.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

المقدمة

الرياء في نظر القرآن

الرياء في الأخبار

معنى الرياء  

 

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي علم السرائر وخبر الضمائر, له الإحاطة بكل شيء والغلبة والقوة على كل شيء, والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير محمد سيد المرسلين, وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وبعد.. فإن القلب الذي به شرف الإنسان على سائر الخليقة, هو في حكم المرآة, يتأثر مما يصل إليه من الآثار المذمومة للأخلاق القبيحة والأعمال السيئة, فإذا كانت الآثار محمودة فتزيد مرآة القلب صفاءً وإشراقاً وضياءً, حتى تتلألأ فيه جلية الحق وتنكشف فيه سريرة الأمر المحجوب عن المخلوقين, وحقيقة الأمر المطلوب في الدين, وإلى مثل هذا القلب أشار مولى الموحدين أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه: "عباد الله إن من أحب عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه, فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه, إلى أن قال: فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس, فهذا القلب هو الذي إذا ذكر الله عز وجل, وإذا تليت عليه آياته زادته إيماناً, وهو الذي يستقر فيه الذكر, قال الله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.

وإذا كانت الآثار مذمومة فهي مثل دخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب, ولا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى إلى أن يسود صحيفة القلب بتمامها. وتظلم بكليتها, مطبوعاً بالرين, محجوباً عن الله تعالى. قال سبحانه:{كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} وقال تعالى:{أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون}. فربط عدم السماع بالطبع على القلوب وطبعها بالذنوب.

وروى الكليني (ره) في الكافي (ج2 ص273 تحت رقم 20) عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: "ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء, فإن أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء, فإن تاب ذهب ذلك السواد, وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض, فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً " وهو قول الله عز وجل: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} وربما يستفاد معنى هذه الرواية من قوله تعالى: {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}. فتأمل تعرف.

وعنه عليه السلام: "إن القلوب ثلاثة: قلب منكوس لا يعي شيئاً من الخير, وهو قلب الكافر. وقلب فيه نكتة سوداء, والخير والشر فيه يعتلجان فأيهما كانت منه غلب عليه, وقلب مفتوح فيه مصابيح يزهر لا يطفأ نوره إلى يوم القيامة, وهو قلب المؤمن. وإنما قال إلى يوم القيامة لأن هذا القلب لا يخرب بخراب البدن فطاعة الله مصقلة للقلب, ومعاصيه مسودات له".

فإذا كانت الأعمال صالحة والعبادات مقبولة فلا بد من أن تؤثر في صفاء القلب ونوره وإشراقه, وصلاح الأعمال وبالخصوص العبادات منها بأن تكون تامة الأجزاء والشرائط, وأن يؤتى بهما خالصة لله تعالى, فإذا كان العمل فاقداً لهذين الشطرين: إما بأن يكون ناقصاً من حيث الأجزاء والشرائط, أو فاقداً للإخلاص, فلا يكون له نور القلب ولا يؤثر في صفاء القلب وتجليته. فما نراه في أنفسنا وقلوبنا من أنه ليس للعبادات فيها أثر, ولم نحس لها نوراً في الباطن, ولا أثراً في الخارج, مع أن أكثر عباداتنا أو كلها واجدة للشطر الأول, وجامعة للأجزاء والشرائط الظاهرية, وبعبارة أخرى: إنها صحيحة ظاهراً ومع ذلك ففقدانها للنور إنما هو لفقدانها الإخلاص لله تعالى. وإلا فلماذا لا تنتهي من الفحشاء والمنكر بعدما كنا نصلي أربعين أو خمسين سنة, مع أن القرآن الكريم ينص بأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر, ولماذا لا تجري ينابيع الحكمة من قلوبنا, مع أن الحديث الشريف يحدد جريانها بأربعين يوماً في قوله (ع): من أخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه إلى لسانه؟ ولماذا يتلاعب بنا الشيطان ويتدخل في جميع أمورنا مع أنه عهد إلى الله تعالى أن لا يغوي المخلصين: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين} .

فليس ذلك إلا من جهة أن أعمالنا ليست مقترنة بالإخلاص. ولست أعني من الإخلاص الذي فقدته أعمالنا مراتبه العالية التي هي من خصائص الأولياء والمقربين وليس لنا منها نصيب, بل المعني به هنا أقل مراتبه, وهو خلوه من الرياء المبطل للأعمال. فلو فتشنا أعمالنا وعباداتنا نجد أن الشيطان قد نفذ في أكثرها وأفسد علينا أعمالنا, كما سنوضحه إن شاء الله تعالى, والعمل المأتي به رياءً فاسد شرعاً ولا يترتب عليه أثر, فمن الواجب علينا تصحيح أعمالنا من هذه الجهة, وتخليصها من الرياء فإنه شرك بالله تعالى في العبادة كما قال عليه السلام: "كل رياء شرك".

وحيث أن للرياء شعباً كثيرة, وللشيطان والنفس في هذا المجال مكائد خفية لا يطلع عليها إلا الناقد البصير, كتبت هذه الوجيزة مستفيداً معانيها من كلمات علماء الآخرة وأساتذة الأخلاق, وبالأخص الأستاذ الأعظم الإمام الخميني دام ظله, سائلاً المولى جل جلاله أن يجعلها خالصة لوجهه ولا يجعل للشيطان فيها نصيباً, لتكون ذريعة للنجاة ووسيلة إلى المغفرة والله هو الموفق والمعين.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله وعباد الله المخلصين.

الرياء في نظر القرآن

{فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون}. (الماعون: 4ـ 7).

{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}. (البينة: 5).

{ألا لله الدين الخالص} (الزمر: 3).

{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} (الكهف: 110).

الرياء في الأخبار

1ـ الكافي بإسناده عن يزيد بن خليفة قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: "كل رياء شرك. إنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس, ومن عمل لله كان ثوابه على الله".

2ـ روى الصدوق في أماليه عن رسول الله (ص) أنه سئل فيم النجاة غداً؟ فقال: "إنما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم, فإنه من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الإيمان, ونفسه يخدع لو يشعر, فقيل له وكيف يخادع الله؟ قال يعمل بما أمر الله به ثم يريد غيره, فاتقوا الله واجتنبوا الرياء فإنه شرك بالله. إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر, حبط عملك وبطل أجرك ولا خلاق لك اليوم, فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له".

3ـ وسائل الشيعة للحر العاملي عن قرب الإسناد بإسناده إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من تزين للناس بما يحب الله وبارز لله في السر بما يكره الله لقي الله وهو عليه غضبان له ماقت".

ويأتي للحديث الشريف بيان فانتظر. والأخبار كثيرة. وفيما ذكرنا كفاية وتذكرة.

معنى الرياء

كلمة "رياء" مشتقة من الرؤية كما أن السمعة ـ وهي نوع من الرياء ـ مشتقة من السماع, ومعنى الرياء في الأصل أن يطلب الإنسان بإراءة أعماله الحسنة الجاه والمنزلة في قلوب الناس؛ وهذا وإن أمكن تحققه في جميع الأعمال الحسنة ولكن الاصطلاح الشرعي في الرياء عبارة عن أن يتحقق هذا القصد في العبادات والأعمال التي يكون قصد القربة إلى الله شرطاً في تحققها شرعاً, فبناء على ذلك فمعنى الرياء هو (إتيان ما يشترط فيه القربة طلباً للمنزلة عند الناس). وللإمام القائد الخميني دام ظله كلام في المقام يستفاد منه أن الرياء عنده ليس مختصاً بالعمل العبادي بل هو أعم منه, فإنه يقول[1]: اعلم أن الرياء عبارة عن إرادة الناس شيئاً من الأعمال الحسنة أو الخصال المحمودة أو العقائد الحقة لتحصيل المنزلة في قلوبهم والشهرة عندهم بالبر والصحة والأمانة والديانة من دون قصد صحيح إلهي, وهو يتحقق في مقامات.

المقام الأول:

وفيه درجتان:

الدرجة الأولى: أن يظهر الإنسان العقائد الحقة والمعارف الإلهية ليشتهر بالديانة, وتكون له المنزلة في القلوب, كأن يقول: إني لا أرى في الوجود مؤثراً سوى الله, أو يقول: إني لا أتوكل على غير الله, أو يعرف نفسه بالعقائد الحقة على نحو الكناية والإشارة. وهذا النحو من الرياء أكثر رواجاً, مثلاً إذاً جرى الحديث عن التوكل أو الرضى بالقضاء الإلهي في مجلس فالمرائي عندئذ يتأوه أو يحرك رأسه علامة كونه منسلكاً في سلك المتوكلين أو الراضين بقضاء الله.

  الدرجة الثانية: أنه يبرئ نفسه ويزكيها عن العقائد الباطلة طلباً للجاه والمنزلة في القلوب, سواء أكان بالصراحة أو بالكناية أو بالإشارة.

المقام الثاني

وله أيضاً مرتبتان:

المرتبة الأولى أن يظهر الخصال الحميدة والملكات الفاضلة, يطلب بذلك الجاه والمنزلة. والثانية: أن يزكي نفسه من مقابلاتها ويتبرأ من الخصال الذميمة والملكات الخبيثة لذلك الغرض.

المقام الثالث:

وهو الرياء المعروف عند الفقهاء رضوان الله عليهم, أيضاً له هاتان الدرجتان, إحداهما الإتيان بالعمل الشرعي والعبادة الشرعية, أو الإتيان بالراجحات العقلية بقصد إراءتها للناس وجلب قلوبهم, أعم من أن يقصد الرياء بذات العمل, أو في كيفيته أو في شرطه أو في جزئه على ما ذكروه في الكتب الفقهية, وثانيتهما أن يترك عملاً لذلك المقصود.

هذا ما ذكره الإمام دام ظله في تقسيم الرياء.

وذكر بعض علماء الآخرة تقسيماً آخر للرياء, بعدما حدد الرياء بأنه إرادة العباد بطاعة الله، فجعله خمسة أقسام:

1 ـ الرياء في الدين بالبدن.

2 ـ الرياء في الدين من جهة الزي واللباس والهيئة والقيافة.

3 ـ الرياء في القول.

4 ـ الرياء في العمل.

5 ـ الرياء في الصحبة والمعاشرة مع الناس.

وهذا التقسيم وإن لم يكن تقسيماً منطقياً ولكن حيث أنه ذكر لكل منها أمثلة تبيِّن موارد الرياء وتوضح تدليسات النفس، وتفيد لمن أراد تزكية نفسه وإصلاحها وتهديه إلى طرق مكائد النفس، فنذكر جملة مما ذكره في المقام بتصرف منّا. قال:

أما القسم الأول وهو الرياء في الدين بالبدن، وذلك بإظهار النحول والضعف والصفرة في الوجه, ليوهم بذلك شدة الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين, وغلبة خوف الآخرة, وليدل بالنحول على قلة الأكل, وبالصفرة على سهر الليل وكثرة الاجتهاد, وعظم الحزن على الدين, وكذلك يرائي بتشعيث الشعر ليدل على استغراق الفم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر, وهذه الأسباب مهما ظهرت استدل الناس بها على هذه الأمور, فارتاحت النفس لمعرفتهم, فلذلك تدعوه النفس إلى إظهارها لنيل الراحة. فلربما ترى هذا المرائي يخفض صوته عند التكلم, ليتوهم السامع أن خفض الصوت من كثرة العبادة, أو أن ذبول شفتيه من المواظبة على الصوم, ولهذا قال المسيح عليه السلام: إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ويرجل شعره ويكحل عينيه. وإنما قال (ع) ذلك لما يخاف عليه من نزغ الشيطان بالرياء.

وأما الرياء في الدين من جهة الزي والهيئة فبتشعيث الشعر وإطراق الرأس في المشي, زائداً على ما يلازم الحياء والوقار والهدوء في الحركة, وإبقاء أثر السجود على الجبهة, وربما يلبس ثوباً غير نظيف ليسلك نفسه في سلك عباد الله الصالحين.

والمراءون بالزي على طبقات: فمنهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح والمتدينين بإظهار الزهد, فيلبس الثوب الخلق ويتزهد عندهم, ويعيش في المجتمع بتلك الصفة. وعلامة ريائه أنه لو كلف أن يلبس ثوباً وسطاً نظيفاً مما كان السلف الصالح يلبسه لشق ذلك عليه, وكان عنده بمنزلة الذبح, وذلك لخوفه أن يقول الناس قد بدا له من الزهد ورجع عن تلك الطريقة ورغب في الدنيا, وطائفة أخرى يطلبون القبول عن أهل الصلاح وعند أهل الدنيا من التجار والأشراف, فهؤلاء المساكين يقعون في حرج ويدور أمرهم بين المحذورين؛ لأنهم لو لبسوا الثياب الفاخرة ردهم الزهاد والعباد, ولو لبسوا الثياب الخلقة البذلة فلربما يسقطون في أعين أهل الدنيا والأغنياء, وهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا, فلذلك يختارون ألبسة تكون ذات قيمة من جهة النسج والقماش فتكون قيمتها قيمة ثوب أحد الأغنياء, ولكن هيئتها ولونها هيئة لباس الصالحين ولونه, فيلتمسون بهذه الحيلة القبول عند الفريقين, وعلامة رياء هذه الطائفة أنهم لو كلفوا لبس الثياب القيمة ذات الهيئة الحسنة لعظم ذلك عليهم خوفاً من أن يقول أهل الصلاح إنهم قد رغبوا في الدنيا, ولو كلفوا لبس خشن أو بذل لكان تكليفاً شاقاً خوفاً من السقوط من أعين الأغنياء, فكل من هذه الطوائف يرى منزلته في زي مخصوص, فيثقل عليه الانتقال إلى ما دونه أو إلى ما فوقه أو إلى ما غيره, وإن كان مباحاً, وحتى إذا كان راجحاً شرعاً.

وأما الرياء في القول؛ وهو بأن يكثر المرائي في الموعظة والتذكير ليجلب بذلك قلوب الناس إلى نفسه, ويحفظ كلمات من الحكمة والأخبار والآثار لأجل الاستعمال في المحاورة إظهاراً لغزارة العلم, ودلالة على شدة عنايته بأحوال السلف الصالح, ويختار من الأذكار ما هو مشتمل على الحروف المصوتة أو لا أقل من الحروف الشفوية, ليتحرك لسانه في محضر الناس؛ وإن كان الذكر مشتملاً على كلا النوعين من الحروف فهو عنده أفضل وأحسن, ويشتغل بالذكر في المجالس مع أنه ربما يجلس في الخلوة ساعات ولا تتحرك شفتاه بشيء من ذكر الله, ويشتد إنكاره للمنكرات بمشهد من الخلق, ويتأسف على مقارفة الناس المعاصي, ويتعجب من جرأتهم على معصية الله, كي يفهم الناس أنه لا يقترف المعصية ولا يجترئ عليها. وشعب الرياء في القول كثيرة يطول الكلام بذكرها.

وأما الرياء في العمل كمراءاة المصلي بطول القيام وقراءة السور الطوال, خصوصاً إذا كان إمام جماعة, كي يعتقد الناس بفضله, وأنه حافظ لكثير من السور القرآنية, ويغبطونه أيضاً لطول قيامه في العبادة, مع أنه إذا كان يصلي في بيته أو في خارجه في مكان لا يراه أحد قطعاً يكتفي بأقصر سورة من السور القرآنية, وكذلك حاله في الخشوع والخضوع وطول السجود, فتكون في مرأى الناس أكثر منه في الخلوة, وخصوصاً إذا كان إمام جماعة, فيكثر من إظهار الخشوع ويطيل سجوده خصوصاً سجود الشكر بعد الصلاة, فربما يبقى في السجود حتى يتفرق المأمومون كلهم وهو في السجدة, وكذلك في بقية الأعمال من الصوم والصدقة والحج؛ وحتى في المشي فإنه يمشي بهدوء وإرخاء الجفون وتنكيس الرأس, حتى أن المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته, فإذا اطلع عليه أحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراقة الرأس خوفاً من أن ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار, فإذا غاب الرجل عاد إلى عجلته, وربما يصلي المرائي وحده بلا خشوع, فإذا رآه أحد عاد إلى خشوعه. ولم يذكر حضوره في محضر الله سبحانه, حتى يكون تحديد الخشوع له تعالى بل هو لإطلاع إنسان عليه يخشى أن لا يعتقد فيه أنه من العباد والصلحاء.

ومنهم من يكون في الرياء إذا تفطن بهذا استحيى من أن تخالف مشيته في الخلوة مشيته بمرأى من الناس, وخاف من أن يعلم الناس اختلاف مشيته, فيكلف نفسه المشية الحسنة والمتواضعة في الخلوة حتى يعتاد ذلك, وتتساوى خلوته وجلوته, ولا يفتقر إلى التغيير إذا رآه الناس, ويظن أنه تخلص بهذا من الرياء غفلة من أنه قد اشتد رياؤه وتضاعف مكره, وسرى رياؤه إلى خلوته أيضاً, فإنه إنما يحسن مشيته في الخلوة ليكون كذلك أمام الناس, لا لخوف من الله ولا حياء منه.

وحيث أن المورد من خفايا أمر الرياء نوضحه بمثال آخر وتوضيح أكثر للأخوة الإيمانيين: وهو أنه ربما يتفق للمرائي أن عقله, وهو الرسول الباطني, أو الملك الموكل لأعماله الخيرية بتعبير الروايات, يلهمانه بأن الصلاة مثلاً التي تصليها في الملأ هي أكثر خشوعاً وأطول أذكاراً من الصلاة التي تصليها في البيت وبعيداً عن الأبصار, ولا شك بأن مثل هذه الصلاة باطلة لدخول الرياء فيها, فحينئذ ربما يتدخل الشيطان أو النفس في الموضوع فينصبان له فخاً خفياً قلما ينتبه إليه المصلي, وهو أن النفس والشيطان يكلفان المصلي أن يصلي في الخلوة أيضاً بالخشوع والأذكار الطويلة, ليعد جواباً للعقل أو الملك بأن صلاتي في الملأ هي كما أصليها في الخلوة, فأية حجة علي بأن صلاتي صلاة المرائي؟ أليست صلاتي في مرأى الناس كصلاتي في بيتي؟ بل الصلاة مني في الخلوة ربما تكون أكثر خشوعاً وأطول أذكاراً منها في خارج البيت ومرأى الناس. ولكن المسكين غفل عن أن الشيطان والنفس لم يبقيا له صلاة صحيحة حتى في الخلوة وجوف الليل, وبعبارة أخرى: إن من علائم عدم كون العمل رياءً أن يكون العمل في مرأى الناس كالعمل في الخلوة لا أن يكون العمل في الخلوة مثل العمل في الملأ. فتدبر واغتنم.

وأما الرياء في المعاشرة: فهو بأن يهيئ الإنسان وسائل لأن يزوره العلماء ليقال إن فلاناً قد زار فلاناً أو يزوره العلماء, ليقال إن أهل الدين يتبركون بزيارته ويترددون إليه, وإذا تمكن من التوسل إلى أسباب تزوره التجار والأشراف أيضاً فبها ونعمت, حتى يقال إن فلاناً تحترمه جميع الطبقات من العلماء والعباد وأهل الدنيا. وإذا لم يتمكن من استزارتهم فيذهب هو إلى زيارة العلماء والعباد ليري أنه لقي علماء وشيوخاً كثيرين واستفاد منهم, فيباهي بهم, فإذا ذكر الأبرار والصالحون يتنفس الصعداء ويقول نعم كم لقيت من أولئك الأبرار وخدمتهم وسعدت بخدمتهم, ليتنبّه السامعون بأن خدمة الأولياء والصالحين لا تكون بلا عوض عندهم, وأنهم قد أفاضوا عليه من فيوضاتهم لا محالة.

ومن المرائين من يقنع بحسن الاعتقادات فيه, فكم عابد اعتزل الناس وقعد في بيته وصرف أوقاته في العبادة وهو مبتهج بأن للناس فيه اعتقاداً حسناً, فهو مع أنه قد قطع طمعه من أموالهم لكنه يحب مجرد الجاه وحسن عقيدة الناس فيه, فإنه لذيذ كما ذكر في محله, فإنه نوع قدرة وكمال في الحال, وإن كان سريع الزوال لا يغتر به إلا الجهال, ولكن أكثر الناس جاهلون. وآية ذلك أن لو عرف الناس الحقيقة لأساءوا الظن به وزالت عقيدتهم عنه, وظنوا أنه ارتكب قبيحاً فجلس لذلك في بيته, لتشوش قلبه ولم يقنع بعلم الله ببراءة ساحته وطهارة ذيله بل يشتد لذلك غمه, وربما يترك الاعتزال والعبادة ويخرج إلى المجتمع, فهذا المسكين وإن قطع الطمع عن مال الناس ومعاشرتهم لكنه مد عينيه إلى حسن عقيدتهم وثنائهم عليه, فحب الجاه قد جذر في قلبه, ونفسه المسكينة قنعت بهذا القدر من اللذة.

هذه مجامع ما يرائي به المراؤون, وكلهم يطلبون الجاه والمنزلة في قلوب الناس. وللرياء موارد أخر يطول ذكرها قد يتنبّه إليها من أحبه الله, فإن الله إذا أحب عبداً بصره بعيوب نفسه.



[1]  ما ذكر من كلام الإمام الخميني في هذه الرسالة كان أصله باللغة الفارسية والتعريب مني حافظاً لأمانة النقل.

 

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست