.

.

اللاحق

السابق

  الفهرست
 

 التقدير الاجتماعي والحب

التقدير الاجتماعي والعز

الاستقلال الذاتي

السيطرة والتفوق وصلاتهما بالتقدير الاجتماعي

التقدير الاجتماعي، والحبّ

في غمار الحديث عن الدافعين (الانتماء والتقدير الاجتماعيين) يثار أكثر من تساؤل، من ذلك:

إن الكائن الآدمي بطبيعة تركيبه، لا مناص له من الانتماء إلى الآخرين، حتى من خلال ارتباطه بالسماء (بخاصة حاجته إلى الحب) ومن ذلك:

إن الكائن الآدمي (والمشرع يشدد على هذه الظاهرة) بحاجة على تقدير الآخرين من خلال ظاهرة (العز) التي تفرزها مقولة (المؤمن عزيز).

والحق، إن كلاً من التساؤلين المذكورين، يحملا مسوغاً لاثارتهما على النحو المذكور.

فالحب والعز يجسدان حاجة لا مناص من اشباعها، مهما حاولت الشخصية الإسلامية أن تنسلخ عنهما.

ففيما يتصل بظاهرة (الحب)، فإن الكائن الآدمي مادام مطالباً بأن (يحب) الآخرين، فإن حبه إياهم يعني: حاجته ليس إلى أن يحب فحسب، بل: حاجته إلى أن يجسد الحب في ممارسة عملية هي: التقاؤه بالآخرين، وعقد بعض أنماط العلاقة بينه وبينهم. ولعل الوحشة التي يتحسسها الفرد عند فقد الأقربين (وفي طليعتهم أهل البيت (ع)) تجسيد حيّ للانتماء إلى الآخرين.

إن الإمام علياً (ع) نفسه حينما شدد على أنه لا يزيده تجمع الناس ألفة، ولا تفرقهم عنه وحشة، يقرر بوضوح أن:

"فقد الأحبة، غربة".[1]

وهذا يعني أن الكائن الآدمي يتحسس الوحشة والاغتراب حينما ينسلخ الآخرون عنه.

بيد أننا بالرغم من اقرارنا بهذه الحقيقة، يمكننا أن نكرر ما سبق أن أوضحناه من أن الشخصية الإسلامية الواعية ليست بحاجة إلى الآخرين، بقدر حاجتها إلى (السماء) فحسب، وإلى الاحساس بالوحشة والاغتراب ناجم: ليس من حاجتها إلى أن يخلع الآخرون الحب عليها، بل من حاجتها إلى أن تخلع الحب عليهم. ولنحاول تقديم الأمثلة على ذلك:

عاطفة الأمومة أو الأبوة أو البنوة.

هذه العاطفة (على نحو ما سنتحدث عنها لاحقاً) تجسد واحداً من الدوافع البشرية التي لا مناص من اشباعها.

فالاب يتحسس بحاجته إلى طفله منذ اللحظة التي يولد فيها. والأم تتحسس بالحاجة ذاتها.

بيد أننا حين نتأمل بدقة مستويات هذه العاطفة، نلحظها ذات دلالتين:

الدلالة: الأولى حائمة على (الذات) ومحاولة اشباعها من خلال ما يقدمه الطفل من استجابات مختلفة: بعضها (في حالة عدم وعي الطفل) لا ينطوي على أية دلالة من (الحب) المتبادلة. وبعضها الآخر، ينطوي على تبادل الحب في حالة بلوغ الطفل مرحلة معينة من التمييز.

ومما لاشك فيه أن الحالة الأولى لا تحمل معنى (الحاجة إلى الحب) لأن الطفل غير الواعي لا يستطيع تقديم العاطفة المذكورة، حتى يشبع حاجة الأم أو الأم إلى الحب،... بل يظل الطفل في مثل هذه الحالة (جزء) من (ذات) الأب أو الأم، أي: جزء من الذات الكلية التي تشمل كل ممتلكات الأب أو الأم: سواء أكانت هذه الممتلكات عينة مادية مثل: الدار، والكتب، والنقود، أو معنوية مثل: أفكاره، ومؤلفاته، أو اجتماعية مثل: عشيرته وقومه وبلده الخ.

وواضح، أن هذا النمط من العلاقة القائمة بين الأب وطفله تظل أحادية الجانب، أي: تجسد حب الأب لطفله، وليس حاجة الأب إلى أن يحبه طفله. وبكلمة أخرى: إن الأب بحاجة إلى أن يحب (الآخرين)، لا أنه بحاجة إلى أن يحبه (الآخرون).

ومع نمو الطفل، وبلوغه مرحلة (التمييز)، يبدأ الأب بالتحسس إلى عاطفة الطفل، يبدأ بالتحسس بالحاجة إلى أن يحبه طفله. غير أن هذه الحاجة في واقعها (امتداد) لحاجته إلى أن (يحب) الطفل، لأنه (جزء) من ممتلكات (ذاته) التي تعامل معها منذ الولادة فيها لا قدرة لديها على تقديم عاطفة نحو الأب عهدئذ، ...ولأن الأب بحاجة إلى يحقق ذاته من خلال الحب، يظل بحاجة إلى عاطفة الطفل المتميز، لأن هذه العاطفة تشبع حاجته إلى أن يحب (ممتلكاته): فيما يظل الطفل جزء منها. وهذا يشبه تماماً حاجة الفرد إلى الطبيعة الجميلة مثلاً: من شمس وقمر ونجوم ونهر وشجر وظل... الخ. فالطبيعة لا تملك (عاطفةً) نحو المرء، لكن المرء هو الذي يمتلك عاطفة نحوها، أي: أنه يحبها. ولأنه يحبها، يحس بالحاجة إليها.

وحين ننقل هذه الحقيقة إلى صعيد الشخصية الإسلامية الواعية وصلتها بـ(الله) من جانب، وبـ(الآخرين) من جانب آخر، نجد أن الأمر محكوم بنفس الطابع الذي لحظناه عند الشخصية العادية في تعاملها مع طفلها غير المميز، ومع طفلها المميز، ومع الطبيعة الجميلة.

فالشخصية الإسلامية الواعية (تنتمي) إلى (الله) فحسب، وتتحسس الحاجة إلى أن يحبها (الله) فحسب، ... لكنها تمتلك (طاقة حب) نحو (الآخرين)، دون أن تتحسس الحاجة إلى أن يحبها (الآخرون).

إن حاجتها إلى أن تحب الآخرين، هو الذي يحسسها بالحاجة إليهم، بصفة أن تجسيد الحب لا مناص له من (وجود الآخرين) وإلا لبقي مجرد طاقة، مجرد (قوة) وليس تجسيداً في (فعل).

من هنا، حين يقرر الإمام علي (ع) من أن (فقد الأحبة غربة) يعني بذلك: إن الفرد (والحديث عن الشخصية الإسلامية الواعية) يتحسس الوحشة أو الاغتراب، نتيجة لغياب المصدر أو المنبه الذي يجسد (حب) الفرد للعزيز المفقود... تماماً على نحو غياب الطبيعة الجميلة عن أنظار المشاهد الذي ألِفَها.

بيد أن الفارق بين الطبيعة الجميلة وبين فقد العزيز، أن الأخير يبادل الحي بعاطفته، بينما تظل الطبيعة صامتة عن ذلك.

وهنا يثار السؤال:

إن (تبادل العاطفة) يعني حاجة الشخصية الإسلامية إلى عاطفة الآخرين، ولولاها لما كان للاغتراب والوحشة أية دلالة!

الإجابة على هذا السؤال، تتحدد بوضوح حين نضع في الاعتبار أن عاطفة الآخرين، تماثل (العطاء) الذي تقدمه الطبيعة الجميلة للمشاهد، وهو عطاء يتمثل في (التناسق) الجميل الذي تنطوي الطبيعة عليه. وهذا (الجمال) حين ننقله إلى صعيد التعامل مع الآدميين نجد أنه يجسد (الحب) الذي يقدمه الآخرون إلى الشخصية، مما يعني أن (تبادل الحب) هو الذي يسم تعامل الآدميين، ومما يعني ـ من ثم ـ أن كلاً من طرفي التعامل بحاجة إلى الآخر.

غير أن هذه الحقيقة تظل محتفظة بصوابها في حالة افتراضنا عزلة الآدميين عن السماء، أما مع الانتماء إليها، فإن الحاجة إلى (حب) يخلعه الآخرون على الشخصية، يبدأ بالتضاؤل بقدر حجم الانتماء إلى الله: تماماً بالنحو الذي يحقق الاشباع للشخصية عندما تظفر بمجموعة من الأحبة أو المؤسسات الاجتماعية التي تمنح الشخصية كل ما تحتاج إليه من حب وتقدير، فيما لا تحس ـ من ثم ـ بأي توتر أو صراع.

أن المنتمي إلى السماء، لا يحس بأي توتر أو صراع حين يفقد الأحبة، ... إنه لا يحس بالاغتراب حين يفتقدهم، بقدر ما يتمثل الاغتراب في فقدانه للمثير أو المنبه الذي يهيئ له فرصة (الحب) الذي تحمله الشخصية للعزيز المفقود.

وبعبارة أشد وضوحاً: أن الشخصية الإسلامية بما أنها (تحب) الآخرين فإنها تحس بالاغتراب حينما تفقدهم لأن طاقة الحب الذي تحمله الشخصية تظل خبيئة لا تجد من تجسدها في التعامل معه.

نعم: تتحسس الشخصية بالاغتراب الحقيقي عندما يكون الفقيد منتسباً بدوره إلى السماء. وعندها يظل الاغتراب مرتبطاً بالسماء وليس بالفقيد، بصفة أن الفقيد يجسد الصلة بالسماء التي نتحسس الحاجة إليها فحسب.

من هنا، فإن الأب (نوحاً (ع)) لم يتحسس بالاغتراب عن ابنه عندما جرفه الطوفان بعد أن نبهته السماء إلى أنه ليس من أهله. كما أن (إبراهيم (ع)) لم يتحسس بالاغتراب عن أبيه بل تبرأ منه، مع أن عاطفة البنوة فيما يتصل بإبراهيم، وعاطفة الأبوة فيما يتصل بنوح تفرضان على الأبن والأب أن يتحسسا بالاغتراب أو الوحشة من فراقهما. لكن، بما أن نوحاً وإبراهيم ينتميان إلى السماء، حينئذ لا يتحسسان بالحاجة إلى (حب) يخلعه الأب أو الابن عليهما. بل لم يتحسسا حتى بالحاجة إلى أن يخلعها (الحب) على الابن والأب.

والسر في ذلك: ان السماء هي المصدر الوحيد للمحب الذي يتحسسان بالحاجة إليه. وبما أن السماء تأمرهما بأن (يحبا) الآخرين، فانهما تبعاً لذلك يمارسون ظاهرة (الحب)، ويتحسسون بالحاجة إلى الآخرين، حتى يجسدا حب السماء فيهم.

من هنا أيضاً، يمكننا أن نفسر حتى حالات الاحساس بالحاجة إلى (الحب) الذي يخلعه الآخرون على الشخصية، لأن الحاجة إلى حبهم مرتبطة بالحب الذي يحمله الآخرون نحو السماء. وتبعاً لذلك نجد أن المؤمنين بحق، يتزاورون: يحن بعضهم إلى الآخر، يتحسس بالوحشة والاغتراب من فقدانهم.

وهذا التبادل القائم بين طرفي التعامل، ناجم ـ في ضوء ما تقدم ـ من الحب (في الله)، وليس من الحاجة إلى (آخرين) يخلعون الحب عليهم، إلا إذا كان (الآخرون) مرتبطين بـ(الله) أيضاً. وحينئذ يتم التبادل بين الأطراف: أحدهما يحب الآخر، وكلاهما يحس بالحاجة إلى أن (يحبه) الآخر، أيضاً، لأن الحاجة إلى (الآخر) ـ في مثل هذه الحالة ـ حاجة إلى (السماء) مادام الآخر منتسباً إليها: وعندها، تظل الأطراف ينتظمها حب واحد هو (الله).

ولا يغب عن بالنا، ان محبة الإنسان لأخيه الآخر، يظل ـ مضافاً لما تقدم ـ مرتبطاً بطبيعة التركيبة الآدمية التي نفخ الله من روحه فيها، مما يعني أن الروح الآدمية تظل بالضرورة متواصلة مع الآخرين، لأنها جميعاً من (الروح) مما يفسر لنا بوضوح سر المحبة التي يحملها الكائن الآدمي للآخرين. وحاجة كل منهم إلى أن يحبه الآخر أيضاً.

التقدير الاجتماعي والعز

حينما يشدد المشرع الإسلامي على ظاهرة (العز)، فإن هذا التشدد لا يعني البحث عن (التقدير الاجتماعي) الذي أوضحنا أن الشخصية الإسلامية لا تعنى به بقدر ما تعنى بتقدير السماء، بل يعني أنها ـ أي الشخصية الإسلامية ـ بحكم موقعها من السماء، ونفض يدها عن الآخرين، تتحسس بقيمتها بنحو لا تسمح لنفسها بأي تعامل (مذل) يحط من قيمتها أمام الآخرين.

والفارق بمكان كبير بين شخصية أرضية متورمة الذات تبحث عن (حب) أو (مكافأة) اجتماعية: كأن يحترمها الآخرون، أو يهبونها سمعة أو مكانة اجتماعية لاشباع دافع السيطرة والتفوق لديها، أو اشباع ذاتها الباحثة عن مطلق الثناء، ... وبين شخصية إسلامية لا تعنى بالسمعة أو المنزلة أو الثناء وكل أشكال التأكيد على الذات، بل تعنى بصياغة شخصيتها على نحو يتناسب مع خطورة السماء، بأن تنأى عن كل أشكال الحطة الاجتماعية التي لا تتناسب والخطورة المذكورة.

من هنا فإن الإمام زين العابدين (ع) حينما يخاطب الله سبحانه وتعالى:

"وأعزني ولا تفتني بالكبر".[2]

إنما يفصل بين المطالبة بالعز والكبر، بصفة أن (التكبر) مفصح عن الدافع إلى السيطرة والتفوق (وهو ظاهرة مرضية)، بينما يظل (العز) مفصحاً عن تقدير الذات ليس بنحو مرضي ـ بل بنحوها الصحي المرتبط بالله من جانب، وبعدم السماء للذات بأن تقع في مهاوي الذل الاجتماعي من جانب آخر.

أما الجانب الموضوعي المرتبط بالسماء، فيتمثل في خطورة (المذهب الإسلامي) واكسابه القيمة التي تتناسب مع المذهب المذكور. وبما أن الشخصية الإسلامية تجسد رسالة السماء، فحينئذ تتحرك من خلال البحث عن (العز) الذي يسم السماء ذاتها.

ويمكننا ملاحظة هذا البعد في موقف الإمام الصادق (ع) مع أحد المتحذلقين الذي لاحظ الإمام الصادق (ع) قد ارتدى زياً ناعماً (دون أن يعرف أن الإمام (ع) قد ارتدى من الداخل زياً خشناً) فابتدره بالاعتراض، قائلاً له بما مؤداه: ان جده علياً (ع) كان يرتدي اللباس العادي. وقد أجابه (ع) بأن السياق الاقتصادي هو الذي يفرض (الفارقية) المذكورة بعد أن فضح المتحذلق في نقده المصطنع: حينما أبان له أن الثياب الناعمة التي يرتديها يخفي خلفها ثياباً خشنة، على العكس من المعترض فيما كان يرتدي لباساً خشناً، بينما أخفى تحت اللباس الناعم.

إن هذا الحوار بين الإمام (ع) وبين المتحذلق، بغض النظر عن كشفه لواقع الشخصية الأخيرة (من حيث تأكيدها على الذات)، وبغض النظر عن كشفه للسياق الاقتصادي الذي يفرض هذا التكيف أو ذاك، ... بغض النظر عن ذلك كله، فإنه ينطوي على حقيقة متصلة بـ(التقدير الاجتماعي) من خلال ظاهرة (العز) وعلاقتها بقيمة السماء: فالإمام (ع) بصفته يحمل دوراً (ريادياً) أو لنقل دور (القائد) الممثل لطائفة إسلامية كبيرة، حينئذ فإن التقبل أو التقدير الاجتماعي لسمات القائد تعكس أثرها على رسالة السماء نفسها، مادام المناخ الثقافي (وهو مناخ متخلف فكرياً: حيث يعنى بالبهرج، والزخرف، والمظهر الخارجي) يتدخل عاملاً حاسماً في تقويم الشخصية وتقبل أفكارها، مما يعني أن الإمام (ع) حينما تكيف مع المناخ المذكور، انما استخدم التكيف بمثابة (جسر) لتمرير الأفكار الخيرة لديه، وليس لتأكيد (الذات) والبحث عن (التقدير) لها.

والأمر نفسه حين ننقله إلى الإمام علي (ع) حينما حاول بعض المتحذلقين تقليل قيمته الاجتماعية من خلال اظهاره بمظهر المعدم (مالياً)، مما اضطر الإمام (ع) إلى أن ينثر المئات من العملات النقدية أمام المتحذلقين، حتى يحتفظ بـ(التقدير الاجتماعي) الذي حاول المحذلقون أن يسحبوه عن شخصية الإمام (ع).[3]

ويمكننا أن ننقل الظاهرة ذاتها إلى الإمام الرضا (ع) عندما نجده (يتزين) للآخرين، ويلبس ثياباً فاخرة عندما يخرج إليهم، بينما يرتدي اللباس الخشن في داره.[4]

كل أولئك يفصح عن أن (التقدير الاجتماعي) الذي يبدو وكأن قادة التشريع يعنون به، ..إنما يتخذه (الرواد) وسيلة لتمرير الأفكار الخيرة لديهم من جانب، ولاظهار (عز) السماء للآخرين: من خلال العز الذي يصوغونه لشخصياتهم، من جانب آخر.

على أن الأمر يتعدى حتى نطاق الشخصيات الرائدة، إلى الشخصيات العادية، مادام الأمر مرتبطاً بعز الرسالة الإسلامية نفسها. فثمة نصوص إسلامية تنهى الشخوص الإسلاميين عن مباشرة الأعمال الوضعية (اجتماعيا)، وتطالبهم بأن (يترفعوا) عنها، حتى يكتسبوا "تقديراً اجتماعياً" يتناسب مع رسالة الإسلام ذاتها، مادام المناخ الثقافي للمجتمعات الأرضية تنسج تقديراً اجتماعياً (يعنى بالمظهر الخارجي) حول الشخصية.

طبيعي، ينبغي أن نفرق بين البحث عن (تقدير اجتماعي) موضوعي يفرضه سياق محدد، وبين (مواقف) أخرى لا يقيم المشرع الإسلامي لمعارضتها الاجتماعية، أي وزن، بل يعلن بصراحة عن ضرورة الانسلاخ من (المجتمع) مادام هذا الانسلاخ يحفظ للشخصية الإسلامية كيانها، واستقلالها، وسمتها المميزة الحقة: مما يعني أن السياق هو الذي يفرض حيناً: البحث عن التقدير الاجتماعي، وحيناً آخر: الانسلاخ عنه. لكنه في الحالات جميعاً يظل التقدير الاجتماعي مرتبطاً بـ(أهمية الرسالة الإسلامية)، وليس بالبحث الذاتي الصرف عن التقدير: لأن البحث الذاتي للتقدير، يظل ـ كما سبق التوضيح ـ معلناً عن سمة (المرض) وليس عن السمة السوية.

وانطلاقاً من الفارقية بين المرض والصحة، يشدد المشرع الإسلامي على ظاهرة (العز) على نحو يكسب بعض اشكال (التقدير الاجتماعي) سمة إيجابية: حتى في نطاق السلوك الفردي الصرف: غير المرتبط بالموقف الاجتماعي.

ويمكننا ملاحظة هذا الطابع بوضوح، حينما يقترن البحث عن التقدير الاجتماعي، بالانسلاخ من مواقف الذل أو الحطة التي تسم المرضى والعصابيين ممن يتحسسون بمشاعر الدونية والنقص لديهم، وانعكاس ذلك على التعامل الاجتماعي لديهم، فيما يتعين أن نقف عنده الآن.

الاستقلال الذاتي

حينما نقابل بين (العز) و(الذل) نجد أن الأول منهما يسمه طابع (السوية)، بينما يسم الثاني طابع (المرض).

بيد أن الملاحظة أن كلاً منهما ـ العز والذل ـ عبر التصور الإسلامي لا صلة له بظاهرة (التقدير الاجتماعي) وعدمها، بقدر صلته بالانتماء والتقدير الإلهيين.

إن النصوص الإسلامية تشدد على ظاهرة (العز) مؤكدة إن (المؤمن عزيز) مما تثير تساؤلاً حول ما إذا كان البحث عن مثل هذا العز مرتبطاً بعملية التقدير الاجتماعي الذي تلغيه الشخصية الإسلامية من حسابها.

والحق، ان البحث عن العز لا صلة له بالتقدير الاجتماعي بقدر ما تنحصر صلته بالانسلاخ من (الآخرين) أساساً: كما سبق التلميح، وبالاتجاه نحو السماء لاشباع الحاجات بدلاً من الاتجاه نحو الآخرين.

إننا ينبغي أن نضع فارقاً بين جملة من أنماط البحث عن العز:

1 ـ ثمة بحث عن (العز) مرتبط بالحاجة إلى (التقدير الاجتماعي)، بصفة أن العز هو: تسلم تقدير أو ثناء أو مكافأة من الآخرين، تجد الشخصية أنها بحاجة إليه: بغية اشباع (الذات) وتأكيد هويتها، والتمركز حولها.

وهذا النمط من البحث عن العز سمة عصابية سبق توضيحها مفصلاً، مما تطبع سلوك الشخصية الأرضية.

2 ـ ثمة بحث عن العز، مرتبط بالموقف الفكري، أي: الاتجاه أو المذهب الذي تنتسب الشخصية إليه. غير أن هذا الارتباط يحمل سمتين من الاحساس حياله، السمة الأولى: سمة عصابية في حالة تحرك الشخصية من موقف الحطة الذاتية التي تتحسسها بحيث تعوض عن الحطة الداخلية المذكورة، تعوضها بانتماء إلى (الآخرين): سداً للنقص، وليس إشباعاً موضوعياً للحاجة. وهذا متميز عن نمط آخر من البحث عن (العز) هو:

3 ـ البحث عن العز من خلال القيمة الموضوعية التي يحملها المذهب أو الاتجاه الفكري الذي تنتسب الشخصية إليه.

وهذا النمط من البحث عن العز لا صلة له اطلاقاً بالحاجة إلى التقدير الاجتماعي بقدر صلته باكساب المذاهب أو الاتجاه قيمته الحقة، فيما لحظنا قادة التشريع يندبون إليه (من خلال عملية التوافق أو التكيف الاجتماعي) بغية تمرير (الأهداف) التي يحملها المذهب أو الاتجاه. وهو بحث سوي عن التقدير الاجتماعي، على العكس من النمطين الأسبقين، فيما يمثلان سمة عصابية. كما قلنا.

4 ـ ثمة نمط رابع من البحث عن العز (وهو موضوع حديثنا الآن) فيما يمثل بدوره سمة سوية، مادام غير مرتبط ـ أساساً ـ بأية عملية تقدير اجتماعي، بقدر انسلاخه تماماً عن (الآخرين)، واتجاهه نحو مصدر آخر هو (السماء) في اشباع حاجات الشخصية. وهو ما نطلق عليه مصطلح (الاستقلال) الذاتي).

ولنتقدم بمثال في هذا الصدد، يتصل ب(الحماية) التي تنشدها الشخصية الإسلامية من السماء بدلاً من حماية (الآخرين) فيما أشرنا إليه عند حديثنا عن الانتماء إلى (الله) بدلاً من (الانتماء الاجتماعي).

ثمة فرد جائع، لا مناص من اشباع حاجته إلى الطعام. وسنفترض أن اشباع حاجته منحصر في: الالتحاق بدائرة رسمية أو أهلية، أو الالتحاق بأحد أرباب العمل، ... إن (الآخرين) وهم في المثال المذكور (رئيس الدائرة، ورب العمل، والوسطاء) هم الذين يمتلكون وسائل الاشباع.

غير أن الالتحاق بالدائرة أو العمل لا يتم في الحالات كلها: وفقاً لاستجابة سوية من قبل مالكي وسائل الاشباع، بل يتم في حالات كثيرة عبر (تنازل) و(ذهاب ماء الوجه) و(خضوع) يتعارض أساساً مع الدافع إلى تقدير (الذات)، وفي أفضل الحالات، فإن الاحساس بأن (الآخرين) ذوو (منّة) و(فضل) عليه، كاف بتوتير شخصيته وتأزيمها، وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن (الآخرين) (وهم مرضى في الغالب)، سيشيرون ذات يوم إليه: من خلال التعالي أو الزهو الاجتماعي أو الغمز أو التعبير، بأنهم (متفضلون) عليه.

ومما لاشك فيه أن رفض (الذل) في الحالة المذكورة، لا يعني بحثاً عن (تقدير اجتماعي)، بل يعني: إحساس الشخصية بكيانها واستقلالها، وهو إحساس صحي صرف، يتميز عن الاحساس بتورم (الذات) فيما يعني بدوره تحسيساً بكيان الشخصية، .. غير أن التأكيد على الذات يعد (مرضاً) مادام حائماً على الاشباع الذي يحسس الآخرين بأنه (متميز) أو (متفوق) أو أنه لوحده يملك (حق) الاشباع، ... إما إذا كان الأمر حائماً على منح (الذات) حقها في الاستقلال، ونفض اليد عن الآخرين، فإن الأمر حينئذ يكتسب ـ على العكس من الحالة السابقة ـ طابع الصحة والسوية. ومن هنا، فإن أي تقبل لـ(الذل) يعني: تقبلاً للحطة وللدونية اللتين تعدان مظهراً من مظاهر الاحساس بالنقص، والاحساس بالتبعية، والرثاء للذات وما إليها من أشكال المرض الذي سنتحدث عنه مفصلاً عند حديثنا عن الحاجة أو الدافع الذ يعالجه علم النفس الأرضي في حقل ما يسميه بـ(التقدير الذاتي).

إن ما يعنينا من معالجة النمط الأخير من البحث عن (العز)، ليس في تحديد طابعه السوي الذي يطالب المشرع الإسلامي به فحسب، بل يعنينا أيضاً ـ وهذا هو موضع تأكيد دراستنا ـ أن نقارن بين التوصيات الإسلامية في تنظيمها للدافع المذكور، وبين توصيات علم النفس العيادي، وملاحظة مدى الفارق بينهما، من حيث واقعية التوصية الإسلامية، ومثالية التوصية الأرضية.

ولنعد إلى مثال الجائع...

يقول الإمام زيد العابدين (ع) في دعاء مكارم الأخلاق (وهو وثيقة نفسية بالغة الخطورة: سنعالجها مفصلاً في حقل: مبادئ الصحة النفسية في الإسلام):

"اللهم اجعلني أصول بك عند الضرورة. وأسألك عند الحاجة. وأتضرع إليك عند المسكنة، ولا تفتني بالاستعانة بغيرك إذا اضطررت، ولا بالخضوع لسؤال غيرك إذا افتقرت".[5]

هذه هي توصية السماء: نفض اليد عن الآخرين تماماً، والاتجاه إلى السماء في اشباع الحاجة.

لقد اقرت هذه التوصية (حقاً) مشروعاً للشخصية، هو: حاجتها إلى استقلال (الذات). وتبعاً لذلك طالبت بعدم التخضع والاستكانة والاستعانة بالآخرين، لبداهة: أن الخضوع للآخرين يعني أحد أمرين:

أ ـ أن الشخصية تحمل طابعاً (إنحرافياً) فاقداً لمقومات الشخصية السليمة التي تتحرك وفق جهاز قيمي: كأن تتحرك بلا قيم، بلا حياء، بلا صيانة لماء الوجه.

ب ـ أن تتحمل الشخصية تبعات (الذل) وما يستجره من توتر وتمزق وصراع.

ومن البين أن التصور الإسلامي لهذه الظاهرة، قائم على اشباع كل من الحاجتين الأساسيتين: الحاجة إلى استقلال (الذات)، والحاجة إلى (سد الجوع). الأولى: حاجة نفسية، والثانية: حاجة حيوية (بيولوجية).

إن ازالة التضارب القائم بينهما، لا يمكننا أن نتصوره إلا إذا افترضنا وجود (مجتمع فاضل) لا يحيا أي تورم وعصاب، بنحو نفترض من خلاله ان الأفراد أو الفئات أو المؤسسات الاجتماعية يغلفها وعي حاد بصلة الإنسان بأخيه، بحيث يصبح توظيف الجائع أو إيجاد عمل له، أمراً ـ ليس مجرد كونه ممارسة طبيعية مفروضة على الآخرين فحسب ـ بل يقترن بمشاعر السرور أيضاً.

غير أن افتراض مثل هذه (المجتمعات) يظل مجرد افتراض لم يحدثنا التاريخ بإمكان تحقيقه إلا في نطاق نادر، لا يمكن انسحابه على مجتمعاتنا المعاصرة التي يعي علماء النفس الأرضيون قبل غيرهم طبيعة مفارقاته الضخمة.

وهذا يعني أن الأمر منحصر، إما: في إيجاد (توعية عامة) متميزة، يهيمن عليها أفراد أو مؤسسات رسمية أو شبه رسمية تملك وسائل التأثير على صياغة ثقافة عامة للآدميين، أو في إيجاد (توعية فردية) تصوغها الشخصية الإسلامية لنفسها عبر تعاملها مع السماء، ومع الآخرين.

وهذا النمط الأخير هو الصياغة التي أشار الإمام (ع) إليها، في توصية المتقدمة، حينما الغى (الآخرين) من الحساب، لأن الآخرين في تملكهم لوسائل الاشباع من المتعذر أن يستجيبوا لحاجة الجائع استجابة دون أن تملك خياراً ثالثاً لها. فهي حين تتجه نحو (الآخرين) مالكي وسائل الاشباع، يحاصرها نمطان ـ كما سبق التلميح ـ من الاستجابة حيالهم:

أ ـ ان تتحمل الشخصية تبعات (الذل) وما يستجره من التوتر والتمزق والصراع، فتفتقد بذلك: الصحة النفسية التي يسعى علم النفس العيادي إلى تحقيقها عبر توصياته (المثالية) بعمليات (الكف) أو (التصعيد).

ب ـ ان تكون الشخصية فاقدة لجهازها القيمي، أي لا تعنى بالحياء، وماء الوجه، وحينئذ تفتقد كينونتها أساساً وتصبح شخصية (لا اجتماعية) مرفوضة تماماً عند (مجتمعها) نفسه.

إن توصيات (الأرض) لا تملك حيال هذه المشكلة، إلا حلاً واحداً هو: ممارسة (الكف) و(التصعيد).

ونعني بـ(الكف): ان (تؤجل) الشخصية اشباع حاجاتها بنحو تتحمل من خلاله قسطاً يكبر أو يضؤل من (الاحباط).

ونعني بـ(التصعيد): أن تدرس (الموقف) بنحو تحمله (تفسيراً) خاصاً، يخفض من خلاله: الاحساس بالتوتر الناجم من (ذلة) الموقف.

بيد أن السؤال هو: هل تستطيع الشخصية الارضية أن تمارس (الكف) حيال منبهات حادة، تحيط الجائع وهو محروم منها؟ وهل تستطيع من خلال مواجهة (الذل) أن (تتصاعد) بالموقف وتعتبره أمراً عادياً: في حين أن (الآخرين) يمطرونها بوابل (المن) و(التفضل)، بل و(التعبير) في أية لحظة تتحرك الشخصية (الممنون) عليها من خلال تحسسها بالسيادة والاستقلال، أو النقد السليم لمالكي وسائل الاشباع؟

مما لا مماراة فيه، أن وقائع الحياة اليومية التي نألفها، تكشف لنا بوضوح عن أن (الكف) و(التصعيد) لا يمكن ممارستهما البتة، بل سوية ماداموا جزءً من ثقافة أرضية لا تعي صلة الإنسان بالسماء، بل صلته بالأرض: وهي صلة محدودة محاطة بالإحباط، والضغوط الطبيعية والاجتماعية التي لا مناص منها بأية حال.

وبما أن (الآخرين) في ضوء ثقافاتهم الأرضية، لا يمتلكون امكانية الاشباع بشكله السوي، حينئذ، فإن (الغاءهم) من وجهة نظر الصحة النفسية، سيحقق للجائع اشباعاً نفسياً هو: الحاجة إلى (استقلال الذات).

غير أن الحاجة الثانية، وهي حاجة حيوية ملحة، ونعني بها: الحاجة إلى الطعام، ستظل قائمة تهدد الشخصية بالموت، أو المرض الجسمي ما لم يزح التوتر العضلي للمعدة. وازاحة التوتر المذكور تنحصر في إيجاد العمل أو الوظيفة دون الاستعانة بـ(الآخرين) ـ إذا أريد الاحتفاظ بالحاجة إلى (استقلال الذات): حينئذ، فإن الشخصية الإسلامية (ذات الوعي الجاد بالسماء) تظل آمنة، مطمئنة، متوازنة (داخلياً) مادامت تطلب (الحماية) من (السماء) وليس من (الآخرين)، انها ـ كما يقرر الإمام (ع) ـ تصول بالسماء عند الضرورة، وتسألها عند الحاجة، ... والسماء تظل عند حسن ظن الشخصية الإسلامية دون أدنى شك، تتعامل معها بقدر التزام الشخصية بمبادئ السماء، ... وعندهم يتم اشباع الحاجة الحيوية، بدون أن يقترن الاشباع بالمن، وذهاب ماء الوجه، ... وتحسم المشكلة.

لكننا عندما نتجه إلى التوصيات التي يقدمها علم النفس العيادي في هذا الصدد، نجد أن التوفيق بين الحاجتين الرئيسيتين: النفسية والحيوية (استقلال الذات، وازاحة الجوع) لا يمكن أن يتم إلا على حساب أحدهما: فإما أن تحيا (الجوع) ولواحقه، وإما تريق ماء الوجه، لا مناص من الوقوع في هاوية (التوتر) وما يستتليه من آثار كبيرة على الصحة النفسية، لا يزال علم النفس العيادي يواجه نماذجهاً بأرقام ضخمة، دون أن يملك (علاجاً) لها.

إن (العلاج) لا يمكن توفره إلا بايجاد (بديل) عن (الآخرين) هو: (السماء) التي توفر وسائل الاشباع. وحتى في حالات (الاحباط)، فإن (الكف) أو (التصعيد) الاسلاميين، من الممكن أن تمارسهما الشخصية بنحو يختلف تماماً عن (الكف) و(التصعيد) بمعناهما الأرضيين.

فالكف أو التصعيد عند الشخصية الإسلامية، لا يقترن بـ(الذل) الذي يحاصر الشخصية الأرضية، بل بـ(العز) الذي يتواسق والحاجة إلى (استقلال الذات).

الشخصية الإسلامية لا تعنى (بالزائد) عن الحاجة إلى الاشباع، فيما يسهل (الكف) حيال أي اشباع يعني به الأرضيون عادة.

كما أنها حين (تتصاعد) بالموقف، إنما تملك (إشباعاً آجلاً) وليس مجرد (إحباط) لا بديل له: كما هو شأن الأرض.

من هنا تتحسس الشخصية الإسلامية بالتوازن الداخلي لها، في حين تحيا الشخصية الأرضية (توتراً) لا مناص منه.

ومن هنا أيضاً ندرك بوضوح: لماذا تطبع (المثالية) توصيات الأرض، ولماذا تطبع (الواقعية) توصيات السماء.

السيطرة والتفوق.. وصلاتهما بـ(التقدير الاجتماعي)

من الظواهر التي اعتاد علماء النفس، درجها ضمن الحاجات أو الدوافع النفسية، هي: الحاجة إلى التفوق أو السيطرة.

ونعني بهذا الدافع: الشعور الخفي أو الحاد بالحاجة إلى أن تتفوق الشخصية على (الآخرين)، أو أن تبسط نفوذها عليهم، أو أن تصبح (متميزة) عنهم بشكل أو بآخر: سواءاً كان هذا التفوق أو النفوذ أو التميز في نطاق العلم أو الإدارة أو السياسة، أو أي نشاط اجتماعي تمارسه الشخصية.

بيد أن الظاهرة المذكورة بالرغم من اكتسابها سمة (الحاجة) أو (الدافع) الموروث في نظر (الاتجاه القصدي) في علم النفس، إلا أن صفاً كبيراً من الباحثين لا يخلع على الظاهرة المذكورة صفة (الغريزة) أو (الحاجة الأساسية) بقدر ما يعدها دافعاً (مكتسباً) يحدد درجتها نمط الثقافة التي تحيا الشخصية في نطاقها.

والدراسات التي يقدمها هذا الصف من الباحثين، تؤكد صحة افتراضهم في اكتسابية الدافع المذكور.

اما الاتجاه الإسلامي، فإن وجهة نظره في هذا الصدد واضحة كل الوضوح: مادام هذا الاتجاه ـ أساساً ـ يلغي (الآخرين) من الحساب، على نحو ما تحدثنا عنه مفصلاً عن إلغاء للتقدير الاجتماعي، فيما يظل البحث عن الرئاسة والتفوق، جزء من البحث عن (التقدير) المذكور. إنه يرى إلى ما يسمى بدافع السيطرة أو التفوق، ظاهرة مرضية ينسبها إلى أصول الكفر أو المعصية، تشدداً منه على خطورة المفارقة التي ينطوي عليها حب السيطرة أو التفوق.

ويلاحظ: كما سبقت الاشارة، إن المشرع الإسلامي يطلق على جملة مما أعتيد على تسميتها بـ(دوافع) أو (غرائز)، يطلق عليها مصطلح (حب)، قاصداً من المصطلح المذكور (الرغبة غير المشروعة) أو الرغبة الزائدة عن الحاجة، مثل ذهابه إلى أن أول ما عصي به الله ستة:

يقول النبّي (ص):

"أول ما عصي به الله ستة: حب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الطعام... الخ".

أو ذهابه إلى أن أصول الكفر ثلاثة، فيما تشعبت منها فروع هي: كما يقول الإمام علي بن الحسين (ع):

"حب النساء، وحب الدنيا، وحب الرئاسة وحب الراحة، وحب الكلام، وحب العلو، وحب الثروة: فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا".
فهذا النص يشير إلى مصطلح (حب) بضمنه: (حب الرئاسة)، و(حب العلو) فيما يعنيان: السيطرة والتفوق. ويدرجهما في قائمة (المعاصي) أو المفارقات التي لا ترتضيها السماء، مما يعني بوضوح أنها لا تشكل أية حاجة أو دافع (كما يذهب إلى ذلك بعض الأرضيين) بقدر ما تشكل (رغبات غير مشروعة) مفصحة عن أحد مظاهر التأكيد على (الذات).

بيد أن السؤال يثار:

لقد ورد مصطلحا (الرئاسة) و(العلو) أو (السيطرة والتفوق في اللغة الأرضية) ضمن قوائم تتصل بحاجات أساسية مشروعة مثل (الطعام) و(النساء) وسواهما، فيما أطلق عليها جميعاً (في النصين اللذين قدمهما النبّي (ص) والسجاد (ع) مصطلح (الحب)، مما يحتمل أنهما (أي: الرئاسة والعلو) ينتسبان من جانب إلى أساس (فطري)، وإلى أنهما ـ من جانب آخر ـ على صلة بما هو (مشروع) بشكل أو بآخر: مثل الطعام والجنس والنوم والراحة. فالإنسان ـ بالضرورة ـ يحس بالحاجة إلى الطعام والنوم والراحة مادامت تمثل أصلاً (حيوياً) لا مناص من إشباعه، مما يثير تساؤلاً عن دلالة ما تعنيه النصوص الإسلامية من مصطلح (الحب) الذي أنكرته النصوص المذكورة.

إن الإجابة على التساؤل المذكور، لا يطلب أدنى تأمل، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن (الحب) يعني: "الاشباع زائداً عن الحاجة" وليس مجرد (الاشباع) الذي لا يعد مجرد كونه (مشروعاً) بل يعد (ضرورة) لا مناص منها.

إن الحاجة إلى (الطعام) أو (النوم) يتم اشباعها بأية وجبة أو فترة تزيح التوتر العضلي للمعدة أو الخلايا العصبية.

أما (الزائد) عنهما من نحو: تكثير الأكل أو النوم، فإنهما يعودان بأضرار (نتحدث عنها في معالجتنا لتنظيم الدافعين المذكورين لاحقاً) لا يتردد اثنان في كونها أضراراً ينبغي تجنبها بإلحاح مادمنا ننشد التوازن (الحيوي) للشخصية.

والأمر ذاته فيما يتصل بالتوازن النفسي للشخصية من حيث صلة التوازن الداخلي وعدمه بظاهرتي (السيطرة والتفوق).

ومع ذلك، فإن السؤال يثار على النحو التالي:

هل أن الأصلين النفسيين (السيطرة والتفوق) يماثلان الأصلين (البيولوجيين: الطعام والنوم) من حيث (مشروعيتهما أو فطريتهما) بنحو يتطلب اشباعهما بقدر الحاجة (أي: تحقيق التوازن النفسي) وحينئذٍ يكون الاشباع الزائد عن الحاجة لهما محكوماً بنفس الأضرار التي تترتب على الاشباع الزائد عن الحاجة للطعام أو النوم.

مما لاشك فيه، أن ثمة (فارقاً) بين الأصل (الحيوي) والأصل (النفسي) من حيث درجة (الالحاح الفطري) من جانب، ومن حيث امكانية (التعديل) أو (التحكم) فيهما، من جانب آخر، فأنت حينما تحس بالحاجة إلى الطعام أو النوم لا مناص لك من اشباع الحاجة المذكورة، ... لكنك لست محكوماً بالضرورة ذاتها حينما تحس بالحاجة إلى أن (تتفوق) على الآخرين، أو أن (تسيطر) عليهم: فمن الممكن أن (تعدل) أو (تتحكم) في هاتين الحاجتين النفسيتين، بل يمكنك أن (تلغيهما) أساساً: كما أثبتت ذلك دراسات (علماء الأقوام) في هذا الصدد.

والحق، إننا لا نحتاج إلى دعم الدراسات التجريبية في اكساب الحقيقة المذكورة (يقيناً) علمياً، بقدر ما تفصح الحقائق أو التجارب المألوفة عن ذلك: فنحن طالما نألف (نماذج) تقع تحت أبصارنا وأسماعنا، ممن لا يعنون بالتفوق أو السيطرة.

بيد أننا ـ بالرغم من ذلك ـ ينبغي أن نعالج الظاهرة في ضوء التصور الإسلامي لها، وتحديد موقعها من (الذات) التي لا مناص من اشباع بعض حاجاتها المشروعة من جانب، والغاء غير المشروع منها، من جانب آخر، ... ومن ثم، محاولة (تنظيم) الأصل النفسي لما هو (مشروع) من حاجات (الذات) في صلتها بالتفوق أو السيطرة في دلالتيهما الإسلاميتين.

إن المعيار الإسلامي في تحديد ما هو مشروع أو غير مشروع من الرئاسة أو التفوق يظل مرتبطاً بما هو (موضوعي) وما هو (ذاتي). وهو معيار، لا يسم ظاهرة السيطرة أو التفوق فحسب، بل يسم كل أنماط السلوك.

وفي صدد حديثنا عن الظاهرتين المذكورتين، فإن البعد (الذاتي) فيهما من الوضوح بمكان مادامتا متصلتين بنفس الأعراض المرضية التي تسم الباحث عن (التقدير الاجتماعي).

غير ان هاتين الظاهرتين تكتسبان حيناً دلالةً (موضوعية)، فتصبحان حينئذٍ حاجتين موضوعيتين لا صلة لهما بـ(الذات) إلا من حيث ارتباطها بالسماء.

ولعل أوضح نموذج للحاجة الموضوعية إلى (الرئاسة) يتمثل في مطالبة يوسف (ع) بتوليته خازناً على الأرض، حتى انه زكى شخصيته، خالعاً عليها سمتي (حفيظ) و(عليم)، تأكيداً للحاجة (الموضوعية) المذكورة.

والأمر ذاته فيما يتصل بالحاجة إلى (التفوق) عندما يستدعي السياق الموضوعي إبراز الشخصية الإسلامية لتمرير أهدافها المرتبطة بالسماء وليس بـ(الذات) المريضة. ومن هنا نجد الإمام علياً (ع) يسم من يتصدر مجلساً عملياً يسمه بـ(الحماقة) إذا لم يكن مستهدفاً من التصدر المذكور سلوكاً موضوعياً صرفاً.

يقول (ع):

"لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سئل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي فيه صلاح أهله. فمن لم يكن فيه شيء منهم فجلس، فهو أحمق".[6]

وواضح من هذا النص، إن الإمام (ع) في صدد التحديد الموضوعي الصرف في عملية (تصدر) المجلس. فالفقرة الأخيرة (ويشير بالرأي الذي فيه صلاح أهله)، تحدد موضوعية الهدف من تصدر المجلس، ألا وهو ابداء الرأي الذي فيه (صلاح) الناس، وليس الرأي الذي فيه (تأكيد على الذات).

كما أن الفقرتين اللتين تحدثت عند السؤال (يجيب إذا سئل) والكلام عند عجز الآخرين (وينطق إذا عجز القوم عن الكلام)، ... هاتين الفقرتين تعززان الذهاب إلى أن (التصدر) يرتبط بهدف (موضوعي) وليس بهدف (ذاتي)، وذلك: أن الشخصية المريضة (أي: الباحثة عن الذات) تتبرع بالاجابة دون ان يسبقها سؤال، أو تتحدث لغير ضرورة في حالة ما إذا لم يعجز الآخرون عن الكلام، وهي على العكس تماماً من الشخصية السوية التي لم تتحدث إلا إذا وجدت أن الآخرين عاجزون عن الاجابة، ولم تتحدث إلا إذا وجه إليه السؤال، وإذا فإنها تظل (صامتة) أو جالسة دون المجلس وليس في صدارته، مما يكشف عن أن شخصيتها (سوية) لا تبحث عن (تأكيد الذات).

 


[1]  نهج البلاغة: صفحة 156، جلد2.

[2]  الصحيفة السجادية. دعاء مكارم الأخلاق ـ رقم 24.

[3]  الوسائل: باب 3، حديث 2، أحكام الملابس.

[4]  الوسائل: باب 29 حديث 3، أحكام الملابس.

[5]  الصحيفة السجادية: دعاء رقم (24).

[6]  العباد. صفحة 141، جلد 1، العقل والجهل.

 

.

اللاحق

السابق

  الفهرست