.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

العلاج العملي للرياء

الموارد التي يرخص فيها إظهار العبادات

نصيحة للإمام الخميني ـ روحي فداه ـ لمن أراد أن يذّكّر

 

  العلاج العملي للرياء

إن التأمل والتدبر في الأمور التي ذكرناها, وإن كان له تأثير قوي في معالجة هذا المرض, ولكن لا ينبغي الاكتفاء بالمعالجة العلمية لمثل هذا الداء الخطير, بل لا بد أن يراقب المرض عملياً أيضاً, والدواء العملي هو أن يعود نفسه على إخفاء العبادات وإغلاقه الأبواب دونها كما تغلق الأبواب دون الفواحش, حتى يقنع قلبه بعلم الله واطلاعه على عباداته, ولا تنازعه نفسه إلى طلب علم غير الله. وقد روي أن بعض أصحاب أبي حفص الحداد ذم الدنيا وأهلها فقال: أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيها, لا تجالسنا بعد هذا. فلم يرخص في إظهار هذا المقدار لأن في ذم الدنيا نوعاً من دعوى الزهد, وهذه الدعاوى غالباً ما تكون عن رياء, ولذلك صار هذا التلميذ مورداً لعتاب الأستاذ. فلا دواء للرياء مثل الإخفاء, وذلك وإن كان يشق في بداية المجاهدة, لكن إذا صبر عليها مدة بالتكلف, فتدركه الألطاف الإلهية ويشمله حسن التوفيق, فيهون عليه ذلك ويسقط ثقله بتأييد الله وتسديده.

وإليك أيها القارئ الكريم بعض ما ورد من سيرة أئمة الهدى الذين هم أطباء النفوس والأرواح.

روى المحدث القمي (ره): كان علي بن الحسين عليه السلام ليخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم, وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتى يأتي باباً باباً فيقرعه ثم يناول من يخرج إليه, وكان يغطي وجهه لئلا يعرفه الفقير ولما وضع على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل, وكان يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة.

وعن ابن عائشة قال: سمعت أهل المدينة يقولون: فقدنا صدقة السر حين مات علي بن الحسين عليه السلام. ولما مات وجردوه للغسل جعلوا ينظرون إلى آثار في ظهره فقالوا ما هذا قيل يحمل جربان الدقيق على ظهره ليلاً ويوصلها إلى فقراء المدينة سراً, وكان يقول إن صدقة السر تطفئ غضب الرب. وقال النبي (ص): "أعظم العبادة أجراً أخفاها [1]". وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "من كنوز الجنة إخفاء العمل والصبر على الرزايا وكتمان المصائب[2]". وعنهم عليهم السلام: "أن فضل عمل السر على عمل الجهر سبعون ضعفاً[3]". وغير ذلك من الروايات.

الموارد التي يرخص فيها إظهار العبادات

لا ريب في لزوم الإخلاص في العمل العبادي والطاعة المرضية لله تعالى, وهذا من الأصول المسلمة الذي لا بد من مراعاته في جميع الموارد والحالات, ولا يكون شيء من المرجحات العقلية والشرعية مرجحاً للعمل الريائي, ولا يعتني بما توسوس به النفس أحياناً: إن العمل الفلاني حيث إن فيه فائدة عظيمة فليؤت به رياء! فإن العمل الريائي لا يعطي صاحبه شيئاً بصريح القرآن الكريم. قال تعالى: {كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا}.

مع المحافظة على هذا الأصل المسلم الشرعي نقول: إن إخفاء العمل وإن كان فيه فائدة الإخلاص والخلاص من الرياء ولكن من جهة أخرى أيضاً إذا أتي بالعمل علانية فيمكن أن يترتب عليه أيضاً فائدة وهي ترغيب الناس إليه وأن يقتدى بالعامل به وإن كان يهدده الرياء, فلذلك إن العمل في الحالتين قد أثني عليه في القرآن قال تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}. والإظهار قسمان: أحدهما في نفس العمل وأن يؤتى به علناً, والآخر التحدث به بعدما أتي به خفاءً.

أما القسم الأول: فالحق فيه التفصيل بين ما لا يمكن أن يؤتى خفاء وبين ما يمكن ذلك فيه, فإن كان العمل مما لا يمكن إخفاؤه كالحج والجهاد والحضور في صلاة الجماعة وأمثالها فينبغي المبادرة إليه, وعدم إعطاء المجال للوسوسة فيه، فإن الإتيان بمثل هذه الأعمال علناً لا دخل له بباب التظاهر والرياء، بل فائدة المبادرة إلى هذه الأعمال هي ترغيب الناس إليها، ولكن الشرط فيها كما ذكرنا خلوها عن الرياء فيؤتى بها جهاراً.

بل ربما يكون لداعي في إخفاء هذا القبيل من العبادات هو الرياء كما أشرنا إليه سابقاً، وهو أن بعض النفوس تشتهي أن تكون له المنزلة في قلوب الناس وكي يعتقدوا فيه اعتقاداً حسناً، ولذلك في موارد من هذا القبيل، فالذي يعلم هو أيضاً أنه لا يمكن إخفاؤها وتبين لا محالة؛ يسعى في إخفاء مقدماتها، وذلك لأن الناس إذا اطلعوا على العمل بعد ذلك ولابد لهم من الاطلاع، فيعتقدون أن هذا الشخص إنما يعمل لله سبحانه، ولا يحب أن يطلع الناس إلى أعماله. فمثلاً إذا كان أحد يريد الحج فإنه يدري أنه لا يمكن إخفاء مثل هذا العمل عن الناس، لأن له غداً مواقف في مكة ومنى، وأعمال كالطواف وغيره سيراها جمع كثير، وله بعد الرجوع عن الحج زيارات للإخوان، فيعرف هذا العمل لا محالة، ولكنه إذا علم الناس به فيذكرون أنه كان مختفياً في تهيئة مقدماته فيحسبونه مخلصاً في أعماله ويعتقدون فيه اعتقاداً حسناً. فمثل هذا الشخص إما أحمق أو مراء محيل يريد أن يخفي رياءه أيضاً عن الناس.

وأما إن كان العمل مما يمكن فيه الإظهار كما يمكن فيه الإخفاء أيضاً كالصدقة والصلاة... فلابد في إظهاره مضافاً إلى عدم وجود الرياء في الإظهار، أن لا يترتب عليه ضرر. كإظهار الصدقة فيما إذا كان يؤذي المتصدق عليه، فحينئذ لابد من إسرارها، فإن لم يكن فيه ضرر آخر من الإيذاء ونحوه فالأفضل هو العلانية، لأن فيها القدوة، وتدل على ذلك سيرة الأنبياء والأولياء، وقوله عليه السلام: فله أجرها وأجر من عمل بها. وقد روى في الحديث أن عمل السر يضاعف على عمل العلانية بسبعين ضعفاً، ويضاعف عمل العلانية إذا استنّ به على عمل السر سبعين ضعفاً، فمهما انفك القلب عن شوائب الرياء وتم الإخلاص على وجه واحد في الحالتين، فلا شك أن ما يقتدى به أفضل لا محالة، وإنما يخاف ظهور الرياء، ومهما حصلت شائبة الرياء لم ينفعه اقتداء غيره وهلك به، فالسّر حينئذ أفضل.

ولكن على من يظهر العمل أن يراعي الأمرين:

الأول: أن يظهره حيث يعلم أنه يقتدى به أو يظن ذلك ظناً، كالرجل في أهله، أو الشيخ في محلته، أو العالم في بلده، على اختلاف مراتب الأشخاص، وبعبارة أخرى: إنما تصحّ نية القدوة ممن هو في محل القدوة على من هو في محل الاقتداء به، وإلا فلا يكون في إظهاره فائدة وتفوته فائدة السر.

الثاني: أن يراقب قلبه فإنه ربما يكون فيه الرياء الخفي فيدعوه إلى الإظهار بعذر الاقتداء، وإنما شهوته التحمل بالعمل ليحرز مقام الاقتداء به، وهذه عقبة لا يجوزها إلا الأقوياء المخلصون، فلا ينبغي لغيرهم من الضعفاء أن يخدعوا أنفسهم فيهلكون ويُهلكون من حيث لا يشعرون، فإن الضعيف في هذه الورطة مثله مثل الذي لا يتقن السباحة، فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل عليهم ليتشبثوا به فينجيهم، فتشبثوا به فهلك الضعيف وهلكوا. وهذه مزلة أقدام العباد والعلماء، فإن منهم من يتشبه بالأقوياء في الإظهار ولكن لا تقوى قلوبهم على الإخلاص، فتحبط أجورهم بالرياء، والتفطن لذلك غامض، فإن أراد أحد أن يعرف كيد نفسه ويجربها: هل إن قصده في إظهار العمل رواجه والترغيب إليه، أو أنه وقع في فخ النفس ومصيدة الشيطان؟ فمحك ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو قال له صادق من قبل الله تعالى: أخف العمل حتى يقتدي الناس بعالم آخر أو عابد غيرك من أقرانك, ويكون لك في السر مثل أجر الإعلان, فإن مال قلبه إلى أن يكون هو المقتدى به وهو المظهر للعمل, فليعلم أن باعثه الرياء دون طلب الأجر ورغبة الناس في الخير, لأنهم قد رغبوا في الخير بواسطة عمل عابد آخر, وقد نال أجره, بل وقد توفر عليه مع أسراره, فما بال قلبه يميل إلى الإظهار لولا ملاحظته لأعين الخلق ومراءاتهم؟ فليحذر العبد خدع النفس فإنها خداعة، والشيطان مترصد، وحب الجاه على القلب غالب، وقلما تسلم الأعمال الظاهرة من الآفات، فلا ينبغي أن يبدل بالسلامة شيئاً، والسلامة في الإخفاء، وفي الإظهار من الأخطار ما لا يقوى عليه أمثالنا، فالأولى بنا وبجميع الضعفاء الحذر.

نقل عن بعض العلماء المروجين للمذهب: أنه رؤي في المنام بعد وفاته فسئل ما صنع بك؟ فقال: حينما وردت البرزخ نوديت يا فلان ماذا صنعت في دنياك؟ فقلت إلهي الفت كتباً كثيرة لترويج الدين. فخوطبت بأنك في ترويجك الدين هل قصدت أن يروج ديننا أو أن تكون أنت المروج؟ فتحيرت في الجواب. فلذلك ورد في الحديث: أخلص العمل فإن الناقد بصير بصير.

وأما القسم الثاني:

وهو أن يتحدث الإنسان بالعمل ويعلنه بعد الإتيان به في الخفاء. وهذا أيضاً كالأول، بل الخطر في هذا أكثر، لأن اللسان خفيف المؤونة في النطق ويتحرك بسهولة في الحكاية، وربما يزيد أو ينقص أو يبالغ، وللنفس لذة في إظهار الدعاوي لحبها الذاتي لها فعلى هذا فمن قوي قلبه وتم إخلاصه، وصغر الناس في عينه واستوى عنده مدحهم وذمهم، وذكر ذلك عن من يرجو الاقتداء به والرغبة في الخير بسببه، فيجوز التحدث بالعمل، بل هو مندوب إليه إذا صفت النية وسلمت عن جميع الآفات، لأنه ترغيب في الخير، والترغيب في الخير خير، وخصوصاً أن الطباع مجبولة على حب التشبه والاقتداء والتأثر من المطالب الملقاة إليها، فللتحدث دور قوي في تأثر النفوس واقتدائها بالمحدث، بل ربما يكون إظهار المرائي للعبادة إذا لم يعلم الناس أنه رياء فيه خير كثير للناس، ولكنه شر للمرائي؛ فكم من مخلص كان سبب إخلاصه الاقتداء بمن هو مراء عند الله! ولعل في الحديث المروي: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم" تكون إشارة إلى ذلك. فالتحدث بالعمل إذا خلص من الرياء حسن. وإن كانت هناك نكتة أيضاً شاهدناها من الأعاظم ونذكرها هنا:

وهي أن الرجال الإلهيين والمتخلصين من هوى النفس كانوا يتناهون في نقل المنامات والمكاشفات عن نسبتها إلى أنفسهم، وكانوا يقولون إني أعرف شخصاً يعمل كذا أو حصلت له مكاشفة كذائية مثلاً، وذلك لأن المقصود يحصل بذكر أصل العمل أو المكاشفة، ولا يحتاج إلى معرفة عامله أو صاحبها، إلا أن يكون لمعرفته أيضاً دور في التأثير والاقتداء، فعندئذ كانوا يعّرفون أنفسهم.

* * *

نصحية للإمام الخميني ـ روحي فداه ـ لمن أراد أن يذّكّر

فصل:

فيا عزيزي دقق النظر في أمورك وحاسب نفسك في كل عمل من أعمالها، واستنطقها في كل حادثة، كي تعمل أنها لأيّة غاية تقبل على الخيرات والأمور الشريفة؟ ولماذا تحب أن تسأل عن مسائل صلاة الليل وتقرأ أذكارها للغير؟ هل قصدها أن نتعلم المسائل منها أو تُعلّمُها لله تعالى، أو أنها تريد أن تعرف نفسها من المتهجدين؟ لماذا تريد أن يعرف الناس سفرها لزيارة المشاهد المشرفة، وحتى عدد سفراتها؟ لماذا لا ترضى أن لا يطلع الناس على صدقاتها التي أعطتها في الخفاء، فتتوسل بوسائل حتى يجري الحديث في الصدقة فتعلن صدقتها للناس، فإن كان كل ذلك لله تعالى وتريد أن يقتدي بك الناس وتكون مشمولاً لقوله (ع): "الدال على الخير كفاعله" فإظهارك حينئذ حسن، فاشكر الله سبحانه بضميرك الصافي وقلبك الطاهر، ولكن كن على حذر أن لا تغرك النفس والشيطان في مناظرتك معهما، ولا يفرضا عليك العمل الريائي بصورة مقدسة، فإن لم يكن الإظهار خالصاً لله فاترك الإظهار فإنه سُمعة، وهي من شجرة الرياء الخبيثة، ولا يقبل الله المنان هذا العمل ويأمر أن يجعل في سجين، فنعوذ بالله من مكائد النفس، فإنها دقيقة جداً، وكلنا نعلم إجمالاً أن أعمالنا ليست خالصة لله تعالى، فإنا لو كنا عباداً مخلصين فما لنا يتصرف الشيطان في أعمالنا هذه التصرفات؟ مع أنه عاهد الله سبحانه أن لا يتعرض لعباد الله المخلصين، ولا يمد يده إلى ساحتهم المقدسة، فإنه كما يقول شيخنا الأعظم دام ظله "بأن الشيطان هو الكلب الواقف على باب الله، والكلب لا يلهث على أصدقاء صاحب البيت ولا يؤذيهم، إن الكلب الحارس على الباب لا يتعرض على المأنوسين لرب البيت وإنما يمنع دخول البيت من لا يعرف صاحب البيت".[4]

فإذا رأيت الشيطان مشتغلاً بك فاعلم أن أعمالك ليست خالصة لله وليست لوجه الله. إن كنت مخلصاً لله فلماذا لم تجر ينابيع الحكمة من قلبك إلى لسانك، مع أنك منذ أربعين سنة تأتي بالأعمال وتحسبها قربة إلى الله؟ مع أن الحديث: من أخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه إلى لسانه؛ فاعلم أن أعمالنا ليست خالصة لله ولسنا متنبهين لذلك أيضاً، وهذا هو الداء العضال. فالويل لأهل الطاعة والعبادة، والجمعة والجماعة، والعلم والديانة، إذا فتحوا بصائرهم وقد أقامت سلطنة الآخرة سرادقها فيرون أنفسهم أسوأ حالاً من أهل المعاصي الكبيرة، بل من أهل الكفر والشرك؛ ويرون صحيفة أعمالهم أشد سواداً من صحيفة أعمالهم! الويل لمن يدخل جهنم بصلاته وطاعته. آه ممن تكون لصدقته وزكاته وصلاته صورة لا يتصور أقبح منها، فيا مسكين إنما أنت مشرك، وأما أهل المعصية هم الموحدون العاصون، والله تعالى يغفر للعاصين بفضله إن شاء الله، ولكنه قال: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} إن مات بلا توبة، وفي الأحاديث الشريفة كما سمعت يقول المعصومون عليهم السلام: إن المرائي مشرك، فمن يرائي في رئاسته الدينية وفي إمامته، وتدريسه وتحصيله العلم، وفي صومه وصلاته، وبالجملة في أعماله الصالحة لحصول المنزلة في قلوب الناس فهو مشرك على لسان أخبار أهل العصمة صلوات الله عليهم، ولا يشمله الغفران حسب الآية الشريفة، فيا ليتك كنت من أهل المعاصي الكبيرة، ومتجاهراً بالفسق ومهتكاً للحرمات الطاهرة، ولكن كنت موحداً غير مشرك بالله.

فيا عزيزي الآن تفكر في أمرك وخذ لنفسك علاجاً، واعلم أن الشهرة عند الناس الذين لا يسوون بشيء ولا تسوى بشيء، وتلك القلوب التي لو أكلتها عصفورة لم تشبع ليس لها قدر ولا تقابل بشيء، وليست لهذا المخلوق الضعيف أية قدرة، إن القدرة لا توجد إلا في الحضرة القدسية الربوبية فقط، وإن ذاك الجناب المقدس هو الفاعل على الإطلاق ومسبب الأسباب، وإن المخلوقين لو أرادوا أن يخلقوا ذباباً لن يقدروا على ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لن يستنقذوه منه. إن القدرة هي لله تعالى وهو المؤثر في جميع الموجودات، فاجتهد بكل تعب ورياضة أن تكتب بقلم العقل على صحيفة القلب أن لا مؤثر في الوجود إلا الله، ولا فاعل في دار التحقق سوى الله، ومكّن في قلبك بكل وسيلة التوحيد الفعلي الذي هو أول درجة التوحيد واجعل قلبك مؤمناً مسلماً لهذه الكلمة المباركة، واطبع على قلبك طابع لا إله إلا الله، واجعله صورة لكلمة التوحيد، وأوصله إلى مقام الاطمئنان، ونبهّه أن الناس لا يضرون ولا ينفعون وإنما النافع والضار هو الله سبحانه، وأزل عن بصيرتك هذا العمى، فإنه يخاف أن تكون ممن يقول رب لم حشرتني أعمى، وأن تحشر أعمى يوم تبلى السرائر، إن إرادة الله قاهرة على جميع الإرادات، فإن اطمأن قلبك إلى هذه الكلمة المباركة، وسلمته إلى هذه العقيدة؛ فيرجى أن تكون لك العاقبة، وتنقلع جذور الشرك والرياء والكفر والنفاق عن قلبك.

واعلم أن هذه العقيدة مطابقة للعقل والشرع، وليس فيها توهم للجبر، وإن كان من الممكن أن يرميها إلى الجبر من ليس له علم بمبادئها ومقدماتها، ولا تكون أسماعهم مأنوسة لبعض المطالب ولكنها لا ترتبط بالجبر أصلاً، فإن هذه هي التوحيد، والجبر شرك، وهذه هي الهداية، والجبر ضلالة، وليس المقام مناسباً لبيان الجبر والقدر، ولكن المطلب واضح عند أهله، وليس لغيره الورود في هذه المطالب، بل نهى صاحب الشريعة عن الدخول في هذه المطالب، وعلى أيّ حال، فاسأل الله الرحيم في كل الأحوال، وخصوصاً في الخلوات، بالتضرع والاستكانة والعجز والمذلة، أن يهديك نور التوحيد، وينور قلبك بالبارقة الغيبية والتوحيد في العبادة، كي تتحرر عن جميع العالم، وترى كل شيء تافهاً، واسأل بالتضرع إلى تلك الذات المقدسة أن يجعل أعمالك خالصة ويهديك طريق الخلوص والمحبة، وإذا حصلت حالة طيبة، فاذكر بدعائك هذا العبد الضعيف البطال الخالي عن الحقيقة، الذي صرف عمره في الهوى والهوس، وصار قلبه من كدورة المعاصي والأمراض القلبية، بحيث لا يقبل نصيحة ولا تؤثر فيه أيّة آية ورواية، وأي دليل وبرهان وعلامة، فلعله يهتدي إلى طريق ينجيه بدعائك، فإن الله لا يرد المؤمن عن بابه ويستجيب دعاءه.

وبعدما ذكرناك هذه المطالب، وكنت تعلمها أيضاً فليست مطالب جديدة، فواظب قلبك مدة، ودقق أعمالك وفعالك وحركاتك وسكناتك، وفتش خفايا قلبك، وحاسبه حساباً شديداً كمحاسبة أحد من أهل الدنيا شريكه، فاترك كل عمل تكون فيه شبهة الرياء والتملّق، مهما كان العمل شريفاً جداً، حتى أنك إذا رأيت الواجبات لا تتأتى منك خالصة في العلن فأتِ بها في الخفاء، مع أنه يستحب أن يؤتى بها علانية، وإن كان قل ما يتفق أن يكون الرياء في أصل الواجب، بل يكون غالباً في خصوصياته ومستحباته وزوائده، وعلى أي حال طهر قلبك عن لوث الشرك بالجد الكامل والمجاهدة الشديدة، حتى لا تنتقل بهذه الحالة ـ لا سمح الله ـ عن هذا العالم، فتكون حالتك سيئة ولا ترجى لك النجاة بوجه من الوجوه، ويكون الله سبحانه، غضبان عليك، كما في الحديث الشريف في الوسائل عن قرب الإسناد بإسناده إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من تزين للناس بما يحب الله، وبارز لله في السر بما يكره الله، لقي الله وهو غضبان له ماقت".

وفي الحديث احتمالان: أحدهما أن يزين للناس أعماله الصالحة ويسر الأعمال القبيحة.

وثانيهما: أن يظهر للناس ويريهم صورة عمله ويرائي في الباطن، وعلى كل حال يشمل الحديث الرياء؛ لأن الإتيان بالواجبات والراجحات من دون أن يقصد فيها الرياء لا يوجب غضب الرب، بل يمكن أن يقال إن الاحتمال الثاني أرجح، لأن إتيان الأعمال القبيحة علانية أشد قبحاً منها في السر، وعلى أي حال لا سمح الله أن يكون مالك الملوك وأرحم الراحمين غضبان على الإنسان، أعوذ بالله من غضب الحليم. انتهى كلامه الشريف دام ظله.

تنبيه

كما ذكرنا مراراً أن مكائد النفس كثيرة والشيطان بالمرصاد للإنسان ليأخذ منه رأس ماله للآخرة وله حيل شتى لا تحصى، إلا أن الإنسان كلما كان أكثر اطلاعاً عليها فقد يفيده ذلك في الخلاص عنها فنزيد على ما مضى:

إنه قد يتفق أن الإنسان يبيت مع أصدقائه العابدين، فيقومون للتهجد فيصلون الليل كله أو بعضه، ولعله أيضاً في حالته المعتادة من المتهجدين، ولكنه كان يقوم قريباً من الفجر، فإذا رآهم انبعث نشاطه للموافقة حتى يزيد على ما كان يعتاده، أو يصلي مع أنه كان لا يعتاد الصلاة بالليل أصلاً، وكذلك قد يكون في مجتمع يصوم أهله فينبعث له نشاط في الصوم، ولولاهم لما انبعث هذا النشاط، ففي موارد من هذا القبيل يطرح سؤال: هل هذا من الرياء ولا بد له أن يترك؟

والجواب إنه ليس كذلك على الإطلاق، بل له تفصيل تفترق فيه الموارد بعضها عن بعض، وذلك أن المؤمن بما أنه مؤمن يرغب في عبادة الله وقيام الليل وصيام النهار، ولكن قد تعوقه العوائق ويمنعه الاشتغال، ويغلبه التمكن من الشهوات واللذائذ النفسية، فتأخذه الغفلة، وإذا صاحب أهل العبادة ربما تزول عنه الغفلة أو تندفع العوائق والأشغال فينبعث نشاطه للعبادة، فمثلاً يكون في منزله أكثر تمكناً من النوم والفراش اللين أو التمتع بزوجته أو المحادثة مع أولاده وأقربائه، أو الاشتغال بمحاسبة معاملاته اليومية، فتشغله في الساعات الأولى من الليل ولا يكون له نشاط للقيام في آخره، فإذا وقع في منزل غريب اندفعت عنه هذه الشواغل مضافاً إلى أنه قد تحصل له البواعث على الخير، كمشاهدته أصدقاءه وقد أقبلوا على الله وأعرضوا عن الدنيا، وهم يناجون حبيبهم ويتلذذون بمناجاته، فتتحرك داعية أن لا يتأخر عنهم في ميدان العبادة، فينافسهم فيما هم فيه، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ولا ريب أن هذا ليس من الرياء بشيء، أو ربما يفارقه النوم لاستنكاره المنزل أو لسبب آخر فيغتنم زوال النوم، وأما في منزله فيغلبه النوم، وربما يضاف إلى ذلك أنه في منزله على الدوام، ونفسه لا تسمح بالتهجد دائماً، ولكن تسمح به وقتاً قليلاً، فيكون ذلك سبب هذا النشاط، وكذلك الصوم، قد يشقّ عليه في منزله ومعه أطايب الأطعمة، ويشقّ عليه الصبر عنها، فإذا أعوزته تلك الأطعمة فتنبعث داعية الدين للصوم، فإن الشهوات الحاضرة عوائق ودوافع تغلب داعية الدين، فإذا سلمت منها قويت الداعية، فالشيطان في مثل هذه الموارد يوسوس له بوسوسة الرياء ويقول: لا تعمل فإنك تكون مرائياً إذ كنت لا تعمل في بيتك، ولا تزد على صلاتك، فلابد له أن لا يعتني بوسوسته ويقوم بالعمل ليستيئس الشيطان والنفس، ولا يعودان بأمثال هذه الوسوسة، وقد تكون رغبته ونشاطه لأجل رؤيتهم وخوفاً من ذمِّهم ونسبتهم إياه إلى الكسل، لاسيما إذا كانوا يظنون أنه من المتهجدين والمتعبدين، فإن نفسه لا تسمح بأن يسقط من أعينهم وتريد أن تحفظ منزلتها، وعند ذلك قد يقول الشيطان له على خلاف المورد الأول: صلِّ فإنك مخلص ولست تصلي لأجلهم بل لله، وذلك لأنك كنت تصلي كل ليلة، وإن كنت لا تصلي ليلة أو ليالي فلكثرة العوائق وإنما داعيتك الليلة هي زوال العوائق لا إطلاعهم، والتشخيص في الموردين أمر مشكل لغير ذوي البصائر، فإذا عرف أن المحرك هو جلب قلوب الناس، فإما أن يترك العبادة أو لا يزيد على ما كان يعتاده ولا ركعة واحدة، وإن عرف أن انبعاثه لارتفاع العوائق والمنافسة في رضى الله وطاعته فليغتنم الفرصة ويشتغل بعبادة ربه، وإذا اشتبه عليه الأمر ولم يقدر على تشخيص الأمر فليعرض على نفسه أنه لو رأى هؤلاء يصلون من حيث لا يرونه هل كانت نفسه تسخو بالصلاة وهم لا يرونه؟ فإن كانت نفسه ساخية فليصل فإن باعثه الحق، وإن رأى أنه يثقل على نفسه لو غاب عن أعينهم فليترك فإن باعثه الرياء.

وكذلك قد يحضر مجلس الدعاء فينظر إليهم فيأخذه البكاء خوفاً من الله، ولو سمع ذلك الدعاء وحده لما بكى، ولكن بكاء الناس يؤثر في ترقيق القلب وليس هذا من الرياء، بل قد لا يحضره البكاء فيتباكى، فهذا التباكي أيضاً، قد يكون من غير رياء، بل يخشى على قلبه قساوة القلب حين رأى الناس يبكون ولا تدمع عيناه، فيتباكى تكلفاً، وذلك محمود وعلامة الصدق في ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو سمع بكاءهم من حيث لا يرونه هل كان يخاف على قلبه من القساوة فيتباكى أم لا؟ فإن لم يجد ذلك عند تقدير الاختفاء عن أعينهم فليس خوفه من غلبة القساوة على قلبه، بل إنما خوفه من أن يقال إنه قاسي القلب، فينبغي أن يترك التباكي، وقد يكون أصل البكاء عن الحزن، ولكن تجيئه خاطرة الرياء في أثناء البكاء فيرفع صوته ويمدّه بالبكاء فتلك الزيادة رياء، فكان بكاؤه لله حدوثاً وللشيطان بقاءً، وربما يدعوه الرياء إلى حفظ الدمعة على الوجه حتى ترى، بعد ن كان استرسالها من خشية الله، ولكن يحفظ أثرها على الوجه من أجل الرياء، وبالجملة إن للنفس والشيطان مكائد لا تحصى، وكما ورد في الحديث: إن للرياء سبعين باباً، مع العلم أن التعيين بالسبعين للمبالغة، ولعله ينفتح من كل باب أبواب، وفي الحديث: تعوذوا بالله من خشوع النفاق، ومعنى خشوع النفاق أن تخشع الجوارح والقلب غير خاشع، وإن كان لا يحتمل له معنى آخر. وفي دعاء سيد الساجدين عليه السلام: اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لامعة العيون علانيتي وتقبح لك فيما أخلو سريرتي، محافظاً على رثاء الناس من نفسي ومضيعاً لما أنت مطلع عليه مني، أبدي للناس أحسن أمري، وأفضي إليك بأسوأ عملي، تقرباً إلى الناس بحسناتي، وفراراً منك بسيئاتي، فيحل بي مقتك ويجب عليَّ غضبك، أعِذني من ذلك يا رب العالمين.  


[1]  سفينة البحار والمجلد الخامس عشر من بحار الأنوار.

[2]  المصدر نفسه.

[3]  المصدر نفسه.

[4]  أقول: إن الأستاذ: روحي فداه ـ نقل هذا القول عن شيخه الجليل شاه آبادي (ره)، ولكني رأيته في كتاب مرصاد العباد للشيخ نجم الدين، والفضل لمن سبق.

 

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست