.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

 

 

البحث الثالث

بحث الثقافة الإسلامية والتربية

المقدمة

إن الثقافة نتاج بشري تتوصل إليها المجتمعات من خلال تفاعلها مع خبرات الحياة المختلفة. وذلك حينما تدفعها حاجاتها المستمرة إلى الإشباع من أجل البقاء والاستمرار.

وبقاء الكائنات الحية كلها واستمرارها بقاء واستمراراً حيوياً. أما الإنسان فبقاؤه واستمراره إلى جانب أنه حيوي فهو ثقافي بالدرجة الأولى. فهناك ميلاد ثقافي وتلقيح ثقافي, وتزاوج ثقافي وتكاثر ثقافي, وميراث ثقافي, وهضم وتمثل ثقافي. . . إلى آخر العمليات التي يظن البعض أنها حيوية فقط...

فإذا كان الأمر كذلك فما هو موقع (الثقافة الإسلامية الإلهية). في المجتمع وقد قلنا إن الثقافة نتاج بشري صرف؟.

هذا السؤال يبدو في أول الأمر, وكأن إجابته صعبة, ولكن تزول هذه الصعوبة حينما نتذكر أن خالق الإنسان هو الله, وأنه العارف بدوافعه, وحاجاته, كما أنه قد يسره للحياة بكل إمكانات الحياة البشرية من, جسم, وعقل, وروح, وحواس, وبصيرة. بل وبإمكانية توظيفها وتفاعلاتها مع خبرات الحياة الطبيعية والبشرية من حوله. ومن ثم فقد ترك لهذه الإمكانات حرية التفاعل والنمو وفقاً للإرادة الإنسانية. وألهم الإنسان إلى معرفة الصراط المستقيم وغير المستقيم. ومع ذلك ترك له حرية اختيار أحدهما. (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها).

وفي نفس الوقت ألهم الإنسان إلى أن الصراط المستقيم هو الأصوب لاستقامة الحياة الاجتماعية, واستمرارها بشكل إيجابي مثمر. وبالفعل استجابت الحياة البشرية في تفاعلاتها مع الحياة بجميع أبعادها الاقتصادية والاجتماعية في كثير من فترات التاريخ إلى هذا الطريق المستقيم, وارتضت لنفسها قيماً وعرفاً وعادات ونظماً تتفق إلى حد كبير مع ما يرتضيه الخالق لمخلوقه, وفي فترات من التاريخ, وفي بعض المجتمعات, وفي بعض قيمها كانت هناك انحرافات عن هذا الخط أو الصراط المستقيم, ولذلك كانت تتنزل الديانات السماوية بقصد أن تعيد إلى الإنسان استقامته, وأن توجهه إلى الطريق المستقيم, وأن تقنن له إطار الحياة ونماذج الأفعال الأخلاقية لكل تصرفات الإنسان في الحياة.

ومن هنا جاءت الثقافة الإسلامية كخاتمة الثقافات الإلهية لتقنين حياة البشر وفقاً لأنها ليست بعدها رسالات أخرى.

وحثنا في الثقافة الإسلامية والتربية يطرح الأسئلة الآتية:

ـ ما هي المفاهيم الأساسية التي تطرحها هذه الثقافة ولماذا غابت عنا اليوم؟.

ـ ما هي خصائص هذه الثقافة الإسلامية؟.

ـ ماذا تطرحه من أسئلة ومطالب على التربية في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة؟.

ما هي المفاهيم الأساسية في الثقافة الإسلامية؟ ولماذا غابت عنا اليوم:

لعل ما تعرض له النشء في (بلادنا) من خلط في المفاهيم الكبرى هو المسؤول عما يعانيه هذا النشء من اختفاء الرؤية الواضحة لقضاياهم الكبرى.

ومن تلك المفاهيم التي تعرضت لخلط كبير مفهوم (الثقافة الإسلامية). ذلك لان محاولات خبيثة قد بذلت بشكل مكثف لإحلال مفاهيم أخرى محلها, وبهذا الإحلال أمكن أ، تزول كثير من المفاهيم الإسلامية المرتبطة بفكرة (الثقافة الإسلامية) كما أمكن أن تحل محلها كثير من المفاهيم المرتبطة بالثقافة العربية بشكل مطلق. وكأن الثقافة العربية بديل للثقافة الإسلامية, والعكس الصحيح. فلقد جاءت الثقافة الإسلامية مع الإسلام لتحل محل الثقافة العربية التي وجدت قبله.

إن الإسلام رسالة عالمية للناس كافة, ومن ثم فإن الثقافة الإسلامية جاءت لتؤكد مفاهيم عالمية, ولتقضى على جميع المفاهيم الإقليمية, والعرفية, والجنسية. ولذلك فقد حرص الإسلام على بناء (أمة إسلامية) تحمل الرسالة الإسلامية أو الثقافة الإسلامية. وتنشرها على العالم كله, وتجمع العالم كله عليها. (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).

إن قوام الإسلام هو إزالة جميع الفوارق بين البشر المتأصلة بينهم بسبب الجنس, أو اللغة, أو اللون, أو الانتماء القومي.

والسؤال الآن: هل لهذه المفاهيم ومثيلاتها أن تظهر من جديد بعد ما بذلت جهود كثيرة على مستوى العالم والاستعمار لمحاربتها؟.. وهل نستسلم لمثل هذه الحروب الشرسة, المستمرة لمفاهيم الإسلام أم أن علينا ـ نحن المفكرين ـ أن نبرز هذه المفاهيم, وما يرتبط بها, وأن نقدمها للناشئين والشباب.

كما نتساءل: لماذا امتصصنا هذه الثقافة امتصاصاً كاملا, ولم يحث طيلة أربعة عشر قرناً أية بدايات لرفضها؟. أو حتى مجرد التفكير في هذا الرفض الثقافي؟ ولماذا تمثلناها بحب ورضا وإقبال؟ ولماذا نتعصب حتى اليوم, بل في المستقبل القريب والبعيد لها؟. ولماذا يتغنى بها شعراؤنا ومفكرونا وفلاسفتنا؟. ولماذا هي عميقة الجذور فينا, ثابتة الأركان, رابطة الجأش, عزيزة علينا؟. لماذا لا تعتبر ثقافة دخيلة؟. ولماذا رفضنا غيرها من الثقافات, واعتبرناها ثقافات غازية؟. وحتى الثقافات التي حملت قيماً إيجابية, واجتهادات بشرية إبداعية حاولنا أن نستفيد من إيجابياتها ورفضنا هذه الثقافات الغازية إطاراً لحياتنا مع أننا حاولنا تمثل القيم الإيجابية فيها في إطار الثقافة الإسلامية, وحينما ضبب بعض المغرضين إطارنا الثقافي الإسلامي, وحاولوا تشويهه, وتصويره بالقزمية تهنا في غياهب, وعتامة ثقافية, وأحسسنا بأننا نفقد شيئاً غالياً علينا... ما هو؟. لم تكن ندرى بالضبط. ولكننا لم نأل جهداً في البحث عنه, وكنا باستمرار نحس أنه في الثقافة الإسلامية.

 إن الإجابة عن كل التساؤلات السابقة تكمن ببساطة في أن تلك الثقافة الإسلامية جاءت إلينا تحمل فكراً عقلانياً, وشحنة عاطفية ترتبط بأعماق الشخصية الإنسانية, وتجيب عن جميع الأسئلة التي حيرت البشرية منذ نشأة الإنسان, والتي حاول الفلاسفة والمفكرون الإجابة عنها مجتهدين وجادين في أعمال العقل والفكر. كما أجاب عنها الرسل الأنبياء المرسلين من السماء إجابة قائمة على مخاطبة الشعور والأعماق الإنسانية. وجاءت الرسالة السماوية الإسلامية أخيراً لتكون أكمل الرسالات, وأتم الإجابات ولتضع الصورة كاملة متكاملة في إطار عام يجيب عن كل تساؤلات البشر في حياتهم, وفي علاقاتهم بالوجود وبالطبيعة وبالمصير بعد الحياة.

إن هذه (الثقافة الإسلامية) هي تلك الصورة المتكاملة وذلك الكل المتكامل من التساؤلات والإجابات عن كل ما يشغل بال البشرية بالنسبة للطبيعة البشرية أصلا, وطبيعة, ومصيراً. وبالنسبة للكون وللوجود كله أصلا, وطبيعة, ومصيراً. وبالنسبة لمشكلات الإنسان الحياتية ابتداء من ميلاده, واستمراراً بطفولته وشبابه ويفاعته, وشيخوخته, وذلك على عرض حياته الاجتماعية في كل أشكالها وتنظيماتها ونظمها. بحيث يجد المتوافق مع ذلك الكل الثقافي المتكامل فرداً أو جماعة توافقاً واتزاناً في شخصيته الجماعية والفردية.

إن هذه الصورة المتكاملة (الثقافة الإسلامية) تتكامل فيها شروط النظرية على المستوى النظري. فهي مجموعة من الأفكار المتسلسلة المترابطة المنسجمة التي لا تتناقض مع بعضها. كما أنها تشكل إطاراً عاماً شاملا لكل شؤون الحياة. كما يتكامل فيها الأساسيان النظري والتطبيقي للحياة. فهذا الإطار النظري الشامل يوجه الحياة الواقعية والتطبيقات المختلفة في جميع مجالات الحياة التي تشملها النظم المختلفة في المجتمع, من سياسية, واقتصادية, وأسرية, وأمنية, وترويحية, وتربوية, وإدارية... الخ.

وحينما تلاقى الأساس الفكري مع الواقع التطبيقي في الحياة الاجتماعية بجميع نظمها في بداية ظهور الإسلام, وما تلاه من قرون ظهرت كل أبعاد الصورة الثقافية الإسلامية فكراً وتطبيقاً بشكل مجسد, ولقد ترك لنا هذا التطبيق تراثاً ثقافياً ضخماً على المستوى الفكري وعلى المستوى التطبيقي.

ولعل ذلك هو السر في إقتناعنا بتلك الثقافة الإسلامية منذ جاءت إلينا في إطار ومضمون إسلامي. ولم تكن أبداً ثقافة عربية جاهلية... فكل المعايير, والقيم, والقوانين السلوكية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية وأنماط السلوك والعادات, وحوافز العمل, وأخلاقياته, ونماذجه ونتائجه المادية كانت بمحتوى إسلامي وضمن ذلك الإطار الإسلامي المتكامل المنسجم المتسق.

وإذا ما أثرنا تساؤلا ـ في هذا المكان ـ سبق لنا أن طرحناه في بداية هذا البحث لوجد في هذا الموقع معناه ومغزاه والإجابة عنه بيسر وبسهولة هذا السؤال هو:

كيف ارتبطنا بالعروبة؟. ومتى؟. ولماذا؟. وفي أي إطار. وفي كنف ماذا؟. وباختصار الإجابة عن هذه التساؤلات كلها بالقول بأننا قد ارتبطنا بها في إطار الإسلام ونظرياته, وحلوله لمشكلاتنا, وإجابته عن تساؤلاتنا الفكرية والاجتماعية, وموقفه من قضايانا الحياتية كلها.

وأي تصور للعروبة غير هذا, وأي ارتباط بأية قومية لا تبرز موقفنا وموقعنا من هذا الإطار الإسلامي يبعدنا حقيقة عن جوهر الحقيقة التاريخ. بل يغالط منطق الحوادث في التاريخ وفي الحاضر وفي المستقبل.

وهنا تثار قضية حول بناء (الوحدة العربية) وأسسها مؤداها: هل يمكن أن تقام الوحدة العربية على أسس مثل تلك التي قامت عليها بعض القوميات الأوربية مثل القومية الألمانية (الوحدة الألمانية), والقومية الإيطالية (الوحدة الإيطالية) مثلا؟. بالقطع لا. لأن الوحدة العربية لم تبدأ نفس البداية, ولم تؤسس على نفس الأسس التي أسست عليها كل من الوحدتين الألمانية الإيطالية, وإنما أسست تأسيساً مختلفاً للغاية, فقد ارتبطت الوحدة العربية ارتباطاً أساسياً بالدين الإسلامي, لذلك يعتبر الدين الإسلامي أهم أسسها على الإطلاق, هو أساس متوافق مع الديانات السماوية كلها. كما أنه قد أوجد الحلول للتعايش السلمي في نطاقه بين البشر جميعاً. (لهم ما لنا وعليهم ما علينا).

هي وحدة ليست مغلقة الحدود مثل أية قومية أخرى, وإنما هي وحدة مفتوحة الحدود لكي تضم إليها كل من يريدها ويرغب فيها خاصة من شقيقاتها, الإسلاميات. وهي وحدة لا تقوم على وحدة الجنس أو العنصر إطلاقاً فإن ثقافتها هي الثقافة الإسلامية التي جاءت لتحطم فكرة الجنس والعنصر.

(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)[1] فمعيار التفاضل والتمايز من عند الله. كما أن معيار التقوى والخير الذي يقدمه الشعب للبشرية. (الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)[2].

(كلكم لآدم, وآدم من تراب). وفي الحديث الأخير محو تام لفكرة التفاضل الجنسي والعرقي.

وإذا كان الإسلام قد ميز (الأمة الإسلامية) على غيرها فإن ذلك التمييز لم يمنح لها إلا للمنهج الذي تتبعه والثقافة التي يتجسد فيها هذا المنهج, (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)[3].

ومن هنا يظهر وجه اختلاف آخر بينها وبين القوميات الأخرى أو الأمم الأخرى. ومن هنا يبدو لنا مدى خطئنا في قصرها على بعض البلاد الإسلامية دون الأخرى. ومثالا لذلك الرفض الذي تبنيناه إزاء بعض الشقيقات الإسلاميات مثل مورتانيا والصومال في وقت ما, وهما اللتان ألحتا على هذا الانتماء, بل على دخول الجامعة العربية لأنها في فهمهم هي نواة الوحدة الحقيقية للأمة الإسلامية).

ولعل هذه المعاني التي نتولى إيضاحها وإبرازها هي معان في أعماقنا جميعاً, وإن خيم عليها الضباب الفكري إلى حد ما. وهي في أعماق, وإفهام, وعلى لسان المغرب العربي كله. (فالقومية العربية) أو (الوحدة العربية) لا تفهم إلا في ظل التفسير الإسلامي, وفي ظل هذا الإطار الإسلامي وتلك الصورة الإسلامية. بمعنى أن الوحدة العربية عندهم مرادفة لوحدة (الأمة الإسلامية). وأن الثقافة العربية تعنى بالدرجة الأولى (الثقافة الإسلامية), وإلا لرفضها كثير من إخواننا في المغرب العربي الذين ينتمون إلى أصل بربري ولا ينتمون إلى أصول عربية بالمعنى الإتنولوجي.

كما أن الوحدة إذا فهمت بهذا المعنى الشامل والواسع لما أحس الأكراد في العراق مثلا بذلك الكابوس الذي يخيم عليه لفهمها ضيقاً مخلا بأبعادها وملامحها وخصائصها الأصيلة, ولما قاومها إخواننا الاتراك والإيرانيون, واعتبروها قومية عراقية مناوئة. فكان ردهم الطبيعي عليها تغريب تركيا لا تعريبها, وإحياء ما يسمى بالمعنى القومي (القومية التركية) بعدما ذابت إلى حد كبير في مفهوم الأمة الإسلامية, وكان رد الإيرانيين عليها إحياء النعرات الفارسية القديمة والاتجاهات الإقليمية الضيقة بعدها ذابت في العصور الإسلامية في مفهوم الأمة الإسلامية, وكان رد فعل كثير من مفكرينا في مصر ولو من تحت ستار عليها بمحاولة إحياء النعرة الفرعونية, وإحياء النعرات الإقليمية الضيقة.

وهكذا فقد تسبب ضياع هذه المعاني والأصول والملامح والخصائص المتميزة والمميزة (للأمة الإسلامية), و (للثقافة الإسلامية) في تعميق الشعور القومي القديم عند بعض الدول الإسلامية مثلما حدث ببنجلاديش التي جعلت لذلك الشعور القومي القديم مكانة أولى على مكانة الانتماء الإسلامي الذي كان يربطها برباط (الوحدة الإسلامية), الذي كان يصل إلى داخل حدودنا دون وحدة سياسية. فلما انقطع هذا الرباط بيننا وبينهم انقطع بينهم هم أيضاً.

إن الوحدة الإسلامية لها أبعاد حساسة, ودقيقة, وعميقة بعمق جوهرها, وإدراكها بوعي وبصيرة, وبفكر مفتوح يجنب الأمة كثيراً من مشكلاتها وعثراتها ويزيل عنا كثيراً من تناقضاتها وصعوباتها. ويخلي بينها وبين كثير من ضعفها وبطئها, ويجنبها كثيراً من المزيد في الوهن والضعف.

إن الوحدة الإسلامية استنتاجاً من هذا التحليل تعتبر وحدة عالمية ووحدة لا جنسية. ووحدة إنسانية لا تفرق بين البشر لسبب الجنس أو اللغة, أو حتى الدين الذي هو العنصر الرئيسي فيها. ففي ظلها عاشت الديانات السماوية كلها . وكان للذمي ما للمسلم تماما بتمام (لهم ما لنا وعليهم ما علينا ) وفي ظلها تحققت قيم ومثل إنسانية ظلت البشرية تكافح من اجلها آلاف السنين, ولم تتحقق بصورة عميقة,ومتكاملة إلا في ظلها. وبضعفها اختفت هذه المثل الواقعية التي أعطت للإنسان كرامته وحريته وأطلقت لإمكانياته وذكائه العنان.

وتعتبر الوحدة غير متناقضة معها. وإنما هي أساس تنطلق منه هذه الأمة الإسلامية في بناء مفاهيمها وأسسها التي وضعها لها الإسلام على أرض الواقع.

وارتباط الإسلام بهذه الوحدة الإسلامية, وتلك الفكرة العالمية يحل لنا مشكلات كثيرة طرحها الفكر المعاصر, وهي فكرة الوطنية, وفكرة القومية بالمعنى الضيق بحدود دولة ما. ففي ظل هذا المعنى المتسع الشامل يرادف الإسلام فكرة القومية, وفكرة العالمية وفكرة الوطنية بحيث يصبح الإسلام أولا وأخيراً هو الوطنية وهو, القومية, وهو العالمية. ويعبر الشاعر الإسلامي عن هذا المعنى في صدق إذ يقول:

 

الشام فيه ووادي النيل سيان

عددت أرجاءه من لب أوطان

ولست أرى سوى الإسلام لي وطنا

وكلما ذكر اسم الله في بلد

 

وهذا المعنى ليس يوتوبياً. وإنما قد تحقق في التاريخ بالفعل حينما لم تكن العالمية والإخاء الإنساني الشامل لكل البشر معروفة في غير المفهوم الإسلامي, فلقد كان المسلم يحس إحساساً عميقاً بالمهانة إذا ما احتل بلد من بلاد المسلمين في أية بقعة من الدنيا. وهذا الإحساس العميق لم يقف عند حد البكاء أو التباكي؛ وإنما كان يجد متنفسة الطبيعي في إعلان الجهاد المقدس. فتتكون الجيوش من كل بلاد المسلمين لدرء الخطر المحيق بأي بلد إسلامي. بل كان العالم الإسلامي يعلن الجهاد المقدس بمجرد سماعه بإهدار دم أي مسلم بدون وجه حق على أية أرض.

إن قصر الوحدة العربية. وبالتالي الثقافة الإسلامية على حدود ضيقة معينة يتنافى مع منطق التاريخ, بل أنه يتنافى مع جوهر الإسلام ودعوته. فلقد حمل أمة محمد مهمة الدعوة إلى الإسلام, ومهمة الانفتاح العالمي لا الانغلاق الإقليمي.

إن قصر الوحدة العربية على حدود ضيقة معينة يقضى على ميزة من أهم مميزاتها وعلى ميزة من أهم مميزات العصر الحديث وهي الانفتاح العالمي, والانتماء لمجموعات كبيرة من البشر تقوم على مجموعة من القيم ومن المبادئ ومن المثل المشتركة. وهذا يتوافر في الأمة الإسلامية,وما أكدته من وحدة وشعور وترابط أثبتته الحقيقة التاريخية . كما سبقنا به كل دعوات العصر ابتداء بالشيوعية العالمية والتكتلات الرأسمالية والأحلاف السياسية والعسكرية والوحدات الاقتصادية والقومية, وانتهاء بالأمم المتحدة التي تغذي ميثاقها ولو من الناحية النظرية على كثير من الاتجاهات الإسلامية . و على اقل تقدير على الاتجاهات التي وجهت إليها الديانات السماوية كلها من تآخ بين البشر جميعا ومن سلام دائم, ومن حب وتعاون, ومن مواساة بين الشعوب وبين البشر جميعاً... الخ . وهي تلك المبادئ التي تضمنها الإسلام وحفظها للرسالات السابقة له.

ماذا على التربية إذن أن تفعله إزاء هذه القضية وإزاء القضايا المتفرعة منها؟.

ماذا تفعل التربية إزاء تلك المفاهيم التي بثتها بعض الأفلام, وبعض الشخصيات, وبعض القوى في تلك المنطقة التي تشكلت فيها (الأمة الإسلامية) منذ البداية. وهي تلك المفاهيم التي تؤكد على القومية العربية محاولة أن تحل هذه المفاهيم المفتعلة وما يرتبط بها محل مفاهيم الأمة الإسلامية قاصدين بذلك إلى تحقيق عدة أمور أهمها:

ـ إحلال (الثقافة العربية) محل (الثقافة الإسلامية).

ـ إحلال الرباط القومي محل الرباط الإسلامي المتين.

ـ إحلال الوحدة العربية محل الوحدة الإسلامية.

وإظهار فكرة العروبة وكأنها بديل للإسلام, والرباط العربي وكأنه بديل للرباط الإسلامي قد مزق إلى حد كبير تجسيد الوحدة الإسلامية, بل جر إلى تمزيق في داخل الأمة العربية نفسها,وبضياع الرباط سهل على الأقليات أن تشق طريقاً في داخل (الأمة العربية ذاتها).

وساعد على ذلك تلك الكتابات التي أرست هذه المفاهيم العربية وساعدت على سريانها في محتوى المناهج الدراسية. بل إن تقلص الدراسات الإسلامية تقلصاً شديداً إلى الحد الذي أقتصرت فيه على (مادة الدين) أو (التربية الإسلامية) في التعليم العام كانت نتيجة طبيعية لهذه الكتابات والقوى التي قصدت أضعاف الرباط الإسلامي والثقافة الإسلامية.

وكان من نتيجة ذلك أن المناهج القومية ومناهج المواد الاجتماعية ومناهج اللغة وربما غيرها من المناهج قد وظفت لترسيخ مفاهيم إقليمية أو لا, ثم قومية ثانية دون أن تجد عوامل ربط بينها وبين الرباط الإسلامي ومفاهيمه وثقافته التي تجسدت في واقع الأمة الإسلامية ترجمة للفكر الإسلامي.

وإذا كانت التربية المدرسية تلعب مثل هذا الدور الإقليمي ترسيخاً وتعميقاً فإن التربية أللامدرسية هي الأخرى تلعب مثل هذا الدور. والمتتبع والمحلل لبرامج ووسائل الإعلام المختلفة يجد ذلك بشكل أوضح. والمحلل للثقافة الأسرية والتربية التي تنقل بها هذه الثقافة للأبناء يجد أنها بعد أن كانت تلعب الدور الرئيسي في نقل (الثقافة الإسلامية) إلى الأبناء أصبحت تؤكد المفاهيم الإقليمية الضيقة.

والدليل على أنها كانت تلعب دور هاماً في حفظ الثقافة الإسلامية يمكن أن نلمسه إذا رجعنا قليلا إلى الوراء لنرى كيف لعبت الأسرة الإسلامية دورها في هذا الحفاظ على الإسلام, ومن أمثلة ذلك ما قامت به الأسرة المصرية أيام الاحتلال الفرنسي والأحتلال البريطاني وما قامت به الأسرة الجزائرية أيام احتلال فرنسا للجزائر. فبينما اقتطعتها فرنسا من بلاد المسلمين وضمتها إليها كمقاطعة منها. وأحلت اللغة الفرنسية محل اللغة العربية, وحاولت إحلال الثقافة الفرنسية محل الثقافة الإسلامية والثقافة العربية, فإن الثقافة الإسلامية لم تنهزم أمام الثقافة الفرنسية, وبقيت صامدة أمام الثقافة الفرنسية في حين اختفت اللغة العربية ـ أهم عنصر في الثقافة العربية من كثير حياة الجزائر. ونستطيع القول بأن الثقافة الإسلامية التي انتصرت في الصراع الدموي في الجزائر هي ثقافة لا تقهر ومن تمسك بها فإن مكونات الشخصية الإسلامية والروح الإسلامي تبقى صامدة.

أما الدليل على أنها لم تعد تلعب هذا الدور بنفس الفهم والقوة ما نجده في الشباب العربي الآن حيث لم تعد مثل هذه المفاهيم واضحة عن كثير منهم.


[1]  قرآن كريم.

[2]  حديث شريف.

[3]  قرآن كريم.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست