.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

نسيان الذنب واستصغاره

الحرمان من فوائد الموعظة والإرشاد

الغفلة عن آفات العباد

عدم الاعتقاد برحمة الله وفضله

كلام في المقام للإمام الخميني

موعظة بليغة للإمام الخميني

 

  نسيان الذنب واستصغاره:

العجب يوجب أن ينسى الإنسان كثيراً من الذنوب التي ارتكبها, وبزعم أنه لا يحتاج إلى إصلاح نفسه لا يقوم إلى جبران ما فات منه, ونتيجة لهذه الغفلة ينسى كثيراً من الذنوب, وما لا ينساه أيضاً لا يهمه, فربما تكون هذه الحالة موجبة للتجري إلى الذنوب الجديدة, ولعله على هذا المعنى أشير في الرواية التي ذكرت في الوسائل عن الصادق عليه السلام عن رسول الله (ص) في حديث قال موسى بن عمران لإبليس: أخبرني بالذنب الذي إذا أذنب ابن آدم استحوذت عليه قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينيه ذنبه. ومن المعلوم إذا استحوذ الشيطان على أحد فنتيجته التجري على الذنب أكثر, ومضافاً إلى ذلك استصغار الذنب من حيث أنه إهانة لمقام العظمة الإلهية هو في نفسه من الكبائر, وربما يكون مانعاً من شمول الرحمة الإلهية له, كما أشير إلى ذلك في بعض الروايات, ففي الكافي الشريف عن زيد الشحام عن الصادق عليه السلام قال أبو عبد الله: "اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر, قلت وما المحقرات قال: الرجل يذنب الذنب فيقول طوبى لي لو لم يكن غير ذلك". وروى أبو هاشم الجعفري عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: سمعت أبا محمد عليه السلام يقول: "من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل ليتني لم أؤاخذ إلا بهذا".

إن الأستاذ الإمام الخميني ـ روحي فداه ـ بعد بيان أن العجب يفني الإيمان والأعمال ويفسدها, كما في رواية علي بن سويد حيث سأل الإمام عن العجب الذي يفسد العمل, وبين الإمام بعض درجاته والروايات الأخرى في هذا المقام قال:

إن العجب شجرة خبيثة, ثمرها كثير من الكبائر والموبقات, فإذا استقر في القلب جذره, فينجر أمر الإنسان على الكفر والشرك وأكثر منهما, ومن أحد مفاسده استصغار الذنوب, بل الإنسان المعجب لا يكون في صدد إصلاح نفسه, ويزعم أنها طاهرة مطهرة, ولا يهتم في وقت من الأوقات أن يطهر نفسه من قذر المعاصي, والحجاب الغليظ من العجب يمنعه أن يرى مساوئ نفسه, وهذه مصيبة تمنع الإنسان من جميع الكمالات, وتبتليه بأنواع النواقص, وتسبب الهلاك الأبدي للإنسان, وتعجز أطباء النفوس عن العلاج. انتهى.

3 ـ الحرمان من فوائد الموعظة والإرشاد:

من مصائب العجب التي يبتلى الإنسان بها أن الإنسان نتيجة هذا المرض الروحي ونتيجة اعتقاده بتزكية نفسه والمقام الذي له عند الله ينظر إلى الغير بنظر الاستجهال, ولا يرى لنظراتهم قيمة, ونتيجة هذه الحالة أنه لا يقبل نصيحة من أي ناصح وموعظة من أي واعظ, ومن حرم عن فيض الموعظة فللنفس والشيطان في إغوائه مجال واسع. فما في الروايات وكلمات الأعاظم والشعراء والحكماء من التأكيد على مجالسة أهل الصلاح والارتباط بالعالم, حتى أن النظر إلى وجه العالم عبادة, والنظر إلى باب بيته عبادة على ما في الروايات, من جهة أن لا تجد النفس والشيطان مجالاً لإغوائه, لأنه نتيجة مجالسته مع العلماء والحكماء يكون بصيراً بعيوب نفسه, ويراها مقصرة في طريق السلوك إلى الله, ولكن إذا انقطع عن مجالستهم فتحيط به الآفات ويغفل عن عيوبه, فيتوقف عن السعي في طلب المقصود, ويزعم أنه وصل المقصد ولا يحتاج بعد إلى السعي, ومن كان هذا حاله فهلاكه قطعي وسقوطه حتمي.

يقول الإمام الخميني دامت بركاته: من مفاسد العجب أن ينظر إلى عباد الله بعين الحقارة, ويرى أعمال الناس كلا شيء وإن كانت أفضل من أعماله, وهذا أيضاً من أحد طرق هلاك الإنسان وشوك في طريقه .

4 ـ الغفلة عن آفات العباد:

من آفات العجب أن صاحبه عوض أن يرى عيوب نفسه ونواقص أعماله يصير أعمى عن هذه, فلا يفتش أعماله ولا يتفحص عباداته, حتى أن النفس والشيطان إذا نفذا فيها من الطرق الأخرى كالرياء وغيره قام بعلاجه قبل أن تفوت الفرصة منه, فإنه ربما يكون بواسطة هذا المرض أن لا يصحح الشرائط الظاهرية لمناسكه وعباداته, وتكون أعماله وعباداته باطلة, حتى بحسب ظاهر الشرع وعلى طبق فتاوى علماء الشريعة, ولكنه حيث أنه معجب بأعماله لا يفتش عنها لكي يطبق أجزاءها وشرائطها الظاهرية على الشرع المقدس, فيتوجه المسكين إلى ذلك في وقت أن عبادة خمسين سنة من عمره باطلة, ولم تكن صحيحة ولو بمقدار أن لا يلزمه القضاء والإعادة, وأي عيب أعظم من أن يغفل الإنسان عن رؤية معايبه, كما يقول (ص): "كفى المرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عنه من نفسه" وقال علي بن محمد الهادي (ع): "من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه".

اللهم بصرنا بعيوب أنفسنا لتكون هذه البصيرة من إحدى علامات حبك لنا كما قال عليه السلام: "إن الله إذا أحب عبداً بصره بعيوب نفسه".

5 ـ عدم الاعتقاد برحمة الله وفضله:

من مفاسد العجب أنه يضعف اعتماد الإنسان على فضل الله تبارك وتعالى: إن المعجبين باعتمادهم على أعمالهم يقعون في ظلمة ونكبة شديدة, بحيث أنه لو ذكر أحياناً شيء من فضل الله ورحمته غير متناهية فهم ينكرون بنحو من الإنكار, كأنهم يحبون أن يعمل الله سبحانه وتعالى مع خلقه بعدله, حتى يكون المعجبون من الناجين بزعمهم ولا يكون تعبهم في الأعمال هدراً. وبعبارة أخرى: إن مرض العجب يحدث فيهم مرض الحسد أيضاً, فعلى فرض المحال لو أنهم نجوا بعدل الله فلا يرغبون أن ينجو سائر الناس بفضله تعالى؛ هؤلاء الأشخاص مع أنهم مستغرقون في الذنوب, بل هم تجسم للذنب والعصيان, إذا سمعوا من أحد يقول إن الله سبحانه يغفر لمن يشاء ولا يبالي بأحد ولا يخشاه, فعوضاً عن أن يسروا ويفرحوا بهذا القول, ربما ينكرون هذا بقلوبهم, إن لم ينطقوا به بلسانهم, فيعترضون على الله بأنه سبحانه لماذا يغفر؟ والحق أنه لا يغفر! لأنه إذا غفر للآخرين فما الفرق بيننا(نحن الذين أتعبنا أنفسنا وسعينا في مسلك النسك والعبادات) وبينهم؟ وهم كما قال أمير المؤمنين (ع): "يخاف على غيره بأدنى من ذنبه, ويرجو لنفسه بأكثر من عمله, يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه, ويستكثر من طاعته ما يستقل أكثر منه من غيره".

ونتيجة لهذا المرض ينكر المعجبون أكثر الروايات في جانب الرجاء الواردة من أهل البيت عليهم السلام, وخصوصاً بالنسبة على شيعتهم, فإنهم إما يردونها أو يؤولونها بشيء من التوجيه والتأويل, ولهذا الذي ذكرنا شواهد كثيرة نذكر واحداً منها كنموذج لغيرها:

روى السيد الجليل ابن طاووس رضوان الله عليه في كتاب الإقبال رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) في فضيلة يوم الغدير وفيها: "يأمر الله فيها الكرام الكاتبين أن يرفعوا القلم عن محبي أهل البيت وشيعتهم ثلاثة أيام من يوم الغدير, ولا يكتبون لهم شيئاً من خطاياهم كرامة لمحمد وعلي والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين".

هذه الرواية من جملة المئات من الروايات التي صدورها في الجملة من أهل البيت قطعي ولها تواتر معنوي, ولكنها ثقيلة في مذاق المتقدسين العباد والنساك المعجبين بأعمالهم, فيستشكلون فيها في غطاء الدفاع عن الدين, وأن الروايات من هذا القبيل تكون موجبة للتجري للبعض فيرتكبون المعاصي في الأيام الثلاثة للغدير, متكئين على هذه الرواية.

هؤلاء في كلامهم هذا ليس لهم هم الدين؛ وإنما جذر هذه الإشكالات كما أشرنا إليه هو مرض العجب, وحيث أنهم يعتمدون على أعمالهم ولا يرون أنفسهم محتاجة إلى العنايات الإلهية فيظهرون هذه التأسفات للدين, ولكن رجلاً إلهياً وربانياً كابن طاووس, الذي له اتصال معنوي بالملكوت الأعلى, ويعترف بهذا جميع العلماء والأعاظم من المسلمين, وهكذا المحدث الجليل المجلسي وغيرهما من الأعاظم في الدين, مع أن التعصب المذهبي لهم أشد, وحمايتهم عن الدين أكثر من هؤلاء المتقدسين يقيناً, قد كتبوا هذه الرواية ونظائرها في كتبهم, ولم يخافوا من تجري المطلعين القارئين عليها للمعصية, ولكن هؤلاء (المرضعات اللاتي هن أرحم من الأمهات) أو الفروع الزائدة على الأصل, يدافعون عن حرائم الدين ويدعون أن كتابة هذه الرواية وأمثالها يجرئ الناس على المعصية. لا بد أن يقال لهؤلاء المدعين المغرورين إن حجاب رؤية النفس وعبادتها مانع عن الإيمان بهذه الحقائق, وإلا فلا مجال للوحشة من أمثال هذه الرواية ولا محل للإشكال, فأي فرق بين أن يغفر الذنب المكتوب أولا يكتب أصلاً, أليست الآيات الصريحة والأخبار المتواترة في أن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً حتى الشرك مع التوبة, وهذا وعد من الله والله لا يخلف الميعاد, وغير الشرك أيضاً يغفره من دونه توبة إن شاء, وان كان قد أذنب سبعين سنة فالذي يغفر الذنب لسبعين سنة ويمحوه بإشارة منه تعالى, وليس محو الذنوب فحسب, بل بمقتضى تجلي اسم "يا مبدل السيئات حسنات" يكتب الحسنة مكان السيئة, أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات, فلو كانت هذه الآيات الصريحة والروايات الصحيحة موجبة لتجري الناس على المعصية فلتكن هذه الرواية أيضاً موجبة كذلك، وكل ما تجيبون به بالنسبة إلى هذه الآيات والروايات نجيب به بالنسبة إلى هذه الرواية, وما ذكرناه جواب نقضي على الاصطلاح العلمي.

وأما الجواب الحلي والتحليل في المسألة: إن من كان محباً لعلي عليه السلام بالحب الحقيقي فهو في أيام الغدير مستغرق في بحر الفرح والسرور, فكما أن المستغرق في البحر والمحاط بأمواج البحر المتلاطمة لا يقبل أية نجاسة من الخارج ولا تؤثر فيه ولا تقذره, بمعنى أن غلبة الماء وإحاطته لا تدع مجالاً لتأثير النجاسة فيه؛ فأيام الغدير لا تدع مجالاً لتأثير المعصية الذي هو بمعنى الكتابة والإثبات, ولا تكون موجبة للتجري أيضاً, لأن المحب لعلي عليه السلام ينزجر عن المعصية بالفطرة, ولو صدر منه ذنب فبحكم غلبة الطبيعة والعوارض الخارجية, وهو بعد ارتكاب الذنب وحتى حين ارتكابه يكون خجلاً من خطيئته ونادماً على معصيته, وهذا من أحد العوامل المهمة لعدم تأثير الذنب وموجب لغفران الله, وليس في تلك الأيام الثلاثة فحسب بل في جميع الأيام وطول العمر وليست حقيقة التوبة إلا هذا؛ فإن التوبة هي الندم وهذا مما قضى به ربنا تعالى جده, فمن لم يرض بقضاء الله وأحكامه فليفعل ما يشاء ويصنع ما يقدر.

بناء على هذا فليس في الرواية مجال لأي توجيه, وتكلف فيه الذي ارتكبه بعض من أن هذه الرواية وما يشابهها سالبة بانتفاء الموضوع, بمعنى أن محب علي عليه السلام في تلك الأيام لا يرتكب ذنباً, أو مثل ما ارتكبه بعض على ما نقله بعض المتتبعين من الفرق بين الذنب والخطيئة, فيقال بأن الخطيئة هي التي لا تكتب وأما الذنب فهو الذي يكتب, وبناء على هذا التوجيه أشكلوا على المجلسي بأنه كيف ترجم الخطايا في الرواية بالذنب في كتابة "زاد المعاد", وخلاصة القول إنهم فرقوا بين الخطيئة والذنب, وقالوا بأن المعصية بمعنى الذنب الذي يؤتى به بالتعمد والقصد, والخطيئة هي الذنب الذي يصدر بغير عمد ولا إرادة، وما ذكر في الرواية أنه لا يكتب في الأيام الثلاثة من الغدير هي الخطيئة، بمعنى الذنب الذي يصدر من غير عمد وإرادة، لا المعصية التي تصدر عن عمد وإرادة، فإنها يطلق عليها الذنب لا الخطأ. ولكن هذا الفرق عبث بلا موجب، لأن الذنب في كتب اللغة بمعنى مطلق المعصية سواء أكانت عن عمد أو غير عمد، ولكن الخطيئة فقد اختلفت في أنه هل هي مطلق الذنب المخصوص الذي يصدر عن عمد، كما في المنجد: الخطيئة الذنب وقيل المتعمد منه جمعه خطايا وهكذا في منتهى الأرب فليراجع. ومضافاً إلى ذلك من معناه اللغوي قد استعملت هذه المادة ـ الخطيئة ـ في القرآن في أكثر من عشرين مورداً ولا يمكن إرادة الذنب الذي صدر بغير عمد وإرادة في أكثرها كقوله تعالى: {ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون} {وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة}. {كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة خاطئة}. {بلى من كسب سيئةً وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً}. فكيف يمكن في هذه الموارد التي هدد الله سبحانه بهذه التهديدات الشديدة أن يكون المراد من الخطيئة الذنب الذي صدر من غير عمد وإرادة؟ أو يكون فرعون وقوم نوح وغيرهم من المذنبين قد ارتكبوا الذنب بلا إرادة وعمد؟ ومع الغض عن جميع ذلك. ما معنى العفو عن الخطيئة التي صدرت من غير عمد وإرادة في تلك الأيام الثلاثة مع أن الرواية في مقام الامتنان وهذا العفو لا يختص بها؟ فمن الواضح أن هذه التوجيهات والتوضيحات غير قابلة للقبول، ومن المثل المعروف في الفارسية "إنشاد الشعر والعجز عن القافية" ولإمام الأمة وقائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني دامت بركاته بمناسبة الروايات الواردة في فضل البكاء من خشية الله كلام أنقل ترجمته زيادة في الفائدة:

كلام في المقام للإمام الخميني:

يقول الإمام دام ظله: مما لابد من الإشارة إليه أن بعض النفوس الضعيفة غير المطمئنة يخدشون بأمثال هذه المثوبات الكثيرة للأمور الجزئية، غفلة عن أنه إذا كان شيء صغيراً في هذه الدنيا في أعيننا فلا يدل على أن صورته الغيبية والملكوتية صغيرة وحقيرة، فربما يكون أن موجوداً صغيراً يكون ملكوته وباطنه في كمال العظمة والمجد، كما ان الهيكل المقدس والصورة الجسمانية للرسول الأكرم الخاتم والنبي المكرم المعظم صلى الله عليه وآله كان من أحد الموجودات الصغيرة في هذا العالم، ولكن روحه المقدسة كانت محيطة بالملك والملكوت، وواسطة لإيجاد السموات والأرضين. فالحكم بحقارة شيء وصغره بحسب الصورة الباطنية والملكوتية، فرع من العلم بعالم الملكوت وبواطن الأشياء، ولا يحق لأمثالنا مثل هذا الحكم، ولابد لنا أن نفتح أعيننا وآذاننا إلى كلمات علماء عالم الآخرة؛ أعني الأنبياء والأولياء عليهم السلام، هذا مضافاً إلى أن مبنى ذلك العالم على التفضل وبسط الرحمة غير المتناهية للحق جلّ وعلا، وليس لفضل الله تعالى حد ولا نهاية، والاستبعاد من فضل الجواد على الإطلاق وصاحب الرحمة غير المتناهية لينشأ من غاية الجهل، فإن جميع هذه النعم التي تفضل بها على عباده، والتي تعجز العقول وتحتار من إحصاء كلياتها، كلها كانت من دون أن يسبقها السؤال والاستحقاق، فأي مانع من أن يتفضل بأضعاف مضاعفة من هذه المثوبات على عباده من دون أية سابقة؟ فهل يستبعد ذلك من عالَم كان بناؤه على نفوذ الإرادة الإنسانية، وقيل في حقه: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين}. مع أن اشتهاء الإنسان ليس له حد محدود ولا قدر مقدر، إن الله تبارك وتعالى قرر ذلك العالم طوراً والإرادة الإنسانية على نحو يكون ما أراد الإنسان موجوداً بمحض الإرادة.

فيا عزيزي: ليست الأخبار والأحاديث الشريفة لهذه المثوبات واحداً أو اثنين أو عشرة لكي يكون للإنسان مجال لإنكارها، بل هي فوق حد التواتر، وجميع الكتب المعتبرة للأحاديث مشحونة بهذا النحو من الأحاديث، فهذه مثل أن يسمع الإنسان بأذنه من المعصومين عليهم السلام، وليست على نحو يكون باب التأويل فيها مفتوحاً، فالإنكار لمثل هذا المطلب الذي هو مطابق للنصوص المتواترة، وليس مصادماً مع البرهان بل موافق له بنحو من البرهان من ضعف الإيمان وغاية الجهالة، ولابد للإنسان أن يكون مسلماً لقول الأنبياء والأولياء عليهم السلام، وليس شيء أفضل لاستكمال الإنسان من التسليم لأولياء الحق، وخصوصاً في الأمور التي لا سبيل للعقل إلى كشفها ولا طريق لفهمها إلا من طريق الوحي والرسالة، فالإنسان إن أراد أن يدخل عقله الصغير والأوهام والظنون في الأمور الغيبية الأخروية والتعبدية الشرعية، فينتهي أمره إلى إنكار المسلمات والضروريات، وبالتدريج ينجر أمره من القليل إلى الكثير، ومن الأسفل إلى الأعلى؛ فلو فرضنا أنك خدشت في هذه الأخبار وسندها مع أنه ليس فيها مجال للإنكار، فلست خادشاً في الكتاب الكريم الإلهي والقرآن المجيد السماوي، فإن فيه أيضاً أمثال هذه المثوبات مذكورة كقوله تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} ومثل قوله: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء}. بل بظني ـ أنا الكاتب ـ أن أحد مباني هذه الاستبعادات والإنكارات هو العجب واستعظام العمل. فمثلاً إذا صام أحد يوماً أو أحيى ليلة بالعبادة، ثم سمع لعمله مثوبات عظيمة فلا يستبعدها مع أن الاستبعاد بعينه موجود لو كان للعمل أجره. لكنه حيث يستعظم عمله ويعجب به فيصدق ذلك الثواب.

أيها العزيز:

لو فرضنا أننا في جميع عمرنا وهو خمسون أو ستون سنة قمنا بجميع الوظائف الشرعية، وانتقلنا من هذه الدنيا بالإيمان الصحيح والعمل والتوبة الصحيحة، فما مقدار جزاء أعمالنا وإيماننا هذا؟ مع أن بحسب الكتاب والسنة وإجماع جميع الملل فإن مثل هذا الشخص مورد لرحمة الحق تعالى، ويدخل الجنة الموعودة، جنة يكون مخلداً فيها في النعمة والراحة، ومؤبداً في الرحمة والروح والريحان، فهل في هذا مجال للإنكار، مع أنه لو كان المبنى هو جزاء العمل، ونفرض باطلاً أن أعمالنا لها جزاء فلا يكون جزاؤه هذا الذي يعجز العقل عن تصوره كمّاً وكيفاً. فعُلم من ذلك أن المطلب مبتنٍ على أساس آخر، ويدور على محور آخر، فإذن لا يبقى أي استبعاد ولا ينفتح للإنكار أي طريق. انتهى كلامه دام ظله.

ومن مفاسد العجب أنه يحمل صاحبه على الرياء، وذلك لأن التظاهر بالجمال من الغرائز البشرية. والكف عن إراءة الجمال لصاحبه صعب جداً، كما أن الكف عن الطعام والشراب صعب للجائع والعطشان. وللعرفاء الشامخين في هذا المجال لطائف ودقائق لا يناسب المقام ذكرها، وهذا المعنى لا يفرق بين الجمال الحقيقي والجمال المتوهم والموهوم، فالإنسان المعجب حيث أن أعماله جميلة في نظره، وحيث أن الأعمال صادرة منه يجب إراءتها للغير، ومن الصعب أن يقوم في مقابل هذا الميل النفساني، فإنه إن كانت عنده هذه الإرادة فلم يبتل بالعجب من أول الأمر، وهذا بخلاف من لم يكن معجباً بأعماله، فإنه لا يرى أعماله شيئاً بل يراها كلا شيء، ويرى أخلاقه فاسدة وإيمانه غير قابل للإراءة إلى الغير، فلا يعجب بذاته وصفاته وأعماله، بل يرى نفسه ولوازم نفسه كلها غير جميلة، ومثل هذا الشخص لا يكون في مقام إراءة النفس وإظهار أعمالها للغير، وهو كما قال الإمام الخميني دام ظله: "إن المتاع الفاسد والقبيح لا يعرض في سوق المكارة" ولكن إذا رأى نفسه وأعماله قابلة للعرض فيكون في مقام إراءة أعماله الجميلة بجمالها المتوهم. فبناء على هذا فجميع المفاسد التي ذكرت في هذه الأوراق لابد وأن تعد من مفاسد العجب أيضاً. وفي مجال مفاسد العجب كلام للأستاذ الأعظم في الأخلاق والعرفان الإمام الخميني دامت بركاته وإليك ترجمة نصه:

موعظة بليغة للإمام الخميني:

وليعلم الشخص المعجب أن هذه الرذيلة بذر الرذائل الأخرى، ومنشأ لأمور كل واحد منها سبب مستقل للهلاك الأبدي والخلود في العذاب، فإذا عرف هذه المفاسد عرفاناً صحيحاً، وراجعها بالدقة وراجع الأخبار والآثار الواردة من الرسول الأكرم وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين، فيرى لنفسه البتة أن يكون في صدد إصلاحها ويطهرها من هذه الرذيلة، ويقطع جذورها عن باطن النفس، لئلا ينتقل ـ ولا سمح الله ـ بهذه الصفة الرذيلة عن هذا العالم، فيرى حينما أغلقت العين الدنيوية وطلع سلطان البرزخ والقيامة أن حال أهل المعاصي الكبيرة أحسن منه، وقد جعلهم الله تعالى مستغرقين في بحار رحمته، للندامة التي كانت فيهم، أو الاعتماد الذي كان لهم بفضل الحق تعالى. وهذا المسكين حيث أنه رأى نفسه مستقلة، ورأى في باطن ذاته أنه مستغن عن فضل الله تعالى، فالله سبحانه ناقش في حسابه وحسابه بميزان عدله كما كان هذا طلبه، فيعرفه أنه لم يأت بعبادة للحق تعالى أصلاً، وجميع عباداته كانت موجبة للبعد عن جناب الحق، وجميع أعماله وكل إيمانه لم تكن باطلة ولا شيئاً فحسب، بل كانت موجبة لهلاكه وبذراً للعذاب الأليم وسبباً للخلود في الجحيم، ولا سمح الله أن يعامل الله سبحانه أحداً بعدله، فإنه لو فُتح هذا الورق لم يكن لأحد من الأولين والآخرين طريق إلى النجاة. إن أئمة الهدى عليهم السلام والأنبياء العظام كانوا يتمنون في مناجاتهم مع الله فضله سبحانه، وكانوا يهالون من العدل والمناقشة في الحساب.

إن مناجاة الخواص في جناب الحق والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم مشحونة بالاعتراف بالتقصير والعجز عن القيام بالعبودية. ففي محل يعلن أفضل الموجودات والممكن الأقرب إعلان: "ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك" فحال سائر الناس معلوم. نعم. هم كانوا عارفين لعظمة الحق تعالى وعالمين لنسبة الممكن إلى الواجب، وأنه لو قضوا عمر الدنيا بالعبادة والطاعة والتحميد والتسبيح لم يؤدوا شكر نعمة الله، فكيف بأن يؤدوا حق ثناء الذات والصفات؟ إنهم عالمون بأن موجوداً ليس له شيء من نفسه، وأن الحياة والقدرة والعلم والقوة وسائر الكمالات كلها ظل كماله تعالى، والممكن فقير بل هو فقر محض ومستظل لا مستقل، أي كمال للممكن من نفسه حتى يعرض كماله للبيع؟ أي قدرة له حتى يساوم على عمله؟. هم العرفاء بالله والعرفاء لجمال الحق وجلاله، هم شاهدوا بالشهود والعيان نقصهم وعجزهم وكمال الواجب، ونحن المساكين الذين أحاط بنا حجاب الجهل والغفلة والعجب، وإن حجاب المعاصي القلبية والقالبية قد حجب أعيننا وآذاننا وعقولنا وحواسنا وبقية مداركنا، بحيث نعرض وجودنا في مقابل السلطنة القاهرة للحق تعالى ونقول بالاستقلال والشيئية لأنفسنا.

فيا أيها الممكن المسكين الذي ليس عنده خبر من نفسه ومن نسبته مع الخالق!! أيها الممكن الشقي الغافل عن وظيفته بالنسبة إلى مالك الملوك!! هذا الجهل وعدم العلم هو الذي كان سبباً لتلك الشقاوات، وابتلانا بهذه الظلمات والكدورات، إن خراب الأمر من مبدئه، وكدورة الماء من عينه، أن أعيننا لرؤية المعارف عمياء وقلوبنا ميتة، وهذه سبب لجميع المصيبات، ولسنا في صدد إصلاحها أيضاً.

اللهم أنت هب لنا توفيقاً وعرفنا وظائفنا وأعطنا نصيباً من أنوار المعارف التي ملأت بها قلوب العارفين والأولياء، وأرنا إحاطة قدرتك وسلطنتك، وأرنا نواقصنا وأفهمنا معنى الحمد لله رب العالمين. نحن المساكين الغافلين الذين ننسب المحامد كلها إلى الخلق، وعرف قلوبنا أنه ليست محمدة من مخلوق أصلاً، وأرنا حقيقة: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وأورد في قلوبنا القاسية المكدرة كلمة التوحيد المباركة فإنا نحن أهل الحجاب والظلمة، وأهل الشرك والنفاق، نحن المحبون لأنفسنا والمعجبون بها، وأخرج حب النفس وحب الدنيا من قلوبنا، واجعلنا محبين لله والعابدين له، إنك على كل شيء قدير. انتهت الموعظة البالغة للإمام الخميني دامت بركاته.

* * *

 

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست