.

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

أقبح درجة من درجات الرياء

في بيان أن الإيمان غير العلم

درجات مقاصد الرياء

تنبيه علمي لقلع مادة الرياء من الأستاذ الإلهي الإمام الخميني دام ظله

 

أقبح درجة من درجات الرياء

قال الإمام الخميني دام ظله: اعلم أن الرياء في أصول العقائد والمعارف الإلهية هو أشد أقسام الرياء وأسوأها عاقبة, والظلمة الحاصلة منه للقلب أكثر وأزيد من جميع أقسام الرياء.

فإن صاحب هذا الرياء إن لم يكن معتقداً لما يريه فهو من المنافقين الذين وعدهم الله الخلود في النار, وله الهلاك والبوار الأبدي, وعذابه أشد عذاب. وإن كان معتقداً لذلك الأمر ولكنه طلباً للمقام في القلوب والمنزلة عند الناس يظهر أمره, فهذا وإن لم يكن منافقاًً ولكن هذا الرياء يوجب أن يزول نور الإيمان من قلبه, وتدخل ظلمة الكفر مكانه, لأن هذا الشخص وإن كان في أول الأمر مشركاً بالشرك الخفي, فإنه قد عرض على الناس المعارف الإلهية والعقائد الحقة التي لا بد أن تكون خالصة لله سبحانه, وصاحبها هو الذات المقدسة للحق جل جلاله, وهو قد أشرك غيره فيها وجعل الشيطان متصرفاً فيها, فهذا العمل القلبي[1] قد صدر منه لغير الله, كما قال عليه السلام في الحديث الشريف في الكافي: "كل رياء شرك" ولكن هذه السريرة المظلمة والملكة الخبيثة تجران أمر الإنسان إلى أن يكون بيت القلب مختصاً بغير الله, وتكون ظلمة هذه الرذيلة سبباً بالتدرج لأن يخرج الإنسان من الدنيا بلا إيمان, ويكون هذا الإيمان المتوهم صورة بلا معنى وجسداً بلا روح وقشراً بلا لب, ولا يكون مورداً لقبوله تعالى, كما أشار إلى ذلك في حديث الكافي الشريف عن علي بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قال الله عز وجل:{أنا خير شريك, من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله, إلا ما كان لي خالصاً}. ومن المعلوم أن الأعمال القلبية إذا لم تكن خالصة لا تكون مقبولة عند الله تعالى, ولا ينظر الله إليها, ويكلها إلى الشريك الآخر, وهو الذي صدر العمل مراءاة له, فتكون الأعمال القلبية مختصة لذلك الشخص, وتخرج المرائي عن حد الشرك ويدخل في الكفر المحض, بل يمكن أن يقال إن هذا الإنسان أيضاً من زمرة المنافقين وكما أن شركه كان مخفياً كذلك نفاقه أيضاً كان مخفياً, والمسكين توهم أنه مؤمن, ولكنه مشرك في أول الأمر ومنافق في نتيجة الأمر, ولا بد له أن يذوق عذاب المنافقين, والويل لمن ينجر أمره إلى النفاق.

في بيان أن الإيمان غير العلم

ثم بين الإمام الخميني دام ظله أن الإيمان غير العلم وقال:

اعلم أن الإيمان هو غير العلم بالله, والعلم بوحدانيته وسائر صفاته الكمالية الثبوتية والجلالية السلبية, والعلم بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر, فربما يكون أحد عالماً بهذه كلها ولا يكون مؤمناً.

إن الشيطان عالم بجميع هذه المراتب بمقدار ما أعلم وبمقدار ما تعلمون, ومع ذلك هو كافر, وأيضاً معتقد بالمبدأ ويعلم بأن الله خالق لأنه يقول: خلقتني من نار وخلقته من طين وهو عالم بالمعاد أيضاً لأنه يقول أنظرني إلى يوم يبعثون, ولكن مع هذا الوصف فهو كافر بصريح القرآن: {وكان من الكافرين}.

والسر في هذا أن الإيمان هو عمل قلبي, ما لم يتحقق لم يكن الإيمان موجوداً, فمن علم شيئاً بمقتضى البرهان العقلي أو بالحكم الضروري للأديان فلا بد له أن يكون بالقلب تسليم لذلك المعلوم, ويأتي بالعمل القلبي الذي هو نوع من التسليم والخضوع, ونحو من التقبل والتحمل, حتى يكون مؤمناً, وكمال الإيمان هو الاطمئنان كما تشير إلى ذلك الآية الشريفة: {أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي}. فإذا قوي نور الإيمان في القلب فيتبعه حصول الاطمئنان له, وجميع ذلك غير العلم, فيمكن أن تدرك عقولنا شيئاً بالبرهان ولكن قلوبنا لم تسلم له, فيكون العلم بلا فائدة, فمثلاً إذا أدركت بعقلك أن الميت لا يملك لأحد ضراً, ولو اجتمعت جميع أموات العالم لم يكن لهم حس ولا حركة حتى بمقدار بعوضة, وأن جميع القوى الجسمية والنفسية قد فارقته, ولكن حيث أن هذا المعنى لم يتجاوز حد العلم, ولم يكن مقبولاً للقلب, ولم يكن القلب مسلماً للعقل, لا تقدر أن تبيت مع الميت في ليل مظلم, وتخاف منه, ولكن إذا صار القلب مسلماً للعقل, وقبل هذا الحكم من العقل, فلا يكون لك في المبيت مع الميت أي إشكال, كما أنك إذا أقدمت على العمل, وتكرر المبيت منك مع الميت, فالقلب يستسلم للعقل ولا يخاف من الميت, فعُلم أن التسليم هو خط القلب, وهو غير العلم الذي هو خط العقل, فحينئذ يمكن أن يثبت الإنسان بالبرهان العقلي وجود الصانع تعالى وتوحيده ويوم المعاد وما سواه من العقائد الحقة, ولكن لا يطلق الإيمان لهذه العقائد, ولا يحسب صاحبها من المؤمنين, بل يكون في زمرة الكفار والمنافقين أو المشركين. غاية الأمر أنه اليوم قد ألقي الغطاء على عين قلبه, وليس له البصيرة ألقىألقى لابلبيلبيلبلا

الملكوتية وهذه العين الملكية, فهو لا يدرك ذاك المعنى, ولكن إذا انكشفت السريرة, وبرزت السلطنة الحقة الإلهية, وصارت الطبيعة إلى خراب, وقامت الحقيقة على ساقها, فعندئذ تشعر بأنك لم تكن مؤمناً بالله. والحكم المذكور للعقل لم يكن مرتبطاً بالإيمان[2].

(فيا عزيزي) ما لم تكتب الكلمة المباركة لا إله إلا الله بقلم العقل على لوح القلب الصافي فليس الإنسان مؤمناً بوحدة الله تعالى.

وإذا دخلت هذه الكلمة الطيبة الإلهية إلى القلب فتكون سلطنة القلب للحق تعالى بالمباشرة, فلا يرى صاحب القلب إنساناً آخر مؤثراً في مملكة الحق, ولا يتوقع من سواه جاهاً ولا شرفاً, ولا يكون طالباً للمنزلة والشهرة عند الناس, فلا يكون القلب مرائياً وخادعاً, فإذا رأيتم الرياء في القلب فاعلموا أن قلوبكم ليست مسلمة للعقل, ولم يتشعشع الإيمان في قلوبكم, وترون غير الله إلهاً مؤثراً في العالم لا الحق تعالى, فإذاً أنتم في زمرة المشركين أو المنافقين أو الكفار. انتهى كلامه.

ثم إن للإمام دام ظله بعد بيان مراتب الرياء ومنشئه في المرتبة الأولى موعظة بليغة يذكر فيها وخامة أمر الرياء, وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

فيقول أستاذ العلوم الإلهية الإمام الخميني دام ظله:

فيا أيها الشخص المرائي الذي سلمت العقائد الحقة والمعارف الإلهية إلى يد عدو الله وهو الشيطان, وأعطيت الأمور المختصة لله سبحانه لسواه, واستبدلت الأنوار التي كانت منورة للروح والقلب, وكانت رأس مال النجاة والسعادة الأبدية ومنبع اللقاء الإلهي, وبذراً لجوار المحبوب بالظلمات الموحشة, والشقاوة والهلاك الأبدي, ورأس مال البعد عن الساحة المقدسة للمحبوب, والهجر من لقاء جناب الحق تعالى, فتهيأ لظلمات لا يكون وراءها نور, وضيق ليس معه سعة, وأسقام لا تشفى وموت لا حياة معه, ونار تظهر من باطن القلب وملكوت النفس, وتحرق ملك البدن حرقاً لم يخطر على قلبي وقلبك, كما أخبر الله تعالى في الكتاب المنزل عن وصفها في الآية الشريفة. {نار الله الموقدة. التي تطلع على الأفئدة}. فإن نار الله تستولي على القلوب فتحرقها, ولا تتمكن نار من أن تحرق القلب سوى نار الله, فإذا فاتت من أحد فطرة التوحيد التي هي فطرة الله, واستقر في مكانها الشرك والكفر, فلا يكون له من شفاعة الشافعين نصيب, ويكون الإنسان مخلداً في العذاب وأي عذاب, عذاب يبرز من قهر الله والغيرة الربوية. فأنت أيها العزيز لا تجعل نفسك مورداً لسخط الله وغضبه, لأجل خيال باطل ومحبوبية جزئية عند العباد الضعفاء, ولا تبع تلك الألطاف الإلهية والكرامات غير المتناهية والرحمات الربوبية بالمحبوبية عند الخلق, التي لا أثر لها ولا ثمرة منها سوى الندامة والحسرة, فإذا انقطعت يدك من هذا العالم الذي هو المتجر والمكسب, وانقطع عملك, فلا تنفعك الحسرة والندامة, ولا يمكنك الرجوع والاستعادة.

درجات مقاصد الرياء

قال بعض علماء الآخرة: إن الرياء بالنظر إلى ما يراءى لأجله ثلاث درجات. فإن للمرائي مقصوداً لا محالة في ريائه:

الدرجة الأولى: وهي أشدها وأعظمها, أن يكون مقصوده التمكن من معصية الله والوصول إلى المحرم, كالذي يرائي بعبادته ويظهر التقوى والورع, بكثرة النوافل والامتناع عن كل الشبهات, وغرضه أن يعرف بالأمانة, فيولى القضاء أو الأوقاف أو الوصايا أو مال الأيتام, فيأخذها ويستأثر بما قدر عليه منها, أو يودع الودائع فيأخذها ويجحدها ويتوصل بها إلى مقاصده الفاسدة في المعاصي, وقد يظهر بعضهم في زي الصلحاء, ويتكلم بكلام الحكمة والموعظة والتذكير, وإنما قصده التحبب إلى امرأة جميلة, وقد يحضرون مجالس العلم والتذكير وحتى القرآن, يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن وغرضهم ملاحظة النساء, وهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى, لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلماً إلى معصيته, واتخذوه آلة ومتجراً وبضاعة في فسقهم. ويقرب من هؤلاء وإن كان دونهم من هو مقترف جريمة اتهم بها وهو مصر عليها ويريد أن ينفي التهمة عن نفسه, فيظهر التقوى لنفي التهمة, كالذي جحد وديعة واتهمه الناس بها, فيتصدق بالمال ليقال إنه يتصدق بمال نفسه فكيف يستحل مال غيره وأمثال هؤلاء كثير بين المسلمين, فيكون أفراد قد جمعوا من أموال المسلمين ملايين عن طريق الربا أو غيره من المعاملات غير الشرعية ثروة ومالاً, فيرى أنه عوضاً من أن يرد أموال الناس إليهم, يتصدق ببعض ماله, أو يبني مسجداً أو مستشفى, ليقول الناس إن هذا الشخص الذي يبني المسجد أو المستشفى, كيف يتعدى إلى أموال الناس وحقوقهم, أو أن أحداً ينسب إلى فجور بامرأة, وقد رفع الله سبحانه ستره عنه وافتضح عند الناس, فهو عوضاً من أن يلتجئ على ستر الله سبحانه ويتوب إليه ويسأل الله مقلب القلوب أن يغير نظر الناس بالنسبة إليه, يتوسل إلى الرياء والتزوير ويغطي على ذنبه بالرياء.

الدرجة الثانية: أن يكون غرضه نيل حظ مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة أو شريفة, كالذي يظهر الحزن ويشتغل بالوعظ والتذكير لتبذل له الأموال, فإن كان من التجار أو من أهل الكسب يكون مشتري متاعه أكثر, أو أنه يرغب في نكاح امرأة شريفة, كالذي يرغب أن يتزوج بنت عالم عابد, فيظهر له العلم والعبادة ليرغب في تزويجه ابنته, فهذا رياء محظور لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا ولكنه دون الأول, فإن المطلوب بهذا مباح في نفسه ولكنه قبيح, وحقيقته هي الشرك. وتحديد السلطنة المطلقة للحق تعالى في عباده.

الدرجة الثالثة: أن لا يقصد نيل حظ أو إدراك مال أو نكاح, ولكن يظهر عبادته خوفاً من أن ينظر إليه بعين النقص, فلا يعد من الخاصة والزهاد, ويعتقد أنه من جملة العامة, كالذي يمشي إلى الصلاة أو إلى المسجد مستعجلاً, فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة, مع أنها في ذات الوقت كانت راجحة شرعاً, ولكنه يتركها كي لا يقال إنه من أهل اللهو والسهو لا من أهل الوقار. وكذلك إن سبق إلى الضحك أو بدا منه المزاح, فيخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار فيتبع ذلك بالاستغفار ويتنفس الصعداء ويظهر الحزن ويقول: ما أعظم غفلة الآدمي عن نفسه, والله يعلم منه أن لو كان في خلوة لما كان يثقل عليه ذلك, وإنما يخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار لا بعين التوقير. وكالذي يرى جماعة يصلون النوافل أو يتهجدون أو يصومون يوم الخميس والاثنين, على ما ينقل من إمام الأمة أنه أمر الشباب (حزب الله) بصوم هذين اليومين, فيوافقهم خيفة أن ينسب إلى الكسل ويلحق بغير حزب الله, ولو خلا لنفسه لا يفعل شيئاً من ذلك. وكالذي يعطش يوم عرفة أو في الأيام التي يتأكد فيها الصوم, فلا يشرب خوفاً من أن يعلم الناس أنه غير صائم, فإذا ظنوا به الصوم امتنع عن الأكل لأجله, أو يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن إنه صائم, وقد لا يصرح فيقول: إني صائم, ولكن يقول لي عذر, وهو جمع بين خبيثين: فإنه يُري أنه صائم ثم يُري أنه مخلص ليس بمراءٍ, وأنه يحترز من أن يذكر عبادته للناس فيكون مرائياً, فيريد أن يقال إنه سائر بعبادته, ثم إن اضطر إلى شرب, لم يصبر عن أن يذكر لنفسه فيه عذراً تصريحاً أو تعريضاً, بأن يتعلل بمرض يقتضي فرط العطش ويمنع من الصوم, أو يقول إني كنت اليوم عند فلان فكلفني بالأكل فأكلت, ثم قد لا يذكر ذلك متصلاً بشربه كي لا يظن به أنه يعتذر رياءً, ولكنه يصبر ثم يذكر عذره في معرض حكاية عرضاً مثل أن يقول: إن فلاناً محب للإخوان شديد الرغبة في أن يأكل الإنسان من طعامه, وقد ألح علي اليوم ولم أجد بداً من تطييب قلبه, ومثل أن يقول: إن أمي ضعيفة القلب مشفقة علي تظن أني لو صمت يوماً مرضت فلا تدعني أصوم, فهذا ما يجري مجراه من آفات الرياء فلا يسبق إلى اللسان إلا لرسوخ عرق الرياء في الباطن. ومن هذا القبيل ما يتفق كثيراً وقد رأيته غير مرة أن أحداً يتحدث: إني كنت عند فلان ليلة كذا؛ وفي سحرها أردت أن أقول للتهجد فخفت أن يظن بي صاحب البيت أني أرائي فما قمت للصلاة, أو إني تركت العبادة في وقت كذا مخافة أن يقال عني إني مراءٍ, فهذا المسكين يرى نفسه بتركه الصلاة والعبادة مخلصاً لله تعالى وفاراً من الرياء مع أنه قد وقع فيه, والنفس والشيطان قد تسلطا عليه, وبعبارة أوضح للإنسان في هذه المواقف حالتان: الأولى أن يخاف إذا أتى بصلاة عند أحد أو في مجتمع من الناس أن تكون صلاته ريائية فإنه أعرف بنفسه وضعفها, وأنها لا تستطيع أن تحافظ بإخلاصة في العلن كما كانت تحافظ في السر, ففي هذه الحالة تترك الصلاة لئلا يقع في الرياء.

والثانية أن يخاف من أن يتصوره الناس مرائياً, وإن اطمئن بنفسه أنها لا تأتي بالصلاة رياء بل تأتي بها خالصة لله, ففي هذه الحالة إذا ترك العبادة فيظهر أنه مراءٍ لا يحب أن يعتقد الناس في حقه غير الخلوص, فترك العبادة في الحالة الأولى لله, وفي الحالة الثانية للنفس وهواها, فإن النفس تحب أن تحسن سمعتها عند الناس, وهذا هو حب الحياة والشرف, فالمخلص لله إذا رأى من نفسه الرغبة بالصوم المستحب مثلاً فليصم ولا يلتفت إلى ما قيل فيه, وإذا لم ير من نفسه الرغبة فلا يصم ولا يبال بما قيل فيه. قل الله ثم ذرهم. أما المخلص فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه, فإن لم تكن له رغبة في الصوم وقد علم الله ذلك منه, فلا يريد أن يعتقد غيره ما يخالف علم الله فيكون ملتبساً, وإن كانت له رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله ولم يشرك فيه غيره.

تنبيه علمي لقلع مادة الرياء من الأستاذ الإلهي الإمام الخميني دام ظله:

قال دام ظله: إنا نذكر في المقام شيئاً لعله يكون مؤثراً لهذا المرض القلبي, وهو أنه طبقاً للبرهان ووفقاً للمكاشفة والعيان, والأحاديث الواردة عن المعصومين عليهم السلام, وكتاب الله العظيم, وكما أن عقولنا أيضاً تصدقه فإن الله تبارك وتعالى لإحاطة قدرته على جميع الموجودات, وبسط سلطنته على جميع الكائنات, وإحاطة قيوميته على كافة الممكنات, فقلوب جميع العباد تحت تصرفه وقدرته وفي قبضة سلطنته, وليس لأحد التصرف في قلوب العباد من دون إذنه القيومي وإجازته التكوينية, ولا يكون ذلك أبداً, حتى أن أصحاب القلوب أيضاً ليس لهم التصرف في قلوبهم بدون إذنه تعالى وتصرفه, وقد أخبر عن هذا في القرآن الشريف وأخبار أهل البيت عليهم السلام إشارة وكناية وصراحة؛ فالله سبحانه هو صاحب القلب والمتصرف فيه, وأنت عبد ضعيف عاجز لا تستطيع أن تتصرف في القلوب بدون تصرف الحق تعالى, بل إرادته قاهرة على إرادتك وإرادة جميع الموجودات؛ فحينئذ إن كان رياؤك لجلب قلوب العباد ورعايتها وتحصيل القدر والمنزلة في القلوب وحسن الشهرة فهذه كلها خارجة عن تصرفك, وإنها في تصرف الحق تعالى. إن رب القلوب وصاحبها يعطفها إلى أي فرد أراد, ولعل لفعلك هذا يكون رد فعل بعكس ما تريده, فقد سمعنا ورأينا أشخاصاً مرائين بوجهين وذوي قلوب غير طاهرة قد افتضحوا عاقبة أمرهم, وأصابوا خلاف ما أرادوه, كما أشير إلى ذلك في الحديث الشريف في الكافي عن جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل:{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}. قال: الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله, إنما يطلب تزكية الناس, يشتهي أن يسمع الناس فهذا الذي أشرك بعبادة ربه. ثم قال: ما من عبد أسر خيراً فذهبت الأيام أبداً حتى يظهر الله له خيراً, وما من عبد يسر شراً فذهبت الأيام أبداً حتى يظهر الله له شراً.

فأنت يا عزيزي, اطلب حسن الشهرة من الله واسأل صاحب القلوب أن يجعل القلوب لك, اعمل لله واجعل عملك خالصاً له فإنه تعالى يجعلك محبوباً للناس في هذا العالم, زائداً على المكرمات الأخروية والنعم الأبدية في عالم الآخرة, ويزيد وقعك في القلوب, ويجعلك عزيزاً في العالمين الدنيا والآخرة, ولكن إن استطعت أن تخلص قلبك بالرياضات والمجاهدات عن هذا الحب أيضاً فافعل ليصفو قلبك, ويكون العمل من هذه الجهة صحيحاً, ويتوجه القلب إلى الله, ويطهر الروح ويزول كدر النفس فماذا يفيدك حب الناس الضعفاء وبغضهم والشهرة عند العباد الفقراء؟ ولو فرضت فائدة أيضاً فهي في أيام قليلة, ويمكن أن يجر هذا الحب عاقبة أمرك إلى الرياء, فتكون معاذ الله مشركاً أو منافقاً أو كافراً. ولو فرضنا أن يكون أمر الإنسان في هذه الدنيا مستوراً؛ ففي حضرة العدالة الربوبية وفي محضر عباد الله الصالحين وأنبيائه العظام وملائكته المقربين يفتضح ويخجل. ولا يجد مناصاً. إنك لا تدري ما الفضيحة في ذلك اليوم, وما يعقب الخجل في ذلك اليوم من ظلمات لا يعلمها غير الله. ذلك اليوم الذي يقول الكافر فيه:{يا ليتني كنت تراباً}. ولا يفيده, فأنت يا مسكين لأجل محبة جزئية وشهرة بلا فائدة عند العباد قد أعرضت عن تلك المكرمات وفاتك رضى الله سبحانه, وجعلت نفسك مورداً لسخطه, والأعمال التي يمكنك أن تتحصل بها دار الكرامة والحياة الأبدية والفرح الدائم, وتسكن بها في أعلى عليين من الجنة استبدلتها بظلمة الشرك والنفاق, وهيأت لنفسك الحسرة والندامة والعذاب الشديد, وصرت سجينياً كما في الرواية الشريفة في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام, قال النبي (ص) : "إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به, فإذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل اجعلوها في سجين إنه ليس إياي أراد به". إنني وإنك بهذه الحالة التي نحن بها لا نقدر أن نتصور السجين ونفهم ديوان عمل الفجار, ونرى صورة هذه الأعمال التي هي في السجين, ولكننا نرى حقيقتها حينما قصرت أيدينا وانقطعت العلاجات.

فاستيقظ يا عزيزي من نومتك, وأبعد عنك الغفلة والكسل, وزن أعمالك بميزان العقل قبل أن توزن في ذلك العالم, وحاسب نفسك قبل أن تحاسب, واجل مرآة قلبك من الشرك والنفاق ومن أن تكون ذا وجهين, ولا تدع أن يرين قلبك برين الشرك والكفر فيبتلى بنار الآخرة, لا تدع أن يتبدل نور الفطرة بظلمة الكفر, لا تدع أن تضيع فطرة الله التي فطر الناس عليها, ولا تخن هذه الخيانة بأمانة الله هذه, ونظف مرآة القلب كي يتجلى فيه نور جمال الحق فيغنيك عن العالم وما فيه, وتشتعل في القلب نار المحبة الإلهية فتحرق كل حب لك في القلب سواه, ولا ترضى باستبدال جميع العالم بلحظة منها, وتلتذ بذكر الله لذة تكون جميع اللذات الحيوانية ملعبة دونها, وإن لم تكن أهلاً لهذا المقام, وتكون هذه المباني عجيبة في نظرك فلا تترك النعم الإلهية في عالم الآخرة, التي أخبر عنها القرآن المجيد وأحاديث المعصومين لأجل جلب قلوب المخلوقين, ولا تضيع تلك المثوبات, ولا تحرم نفسك من تلك الكرامات لشهرة موهومة أياماً قليلة, ولا تبع السعادة الأبدية بالشقاوة الدائمة.



[1]  سنبين إن شاء الله أن الإيمان من الأعمال القلبية.

[2]  وليعلم أن ارتكاب جملة من المعاصي لا يتلاءم والاعتقاد بالمعاد ويوم الحساب, بل الإتيان بها لا يتلاءم والاعتقاد بالحضور في محضر الحق تعالى, كما أشير إلى ذلك غير مرة في الأدعية الشريفة المأثورة كقوله عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي "فلو اطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته, ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته" وحل هذا الإشكال يطلب فيما ذكره الإمام دام ظله في المقام.

 

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست