.

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

معالجة مرض العجب

فائدة جليلة للإمام الخميني في معالجة العجب

كلمة جامعة للإمام الصادق عليه السلام

معالجة مرض العجب

اعلم أيها العزيز أن الأطباء الجسمانيين في معالجة الأمراض الجسمية يجتهدون ابتداء في كشف علة المرض، وباصطلاح طبي في كشف جرثومته، وبعد التوفيق في هذه المرحلة يعالجون المرض لإعدام جرثومته باستخدام جرثومة ضدها، فيأخذ المريض صحته وسلامته.

هكذا علماء الأخلاق والأطباء الروحيون استغلوا هذه الطريقة في معالجة الأمراض الروحية والنفسية، نعم بينهما فرق وهو أنه في الأمراض الروحية والنفسية ربما تكون المعرفة بعلة المرض هي بنفسها معالجة له من دون الاحتياج إلى عملية أخرى، وبعبارة أخرى: في الأمراض الروحية التي تكون علتها الجهل وليس لعامل سوى الجهل دخل في تكوّن المرض، ففي مثل ذلك إذا عرفت العلل والعوامل التي يكون مبناها الجهل، فينهدم مبناها ويتبدل بالعلم، وينتفي المرض الذي كان معلولاً للجهل، ولا يحتاج إلى برنامج عملي للعلاج. مثلاً: إذا كان أحد مبتلى بالخوف وهو يخاف من الخلوة والمكان المظلم، هذا الشخص إذا التفت وعلم بأن منشأ هذا الخوف هو خياله ووهمه وليس في الخارج من ذهنه شيء أصلاً، ولا يتحقق من الظلمة والخلوة ظاهرة في الخارج تضر بهذا الشخص وتصيبه بسوء، فإذا أدركت نفسه هذا المعنى فنفس العلم بهذا يكفي في عدم الخوف من الخلوة والظلمة، من دون الاحتياج إلى معالجة عملية. فالمرض المورد لبحثنا، أعني العجب، أيضاً من هذا القبيل من الأمراض الروحية، وهو أن لم يكن متكئاً كله على الجهل فلا محالة أن قسماً مهماً منه مبني على الجهل، فيؤمل أن يزول هذا المرض الخطير بالتوجه إلى ما ذكرنا من التذكرات العلمية، وإذا بقي منه شيء في النفس فيستمدّ صاحبه من الألطاف الإلهية، ويوفق بقلع مادة هذا المرض تماماً إن شاء الله. وفي هذا المجال نأتي بكلام بعض علماء الآخرة مختصراً لتتم الاستفادة به.

كما ذكرنا سابقاً منشأ العجب في الإنسان هو مشاهدة صفة الكمال في النفس حتى وإن لم يكن كمالاً واقعياً بل كمالاً خيالياً، ومن المعلوم أن للكمال أقساماً مختلفة، وينقسم من جهة إلى قسمين:

الأول: الكمالات التي تكون باختيار المكلف وتكون من الأمور الاختيارية.

الثاني: الكمالات التي ليست داخله تحت اختياره بل أوتيها بغير اختيار منه كالجمال والنسب وأمثالها، فحيث أن العجب يدخل في القلب على الأكثر من طريق الكمالات الاختيارية فنعرض لها فنقول:

إذا فرضنا شخصاً صاحب تقوى وورع وله الأعمال العبادية، فإن كان يعجب من حيث أنه محل هذه الأوصاف ومجرى هذه الأعمال، ويعتقد بأن أصل العمل من الله سبحانه، وهو الذي جعله محلاً لهذه الصفة وأجرى على يديه هذا العمل، وهو مع هذا الاعتقاد أيضاً يعجب، فليس هذا سوى الجهل. لأن المحل مسخر ولا دخل له في الإيجاد أصلاً، فكيف يعجب بعمل ليس له دخل فيه بشيء؟

وإن كان عجبه من جهة أن تلك الصفة أو ذاك العمل منه لا من غيره وحصل عليه باختياره وبقدرته، فليتفكر في القدرة والإرادة وأعضائه الجسمية وبقية الأسباب التي لها دور في تمامية العمل من أين حصلت في يده، فإن علم وعرف بأن كل هذا من الله سبحانه ومن نعمه التي أعطاه إياها من دون استحقاق ومن غير سابقة ووسيلة، ففي هذه الصورة ينبغي أن يعجب بالحق تعالى وبكرمه وفضله الذي أفاض عليه هذه الفيوضات من دون استحقاق، وآثره على غيره، لا ان يعجب بنفسه، ونوضح هذا المطلب الدقيق العرفاني بمثال:

نفرض أن ملكاً حينما يعرض عليه جنده وجيشه ينظر إليهم فيعطي لواحد من جملتهم خلعة، لا لصفة فيه ولا لجمال ولا لخدمة له، فحينئذ ينبغي أن يعجب المنعم عليه (هذا الجندي) من فضل الملك وعنايته به وإيثاره له من غير استحقاق، ولا ينبغي أن يعجب هو بنفسه.

نعم يجوز أن يعجب ذاك الجندي بنفسه فيقول: إن الملك حكيم وعادل ولا يظلم أحداً ولا يجور ولا يقدّم ولا يؤخر إلا لسبب، ولا يعطي لأحد رتبة ولا ينزعها من أحد من دون سبب, فإذاً فلا بد أن الملك تفطن في صفة من الصفات المحمودة الباطنية, فمن هذه الجهة آثرني على غيري بالرتبة, ولولا تلك الصفة لما آثرني بها, ولكن عليه أن يتذكر في هذا الوقت أن تلك الصفة أيضاً: أهي من عطايا الملك وخلعته التي خصة بها دون غيره؟ أو هي عطية غيره؟ فإن كانت من عطية الملك أيضاً لم يكن له أن يعجب بنفسه, فلو فرضنا أنه كان بصاحب فرس فأعطاه الملك غلاماً أيضاً لا ينبغي أن يتطرق إليه العجب, لأنه كما أن كونه صاحباً للفرس لم يكن موجباً لعجبه كذلك كونه صاحب غلام أيضاً, كذلك فلا فرق بين أن يعطي الملك الفرس والغلام معاً أو يعطي الفرس أولاً والغلام ثانياً, فإذا كان الكل منه ينبغي أن يعجب في ذلك بفضل الملك وجوده, إلا أن نفرض أنه حصل على الفرس مثلاً بنفسه وأعطاه الملك الغلام خاصة, ولكن هذا الفرض يصح في الأعاظم والملوك الدنيوية, وأما بالنسبة إلى ملك الملوك الذي يكون أصل الوجود وتوابعه ولوازمه من جوده وعطائه, وهو المتفرد بإيجاد الموصوف والصفة, فلا يصح هذا الفرض. لأنه إذا وفق مثلا بعبادة ودخله العجب من طريق أن الله سبحانه وإن كان هو الذي وفقه لهذه العبادة ولكن هذا التوفيق إنما هو لحبي إياه, وأن حبي له كان سبباً للتوفيق لهذه العبادة, فحينئذ يسأل نفسه: من الذي ألقى هذا الحب في قلبك؟ فتجيبه النفس لا محالة أن الله هو الذي شرفني بهذا الحب, فليقل لنفسه إن الحب والعبادة حينئذ كليهما نعمة من الله أعطاهما لك من دون استحقاق لهما, فينبغي أن يكون إعجابك بكرمه وعطائه إذ أنعم عليك بالوجود ووهبك الصفات وهيأ لك وسائل الأعمال الخيرية, فإذاً لا معنى لعجب العابد بعبادته, وعجب العالم بعلمه, وعجب الجميل بجماله, وعجب الغني بغناه, فإن كل هذه من فضل الله تعالى, وصاحبها محل لفيضان فضل الله وجوده, ونفس المحل أيضاً من جوده وفضله.

أيها القارئ الكريم: لعلك لم تصل إلى أصل المطلب, ومع أن هذا المطلب مورد لقبولك ولكن يمكن أن تكون في القلب وسوسة تمنع عن الإيمان به, وما لم يحصل الإيمان بشيء فمجرد العلم به ليس له كثير الأثر, وقد ذكرنا في باب الرياء أن الإيمان غير العلم, فربما أشخاص يكون لهم العلم ولكن حيث أنه لا إيمان لهم بما يعلمون فلا يفيدهم هذا العلم شيئاً. إن إبليس اللعين كان له العلم بالمبدأ والمعاد فلذلك قال:{خلقتني من نارٍ} {فأنظرني إلى يوم يبعثون}. ولكن حيث لم يكن له إيمان بمعلومه خرج عن زمرة المؤمنين ودخل في عداد الكافرين بصريح من القران الكريم حيث قال:{أبى واستكبر وكان من الكافرين}.

(ينبغي الانتباه باللطف في كلمة كان حيث إن الإباء والاستكبار من سجدته لآدم كانا نتيجة كفره السابق لا أنه بواسطة عدم سجدته صار كافراً).

وعلى أي حال نطرح سؤالاً لإزالة الوسوسة من القلب, ونأمل بعد الجواب على هذا السؤال أن ييأس الشيطان اللعين, ويكون القلب مستعداً لإشعاع نور الإيمان, والسؤال هو:

مع أنا نعلم أن التوفيق والنعم من الله, ومع ذلك كيف يمكننا أن نجهل أعمالنا مع أنا عملناها وننتظر عليها ثواباً, فلولا أنها عملنا لما انتظرنا الثواب لها, لأنا لا ننتظر الثواب من أعمال غيرنا, فإن كانت الأعمال ليست منا حقيقة فما تلك المثوبات التي وعدنا الله سبحانه بإعطائها إيانا, وإن كانت الأعمال منا فكيف نجهلها ولا نعجب بها؟

لهذا السؤال جوابان: جواب حقيقي وجواب تسامحي, أما الجواب الحقيقي: فحيث إن إدراكه مبني على مشاهدة أصحاب القلوب ومكاشفة أرباب السلوك, وليس في حد فهم عامة الناس, فنعرض عن ذكره, ونكتفي بالجواب الثاني: وهو أنه نفرض أن زعمك بالنسبة إلى أعمالك صحيح, وأن العمل قد أتيت به بقدرتك. وإن كان وجودك ولوازم وجودك كلها من الله سبحانه, ولكن في نفس الوقت لو لم تكن موجوداً لم يكن عملك وإرادتك وقدرتك أيضاً موجودة, ولم يؤت بهذا العمل, فعلى هذا إذا كان العمل نتيجة قدرتك, فقدرتك بمنزلة مفتاح العمل, وهذا المفتاح بيد الله تعالى, وفي كل آن من الآنات أراد أن يسلب عنك قدرتك ويأخذ هذا المفتاح من يدك يفعل ذلك, فلا تستطيع أن تأتي بالعمل أصلاً, فالعبادات هي خزائن السعادات التي مفاتيح هذه الخزائن عبارة عن القدرة والإرادة والعلم, وهي بيد الله سبحانه.

نفرض أن خزائن الدنيا موضوعة في حصن حصين وأودع مفتاحه بيد الحارس, فلو سعيت آلاف السنين أن تدخل إلى الحصن من فوق جداره أو تجد سبيلاً للنفوذ إلى داخله لا يمكن لك ذلك, ولا تستطيع أن تتصرف بدينار من الأموال المودعة فيه, ولكن إذا أعطاك الحارس المفتاح تفتح الباب بسهولة وتدخل الحصن, وتمد يدك إلى أي مقدار من النقود والجواهر وتأخذها بسهولة, فحينئذ إذا أعطاك الحارس المفتاح وسلطك على الأموال والجواهر الموجودة في الحصن وأخذت كل ما شئت منها بسهولة. فأنصف: أيكون إعجابك حينئذ بالحارس الذي أعطاك هذا المفتاح, أو يكون إعجابك بمد يدك وأخذ النقود والجواهر من الخزينة؟. لا ريب أنك ترى هذا نعمة من الحارس ومنة منه عليك, ولا ترى لأخذك النقود أي قيمة لنفسك؛ لأن كل الدور في عطاء الحارس وجوده حيث أعطاك المفتاح. فحينئذ إذا أوجد الله سبحانه القدرة فيك وسلطك على إرادتك, وحرك الدواعي والبواعث فيك, وأزال الموانع والصوارف عنك, وسهل لك الإتيان بالعمل, أليس من العجب أن تغفل عن الإعجاب بمن أعطاك هذه الأمور وأن لا تعجب من جوده وفضله وكرمه وتعجب بذلك التحرك القليل الذي فرضنا أنه صدر منك؟

فافتح يا عزيزي عين قلبك, وشاهد المسبب الواقعي, وتحصل بعين تكون نافذة عن السبب, ولا تغتر بالشيطان والنفس فإنها عدوان لك, وإذا كانت قدرتهما بحيث يزينان عقائدك الباطلة وصفاتك الذميمة وأعمالك السيئة, وأنت عوض أن تنكس رأسك بتلك الأمور وتخجل, يفرضان عليك العجب بها, فكيف تأمن وتغفل من أن يزينا لك عباداتك ويدفعانك إلى العجب بها حتى تكون جميع عباداتك هباء منثوراً, ويجعلان عملك في سجين بعد أن كنت ترجو أن يكون في عليين؟

أيها العزيز, تفكر في أحوال المحبين والمقربين لله سبحانه, فترى أنهم كيف كانوا يرون أنفسهم صفر الأيدي من الأعمال الصالحة في جناب الله سبحانه, وقد كتب أمير المؤمنين على كفن سلمان بما له من العبادات والزهد والوصول إلى الدرجة العاشرة من الإيمان:

وفدت على الكريم بغير زاد                 من الحسنات والقلب السليم

كان أحد الأعاظم إذا هبت ريح عاصفة أو رأى الرعد والبرق في السماء يقول: "ما يصيب الناس ما يصيبهم إلا بسببي ولو مات عطاء لاستراح الناس".

وسئل بعض منهم بعد رجوعه من عرفات: كيف رأيت الموقف؟ فقال: "كنت أرجو الرحمة لجميعهم لولا كوني فيهم".

فيا أيها العزيز إياك أن تشك في هذه المعارف الإسلامية المؤيدة بالآيات والروايات والمستندة لشهود أرباب القلوب, فإنه من أعظم الحجب لإدراك الحقيقة, وهذا المرض, أي العجب, إذا تقارن بهذا الحجاب فيكون لا سمح الله داء عضالاً ومرضاً غير قابل للعلاج.

نعم يا عزيزي, إن لله تعالى تصرفات في قلوب أوليائه, ولها أحوال لم نطلع عليها, ونحن المساكين والغافلين عن جميع الأمور لم ندرك حالة الخضوع التي في قلوب الأولياء في جميع عمرنا ولو لحظة واحدة, وحق لنا أن لم نرها, لأنها نتيجة تجلي عظمة الحق تعالى للقلب فيندك لذلك جبل الإنية والأنانية:{فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً}. وإذا نزل سلطان الحقيقة في قلب وأقام فيه مقامه فحينئذ لا يبقى في القلب أثر من رؤية النفس والعجب بها:{إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلةً}. وليس لنا نحن المستغرقين في الشهوات والمبتلين بأهواء النفس أية مناسبة بهذه العوالم.

فيا سبحان الله كم من الفرق بين القلوب الخاشعة والنفوس الخاضعة وبين الأفراد المستغرقين في العجب ورؤية النفس, بحيث أنه لو أهين أحد منهم أو استخف به وأوذي, يستبعد أن الله سبحانه يشمل الفاعل بالغفران, ولا يشك في أنه صار مغضوباً عليه عند الله بسبب هذه الإهانة, مع أن أحداً منهم لو آذى مسلماً لم يستنكر ذلك الاستنكار ويأمل من الله الغفران لذنبه, وذلك لعظم قدر نفسه عنده, وعجبه بنفسه وهو جهل, وجمع بين العجب والكبر والاغترار بالله, وقد ينتهي الجهل والحمق والغباوة لبعضهم إلى حد يتحدى ويقول: سترون ما يجري عليه بما فعل بي, وإذا أصيب صدفة بنكبة يحسبها من قبل نفسه, ويزعم أن ذلك من كراماته, وأن الله تعالى ما أراد به إلا شفاء علته وتشفي خاطره والانتقام له منه, مع أن هذا المسكين يرى طبقات من الكفار يسبون الله ورسوله, ويعرف جماعة آذوا الأنبياء عليهم السلام, فمنهم من ضربهم ومنهم من قتلهم, ولكن مع ذلك أمهل الله سبحانه أكثرهم ولم يؤاخذهم بأعمالهم هذه في الدنيا ولم يعذبهم بها, بل ربما أسلم بعضهم فلم يصبهم مكروه لا في الدنيا ولا في الآخرة, حتى أن الوحشي قاتل الحمزة سيد الشهداء مع أنه قتل أعز الناس إلى رسول الله وأوجع قلبه الشريف قد وفق بالتوبة وأسلم.

ولكن هذا المغرور الجاهل يزعم أنه أعز عند الله من رسول الله (ص) والإهانة له أعظم من قتل حمزة سيد الشهداء, حيث أن الله سبحانه انتقم له ممن أهانه ولم ينتقم من قتلة الأنبياء, فيظن أنه أكرم على الله من أنبيائه, ولعله في مقت الله بإعجابه هذا وكبره, وهو غافل عن هلاك نفسه, وهو وأعماله في سجين, وربما يكون أكثر المذنبين أقرب إلى الله تعالى منه كما في الرواية الشريفة في الكافي عن أبي عبد الله (ع) قال: "إن الله علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب ولولا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب أبداً ".

فائدة جليلة للإمام الخميني في معالجة العجب:

ونختم هذا البحث بما أفاد به أستاذنا الأعظم الإمام الخميني دامت بركاته في مقام معالجة مرض العجب, والمأمول أن يصل الطالبون إلى النتيجة المطلوبة بالدقة فيما أفاده الأستاذ, وفي غير ما ذكرناه من أعاظم علماء الأخلاق. والله الموفق والمعين.

يقول الإمام الخميني دام ظله:

اعلم أن رذيلة العجب توجد من حب النفس لأن الإنسان مفطور بحبها, وأن حب النفس رأس كل خطيئة للإنسان ومنشأ جميع الرذائل الأخلاقية, وبسبب هذا الحب فإن الإنسان يرى أعماله الحقيرة كبيرة في نظره, ويرى نفسه بتلك الأعمال من المحسنين, ومن خواص جناب الحق تعالى, ويرى نفسه بتلك الأعمال الحقيرة مستحقاً للثناء ومستوجباً للمدح, بل ربما تتزين قبائح أعماله في نظره, وإذا رأى من الغير أعمالاً أحسن وأعظم من أعماله فلا تهمه تلك الأعمال, والإنسان يؤول الأعمال الحسنة من الناس بنوع من تأويل السوء غالباً, ويؤول أعماله القبيحة والسيئة بالحسن بمرتبة من التأويل, فيسيء الظن بخلق الله ويحسن الظن بنفسه, وهو بواسطة هذا الحب يرى نفسه دائناً للحق تعالى ومستوجباً لرحمته, بعمل حقير مختلط بألف من القذارات والمبعدات, فمن الجدير أن نفكر قليلاً في الأعمال الحسنة والأفعال العبادية التي تصدر منا, ونعتبر قليلاً باعتبار من العقل, وننظر إليها بعين الإنصاف, لنرى أنا هل نستوجب بها المدح والثناء ونستحق الثواب والرحمة أو نليق بها للوم والعقاب والنقمة؟ فلو أن الحق تعالى أحرقنا بنار قهره وغضبه بهذه الأعمال التي هي حسنة عندنا لكان حقاً وعدلاً. فأنا الآن أحكمك أيها القارئ في هذا السؤال الذي أطرحه وأطلب منك التصديق بعد التفكر والتأمل بعين الإنصاف، والسؤال هو هذا:

إن النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله، الذي هو صادق ومصدق، لو أخبرك بأنك لو عبدت الله تعالى وأطعت أوامره طول عمرك، وتركت الشهوات وهوى النفس في جميع حياتك، أو أنك خالفت أوامره طول عمرك، وعملت بهوى نفسك والشهوات فلا يفرق في درجات آخرتك، وكنت من الناجين على أي حال، وتدخل الجنة وتأمن من العذاب، من دون فرق بين أن تصلي أو تزني، ولكن رضا الله تعالى في أن تشتغل بعبادته وثنائه ومدحه، وتترك شهواتك وميولك النفسية في هذا العالم، ولا يعطي الله سبحانه لك أجراً وثواباً في مقابل هذا العمل أصلاً. فهل كنت في هذا الفرض من أهل المعصية أم كنت من أهل العبادة؟ وهل كنت تترك الشهوات وتحرم لنفسك لذاتها لتحصيل رضاه سبحانه وحباً له أم لا؟ فهل كنت مواظباً للمستحبات والجمعة والجماعات أو أنك انغمرت في الشهوات وكنت ملازماً للهو واللعب والتغنيات وغير ذلك؟. فأجبنا بعين الإنصاف ومن دون التظاهر بالرياء.

أما أنا فأخبر من نفسي ومن الذين هم أمثالي أنا كنا في تلك الحال من أهل المعصية وتاركين للطاعات وفاعلين الشهوات النفسية؛ فقد حصلت النتيجة من هذا أن جميع أعمالنا كانت للذات النفسية ولإدارة البطن والفرج. نحن كنا أصحاب البطون وعبدة الشهوات، وإنما تركنا اللذة للذّة أعظم، وإنما كانت وجهة نظرنا وقبلة آمالنا ترتيب بساط الشهوات، وإنما الصلاة التي هي معراج قرب الله نصليها للقرب إلى نساء الجنة، وليست مرتبطة بالتقرب إلى الحق تعالى، ومرتبطة بإطاعة أمر الله أصلاً، وتبعد عن رضا الله سبحانه آلاف الفراسخ.

أيها المسكين الجاهل بالمعارف الإلهية، الذي لا تعرف شيئاً غير إدارة شهوتك وغضبك، وأنت أيها المقدس المواظب للذكر والورد والمستحبات والواجبات والتارك للمكروهات والمحرمات، والمتخلق بالأخلاق الحسنة والمتجنب من سيئات الأخلاق، اجعل أعمالك في ميزان الإنصاف لترى أن كل هذه الأعمال للوصول إلى الشهوات النفسية، والجلوس على السرر من زمرد، والمضاجعة مع الحور العين في الجنان، ولبس الحرير والإستبرق والسكنى في القصور العالية والوصول بالآمال النفسية. فهل يمكن لهذه الأعمال التي كلها لعبادة النفس وحبها أن تنسب إلى الله وإلى عبادة الحق؟ وأي فرق بينك وبين العامل الذي يعمل للأجر؟ وإذا قال العامل إني عملت عملي لصاحب العمل محضاً فتكذبه في قوله، أولست كاذباً حينما تقول إن صلاتي للتقرب إلى الله؟ فهل صلاتك هذه للتقرب إلى الله أو للتقرب إلى نساء الجنة والوصول إلى الشهوات؟. أقول قولي هذا بالصراحة: إن جميع عباداتنا في نظر العرفاء بالله وأولياء الله هي من المعاصي الكبيرة.

فيا أيها المسكين، تعمل في محضر الحق جل جلاله وفي محضر ملائكته المقربين على خلاف رضا الحق تعالى، والعبادة التي هي معراج القرب للحق تأتي بها للنفس الأمارة والشيطان، وفي نفس الوقت لا تستحي وتكذب في كل عبادة مرات في محضر الربوبية والملائكة المقربين، وتفتري افتراءات، وتمن بذلك أيضاً وتعجب وتدلل ولا تستحي!! فما فرق عبادتي وعبادتك مع معصية أهل العصيان التي أشدها الرياء، فإن الرياء شرك، وقبحه وعظمته من جهة أن العبادة لم تأت بها لله تعالى، فجميع عباداتنا شرك وليس فيها شائبة من الخلوص والإخلاص، بل رضا الله تعالى ليس دخيلاً فيها بطريق الاشتراك أيضاً، وإنما هي للشهوات وتعمير إدارة البطن والفرج. فيا أيها العزيز: إن صلاةً يؤتى بها محبة لإحدى النساء سواء كانت من نساء الدنيا أو نساء الآخرة فهذه الصلاة ليست لله، أو صلاة أتي بها للوصول إلى آمال الدنيا أو آمال الآخرة ليست مرتبطة بالله؛ فما هذا الدلال والتغنج؟ تنظر إلى عباد الله بعين التحقير وتحسب نفسك من خواص جناب الحق، فيا أيها المسكين أنت بنفس هذه الصلاة تستحق للعذاب ومستوجب لسلسلة طولها سبعون ذراعاً. فلماذا ترى نفسك دائناً لله وتهيئ لنفسك بهذا التدلل والعجب عذاباً آخر؟ فاللازم عليك أن تأتي بالأعمال المأمور بها وتلتفت بأنها ليست لله، وتعلم بأن الله تعالى يدخلك الجنة بتفضله وترحمه، فإنه سبحانه خفف لعباده بعض الشرك لضعفهم، وألقى عليهم حجاب الستر بغفرانه ورحمته، فلا تهتك هذا الستر، ودع حجاب غفران الحق ملقى على السيئات التي سميناها بالعبادة، فإنه لا سمح الله لو قلب الورق وجاء ورق العدل لما كانت عفونة عباداتنا بأقل من عفونة المعاصي الموبقة لأهل المعصية.

روى ثقة الإسلام الكليني في الكافي بإسناده إلى الصادق عليه السلام، قال، أي رسول الله (ص): "قال الله عز وجل لداوود: يا داوود بشّر المذنبين وأنذر الصديقين قال: كيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين؟ قال يا داوود بشر المذنبين أني أقبل التوبة وأعفو عن الذنب، وأنذر الصديقين أن لا يعجبوا بأعمالهم فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك". فبعدما كان الصديقون هالكين في الحساب مع أنهم مطهرون من الذنب والمعصية فماذا أقول وتقول؟

كل ذلك إذا كانت أعمالنا وأعمالكم خالصة من الرياء الدنيوي الذي هو من الموبقات والمحرمات، وقلما يتفق لنا عمل خال من الرياء والنفاق. دع ذلك لئلا نتكلم فيه.

فالآن إذا كان مجالاً للعجب والتدلل والتغنج فافعل ذلك، وإن كان بالإنصاف محلاً للخجلة وتنكيساً للرأس والاعتراف بالتقصير فاستغفر الله وتب إليه بالجد والواقع، بعد كل عبادة أتيت بها، منها ومن الأكاذيب التي قلتها في محضر الحق تعالى، والنسب التي انتسب بها بغير حق. أليست تجب التوبة من أن تقول في مقابل الحق تعالى قبل الورود في الصلاة "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين"؟ هل وجهة قلبك لفاطر السماوات والأرض؟ هل أنت مسلم؟ هل أنت خالص من الشرك؟ هل صلاتك وعبادتك ومحياك ومماتك لله؟ اليس موجباً للخجلة أن تقول في الصلاة: الحمد لله رب العالمين؟ هل ترى جميع المحامد للحق تعالى أو تراها للعباد، بل تثبت المحمدة لأعداء الله؟ أليس هذا كذباً أن تقول الحمد لله رب العالمين مع أنك تثبت الربوبية في هذا العالم للغير؟ أليس يوجب التوبة قولك: إياك نعبد وإياك نستعين؟ هل أنت تعبد الله أو تعبد البطن والفرج؟ هل أنت تريد الله أو تريد الحور العين؟ هل أنت تستعين بالله فقط أو أنه من الممكن أن تستعين بكل شيء ويكون كل أمر مورداً لنظرك سوى الله؟ هل مقصدك ومقصودك هو الله حينما تذهب إلى زيارة بيت الله؟ وهل مطلبك ومطلوبك صاحب البيت؟ وهل قلبك مترنم بقول الشاعر "وما حب الديار شغفن قلبي"؟. هل أنت طالب لله؟ هل تطلب آثار جلال الحق وجماله؟ هل أنت تقيم العزاء لسيد المظلومين؟ هل أنت تلطم صدرك ورأسك لأجله أو للوصول إلى مالك وأمانيك، وأن الدافع لإقامتك مجلس العزاء هو شهوة البطن؟ وما يدفعك إلى صلاة الجماعة هو شهوة الجماع، وما يوجب اشتغالك بالمناسك والعبادات هوى نفسك؟

أيها الأخ، دقق في مكائد النفس والشيطان، واعلم أنه لا يدعك أيها المسكين أن تأتي بعمل واحد خالص، وهذه الأعمال غير الخالصة التي قبلها الله سبحانه منك بفضله. لا يدعك أن توصلها إلى المنزل، فيفعل بك ما يجعلها كلها هباء بواسطة العجب والتدلل فيفوتك هذا الربح أيضاً، فقد بعُدت عن الله ورضاه، وما وصلت إلى الجنة والحور العين، وليس هذا فحسب، بل صرت مخلداً في العذاب ومعذباً في نار قهر الله. أزعمت أنك بهذه الأعمال المهلهلة والمتعفنة والمتخلخلة، مخلوطة بالرياء والسمعة وبألف مصيبة، تكون كل واحدة منها مانعة عن قبول الأعمال أن لك حقاً على الله تعالى، أو أنك صرت من المحبين والمحبوبين؟ فيا أيها المسكين الغافل عن حال المحبين، ويا أيها الشقي الجاهل عن قلوب المحبين ونار تشتعل فيها، فيا أيها المسكين الغافل عن احتراق المخلصين ونور أعمالهم، أظننت أن أعمالهم أيضاً كانت مثل أعمالي وأعمالك؟ أتخيلت أن صلاة أمير المؤمنين كانت مميزة عن صلاتنا بأن مدّ ولا الضالين كان فيها أطول، أو قراءته كانت أصح من قراءتنا، أو أن طول سجوده وركوعه وأذكاره وأوراده كانت أكثر منا، أو أنه عليه السلام كان يمتاز عنا بأنه كان يصلي في كل ليلة عدة ركعات، أو أن مناجاة سيد الساجدين كانت كمناجاتي ومناجاتك، وأنه كان بكاؤه ونحيبه لأجل الحور العين وإجاص ورمان الجنة؟

لعمرهم، وإنه لقسم عظيم، لو تظاهر جميع البشر وأرادوا أن يقولوا مرة واحدة "لا إله إلا الله" كما قالها أمير المؤمنين لم يستطيعوا ذلك، فيا ويلي لهذه المعرفة لمقام ولاية علي عليه السلام، فأقسم بمقام علي بن أبي طالب، لو أن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين غير الرسول الخاتم الذي هو مولى علي وغيره، لو أرادوا أن يكبروا تكبيرة واحدة من تكبيرات علي لما استطاعوا. إن أحوال قلوبهم لا يعلمها إلا هم.

فيا أيها العزيز أقلل من ادعائك حب الله.

فيا أيها العارف، أيها الصوفي، أيها الحاكم، أيها المجاهد، أيها المرتاض، أيها الفقيه، أيها المؤمن، أيها المقدس، أيها المساكين المبتلون، أيها التعساء المبتلون بمكائد النفس وهواها أيها العجزة المبتلون بأمالي النفس وأمانيها وحبها، إننا كلنا عاجزون وجميعنا بعيدون عن الخلوص وحب الله بفراسخ، لا تحسنوا الظن بأنفسكم، ولا تدللوا واسألوا عن قلوبكم هل هي طالبة لله أو طالبة لنفسها، هل القلب موحد ويطلب الواحد أو أنه مشرك، فما هذا العجب وما معنى هذا التدلل بالأعمال؟. العمل الذي لو فرض تمامية أجزائه وشرائطه وخلوه عن الرياء والشرك والعجب وسائر المفسدات، إذا كانت قيمته الوصول إلى شهوات البطن والفرج فماذا مقداره؟ حيث أن تري إلى ملائكة الله هذه الأعمال بل لابد أن تكون مستورة عن الأنظار، هذه الأعمال هي من القبائح والفجائع، لابد أن يخجل الإنسان منها ويسترها. اللهم إنا نعوذ إليك نحن المساكين من شر الشيطان والنفس الأمارة. فاحفظنا أنت من مكائدها بحق محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله.

انتهى كلامه دام ظله مع المعجبين والمدللين بالأعمال.

كلمة جامعة للإمام الصادق (ع):

ونزين هذه الرسالة بكلمة جامعة عن الإمام الصادق عليه السلام ليكون ختامه من مسك. قال الصادق عليه السلام في مصباح الشريعة:

"العجب كل العجب ممن يعجب بعمله وهو لا يدري بما يختم له، فمن أعجب بنفسه وفعله فقد ضلّ عن نهج الرشاد وادعى ما ليس له، والمدّعي من غير حق كاذب وإن خفي دعواه وطال دهره، فإنه أول ما يفعل بالمعجب نزع ما أعجب به ليعلم أنه عاجز فقير، وليشهد على نفسه لتكون الحجة عليه أوكد، كما فعل بإبليس. والعجب نواة حبها الكفر وأرضها النفاق وماؤها البغي وأغصانها الجهل وورقها الضلالة وثمرها اللعنة والخلود في النار، فمن اختار العجب فقد بذر الكفر وزرع النفاق ولابد أن يثمر". صدق ولي الله.

والحمد لله أولاً وأخيراً وله المنّة ظاهراً وباطناً.

تم تسويد هذه الأوراق بيد المفتاق إلى رحمة الله السيد أحمد الفهري.

 

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست