المسكين، وهو يحسب نفسه صحيحةً معافاة وليست بحاجة للعلاج إن المريض الذي يرى نفسه سالمة غير مريضة فلا ترجى له الصحة، فهذا الشقي في باطن ذاته ولبِّ سريرته يحب أن يُرِيَ عمله للناس وهو غافل عن ذلك، بل يظهر المعصية في صورة العبادة، ويجعل الرياء على شكل ترويج المذهب، فمع أنه يستحب أن يؤتى بالمستحبات في الخلوات، فلماذا تحب النفس دائماً أن تأتي بها في العلانية؟ إنها تبكي من خشية الله في المجامع العامة بنشاط وبهجة، ولكنها في الخلوة مهما تكلفت لم تخرج من العين دمعة. لماذا يحصل الخوف من الله في المجامع فقط؟ إن الإنسان يبكي ويتضرع في آلاف من الناس في ليالي القدر، ويصلي مائة ركعة من الصلاة، ويقرأ دعاء الجوشن الكبير والصغير وأجزاء من القرآن الشريف من دون كسل، ولا يحس بالتعب في ذلك، ولكنه إذا صلى عشر ركعات في الخلوة يتعب من وجع ظهره ولا يفي بها حاله؟ إن الأعمال التي تصدر من الإنسان إن كانت خالصة لتحصيل رضا الله تعالى أو استجلاب رحمته، أو خوفاً من جهنم أو شوقاً إلى الجنة، فلماذا يحب أن يمدحه الناس، فيلقي إلى ألسنتهم سمعه ويتوجه إليهم بقلبه ليسمع أحداً منهم يمدحه؟ ليسمع أحداً يقول: إن فلاناً رجل متعبد مواظب على أوائل أوقات الصلوات، مراقب للمستحبات! ليسمع أحداً يقول: إن فلاناً الحاج رجل أمين معتمد في معاملاته، وكذا وكذا. فإن كان النظر إلى الله تعالى فما هذا الحب المفرط؟ وإن كانت الجنة والنار داعيتك إلى هذا العمل فما هذا الحب؟ فتنبه إن هذا الحب من أغصان تلك الشجرة الخبيثة (الرياء) وكن في صدد إصلاحه ما استطعت وخلِّص نفسك من أمثال هذا الحب.

ولابأس من التنبه إلى أمر في المقام، وهو أن لكل من هذه الصفات النفسية ـ أعم من الملكات الحسنة والملكات السيئة ـ مراتب كثيرة، والاتصاف بمرتبة من الملكات الحسنة والتنزه عن مرتبة من الملكات السيئة ربما يكون مما يختص به العرفاء بالله وأولياء الله. وأما سائر الناس فهم على حسب ما هم فيه من المراتب، فالاتصاف بما هو منقصة بالنسبة إلى العرفاء والأولياء لا يكون بالنسبة إليهم منقصة، بل يكون كمالاً أيضاً بمعنى، وكذلك حسنات هؤلاء تكون سيئات للعرفاء والأولياء. والرياء الذي نتكلم فيه هو فعلاً من جملة تلك الصفات، فالخلوص من جميع مراتبه من مختصات الأولياء، وليس لغيرهم الشركة معهم في ذلك، واتصاف العامة من الناس بمرتبة منه ليس منقصة لهم حسب المقام الذي هم فيه. ولا يضر إيمانهم أو إخلاصهم، فمثلاً نفوس العامة من الناس بحسب جبلتهم تميل إلى أن تظهر خيراتهم للناس وإن كانوا لم يفعلوها بنية الظهور. ولكن نفوسهم مفطورة بهذا الحب، وهذا لا يوجب بطلان العمل أو كفرهم ونفاقهم وشركهم، وإن كان هذا نقصاً للأولياء وشركاً ونفاقاً في نظر ولي الله أو العارف بالله، والتنزيه من مطلق الشرك والخلاص من جميع مراتبه، أول مقام من مقامات الأولياء. ولهم مقامات أخر لا يناسب المقام ذكرها، حتى أن ما قاله المعصومون عليهم السلام: من أن عبادتنا عبادة الأحرار، أي تكون حباً لله تعالى لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار، فمن مقاماتهم المعتادة وهو أول درجة الولاية. ولهم عليهم السلام في عبادتهم حالات لا تسعها أفهامنا.

وبما ذكرنا يمكن الجمع بين الحديث السابق المروي عن رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، والحديث الآخر لزرارة عن أبي جعفر عليه السلام كما رواه محمد بن يعقوب بإسناده عن أبي جعفر (ع) قال: سألته عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسره ذلك، قال لا بأس؛ ما من أحد إلا وهو يحب أن يظهر له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك. فإن حب المحمدة قد عدَّ في أحد الحديثين علامة الرياء وفي الحديث الآخر ينفي البأس عن السرور لظهور الخيرات، ووجه الجمع هو الاختلاف على حسب مراتب الأشخاص، وللجمع بين الحديثين وجه آخر أيضاً غضضنا عنه. انتهى كلام الاستاذ دام ظله.

أقول: ولعل الوجه الآخر في الجمع بين الحديثين أن يكون الحديث الأول ناظراً إلى حب المحمدة في حين العمل، وأنه علامة الرياء، والحديث الثاني ناظراً إلى حب المحمدة بعد الإتيان بالعمل.

أو أن حب المحمدة في الحديث الأول جعل علامة للرياء منضماً بالعلامتين الأخيرتين، كما يستظهر ذلك من العطف بالواو، فإنه ظاهر في اجتماع المعطوف مع المعطوف عليه، ولو كان كل واحد منها علامة للرياء لكان الأنسب أن يعطف (بأو)، وخصوصاً مع الالتفات إلى أن العلامتين الأوليين (أي النشاط إذا رآه الناس والكسل إذا كان وحده) لا بد وأن تلاحظا منضمتين ومجتمعتين حتى تكونا علامة للرياء، وإلا لو فرض أحدهما كالنشاط إذا رآه الناس وفي الخلوة أيضاً أو الكسل في كلتا الحالتين فليس علامة للرياء قطعاً، فإذا انضم حب المحمدة أيضاً إليهما تكون علامة قطعية للرياء وكاشفاً يقينياً عنه، وهذا بخلاف حب المحمدة وحده، فإنه ليس علامة للرياء كما يقوله الحديث الثاني.

أو نقول: إن الحديث الأول معناه أن المرائي بسبب ابتلائه بمرض الرياء يحب أن يحمده الناس في جميع أموره، كما ينص بذلك الحديث، وأما الرواية الثانية فهي على نحو الموجبة الجزئية، تشير إلى أن ظهور خير من إنسان إذا سره فلا بأس إذا لم يكن صنع ذلك لذلك. والله العالم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وقد تم تسويد هذه الأوراق بيد الفقير المفتاق إلى رحمة ربه السيد أحمد الفهري في اليوم العشرين من شهر رمضان المبارك في مدينة دمشق سنة ألف وأربعمائة وأربع من الهجرة. على مهاجرها الصلاة والسلام.

 

 

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست