.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

نكتة قرآنية

موعظة بليغة للأستاذ الإلهي الإمام الخميني دام ظله

بيان علاج القلب من داء الرياء علمياً وعملياً

 

نكتة قرآنية:

إن القرآن يذكر في قصة يوسف واخوته أنهم بعدما جاءوا إلى مصر وطلبوا من يوسف الكيل والمتاع, يقول القرآن:{فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون}.

يقول أحد العرفاء: إنه ليس من الصحيح أن نفكر أن يوسف إنما اتهم أخاه بالسرقة ليأخذه ويبقيه عنده, لأنه إذا كان غرض يوسف إبقاء أخيه عنده فلا يستلزم ذلك أن يتهمه بهذه الصورة البشعة ويذهب بماء وجهه ويسقطه عند العامة بأنه رجل سارق, رغم أنه ابن نبي الله, بل كان يمكنه أن يأخذه بعذر آخر ولا يمس كرامته, وإن كان لا بد فكان من الممكن أن يقوم بهذا العمل في الخفاء, في لقاء شخصي لا في مشهد من الناس بالأذان والإعلام, فيؤذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون؛ فما الموجب لهذا الإعلان في العير التي فيها الكنعانيون, وهم سيرجعون إلى كنعان, وستكون سرقة ابن نبي الله محور البحث في جميع المجالس والمحافل, ويتحدث عنها الرجال والنساء, وتذهب كرامة بيت لا يعرف الناس فيه إلا الشرف والروحانية, فلا بد من أن يكون سر في هذا الأمر.

يقول هذا العارف: السر في ذلك أن الوصول إلى العزة الحقيقة الإلهية غير ميسر إلا بالذلة عند الناس, وإنما قيدنا العزة بالحقيقة, لأن المناصب والمقامات عند الناس ليست عزة حقيقية, بل العزة الحقيقية في الوصول إلى جناب القرب من الله, وبعبارة أخرى هي جوار الله وصحبة رب العالمين في مقعد صدق عند مليك مقتدر, وصحبة عباد الله هي صحبة الله, من أحبكم فقد أحب الله, ومن أبغضكم فقد أبغض الله, ومن أراد الله بدأ بكم, ومن زار أخاه في الله قال الله عز وجل: إياي زرت... وهذه العزة لا تتيسر إلا بشروط أعظمها الذلة عند الناس. وإن شئت قلت: أعظم الموانع من السير إلى الله والوصول بفناء الله حب الجاه والرفعة عند الناس, فما دام القلب متعلقاً به لا يستطيع صاحبه أن يصل إلى المقصود, كما في الرواية: "ما ذئبان ضاريان بغنم, اشتد أحدهما من أوله والآخر من آخره, بأضر في دين الرجل من حب الشرف والجاه" . ولذلك كانت الرئاسة الدنيوية مرفوضة في نظر الأولياء, وكانوا يبغضونها, كما قال مولى المتقين: "أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر... ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز". فلا بد للسالك أن ينزع هذا الحب من قلبه, ولو بإسقاط نفسه من أعين الناس, إذا كان لا يأمن آفات نفسه وشرورها, كما أن قطع عضو من أعضاء البدن يجوز بل يجب عند الخوف على صحة بقية الأعضاء, ولذلك نقل الفاضل النراقي في معراج السعادة أن بعض العلماء كان يقرأ القرآن عند مريديه ومخلصيه عمداً بكيفية يزعمون أنه لا علم له وأنه رجل عامي؛ وارتكاب الضرر القليل لخير كثير جائز عقلاً وشرعاً, ولهذا المعنى شواهد كثيرة في حالات السالكين إلى الله وإشارات في أشعارهم.

يقول أحد العرفاء: إني رأيت في المنام شخصاً لم أعرفه, وأعطاني ورقة وأمرني بتوقيعها, وأنا وقعتها من دون أن أعلم ما كتب فيها أو اطلع على مضمونها, فلما وقعتها قال الذي أعطاني الورقة: إن حديثنا صعب مستصعب, لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه بالإيمان, فقرأ هذا الحديث وقال بلا فصل اختار الذل.

فانتبهت من نومي وعلمت أني قد وقعت وثيقة ذلي بين الناس, كي أنال بتحمل تلك الذلة تحمل الأحاديث الصعبة وأسرار أهل البيت عليهم السلام, ولهذا المطلب ذيل طويل فنتركه لمجاله وأهله.

وبالجملة فإن شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تحصى, ومهما أدرك الإنسان من نفسه تفرقة بين أن يطلع على عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء, فإنه لما كان قاطعاً طمعه عن البهائم والأطفال الرضع, فلذلك لك يبال حضروا أم غابوا, اطلعوا على عبادته أم لم يطلعوا, فإذا كان مخلصاً قاطعاً طمعه عن الناس بالكلية لاستحقرهم في علمهم بعبادته, لأنه يعلم بأنهم أيضاً كالصبيان لا يقدرون له على رزق ولا أجل ولا زيادة ثواب, بل لا يقدرون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

وهنا لتوضيح المقصد لا بد من طرح سؤال لأن المسألة مهمة جداً: وهو أنا نرى الأكثر من الناس إن لم يكن كلهم إذا عرفت أعمالهم الحسنة وطاعتهم يفرحون بذلك؛ فهل هذا الفرح والسرور ممدوح في نظر الشرع أم مذموم؟

والجواب أنه ليس ممدوحاً على الإطلاق وليس مذموماً كذلك بل هو ممدوح في موارد ومذموم في أخرى وإليك تفصيله:

أما المحمود منه ففي أربعة موارد

الأول: أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله, ولكن لما اطلع عليه الناس فليتذكر أن الله سبحانه بمقتضى اسمه "يا من أظهر الجميل" قد أظهر جميل فيستدل بذلك على حسن صنع الله به وكمال لطفه له, فإنه يستر الطاعة والمعصية, ولكن الله بجميل عنايته يستر عليه المعصية ويظهر له الطاعة, وهذا لطف عظيم من الله سبحانه في حقه, فيكون فرحه بجميل نظر الله له لا بحمد الناس والمنزلة في قلوبهم, فكأنه يرى بذلك أن الله بفضله ورحمته قد قبل عمله فيفرح لذلك.

{قل فبفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا}. (يونس: 58).

الثاني:

أن يكون فرحه من جهة أن الله سبحانه إذا أظهر جميله وستر قبيحه في الدنيا فسوف يفعل ذلك في الآخرة أيضاً, فإن الله هو رب الآخرة والأولى, بل رحمته في الآخرة أوسع منها في الدنيا كما أشير إلى ذلك في الأحاديث, فكأنه يقول بلسان حاله ما قاله الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه: "اللهم وإذ سترت علي ذنوباً في الدنيا فأنا أحوج إلى سترها منك في الآخرة ". وبالجملة يكون فرحه في الأول بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل, وفي الثاني التفات إلى المستقبل كما ورد في الحديث: "ما ستر الله على عبد ذنباً في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة ".

الثالث:

أن يكون فرحاً من جهة أنه يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة, فيكون له زيادة أجر وثواب؛ كما أنه لو كان آتياً بالعمل علانية بهذا القصد لم يكن مخالفاً للخلوص, فله أجر السر بما قصده أولاً, وأجر العلانية بما أظهر الله تعالى له واقتدى غيره به في الطاعة ثانياً, والفرح بمثل ذلك جدير, فإن ظهور مخايل الربح لذيذ وموجب للسرور لا محالة.

الرابع:

أنه حينما يرى أن المطلعين يحمدونه على الطاعة, فيكون فرحاً ومسروراً بأنهم مطيعون لله ويحبون الطاعة, وتميل قلوبهم إلى الأعمال الحسنة, إذ من الناس من يرى أهل الطاعة فيمقته أو يحسده أو يذمه أو يهزأ به أو ينسبه إلى الرياء ولا يحمده عليه, فهذا فرح بحسن إيمان عباد الله وطيب نفوسهم, وعلامة الإخلاص في هذا النوع أن يكون فرحه بحمدهم غيره مثل فرحه بحمدهم إياه, بل أكثر كما لا يخفى.

وأما المذموم فهو أن يكون فرحه لحصول المنزلة له في قلوب الناس حتى يمدحوه ويعظموه, فهذا مكروه ومذموم والله العالم.

موعظة بليغة للأستاذ الإلهي الإمام الخميني دام ظله:

كثيراً ما يتفق أن المرائي لا يلتفت هو أيضاً إلى أن الرياء قد نفذ في أعماله, وأن أعماله رياء ولا تساوي شيئاً, وذلك لأن مكائد النفس والشيطان دقيقة ورقيقة, وصراط الإنسانية دقيق ومظلم, بحيث ما لم يتفحص الإنسان الفحص الكامل لم يلتفت ماذا يفعل.

إن الإنسان يظن أن أعماله خالصة لله ولكنها للشيطان, إن الإنسان بما أنه مفطور على حب النفس فيحجب حب النفس عليه معايبه, فمثلاً تحصيل علم الدين الذي هو من الطاعات والعبادات المهمة, ربما يبتلى الإنسان بالرياء في هذه العبادة العظيمة وهو لا يلتفت, فإنه ـ لما ذكرنا من وجود الحجاب الغليظ: حجاب حب النفس ـ يحب أن يحل مشكلة علمية في محضر العلماء والرؤساء على نحو لا يكون ذلك الحل لأحد غيره, ويكون هو متفرداً في فهمه, فكلما يبين المسألة بياناً شافياً ويجلب أنظار أهل المجلس يكون اشد ابتهاجاً, وإذا عارضه أحد فيحب أن يغلبه ويخجله وينكس رأسه عند الناس, ويفرض على الخصم كلامه حقاً كان أو باطلاً, وبعد أن يغلب الخصم يشعر في نفسه تدللاً وتفضيلاً. وإن اتفق أن أحد من الرؤساء يصدقه في كلامه فهو نور على نور, والمسكين غافل عن أن المكانة وإن حصلت له عند العلماء والفضلاء, ولكنه سقط عن عين ربه ومالك الملوك في جميع العوالم, وقد جعل هذا العمل بأمر من الحق تعالى في سجين.

وهذا العمل الريائي كان مختلطاً بمعاص شتى أيضاً: كفضيحة المؤمن وإذلاله, وإيذاء الأخ الإيماني وإهانته وهتكه أحياناً, وكل ذلك من الموبقات, وسبب مستقل لأن يصير الإنسان جهنمياً. وإذا فرضنا أن النفس تضع فخها أمامك وتقول لك: إن غرضي هو تبيين الحكم الشرعي وإظهار كلمة الحث الذي هو من أفضل الطاعات, وليس غرضي إظهار الفضيلة والتفاخر, فاستفسرها في باطنها أنه لو بين هذا الحكم الشرعي صديقي الذي هو مثلي في درجته العلمية ويكون حل هذه المعضلة على يده, وكنت مغلوبة في ذاك المجلس, أفلا يتفاوت لك الحال؟ فإن كان كذلك فأنت صادقة في دعواك وإن أتتك النفس عن طريق المكر ولم تترك الخديعة وقالت: إن لإظهار الحق فضيلة وله ثواب عند الله, وأنا أريد أن أفوز بتلك الفضيلة وأعمر دار ثواب الله فقل لها: لو فرضنا أن الله سبحانه أعطاك تلك الفضيلة في حالة المغلوبية وتصديقك الحق, فهل تطلبين أيضاً الغلبة على خصمك؟ فعند الرجوع إلى باطنك إن وجدت أنك تحب الغلبة أيضاً والشهرة عند الفضلاء بالعلم والفضيلة, وهذا البحث العلمي كان من أجل حصول المنزلة في قلوبهم, فاعلم أنك مراء في هذا البحث العلمي الذي هو من أفضل الطاعات والعبادات, وهذا العمل كان لأجل حب الجاه والشرف الذي هو أضر على إيمانك من ذئبين في غنم غاب عنها راعيها كما في الرواية. فيلزم لك حيث أنك من أهل العلم وتتكفل الإصلاح وأنك هادي سبيل الآخرة وطبيب الأمراض النفسية أن تصلح أولاً نفسك وتسلم مزاج نفسك, حتى لا تكون من العلماء بلا عمل, وحالهم معلوم.

اللهم طهر قلوبنا عن كدر الشرك والنفاق, وصف مرآة قلوبنا عن زين حب الدنيا الذي هو منشأ هذه الأمور كلها, وكن مرافقاً لنا, وساعدنا نحن المساكين المبتلين بهوى النفس وحب الجاه والشرف في هذا السفر الخطير, وهذا الطريق ذي العقبات والضيق المظلم, إنك على كل شيء قدير.

ومن العبادات المهمة في الإسلام صلاة الجماعة, وفضل الإمامة فيها أكثر؛ فلذا ينفذ الشيطان فيها بأكثر من غيرها. وعدوانه للإمام أكثر فهو بصدد أن يمنعه عن هذه الفضيلة ويفرغ عمله من الإخلاص, فيورده السجين ويجعله مشركاً بالله جل جلاله, فيدخل في قلب أئمة الجماعات من الطرق المختلفة مثل العجب ومثل الرياء, وهو إراءة الناس هذه العبادة لتحصيل المنزلة في القلوب, والاشتهار بالعظمة والعلو, فمثلاً يرى أن فلاناً المتعبد قد حضر في صلاته, فيزيد في خضوعه ويجلبه إلى نفسه بالطرق المختلفة والحيل الكثيرة ليوقعه في فخه, فيذكره في مجالسه أو بنحو آخر ليعلم الناس أن فلاناً المتعبد يحضر في جماعتي, ويجد في قلبه محبة لهذا الشخص الذي حضر في صلاته, ويظهر له الحب والإخلاص بدرجة لم يظهرها لله تعالى وأوليائه لحظة في عمره, خصوصاً إذا كان الحاضر في الصلاة من التجار المحترمين, وإذا حضر في صلاته لا سمح الله أحد من الأشراف نتيجة ضلالة الطريق, ولحق بصف جماعته فتكون المصيبة أعظم. والشيطان في نفس الوقت لا يترك الإمام الذي جماعته اقل عدداً, فيحضر ويلقي إليه أن تفهم الناس: بأنني تركت الدنيا وأصلي في الجامع الصغير للمحلة مع الفقراء والضعفاء, فهذا الإمام أيضاً كسابقه, بل أسوأ حالاً منه, لأنه ينمي في قلبه رذيلة الحسد أيضاً, ويثمر شجرته, فحينما لم يكن له نصيب من الدنيا فيأخذ الشيطان منه حظه الأخروي أيضاً, ويجعله خاسراً في الدنيا والآخرة.

وهذا الشيطان لا يتركني ولا يترككم بينما لم تحصل لنا إمامة الجماعة, لا إعراضاً عنها بل لقصور أيدينا عنها, فيحركنا أن نخدش جماعة المسلمين ونطعنهم ونقترح عيوباً للجماعة, ونحاسب حرماننا عن الجماعة انعزالاً عنها وإعراضاً عن الدنيا, ونعرف أنفسنا منزهة عن حب النفس والجاه, فنحن أسوأ حالاً من الطائفتين السابقتين, فليست لنا الدنيا التامة للطائفة الأولى ولا الدنيا الناقصة للطائفة الثانية ولا الآخرة, علماً بأننا لو تمكنا لكان طلبنا الجاه وحبنا الشرف والمال أكثر من تلكما الطائفتين.

إن الشيطان لا يكتفي بإمام الجماعة ولا تخمد نار شهوته بصيرورة الإمام جهنمياً فيدخل في صفوف المأمومين.

فحيث أن الصف الأول أفضل, وميامن الصفوف أفضل من مياسرها, فتكون هدفه الأول, فإن الشيطان يأخذ بيد المتعبد المسكين ويخرجه من بيته مع بعده عن محل الجماعة, فيقعده في الطرف الأيمن من الصف الأول, ويشرع في وسوسته بأن يعلم الناس هذه الفضيلة التي نالها, وذاك المسكين أيضاً من دون أن يتوجه لإغوائه يظهر فضل نفسه بغمزة ودلال, ويبرز الشرك الباطني ويدخل عمله في السجين.

ثم يدخل الشيطان سائر الصفوف, فيحرك أهلها أن يلزموا الصف الأول ويرموا المتعبد المسكين الجالس في الصف الأول بسهام الطعن والشتم وينزهوا أنفسهم من أطواره. وربما يشاهد أن الشيطان آخذ بيد شخص محترم, وخصوصاً إذا كان من أهل العلم والفضل, فأجلسه في الصف الآخر, ليظهر للناس بأني مع مالي من المكانة في الناس أو في العلم, ولا ينبغي لمثلي أن يقتدي بمثل هذا الإمام, ولكن لإعراضي عن الدنيا وتركي الهوى النفساني حضرت جماعته, ومع ذلك جلست في الصف الأخير أيضاً. فأمثال هذا الشخص لا يشاهد في الصف الأول أبداً, إن الشيطان لا يكتفي بالإمام والمأموم فحسب, بل يلتصق بلحية بعض المنفردين فيأخذ بلجامه ويجره من البيت أو السوق فيبسط سجادة بغمزة ودلال في زاوية من زوايا الجامع, ولا يرى العدالة لأي إمام, ويطول ركوعه وسجوده أمام الناس, ويصلي بأذكار طويلة, فهذا الشخص مضمر في باطنه بأن يفهم الناس: بأنني من كثرة قدسي واحتياطي أترك الجماعة كي لا أبتلي بالصلاة مع إمام غير عادل. هذا الشخص مضافاً إلى أنه معجب ومراءٍ فهو جاهل بالمسائل الشرعية أيضاً, لأن مرجع تقليد هذا الشخص لعله لا يعتبر في صحة الاقتداء أكثر من حسن المظاهر, ولكن عدم إقتدائه ليس من هذا الباب, بل لإراءة الناس وتحصيل المنزلة في قلوبهم, وهكذا بقية أمورنا تحت تصرف الشيطان. وذاك الملعون أينما وجد قلباً كدراً يأوي إليه ويحرق الأعمال الظاهرة والباطنة, ويجعله جهنمياً من طريق الأعمال الحسنة. انتهت الموعظة البليغة للإمام الخميني.

بيان علاج القلب من داء الرياء علمياً وعملياً

إن لبعض علماء الآخرة كلاماً في المقام فأتي به هنا ملخصاً وبتوضيح منا:

قد عرفت أن الرياء محبط للأعمال وسبب للمقت عند الله, وأنه من الكبائر المهلكات, فلا بد أن تشمر عن ساعد الجد, وبالمجاهدة وتحمل المشقة تقلع هذه الشجرة من القلب بجذورها, فإن الوصول إلى مدارج الإنسانية العالية غير ميسر بدون تحمل المشاق, كما إن الخلاص من الأمراض الصعبة لا يمكن إلا بشرب الأدوية المرة؛ وهذه المجاهدة وإن كانت تشق أولاً لكنها في ميدان العمل وبالتدريج ترتفع مشقتها تماماً.

وليعلم أن الرياء أصله من حب الجاه وحب الجاه إذا حلل يرجع إلى ثلاثة أصول:

1ـ حب المحمدة, فإن الإنسان يحب أن يحمد ويثنى عليه ويلتذ في استماع الثناء.

2ـ الفرار من الذم, فإن الإنسان يكره أن يكون مورداً للذم ويتأذى ويتألم من استماع مذمته.

3ـ الطمع فيما في أيدي الناس.

فهذه الثلاثة هي التي تكون سبباً للرياء غالباً:

فربما يشاهد أن إنساناً لا يرغب في الثناء ولا يشتهي الحمد, ولا يمد عينيه إلى ما متع به غيره, ولكنه لا يطيق اللوم والذم, فيأتي بعمل ريائي, كرجل بخيل إذا رأى غيره يشارك في الخير ويبذل المال في سبيله, فهو واقع بين الأسخياء وهم يتصدقون بالمال الكثير, فإنه يتصدق بالقليل كي لا يوصف بالبخل. أو كشاب بين الشباب المتعبدين المشغولين بالصلاة والدعاء, فإنه أيضاً يصلي ويدعو لئلا يذم بالكسل والبطالة, ومن العلماء من لا يشتهي محمدة الناس له ولكن لا يطيق أن يعرف بقلة العلم, فإنه إذا سئل عن مسألة لا يعلمها أسرع إلى الإفتاء بغير علم, ولا يوطن نفسه أن يسأل عنها غيره الذي يعلمها, مخافة أن ينسب إلى الجهل, وبالجملة قد يقدر الإنسان على الصبر عن لذة الحمد ولا يقدر على الصبر على ألم الذم.

فعلى الإنسان المعالج هذه الأصول الثلاثة أن يعلم أن الإنسان إنما يقصد الشيء ويرغب فيه لظنه أنه خير له ونافع ولذيذ, إما في الحال وإما في المآل, فإذا علم أنه لذيذ في الحال, ولكنه ضار في المآل سهل عليه قطع الرغبة عنه, كمن يعلم أن العسل لذيذ ويشتاق أكله ولكن إذا بان له أن فيه سماً أعرض عنه بسهولة, فكذلك في مورد البحث, فإن العبد مهما عرف أن الرياء فيه المضرة وأنه يفوته صلاح قلبه وما فيه من حرمان التوفيق في الحال, وفوت المنزلة في الآخرة والمآل, وما يتعرض له من العقاب والمقت والخزي, حيث ينادي على رؤوس الأشهاد يا فاجر يا غادر يا مراءٍ يا مشرك, أما استحييت إذ اشتريت بطاعة الله عرض الدنيا, وراقبت قلوب الناس ولم ترقب محضر الحق سبحانه, وتحببت إلى العباد بما يبغض الله, وتزينت لهم بالشين عند الله, وتقربت إليهم بالبعد عن الله, وتحمدت إليهم بالتذميم عند الله, وطلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله, أما كان أحد أهون عليك من الله؟! نعوذ بالله من هذا الخزي والفضيحة, {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم}.

فمهما تفكر العبد في هذا الخزي, وقابل ما يحصل له من العباد والتزين لهم وهو المنزلة عندهم عن طريق الرياء, ولعلها لا تحصل له بما يفوته في الآخرة وما يواجهه من الخزي والعار, علم أن الرياء نار قد أحرقت حسناته وجعلها في السجين, فربما كان قد نال بهذه الحسنة التي أفسدها بالرياء علو الرتبة عند الله, ويصاحب النبيين والصديقين, وقد أخرجه الرياء عن زمرتهم ورده إلى صف النعال. هذا ما مع يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة القلوب, فإن رضا الناس غاية لا تدرك, فكل ما يرضى به فريق يسخط به فريق آخر, ثم أي غرض له في مدحهم وإيثار ذم الله لأجل حمدهم, ولا يزيده حمدهم رزقاً ولا أجلاً, ولا ينفعه يوم فقره وفاقته؟ فيا أيها المرائي الذي أوجب الطمع الرياء في عملك اعلم بأن الله سبحانه هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء, وأن الخلق مضطرون فيه ولا رازق إلا الله, ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة, وإن يصل إلى المراد لم يخل عن المنة والمهانة, فكيف تترك ما عند الله برجاء كاذب ووهم فاسد قد يصيب وقد يخطئ, وإذا أصاب فلا تفي لذته بألم منته ومذلته؟!

ويا أيها المرائي مخافة الذم فاعلم بأن ذم الناس لك لا يعجل أجلك ولا يؤخره, ولا يجعلك من أهل النار إن كنت من أهل الجنة, ولا يبغضك إلى الله إن كنت محموداً عنده, ولا يزيدك مقتاً عند الله إن كنت ممقوتاً عنده, فالعباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً, ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً, فلا كمال في مدحهم ولا نقصان في ذمهم, كما قال شاعر بني تميم: إن مدحي زين وإن ذمي شين, فقال له رسول الله (ص): "كذبت ذاك الله, إذ لا زين إلا في مدحه ولا شينَ إلا في ذمه, فأي خير لك في مدح الناس وأنت عند الله مذموم, وأي شر لك من ذم الناس وأنت عند الله محمود؟ ".

وبالجملة فبالتفكر في هذه الأمور يرجى أن ينصرف قلبه إلى الله, ويتخلص من مذلة الرياء ومقاساة قلوب الخلق, وتنعطف من إخلاصه أنوار على قلبه ينشرح بها صدره, وينفتح بها له من لطائف المكاشفات ما يزيد به أنسه بالله, ووحشته من الخلق, واستحقاره للدنيا واستعظامه للآخرة, وسقط محل الخلق عن قلبه وانحل داعية الرياء وتذلل له منهج الإخلاص.

 

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست