.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الدعوة إلى الإخلاص من الأستاذ الإلهي الإمام الخميني دام ظله

موعظة بليغة عن الأستاذ الإلهي الإمام الخميني دام ظله

مراتب الرياء من جهة الخفاء والظهور وتحقيق دقيق في أمر الرياء

 

الدعوة إلى الإخلاص من الأستاذ الإلهي الإمام الخميني دام ظله:

قال دام ظله: ثم أعلم أن مالك الملك الحقيقي وولي النعمة الواقعي, الذي أكرمنا بهذه الكرامات, وهيأ لنا هذه التهيئة قبل أن نقدم إلى هذا العالم, من الغذاء اللطيف ذي المواد الصالحة المناسبة لمعدتنا الضعيفة, ومن مرب وخادم بالحب الجبلي الذاتي لتكون خدمته بلا منة, ومن محيط وهواء مناسب وسائر نعمه الظاهرة والباطنة, وهيأ لنا في عالم الآخرة وعالم البرزخ تلك التهيئة قبل أن ننتقل إليه. فهذا الولي للنعم طلب منا أن نخلص قلوبنا له أو لكرامته, وتكون نتيجة ذلك أيضاً لنا وننتفع بذلك. ومع ذلك كله لا نستمع إلى أمره ونخالفه ونسلك طريقاً مخالفاً لرضاه! فأي ظلم عظيم ارتكبناه! وأي ملك الملوك جادلناه! وليست خسارته إلا لأنفسنا, ولا يضر سلطنته شيئاً ولا نقدر أن نخرج عن سلطنته وسلطته, فلا فرق لديه إن كنا مشركين أو موحدين, فإن كنا عارفين بالله أو متقين زكيِّي الأنفس فلأنفسنا, وإن كنا كافرين ومشركين فنضر أنفسنا. إن الله غني عن العالمين وطاعتهم وإخلاصهم وعبوديتهم, فلا يضر ملكه عصياننا ولا ينقصه شركنا ونفاقنا, ولكن حيث أنه أرحم الراحمين اقتضت رحمته الواسعة وحكمته البالغة أن يهدينا طرق الهداية, وسبل الخير والشر والحسن والقبح, وأن يرينا مزلات طرق الإنسانية وزلل سبل السعادة, ولله تعالى المنة العظيمة الجسيمة في هذه الهداية, بل في تلك العبادات والإخلاص والعبودية, وما دام لم تنفتح بصيرتنا والعين البرزخية التي الواقع لم نقدر أن نفهمها, وما دمنا نحن في هذا العالم الضيق المظلم والطبيعة المظلمة مقيدين بسلاسل الزمان ومحبوسين في سجن امتداد المكان المظلم لم نكن قادرين ان ندرك المنن العظيمة لله تعالى ولا يمكن لنا أن نتصور النعم الإلهية في هذا الإخلاص والعبادة وفي تلك الهداية.

إياك أن تظن أن لنا المنة على أنبياء الله المعظم, وأوليائه المكرمين, أو علماء الأمة الذين هم هداة سعادتنا وخلاصنا وقد أنجونا من الجهل والظلمة والشقاوة, ودعونا إلى عالم النور والسرور والبهجة والعظمة وتحملوا المشقات والأتعاب ويتحملون لأجل تربيتنا ولأجل نجاتنا من الظلمات, التي هي من لوازم الاعتقادات الباطلة والجهالات المركبة, ومن الضغوط والعذاب التي هي صورة الملكات والأخلاق الرذيلة, ومن الصور الموحشة المدحسة, التي هي ملكوت الأعمال والأفعال القبيحة, ولأجل أن ننال الأنوار والبهجات والمسرات, والروح والراحة والحور والقصور التي لا نقدر أن نتصورها, وعالم الملك مع ما له من العظمة أضيق من أن يتحمل حلة واحدة من حلل الجنة, وإن أعيننا هذه لا تطيق أن ترى شعرة واحدة للحور العين, وكل تلك الصورة الملكوتية للعقائد والأعمال التي أدركها بالوحي الإلهي الأنبياء العظام, وبالأخص صاحب الكشف الكلي والدستور الجامع خاتم الأنبياء (ص), ورأوها وسمعوها ودعونا إليها, ونحن المساكين كالأطفال الذين يخالفون أحكام العقلاء بل يخطئوهم, نجادلهم ونخالفهم دائماً, ولكن تلك النفوس الزكية المطمئنة, والأرواح الطيبة الطاهرة لشفقتهم ورحمتهم على عباد الله, لم يقصروا عن دعوتهم لجهلنا, وجرونا إلى الجنة والسعادة بأية وسيلة من القوة والمال, دون أن يطلبوا منا أجراً وثواباً.

وما سأله رسول الله(ص) من الأجر وهو مودة ذوي القربى, فصورة هذه المودة في عالم الآخرة لعلها تكون أنور صورة لنا, فهذا الأجر لنا أيضاً ولوصولنا إلى السعادة والرحمة, فأجر الرسالة قد عاد إلينا ونحن استفدنا منه,{قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله}. فأية منة لنا نحن المساكين عليهم, وأي نفع لإخلاصنا لهم, وأية منة لكم ولنا على علماء الأمة, من العالم الذي يبين المسائل والأحكام, إلى النبي المكرم, إلى ذات الحق المقدسة جل جلاله, فكل على حسب مرتبته ومقامه يهدينا إلى طريق الهداية, فلهم علينا منن كثيرة لا نقدر على جزائهم في هذا العالم, وهذا العالم يليق بجزائهم, فلله ولرسوله ولأوليائه المنة كما قال تعالى:{قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين. إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون}. فإن كنا صادقين في ادعائنا الإيمان فلله المنة علينا في هذا الإيمان, والله بصير بالغيب ويعلم صور أعمالنا وصور إيماننا وإسلامنا في عالم الغيب, وأما نحن المساكين فحيث إنا لا نعلم شيئاً من الحقيقة, فنتعلم المسائل من العالم بها ونمن عليه, ونقلد العالم فنمن عليه, ونصلي الجماعة مع العالم فنمن عليه, مع أن لهم المنة علينا ونحن لا نعلم بها, فهذا المن منا عليهم يقلب أعمالنا ويجعلها في سجين ويجعلها هباء منثوراً.

المقام الثاني للرياء

قد علم مما ذكرنا عن الأستاذ الأعظم والمربي الأكبر للأخلاق الإمام الخميني دام ظله أن للرياء في أصول العقائد المقام الأول وهو أشد المراتب وأقبحها.

وأما المقام الثاني للرياء فهو عبارة عن الرياء في الملكات الفاضلة والأخلاق الحميدة وله أيضاً على ما ذكره دام ظله مرتبتان: الأولى أن يظهر الخصال الحميدة والملكات الفاضلة لجلب قلوب الناس, والثانية أن يتبرأ من الخصال الذميمة والملكات الخبيثة لنفس الغرض, وقال الأستاذ في ذلك: إن الرياء في هذا المقام وإن لم يكن في اشتداد القبح كالمقام الأول ولكن بعد التنبه بأمر يمكن أن ينجر أمر المرائي في هذا المقام أيضاً إلى ما يكون كالمرائي في المقام الأول.

وهو أن للإنسان في عالم الملكوت صورة, ويمكن أن تكون تلك الصورة صورة غير إنسانية لأنها تابعة لملكوت النفس وملكاتها, فإن كنت ذا ملكات فاضلة إنسانية فتلك الملكات تجعل صورتك الملكوتية إنسانية, إذا كان حشرك بتلك الملكات من دون أن تخرج عن طريق الاعتدال, بل الملكات تكون فاضلة حينما لا تتصرف النفس الأمارة فيها, ولا تكون قدم النفس دخيلة في تشكلها, بل كان شيخنا الأستاذ دام ظله يقول إن الميزان في الرياضة الباطلة والرياضة الشرعية الصحيحة هو قدم النفس وقدم الحق, فإذا كان السالك يتحرك بقدم النفس, وكانت رياضته لتحصيل القوى النفسانية وقدرتها وسلطنتها, فرياضته باطلة وينجر سلوكه إلى سوء العاقبة, وإن الدعاوى الباطلة تظهر من هؤلاء. وإن كان السالك قد سلك بقدم الحق وكان طالباً لله, فرياضته حقة وشرعية, والله سبحانه وتعالى يساعده في سلوكه, على ما ينص في الآية الشريفة:{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}. فينجر أمره إلى السعادة ويسقط عنه النفسانية ويهجر عنه إراءة النفس, ومن المعلوم أن الذي يري الناس أخلاقه الحسنة وملكاته الفاضلة النفسانية فقدمه في هذا السلوك قدم النفس, وهو معجب بنفسه ومحب وعابد لها, وإن حب الله لن يجتمع مع حب النفس, وإن رؤيته لن تجتمع مع رؤية النفس, وإنه أمر محال وخيال باطل, فما دامت مملكة وجودك ممتلئة بحب النفس, وحب الجاه والجلال والشهرة والرياسة على عباد الله, لا يمكن أن تكون ملكاتك الملكات الفاضلة وأخلاقك أخلاقاً إلهية, لأن العامل في مملكة وجودك الشيطان, وليست ملكوتك وباطنك صورة الإنسان, فبعد انفتاح العين البرزخية الملكوتية تريك على غير صورة الإنسان كصورة أحد من الشياطين مثلاً, ومن المحال حصول المعارف الإلهية والتوحيد الصحيح لقلب يكون منزلاً للشياطين. فما لم تصر ملكوتك إنسانية, وما لم يطهر قلبك ن تلك الاعوجاجات والإعجابات, لم يكن منزلاً للحق تعالى. ففي الحديث القدسي: "لا تسعني أرضي ولا سمائي بل يسعني قلب عبدي المؤمن". فلا موجود من الموجودات هو مرآة لجمال المحبوب سوى قلب المؤمن. فإن المتصرف في قلب المؤمن هو الحق تعالى لا النفس, وإن العامل في وجوده هو المحبوب. فقلب المؤمن ليس متمسكاً برأيه ومهذاراًَ, قلب المؤمن بين إصبعي الرحمن يقلبه كيف يشاء, فالمتصرف في مملكة قلبه يد الله, وتقليبه وتقلبه بالله تعالى. فأنت يا مسكين العابد نفسك, والمتصرف في قلبك الشيطان والجهل, وقد قطعت يد التصرف للحق تعالى عن قلبك, فبأي إيمان تتوقع أن تكون مورداً لتجلي الحق والسلطنة المطلقة؟ فاعلم أنك ما دمت على هذه الحال, وما دامت هذه الرذيلة وهي إرادة النفس موجودة في نفسك, فأنت كافر بالله ومنسلك في سلك المنافقين, وإن كنت تخال نفسك مسلماً ومؤمناً بالله.

موعظة بليغة عن الأستاذ الإلهي الإمام الخميني دام ظله:

فانتبه يا عزيزي من نومتك ودع الغفلة عنك, وحرم على عينيك نوم الغفلة, واعلم أن الله تعالى خلقك لنفسه كما في الحديث القدسي: يا بن آدم خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي, وفي الخطاب الذي تشرف به موسى قال:{واصطنعتك لنفسي}. وجعل قلبك منزلاً لنفسه كما قال: لا تسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن؛ فإذاً أنت وقلبك من النواميس الإلهية, والله تعالى غيور, فإياك أن تتجاسر على هتكك, وتتعرض لناموس الحق تعالى, وخف غيرة الله أن يفضحك في هذا العالم فضيحة كلما أردت أن تصلحها لا تقدر على إصلاحها, أنت في ملكوت نفسك وفي محضر الملائكة الكرام والأنبياء العظام تهتك الناموس الإلهي والأخلاق الفاضلة التي يتشبَّه بها الأولياء للحق تعالى, تسلمها لغير الحق وتعطي قلبك عدو الحق تعالى, وتشرك في باطن نفسك وملكوتها, فاحذر أن يهتك الحق تعالى ناموس ملكوتك ويفضحك عند الملائكة المقربين, ومضافاً إلى ذلك يفضحك في هذا العالم, ويبتليك بفضيحة لا يمكن جبرانها, وهتك عصمة لا يمكن ترقيعها. إن الله سبحانه ستار ولكنه غيور أيضاً, وهو ارحم الراحمين ولكنه اشد المعاقبين أيضاً, يستر ما لم يتجاوز الحد, وإذا تجاوز الحد فيمكن لا سمح الله بواسطة هذا العمل العظيم والفضيحة الأخلاقية تغلب الغيرة على الستارية, كما سمعته في الحديث الشريف فتنبه قليلاً وارجع وتب إليه, فإنه تعالى رحيم ويتعلل لرحمته, فإن رجعت إليه يستر عليك بغفرانه عيوبك السالفة ولا يطلع أحداً عليها, ويجعلك صاحب الفضيلة, ويجلي فيك الأخلاق الكريمة, ويجعلك مرآة لصفاته, وينفذ إرادتك في ذاك العالم, كما أن إرادته نافذة في جميع العوالم, كما في الحديث في أهل الجنة: "إن الملك يأتي إليهم ويستأذنهم في الدخول, فإذا دخل ناولهم كتاباً من عند الله بعد أن يسلم عليهم من الله, وإذا في الكتاب خطاب لكل إنسان يخاطب به:

من الحي القيوم الذي لا يموت إلى الحي القيوم الذي لا يموت, أما بعد فإني أقول للشيء كن فيكون, وقد جعلتك اليوم تقول للشيء كن فيكون.

قال(ص): فلا يقول أحد من أهل الجنة لشيء كن إلا ويكون".[1] فالأمر لك حينئذ إذا لم ترد أن يكون لك هذا القدر, فأنت إذا سلمت إرادتك إلى الله, فيجعلك سبحانه مظهراً لإرادته متصرفاً في الأمور, وتكون مملكة الإيجاد تحت قدرتك في الآخرة, وهذا غير التفويض المحال الباطل كما قرر في محله.

فأنت أيها العزيز اختر لنفسك ما شئت من هذين الأمرين, فإن الله تعالى غني عنا وعن جميع الخلق وغني عن إخلاصنا وإخلاص جميع موجودات العالم.

المقام الثالث للرياء

وهو الرياء المعروف عند الفقهاء رضوان الله عليهم وله أيضاً درجتان:

الأولى: أن يأتي الإنسان بالعمل والعبادة الشرعية أو بالراجحات العقلية بقصد أن يريها الناس ويجلب قلوبهم؛ سواء يقصد الرياء بذات العمل أو بكيفيته أو بشرطه أو بجزئه, على ما ذكره الأصحاب في الكتب الفقهية.

والثانية: أن يترك عملاً بذلك المقصود.

قال الأستاذ الأعظم الإمام الخميني:

اعلم أن الرياء في هذا المقام أكثر وقوعاً وشيوعاً من سائر المقامات, وذلك لأن الأكثر منا ليس أهلاً للمقامين المتقدمين, ولهذه الجهة لا يتعرض الشيطان لنا من ذاك الطريق, ولكن حيث أن عمدة الناس متعبدون وأهل للمناسك والعبادات الصورية, فيتصرف الشيطان في هذا المقام أكثر من غيره, وتكون مكائد النفس في هذه المرحلة أكثر. وبعبارة أخرى, حيث إن الناس بنوعيتهم أصحاب الجنة الجسمانية, ويتحصلون المقامات الأخروية عن طريق الأعمال الحسنة وترك الأعمال السيئة, فالشيطان أيضاً يرد عليهم من هذا المدخل, ويشرب في قلوبهم جذور الرياء والتزوير في أعمالهم, حتى تنمو عليها الأغصان والأوراق, ويبدل حسناتهم سيئات, ويدخلهم جهنم والدركات عن طريق المناسك والعبادات, ويجعل الأسباب التي يمكن أن تعمر بها الدار الآخرة موجبة لتخريبها, ويعمل فيما هو من العليين عملاً تجعله الملائكة بأمر الله تعالى في سجين, فالأشخاص الذين هم أهل هذا المقام وليس لهم زاد وراحلة سوى الأعمال, لا بد لهم أن يواظبوا أنفسهم كمال المواظبة وأن لا يفوت عنهم ـ لا سمح الله ـ هذا الأمر أيضاً, فيكونوا من أصحاب الجحيم بالمرة, ولا يكون لهم طريق إلى السعادة, وتغلق عنه أبواب الجنان, وتفتح عليهم أبواب النيران ـ انتهى كلام الإمام دام ظله ـ .

مراتب الرياء من جهة الخفاء والظهور وتحقيق دقيق في أمر الرياء

اعلم أن الرياء من حيث ظهوره وخفاؤه ذو مراتب: منها ما هو واضح, ومنها ما هو أوضح, ومنها ما هو خفي, ومنها ما هو أخفى.

المرتبة الأولى: وهي أوضح المراتب: أن يعمل الإنسان عملاً رياء بحيث لو لم تكن الجهة الريائية لم يكن يعمله. وهذا هو أوضح مراتبه ولا يحتاج إلى توضيح.

المرتبة الثانية: أخفى من ذلك بقليل: هو أن تكون الجهة الريائية غير باعثة لأصل العمل بل الباعث على أصل العمل إنما هو الجهة الإلهية والقربة إليه تعالى, ولكن الجهة غير الإلهية تكون دخيلة فيه, بحيث يكون العمل مع مراعاة هذه الجهة أسهل منه بدونها, وذلك كمن يكون من عادته التهجد والقيام في الليل للصلاة, ويأتي به كل ليلة ولكن مع الكسل والنعاس في عينيه, ولكن إذا كان عنده ضيف فيقوم تلك الليلة عن فراشه بنشاط وسهولة, ولو لم يكن له رجاء ثواب الله لم يدع لذة النوم لحضور الضيف فقط, ولكن وجود الضيف كان مؤثراً فيه بمقدار أن يخفف عليه القيام والتهجد, وتكون الصلاة عنده أسهل منها إذا كان وحده.

 

المرتبة الثالثة: أن يكون الرياء فيها أخفى من الثانية أيضاً, وهي أن تكون الجهة غير الإلهية غير داخلة لا في أصل العمل ولا في سهولة الإتيان به, ولكن في نفس الوقت تكون مادة الرياء موجودة في القلب, ومن المعلوم أن مثل هذا الرياء لا يمكن أن يشخص إلا بالتجربة الدقيقة كالأمراض الجسمية المزمنة المشكوكة, حيث أنها بعد التحليلات الطبية يتبين وجود المرض, ويشرع الطبيب في علاجه, فكذلك في هذا المرض الروحي لا بد من الدقة فيه فإذا وجد اثر من المرض يعلم بوجود مادته, وعلامة ذلك أنه يجرب نفسه في وقت يطلع الناس على عبادته بالصدفة, فهل يجد في قلبه فرحاً وسروراً من هذا الاطلاع أو لا؟ فإنه ربما يصدر العمل من إنسان بخلوص النية ولا يقصد فيه رياء أصلاً, بل يجتنب عن التظاهر به ويكرهه, ولكنه في نفس الوقت إذا علم به أحد بحكم الصدفة يسر بذلك وكأنه يستريح بعلمه من تعب ذلك العمل, فهذا الفرح والسرور علامة لرياء مكنون في نفسه ومختف في باطنه يرشح منه السرور لأنه لو لم يكن له توجه إلى غير الله ولم يعتن للناس, فلا معنى لفرحه عند علمهم بعمله, والفرح كالنار المختفية في الحجر التي تظهر وتطلع عند إصابة الحجر الحديد, فاطلاع الناس وعلمهم بالعمل بمنزلة إصابة الحجر الحديد يظهر الرياء المكنون, فحينئذ إذا لم يكن لهذا الشخص رد فعل عند هذه اللذة أي عند ظهور السرور في قلبه, ولم يوبخ نفسه لذلك ولم يؤدبها ولم يلقها بكراهة, فتكون هذه اللذة كغذاء لمادة المرض, فتنمو بنمو غير محسوس, ويكون أثر ذلك النمو أنه يوجد في نفسه بالتدريج اقتضاء إيجاد سبب يكون موجباً لاطلاع الناس على عمله, كالتكلم حول الموضوع وإلقاء الكلام عرضاً, فمثلاً: إذا كان من المتهجدين يتكلم عن كيفية برودة الهواء أو حرارته آخر الليل, أو عن شيء مثل ذلك, حتى يفهم غيره أنه كان مستيقظاً في ذلك الوقت.

ولعله أخفى من ذلك أيضاً: أن لا يتكلم بكلام يكون متضمناً لإفهام العمل لا تعريضاً ولا تصريحاً, ولكن يعلم ذلك من زيه وهيئته وشمائله, كنعاس فيه وانخفاض في صوته وذبول في شفتيه؛ أو أنه لا يراقب نفسه في السجود ليتجافى عن الأرض فيؤثر السجود في جبهته, ويكون في عمق ضميره مبتهجاً بذلك وأن فيه أثراً ظاهراً للعبادة أو أنه يكون في مجلس العزاء للحسين عليه السلام أو مجلس الدعاء, وبعد انقضاء المجلس لا يزيل عن عينيه الدموع كاملاً بحيث لا يبقى من البكاء أثراً في عينيه, بل يزيل الدموع بمقدار يبقى أثره ويجلب النظر من الناظرين, وعلامات من هذا القبيل وأخفى من ذلك أن لا يكون فيه شيء من الأمور المذكورة, بمعنى أنه قد يأتي بالعمل خالصاً ولا يرغب في أن يطلع عليه أحد ولا يحب ظهوره, ولكنه مع ذلك يتوقع من الناس أن يبدؤوه بالسلام ويكرموه ويقابلوه بالبشاشة والتوقير, وأن يثنوا عليه, وأن ينشطوا في قضاء حوائجه, ويسامحوه في البيع والشراء, وإذا ورد مجلساً يوسعوا له في المكان, فإن قصر أحد في هذه الأمور ثقل ذلك على قلبه ويستبعده في نفسه, فكأنه يتقاضى الاحترام من الناس للطاعة التي أخفاها, بحيث أنه لو لم يكن قد سبق منه تلك العبادة لما كان متقاضياً ذلك, ولا يستبعد تقصير الناس في حقه, وبنظري أن مثل هذا له جذور من العجب أيضاً, فإنه يطلب ذلك في الحقيقة من الله سبحانه, وأنه تعالى لماذا لم يلق محبة هذا الإنسان في قلوب الناس حتى يحترموه, مع أنه أتى بالعمل الخالص! وبالجملة ما لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق, ولم يقنع بعلم الله, لم يكن خالياً من الرياء أخفى من دبيب النمل, بل من العجب أيضاً, ونتكلم فيه إن شاء الله.

ويحتمل أن يكون هذا المقدار من الرياء محبطاً للأجر والثواب, ولا يخلص من هذا النوع من الرياء إلا عباد الله المخلصين, فإنه ليس للشيطان عليهم سلطان, ولعله تكون إشارة إلى ذلك ما روي عن علي أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "إن الله عز وجل يقول للقراء يوم القيامة: ألم يكن يرخص عليكم السعر؟ ألم تكونوا تبتدؤون بالسلام؟ ألم تكونوا تقضى لكم الحوائج؟ وفي الحديث: لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم".

وقد نقل عن عبد الله مبارك أنه قال: روي عن وهب بن منير أنه قال: إن رجلاً من السواح قال لأصحابه: إنا إنما فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان, فنخاف أن نكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من الطغيان أكثر مما دخل على أهل الأموال من أموالهم؛ إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه, وإن سأل حاجة أحب أن تقضى له لمكان دينه, وإن اشترى شيئاً أحب أن يرخص عليه لمكان دينه,فبلغ ذلك ملكهم, فركب في موكب من الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأ من الناس, فقال السائح: ما هذا؟ قيل هذا الملك قد أظلك, فقال الغلام: ائتني بطعام فأتاه ببقل وزيت وقلوب الشجر, فجعل يحشو شدقه ويأكل أكلاً عنيفاً. فقال الملك: أين صاحبكم؟ فقالوا: هذا, قال كيف أنت؟ قال: كالناس, وفي حديث آخر: بخير, فقال الملك: ما عند هذا من خير, فانصرف عنه. فقال السائح: الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي ذام.

نعم يا عزيزي إن المخلصين كانوا خائفين من الرياء الخفي, ويجتهدون في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة حرصاً منهم على إخفائها, أكثر من حرص الناس على إخفاء أعمالهم السيئة وفواحشهم, كل ذلك رجاء أن تخلص أعمالهم الصالحة, فيجازيهم الله يوم القيامة بإخفائهم هذه على ملأ من الناس.

هؤلاء المخلصون علموا وتيقنوا أن الله سبحانه لا يقبل إلا الخالص, فإنه قال:{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين}. وأن يوم القيامة يوم فاقتهم وحاجتهم إلى العمل الصالح, فإنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وقد مثل لذلك أحد العلماء مثلاً يقول:

إن مسافري البوادي إذا توجهوا إليها فلا يستصحبون مع أنفسهم إلا النقد الخالص الرائج, لأنهم يعلمون أن الحاجة في البادية أشد, وأهلها لا يقبلون إلا الخالص من النقد.

فكذلك أرباب القلوب, يشاهدون يوم القيامة والزاد الذي يتزودونه من التقوى, ويعلمون أن خير الزاد التقوى, فيأتون بالأعمال نقية من الرياء, ويتقون من جميع مراتب الرياء.



[1]  أقول: أضف إلى ذلك ما قاله الشيخ العارف في الفص الإسحاقي من فصوص الحكم: العارف يخلق بهمته ما يكون له وجود من خارج محل الهمة, ولكن لا تزال الهمة تحفظه. ص124 رسالة الوحدة ل حسن زادة آملي وسند الرواية في الكتاب المذكور الفتوحات المكية المجلد الثاني ص150 آخر باب 73 سؤال 154طبع بولاق.

 

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست