.

اللاحق

السابق

  الفهرست
 

الأصول النفسية وطرائق تنظيمها

الانتماء لله والانتماء الاجتماعي

التوافق الاجتماعي

 

الفصل السادس

الأصول النفسية

وطرائق تنظيمها

حين نتحدث عن الأصول أو الدوافع أو الحاجات، وطرائق تنظيمها (من خلال التصور الإسلامي)، فإننا سنواجه بالضرورة منهجاً متميزاً عن المناهج الأرضية، في طبيعة تصورها لطرائق التنظيم.

فالتصور الإسلامي للدوافع، قائم، على الغاء بعض الدوافع التي اعتاد علم النفس الأرضي تسميتها دوافع، واقرار البعض الآخر منها.

وهذا يعني أن منهج التناول (في تنظيم الدوافع) سيقتصر على ما هو مشروع فيها فحسب: مع ملاحظة أننا سنحدد أيضاً موقف المشرع الإسلامي من الدوافع الملغاة من حسابه.

فمما اعتيد ـ على سبيل المثال ـ تسميته دافعاً (عند علماء النفس الأرضيين)، نزعات من نحو:

العدوان، السيطرة، التفوق، التقدير الاجتماعي، الانتماء الاجتماعي الخ، ... هذه النزعات يتجه البحث الأرضي إلى تسميتها بـ(دوافع) ويرى إلىهذه الدوافع وكأنها حاجات بشرية لا مناص من اشباعها بنحو وبآخر: وفقاً لطبيعة المناخ الثقافي الذي يغلف الباحث الأرضي ومجتمعه.

وتبعاً لذلك، يضطلع البحث الأرضي بمعالجة هذه الدوافع، ويخضعها لتنظيم خاص، بغية تحقيق التوازن للكائن الآدمي.

أما الباحث الإسلامي، فإن وجهة نظره عن الدوافع المذكورة تختلف أساساً عن وجهة النظر الأرضية، أنه لا يرى إليها ـ وكأنها حاجات لا مناص من اشباعها، بل يرى إليها مجرد "ميول" أو "رغبات" شاذة، لا تعبر عن أصل وراثي أو اكتسابي سليم، بقدر ما تعبر عن اشباع زائد عن الحاجة.

ولنضرب مثلاً عابراً عن حاجتين تعدان أساسيتين في بحوث الأرض ـ على أن نفصل الحديث عنهما لاحقاً. والحاجتان الأساسيتان هما: التقدير الاجتماعي. والانتماء الاجتماعي.

وعلماء النفس الأرضيون، يجمعون على أن هاتين الحاجتين لابد من اشباعهما، لأنهما في الصميم من تركيبة الإنسان وحاجاته الأساسية، فالإنسان كائن اجتماعي بالضرورة، أنه لم يستطع أن يتحرك إلا من خلال وسط اجتماعي يتفاعل افراداً وجماعات، بعضها مع الآخر.

وهذا التفاعل يفرض على الكائن الآدمي أن (ينتمي) إلى (الآخرين)، وأن يشبع حاجته من (الانتماء) المذكور: كان ينشئ علاقات (صداقة) و(جوار) و(حرفة) و(فكر) و(سياسة) الخ. وهذا هو الدافع إلى (الانتماء الاجتماعي) فتفرضها طبيعة الكائن الآدمي ذاته، من حيث كونه بحاجة إلى من يحسسه بآدميته، وبكيانه، وبشخصيته. فما لم يظفر بتقدير (الآخرين) حينئذ لا يمكنه أن يمارس نشاطه الاعتيادي في الحياة: أنه يحتاج إلى (الحب)، إلى التشجيع) إلى (تثمين) انجازاته التي يقدمها إلى مجتمعه.

هذا التصور الأرضي لكل من الانتماء الاجتماعي والتقدير الاجتماعي، لا يرى المشرع الإسلامي إلى مسوغاته، إلا في نطاق محدد، هو: مدى ارتباطه بالوظيفة العبادية فحسب.

فالمشرع الإسلامي، يلغي (الانتماء الاجتماعي أو التقدير الاجتماعي) من الأساس، ويطالبه بانتماء إلى (السماء) فحسب وبتقدير منها لا من الآخرين. اما (الآخرون) فإنهم ملغون من حساب الفرد تماماً إلا من حيث كونه هو (يحب الآخرين) ويخلع (تقديره) عليهم، لا أنه باحث عن حبهم وتقديرهم.

والفارق كبير بين التصورين: كما هو واضح.

من هنا، فالباحث الإسلامي لا يفترض وجود حاجة اسمها: الانتماء أو التقدير الاجتماعي، حتى يصوغها عنواناً يبحث من خلاله طريقة التنظيم لهذه الدوافع... بل يقرر وجود حاجة اسمها: "الانتماء الإلهي" أو "التقدير الإلهي".

وهكذا سائر الحاجات والدوافع التي اعتاد عالم النفس الأرضي أن يعالجها في أبحاثه من نحو دافع: السيطرة والمقاتلة، والتملك والاستطلاع،... الخ.

ومن هنا أيضاً، يجد الباحث الإسلامي نفسه، بحاجة إلى صياغة مفهومات جديدة عن (الدوافع) و(تنظيمها)، بحيث يدرجها في (عناوين) تتسق مع طبية التصور الإسلامي للدوافع: وذلك بأن يكون الدافع (مشروعاً) أولاً، حتى يعالج طريقة (تنظيمه) ثانياً.

فالدوافع الحيوية ـ على سبيل المثال ـ تعد حاجات مشروعة كالحاجة إلى الطعام، والحاجة إلى النوم، والحاجة إلى الجنس ... الخ. أما الحاجات النفسية التي اعتاد البحث الأرضي على عدها حاجات مشروعة من نحو: الدوافع التي أشرنا إليها، هذه الحاجات، لا يرى المشرع الإسلامي ـ كما قلنا ـ إلى أنها حاجات مشروعة حيث يبحث عن طرائق تنظيمها. بل سيبحث عن الحاجات المشروعة فحسب، ... وهي حاجات تكاد تكون مضادة تماماً للتصور الأرضي: من نحو (الحاجة إلى وأد الذات) بدلا من الحاجة إلى (السيطرة)، و(الحاجة إلى المسالمة) بدلا من الحاجة إلى العدوان، والحاجة إلى تقدير السماء بدلاً من الحاجة إلى التقدير الاجتماعي، والانتماء إلى الله، بدلاً من الانتماء الاجتماعي، وهكذا.

إذن: الباحث الإسلامي، سيختار منهجاً آخر في معالجته لقضية الدوافع وتنظيمها.

هذا المنهج: يقرر أولاً وجود دوافع حيوية لا مناص من اشباعها بنحو ترسمه مبادئ السماء: وهو أمر يأتلف مع أبحاث الأرض، إلا في طرائق تنظيمها.

ويقرر ثانياً: وجود دوافع نفسية... لكنها متميزة تماماً عن أبحاث الأرض بحيث لا تكاد تلتقي بها إلا في نطاق محدد. وتبعاً لذلك، فإننا نخصص هذا الفصل من الدراسة لمعالجة حقلين: أحدهما يتصل بتنظيم الدوافع الحيوية: طعام، جنس، الخ. والآخر: يتصل بتنظيم الدوافع النفسية: الحب ووأد الذات، الانتماء الإلهي، التقدير الإلهي... الخ.

ونبدأ أولاً بدراسة:

الانتماء لله... والانتماء الاجتماعي

نطلق مصطلح (الانتماء لله)، مقابلاً لـ(الانتماء الاجتماعي) الذي يشكل لدى الباحثين الأرضيين أحد الدوافع الملحة لدى الكائن الآدمي.

وبالرغم من أن المشرع الإسلامي لا يضاد عملية الانتماء الاجتماعي، بل يطالب بتحقيقها في مجالات شتى ـ كما سنرى ـ إلا أنه لا يصوغ منها قضية أساسية من حيث كونها تشكل عنصر (حماية) للكائن الآدمي.

إن البحث الأرضي ـ في أفضل حالاته ـ يرى إلى الانتماء الاجتماعي وسيلة إلى غاية محددة هي: اشباع الحيوية والنفسية، من نحو ما يحققه الإنتساب مثلاً إلى الأندية والمجامع والنقابات وسواها، من حل لمشكلات الفرد أو تصريف لطاقاته الخبيثة ومن نحو ما يحققه الانتماء إلى (الآخرين) مطلقاً، من توازن للشخصية تفتقده تماماً عندما تعيش منعزلة عنهم: إذ تلفها الوحشة، والفراغ، والضجر وما إليها من المشاعر.

ومع أن بعض الأبحاث الأرضية أثبتت ضآلة مثل هذه الحاجة لدى أقوام متخلفين، إلا أن الحق، يظل مع الاتجاه الذاهب إلى الحاحية هذه الحاجة، مادام الكائن الأرضي يفتقد (الحماية) وهو منعزل عن السماء.

وهذا على العكس من الاتجاه الإسلامي الذي يوفر قدراً من (الحماية) للآدميين بقدر وعيهم بحقيقة السماء ومعطياتها.

إن السماء تطالب اولاً بأن تتمحض الأعمال العبادية الخاصة (من صلاة وصوم وحج ونحوها) لله وحده.

وتطالب ثانياً بأن لا يشرك الفرد (الآخرين) بعمله، أي: تطالبه بعدم (الرياء) في أعماله العبادية المذكورة.

وتطالبه ثالثاً أن يمحض كل نشاطه (وليس طقوس العبادة فحسب) لله، بأن يحب ويبغض في الله، وينشئ علاقاته مع الآخرين من أجل الله، وليس من أجل توفر (الحماية) من خلالهم.

ومن هنا ندرك قيمة المقولة المأثورة عن علي (ع) من أن تجمع الآخرين حوله لا يزيده (ألفة)، وتفرقهم عنه لا يزيده (وحشة): انه لا يبحث عن (إنتماء اجتماعي) يوفر (الحماية) له، بل يبحث عن انتماء للسماء بنحو يلغي (الآخرين) من حسابه: لا يزيدونه ألفة من خلال الانتماء لهم، ولا يسببون له وحشة من خلال الانسلاخ عنهم.

هذه المقولة، تحسم الموقف الإسلامي بوضوح حيال ظاهرة (الانتماء الاجتماعي، إذ تلغيها أساساً، مستبدلة ذلك بانتماء آخر هو: الانتماء إلى الله بحيث يتمحض السلوك بأكمله، لله: سواء أكان السلوك عملاً عبادياً خاصاً (صلاة ... الخ) أو عاماً متصلاً بأوجه النشاط المعروفة من: غذاء ونوم وتأمل وصداقة وتجارة ومساعدة، وعمل ثقافي، وأسفار ... الخ.

والحق، ان (الانتماء إلى الله) لا يعني: الانسلاخ من الدائرة الاجتماعية، بل يعني: الانسلاخ من (الحماية) التي يوفرها الانتماء إلى المجتمع.

وانطلاقاً من هذا الفارق بين الانتماء الاجتماعي وعدم الانسلاخ منه، نجد المشرع الإسلامي يشدد الأهمية على ما يسميه البحث الأرضي بـ:

التوافق الاجتماعي

ان التوافق الاجتماعي يعني: التكيف مع البيئة التي يحياها الفرد من خلال الأطراف الاجتماعية التي تنتظم علاقاته بالبيئة. وهي ـ عادة علاقات عامة وعلاقات خاصة.

أما العلاقات العامة، فيكفي أن نشير إلى الحاح التشريع علها من خلال مبدأ (المؤمنون أخوة) فيما لا حاجة إلى التعقيب عليها، مادامت تمثل مبدأ ينفذ إلى الصميم من الحياة الاجتماعية التي يعني المشرع الإسلامي بها.

وأما العلاقات الخاصة، فتمثل في ما يسميه بعض علماء الاجتماع بـ(الجماعات الأولية) حيث تنتظمها علاقات مباشرة مثل (الأسرة، الصداقة، الجوار... الخ).

ونحن لو اقتصرنا على ظاهرة (الصداقة) مثلاً، لوجدنا ان هذه الظاهرة تمثل أحد أشكال الانتماء الاجتماعي: في لغة البحث الأرضي. بيد أن المشرع الإسلامي (وهو يشدد عليها بالحاح)، انما يحددها في خطوط لا يجعل منها مجرد (انتماء) أراضي، بل يفاعل بينها وبين الانتماء إلى الله.

ولنقرأ هذا النص عن الصادق (ع):

"اكثروا من الأصدقاء في الدنيا، فانهم ينفعون في الدنيا والآخرة اما الدنيا فحوائج يقومون بها. وأما الآخرة، فإن أهل جهنم قالوا: (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم)".[1]

إن اشارة النص إلى أن ظاهرة الصداقة مرتبطة بحوائج الدنيا، تعني نفس الدلالة الأرضية الذاهبة إلى أن (الصداقة) مظهر من مظاهر الحاجة إلى (الانتماء الاجتماعي).

أما الإمام علي (ع) فانه يصنف الأصدقاء إلى نمطين، يحدثنا عنهم على النحو التالي:

"الاخوان صنفان: اخوان الثقة، واخوان المكاشرة.

فاما اخوان الثقة فهم كالكف والجناح والأهل والمال....

واما اخوان المكاشرة، فإنك تصيب منهم لذتك فلا تقطعن ذلك عنهم، ولا تطلب ما وراء ذلك من ضميرهم، وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان".[2]

هذا النص بدوره يحدثنا عن الصداقة في مظهرها المتصل بالحاجة إلى (الانتماء الاجتماعي) وبخاصة النمط الثاني من الأصدقاء، حيث طالب النص بمجاملة هذا النمط بغية أن يستمر تدفق اشباعه (فإنك تصيب منهم لذتك).

إذن: النصوص الإسلامية تطالبنا بأحد مظاهر الانتماء الاجتماعي، معللة ذلك بأن أشباع الحاجات متوقف على الانتماء المذكور. وهذا التصور هو ذات التصور الأرضي لمفهوم (الانتماء الاجتماعي).

فإذا أضفنا إلى ذلك كله، نصوصاً تشير إلى النهي عن بعض أشكال الانفراد: من نحو النهي الوارد عن المبيت منفرداً أو السفر منفردا وما إليها، حينئذ ندرك بوضوح أن (الانتماء الاجتماعي) أمر ضروري يوفر للكائن الآدمي بعض أشكال الحماية تماماً على النحو الذي قرره البحث الأرضي. فالمشرع حينما يمنع من المبيت منفردا إنما يضع في الحسبان أن الفرد بحاجة إلى (الحماية) من المخاوف التي تفرزها الوحدة، وحينما يطالب بمجاملة الآخرين إنما يضع في الحسبان أيضاً توفير (الحماية) للفرد حتى يحقق لذته منهم: على حد تعبير الإمام علي (ع):

إذن: في الحالات المتقدمة جمعاء، يظل (الانتماء الاجتماعي) حاجة يشدد المشرع الإسلامي عليها على النحو الذي يقرره البحث الأرضي.

بيد أن الفارق بين التصورين: الإسلامي والأرضي، يبدأ من تحديد حجم (الحماية) أو (الانتماء): ثمّ، من تحديد نمط (الوعي) الذي يغلف الفرد، ثم: تحديد الوسط الاجتماعي الذي نتحدث عن (الانتماء) إليه.

إن تحديد نمط "الحماية" ونمط "المجتمع" الفردي، يتدخل ـ عبر التصور الإسلامي ـ في اضفاء المشروعية أو عدمها بالنسبة لمفهوم (الانتماء الاجتماعي)، وهذا ما ينبغي أن نتحدث مفصلاً.

من المسلمات الأساسية ان السماء هي (المصدر) الوحيد لحماية الكائن الآدمي، يستوي في ذلك أن تكون الحماية نفسية أو أمنية أو مادية.

فالنصوص الإسلامية متظافرة في تأكيدها على أن التواصل مع الله: من خلال الذِكر والمناجاة يحقق للفرد متعة لا يتذوق حلاوتها إلا من خبر ذلك: حتى أن هذه النصوص تشير بوضوح إلى أن الفرد يبدأ بالاستيحاش من الناس بقدر تواصله مع الله.

وهذا ما أومأ إليه الإمام علي (ع) في مقولته التي سبق الاستشهاد بها من أنه لا يزيده تجمع الناس حوله (ألفة)، ولا تفرقهم عنه (وحشة)، بل على العكس يبدأ (الاستيحاش) من الآخرين بدلاً من (الألفة) بهم.

وهذا يعني أن الحماية (النفسية) التي تطالبنا النصوص بها من خلال التشديد على الصداقة والمجاملة والتزاور وما إليها من أشكال الانتماء الاجتماعي، إنما تخص نمطاً يتضاءل حجم الوعي لديه بقدر ابتعاده عن السماء، واقترابه من الأرض.

وهذا على العكس من الفئآت الواعية التي لا تُعنى بالانتماء إلى الآخرين، بل (تستوحش) منهم.

نعم: تظل ظواهر الصداقة والمجاملة والتزاور ـ لدى هذا النمط الواعي ـ جزء من وظيفة اجتماعية يمارسها الواعون (لا لأنها تحقق لهم متعة نفسية) بل لأن السماء تطالبهم بذلك: تحقيقاً لحياة اجتماعية يستهدفها المشرع في هذا الصدد.

ومن هنا تجيء النصوص المشددة على أن الصداقة والتزاور، ومطلق النشاط ينبغي أن تتمحض لله فقط من نحو: عيادة المريض، وزيارة الأخ، ... وواضح أن زيارة الأخ أو عيادة المريض لا تحقق (حماية) للزائر أو العائد، بل تحقق (حماية) للأخ المزور وللمريض ... وبكلمة أخرى: أن النصوص الإسلامية تطالبنا بأن نصبح سبباً لحماية الآخرين، لا لأن الآخرين هم (الحماية) لنا.

والفرق كبير بين الحالتين...

ويمكننا إدراك هذه الظاهرة بنحو أشد وضوحاً حين نعود إلى مفهوم (الحب) أو (الصداقة) أو بنحو عام: علاقة الفرد بـ(الآخرين) عبر التصور الإسلامي لهذه العلاقة. فالمشرع الإسلامي يحدد علاقة الفرد بالآخرين من خلال عملتين هما: حب الآخرين وقضاء حوائجهم. انه يلغي الانتماء إلى الآخرين، أي: الحاجة إليهم. ويمحضها للحاجة إلى الله فحسب. لكنه يحدد حاجة الآخرين إلى الفرد، ويضعه (حامياً) لهم: بحيث يكون افتقاره إلى الآخرين هو منح (الحماية) لهم: نفسياً ومادياً، لا أنه مفتقر إلى أن يحموه.

وكم هو الفرق بين الحالتين...؟

الحالة الأولى (وهي مبدأ اسلامي) أين يكون الفرد مصدر (حماية) للآخرين. أما الحالة الثانية (وهي مبدأ أرضي) فتطالب بأن يكون (الآخرون) مصدر (حماية) للفرد. الحالة الأولى: تحسس الشخصية باستقلالها، وثقتها، وكفاءتها: وحاجتها إلى الله فحسب. أما الحالة الثانية فتحسس الشخصية بالضعف والتبعية والحاجة إلى الآخرين (وليس الحاجة إلى الله) وكم هو الفرق بينهما: من حيث كون الأولى شخصية (سوية) محتفظة بتوازنها الداخلي... وكون الثانية شخصية مريضة ينتابها الاحساس بالضعف وما يجره ومن التوتر والصراع؟

إذن: نشدان الحماية النفسية (من خلال ظاهرة الانتماء الاجتماعي). ملغى من حساب الأفراد الواعين... وإنما تمحض الحماية خالصة من الله، وليس من (الآخرين).

ويترتب على ذلك أن يتم ابدال ما يسميه البحث الأرضي بـ(الانتماء الاجتماعي)، يتم ابداله بـ(انتماء إلى الله).

وهذا كله فيما يتصل بالحماية أو الانتماء النفسي.

أما ما يتصل بالحماية الأمنية والحماية المادية، فإن الأمر محكوم بنفس الطابع. فالنصوص الإسلامية تتظافر ـ كذلك ـ في الذهاب إلى أن السماء لوحدها هي مصدر الحماية (الأمنية) و(المادية) فهذه النصوص، تؤكد، أن السماء توكل من يوفر الحماية الأمنية للآدميين، تقيهم من الأسواء والمكاره. كما تؤكد هذه النصوص أن السماء توفر (الحماية) المادية للآدميين، بحيث قدرت أرزاقهم وأجرتها وفق حساب خاص: كلما في الأمر أن المطالبة بالسعي نحو اشباع الحاجات المادية، تظل مجرد واسطة يستهدف المشرع من وراءها تحريك الكائن الآدمي وتنشيطه في ممارسة عمله الاختياري على الأرض، لا أن (الآخرين) هم الذين يوفرون (الحماية المادية) للساعي نحو الرزق.

إذن: كل أشكال الحماية (نفسية وأمنية ومادية) تظل مرتبطة بالسماء وليس بالآخرين: مما يعني أن ما يسمى بالحاجة أو الدافع إلى (الانتماء الاجتماعي) لا مشروعية له في التصور الإسلامي، بل المشروعية تمحض في (الانتماء إلى الله) وليس في الانتماء الاجتماعي. نعم، ثمة حاجات اجتماعية لا مناص من (الحماية) الآدمية لها من نحو الحماية التي يفتقر الطفل إليها والحماية الثقافية التي يحتاج الفرد إليها، وسائر أشكال الحماية المادية والمعنوية التي تتم من خلال عملية التبادل الاجتماعي بين الحاجات.

وقد أشار الإمام الباقر (ع) إلى هذه الحاجة حينما نهى رجلاً كان يدعو قائلاً: (اللهم اغنني عن خلقك) فقال له قل (اللهم اغنني عن شرار خلقك)،[3] مشيراً إلى أن الأفراد يحتاج كل منهم إلى الآخر.

وهذا يعني بوضوح، أن ثمة حاجات لا مناص للآدميين من الارتكان إليها من خلال الحماية التي يوفرها كل للآخر، فيما تؤكد دلالة (الانتماء الاجتماعي) وضرورته في النطاق المذكور. إلا أنه خارجاً عن ذلك، يظل (الانتماء الاجتماعي) عديم الفاعلية في التصور الإسلامي، على النحو الذي فصلنا الحديث عنه.

بقي أن نشير إلى فاعلية الانتماءين: الاجتماعي والإلهي في حقل الصحة النفسية التي نستهدف التأكيد عليها في دراستنا.

فمن الواضح أن الانتماء الاجتماعي لا يمكن أن يحقق للفرد توازناً داخلياً، أي: الصحة النفسية التي يسعى علم النفس الأرضي إلى اشاعتها في الكائن الآدمي: من خلال محاولاته المتنوعة في تنظيم (الدافع) المذكور.

والسبب في ذلك، عائد ـ ببساطة ـ إلى عجز (الآخرين) من توفير (الحماية) النفسية أو الأمنية أو المادية، مما يترك لدى الساعي نحو (انتماء اجتماعي ما) رد فعل سلبي، يساهم في تضخيم حجم المرض أو العصاب لديه.

انه ـ من المتعذر ـ ان تحقق الحياة، اشباعاً كافياً للآدميين، وهذه حقيقة يجمع الباحثون النفسيون عليها، ... ولذلك نجدهم يطالبون الأسوياء وحتى المرضى بممارسة الكف حيال الاشباع، والتقبل للاحباط الذي يواجهونه حتى يحتفظوا بتوازنهم الداخلي.

بيد أن هذه التوصية ـ كما سبقت الاشارة إليها في حقل سابق ـ تظل حلاً مثالياً لا يمكن للفرد أن يستجيب له بنحو واقعي إلا إذا كان ساعياً نحو (انتماء إلهي) يوفر له الحماية النفسية أو الأمنية أو المادية، أو على الأقل: يوفر له الحماية النفسية التي تزهد لديه الحاجات الأمنية والمادية مادامت تمثل متاعاً عابراً موقتاً بالقياس إلى الاشباع الأخروي الذي لا حدود له.

أما الكائن الأرضي المنفصل عن السماء، والوعي بحمايتها، فلا يتاح له أن يقتنع بمشروعية الاحباط، ولا قدرة لديه على تحمل ذلك مادام لا يملك إلا متاعاً واحداً هو: الحياة فكيف نطالبه بممارسة الكف عن الحياة وهو لا يمتلك سواها؟ ثم نطالبه بأن يبقى متحفظاً بتوازنه الداخلي؟

إنها توصية غير واقعية، تفسر لنا أسباب شيوع العصاب في الأرض بالرغم من سعة انتشار العيادة النفسية، ومحاولاتها الدائبة في بسط مفاهيمها وتوصياتها العقيمة.

على أية حال، يظل الانتماء إلى الله، بدلاً من (الانتماء الاجتماعي) هو الصياغة المشروعة التي تأتلف مع طبيعة التركيب الآدمي: من حيث دوافعه التي يتحرك من خلالها ثم: تنظيمها وفق ما تحدثنا عنه مفصلاً: بالنحو الذي يحقق للكائن الآدمي توازنه الداخلي. ولسوف تتضح دلالة "الانتماء إلى الله" بنحو أشد جلاء عندما نتجه إلى معالجة دافع آخر وثيق الصلة بدافع الانتماء الاجتماعي ونعني به: الدافع أو الحاجة إلى (التقدير الاجتماعي) فيما يكسبه علماء النفس أهمية بالغة المدى أيضاً. لكنه يظل بدوره ـ من خلال التصور الإسلامي ـ ملغى أساساً ـ من الحساب: حيث يطالبنا المشرع ابداله (بتقدير) آخر، هو:

(التقدير الإلهي... والتقدير الاجتماعي)

هذا المصطلح نطلقه قبال ما يسميه البحث الأرضي بـ(التقدير الاجتماعي). ويقصد (بالتقدير الاجتماعي): الحاجة إلى (تثمين) يصدر من (الآخرين) حيال الشخصية: سواء أكان هذا التثمين يتصل بمشاعر ودية حياله، أو تقديراً لخدمات أداها إلى مجتمعه.

والغريب أن أحد الباحثين المحدثين (ماسلو) شدد على أهمية هذا الدافع بنحو جعله مشروعا كل المشروعية، مؤكداً أحقية الفرد الذي قدم انجازاً ما، أن يصدر عن رغبة جادة في مكافاته على انجازه، أو في تحقيق المنزلة الاجتماعية التي تتناسب وانجازه المذكور.

ونحن بعد أن أوضحنا انتفاء الحاجة إلى (الانتماء الاجتماعي) وهو أشد لصوقاً بحاجات الفرد: حسب لغة الأرض، من (التقدير الاجتماعي)، حينئذ يسهل الأمر حيال الحديث عن هذا (التقدير) الاجتماعي.

أن الحاجة إلى (التقدير الاجتماعي) تقترن ـ في تصور علماء النفس ـ بظاهرتين هما: الحاجة إلى (الحب)، والحاجة إلى (المكافاة).

اما الحاجة إلى (الحب) فتعنى أن الفرد يحس بالحاجة إلى أن يكون موضع حب من الآخرين يحسسونه بآدميته، بكيانه، بشخصيته: لا أن يكون موضع نفور وكراهية أو اهمال. واما الحاجة إلى (المكافأة) فتعني: أن الفرد يحس بالحاجة إلى أن (يثمن) الآخرون انجازاته التي يحتفظ بها لنفسه أو يقدمها إلى (الآخرين)، ويمنحه (المكافأة) المعنوية لانجازه، متمثلة في تحقيق السمعة أو المكانة الاجتماعية التي تتناسب وحجم الانجاز الفكري أو التقني الذي قدمه.

إن هذين المبدأين الأرضيين: الحب والمكافأة يقرهما التصور الإسلامي ولكن في نطاق محدد ضمن شروط خاصة تماثل ما سبق أن أوضحناه عند حديثنا عن (الانتماء الاجتماعي).

أما (الحب)، فإن المشرع الإسلامي يشدد عليه بحيث أكدت النصوص الذهاب إلى أن سمة المؤمن (أن يألف ويؤلف). أي: أن يحب الآخرين وان يحبه الآخرون، وهي مقولة فطن إلى حقيقها متأخراً أحد الباحثين الأرضيين (فرويد) حينما رسم معياراً للشخصية السوية إنها هي التي ... (تُحِبّ وتُحَب).

بيد أن ما يميز التصور الإسلامي عن التصور الأرضي في ظاهرة (الحب) هو: تحديد مصدر "الرغبة في الحب".

إن عالم النفس الأرضي يحدد (الرغبة في الحب) من خلال الفرد الباحث عن الحب بصفته حاجة أو دافعاً يتطلع إلى اشباعه أي: إن الفرد يرغب في أن يخلع (الآخرون) الحب عليه، حتى يتحسس أهمية وقيمة ذاته أو كيانه أو شخصيته.

وهذا على الضد تماماً من التصور الإسلامي الذي يطالب بأن يتحقق الحب (لا من خلال رغبة الفرد) بل من خلال (الآخرين)، فيما يخلعون عليه (الحب) نتيجة لسلوكه التوافقي مع الآخرين، لا لأنه (راغب) في اشباع حاجته الذاتية.

وبكلمة أشد وضوحاً: ان الشخصية الإسلامية (تألف وتؤلف) أو (تُحِب وتُحَب)، نظراً إلى أنها تسلك سلوكاً قائماً على المرونة واللين والبشاشة. ولأنها، تسلك مثل هذا السلوك المرن، فإن (الآخرين) يحبونها بالضرورة، لا أنها (ترغب) في أن يحبها الآخرون لكي تشبع حاجتها إلى الحب، وتحقق بذلك تأكيداً على الذات.

ومن البين ان التصور الأرضي لظاهرة (التقدير الاجتماعي) ينتسب إلى النمط الأخير من (الحب) أي: الرغبة في انتزاع الحب من الآخرين: تحقيقاً لـ(الذات)، ... ومن هنا أطلق الباحثون النفسيون على الرغبة المذكورة مصطلح (الدافع) أو (الحاجة) إلى التقدير الاجتماعي.

ومن البين أيضاً أن مجرد الرغبة إلى انتزاع التقدير يمثل سلوكاً مرضياً وليس سلوكاً سوياً لأنه حومان على (الذات وتمركز حولها)، بعكس التصور الإسلامي للظاهرة، لأن هذا التصور لا يحوم على (الذات) وتأكيدها، بل يحاول ابعاد النزعات الذاتية واحلال "الموضوعية مكانها.

ولذلك لم يقر مشروعية (الرغبة في انتزاع الحب أو التقدير)، بل جعل (الحب) نتيجة سلوك توافقي، يخلعه الآخرون على الشخصية المتوافقة اجتماعياً، لا أنه مصدر رغبة أو حاجة يتحسسها الفرد لاشباع ذاته أو كيانه أو شخصيته.

وهذا كله فيما يتصل باحد وجهي (التقدير الاجتماعي)، ونعني به (الحب).

اما الوجه الآخر من (الحاجة إلى التقدير)، ونعني به (المكافاة). فإن التصور الإسلامي يلغيه أساساً ولا يجد له أية مشروعية على الاطلاق، بل يظل ظاهرة مرضية صرفة.

ولكي نحدد بوضوح، السمات المرضية لهذا الوجه من الحاجة إلى (التقدير الاجتماعي)، وغيابها عن ذاكرة علماء النفس، ثمّ: تحديد التصور الإسلامي لهذه الظاهرة... يتعين أن نطرح جملة من الحقائق، ومنها:

أولاً: ان البحث عن (المكافاة) ينطوي على الاحساس بان ما قدمه الفرد من (انجاز)، هو: عمل له قيمته وأهميته.

ثانياً: إن الفرد هو (مصدر) الانجاز المذكور.

ثالثاً: ان منح (المكافاة) يظل مقترناً بمشروعية (الريبة في الحصول عليها). أي: تمثل (حاجة) أو (دافعاً) إلى استلام (التقدير) من الآخرين.

والحق، ان هذه الظواهر الثلاث، لا تجسد (واقعاً) مشروعاً، بقدر ما تجسد سلوكاً مرضياً قائماً على إدراك واهم بحقائق التركيب البشري، مقروناً بالبحث عن اشباع (الذات) والتمركز حولها.

ولنبدأ من الحقيقة الثالثة وهي: مشروعية الرغبة في الحصول على استلام "التقدير": لقد سبق التوضيح، بأن المشرع الإسلامي، يطالب الفرد بأن يمحض كل نشاطه لله: وان يلغي (الآخرين) من حسابه تماماً، بأن لا يشرك الآخرين في ممارساته، والا (يرائي) بها، بل يصوغها خالصة للسماء.

وهذا يعني ان (الثواب) أو (المكافاة) ينبغي أن تكون أيضاً ملغاة من حسابه، بأن يكون لسان حاله متوافقاً مع الآية:

(لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً).

والسؤال هو: هل ان عدم المطالبة بمكافاة (الآخرين)، قائم على عدم فاعلية الآخرين في تقديم المكافاة؟ أم ان المطالبة تحتجز الفرد من الاستمرار في انجازاته عند غيابه المكافاة؟ أم ان الانجاز ذاته لا يستحق مثل هذه المطالبة لانتفاء أهميته أساساً؟

مما لا مراء فيه، أن الحقائق المذكورة تظل قائمة وراء عدم مشروعية المطالبة: إذا أخذنا بنظر الاعتبار حقيقة التركيب الآدمي وحقيقة (الانجاز) الذي قدمه.

إن المطالبة بالمكافاة تقترن مع الافتراض الذاهب إلى أن الفرد يمتلك امكانات داخلية لا يمده أي مصدر خارجي بها. أما مع افتراض المصدر الخارجي (وهو: السماء التي تمد الكائن بالامكانات المتنوعة) حينئذ لا قيمة حقيقة لأي (انجاز) تنسبه الشخصية لنفسها.

ان الآية الكريمة التي تقرر ان الكائن الآدمي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا صرفاً، ومن أن ما بنا من (حسنة) فمن الله، وما بنا من (سيئة) فمن أنفسنا، ... هذا التقرير كاف، في تحسيسنا بأن أي (انجاز) يصدر منّا إنما يستمد إيجابيته من مصدر خارج عن (ذاتنا هو: السماء وليس (الذات) التي تبحث عن تقدير زائف لانجازاتها.

ان عالم النفس الأرضي، بحكم غيابه عن السماء، لا يملك إدراكاً حقيقياً بواقع الشخصية من حيث صلتها بالسماء، بقدر ما يملك إدراكاً قاصراً يحوم على (الأرض) وافرازاتها منفصلة عن الخلفية التي تربط الأرض بالسماء. أنه ـ أي: عالم النفس الأرضي ـ يتسلم كائناً آدمياً يخضعه لامكانات فطرية أو بيئية تسعفانه في تقديم (انجازاته): ناسجاً، اما صمتاً حيال القوة التي تمده بامكاناته، أو: اخضاعها للداخل "ذات الشخصية" من هنا يواجه البحث الأرضي تناقضاً بين اقرار لبعض أشكال التأكيد على الذات (المطالبة باستلام الثمن)، وبين انكاره لبعض اشكال (التأكيد) الأخرى. فالتأكيد على الذات بعامة، يشكل سمة عصابية في تصور البحث الأرضي، إلا أنها في اطار "إنجاز ما" تنتفي سمة (العصاب) وتتحول إلى سمة سوية، مع أن الأمر في الحالتين يجسد وجهين لعملية واحدة هي: البحث عن الذات.

ان الأرضيين من الممكن أن يستندوا في اكسابهم طابع السوية لهذا البحث عن (التقدير الاجتماعي)، إلى (واقعية) "الانجاز" وما يصاحبه من الاحساس المشروع. مقابلاً للتضخيم أو التهويل الذي يصاحب احساس (المرضى) بحجم واقعهم.

بيد إننا ينبغي أن نتساءل هل ان مجرد (الواقع)، كاف في اكساب الاحساس به، صفة (السوية) ؟؟

إن (الزهو) مثلاً، يعد (لدى كل الاتجاهات النفسية) سمة عصابية. فإذا افترضنا ان الاحساس بالزهو نابع من (واقع) ما تتميز به الشخصية المزهوة من تفوق علمي أو اجتماعي... فهل أن هذا (الواقع) المتميز، يسوغ لصاحبه أن يمارس (الزهو)، ونعد الممارسة ذات طابع سوى؟

طبيعي، لا: باقرار الاتجاهات النفسية بأكملها، مادامت تعد (الزهو) سمة مرضية.

إذن: مجرد اكتساب الظاهرة سمة (الواقع) لا يسوغ جعلها سمة سوية.

والأمر نفسه بالنسبة إلى الرغبة في استلام (التقدير) من الآخرين. لأن الرغبة المذكورة تجسد زهواً داخلياً تتحسسه الشخصية واقعاً، وتطالب ـ في ضوئه ـ بتسلم المكافاة.

فما هو الفرق بين الحالتين، مادام كل منهما مرتكناً إلى (واقع) (وليس إلى وهم أو تضخيم للواقع) واقع هو: الاحساس بالتفوق. كل ما في الأمر أن الشخصية المزهوة أو المتكبرة تصطنع مظهراً حركياً للتعبير عن احساسها الداخلي بالزهو. أما الباحث عن (التقدير) فإن مطالبته بالمكافاة، تعد تعبيراً عن الاحساس الداخلي بالزهو ذاته.

نخلص مما تقدم، ان عالم النفس الأرضي، يقع في تضاد علمي (واعياً أو غير واع) حينما يكسب (التمركز حول الذات) طابعاً مرضياً، وحينما يسلخ الطابع المذكور عنه في بعض أشكال (التمركز حول الذات) ومنه: الذاتية القابعة وراء المطالبة بتسلم (التقدير).

هذا كله مع افتراض ان الفرد الباحث عن التقدير قد ارتكن انجازه الفكري أو المادي أو امكانات داخلية، لم يمدها بها مصدر خارجي هو: السماء.

واما مع الافتراض الأخير، فإن الاحساس بالزهو أو الاعجاب بالانجاز، ينتفي أساساً، على نحوه ما يقرره المشرع الإسلامي.

على إننا بغض النظر عما تقدم، نجد أن "الاعجاب" بالعمل الذي أنجزته الشخصية، وطالبت ـ في ضوئه ـ بتسلم التقدير، ينطوي (ليس على سمة عصابية فحسب) بل يستتلي ضياعاً للعمل المنجز ذاته. فضلاً عن أنه يستتلي (في حالة غياب التقدير) اماتة الحس بالمسؤولية، وترشح الفرد للوقوع في مرض آخر من أمراض الشخصية.

من هنا، طالب المشرع الإسلامي، الشخصية أن تتحرك من خلال الاحساس بالقصور (مهما كان الانجاز خطيراً) بدلاً من التحرك من خلال الاحساس بالعجب.

ولنقرأ هذا النص:

"إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه. ويعمل العمل فيسره فيتراخى عن حالته: فلا يكون على حالته تلك خير له مما دخل فيه".[4]

إن ما يهمنا من هذا النص هو: الاشارة إلى (التراخي) في العمل، نتيجة اعجابه به، إذ يتحسس المرء بأنه قد أدى مهمته على الوجه الأكمل، مما يحتجزه هذا الاحساس من متابعة العمل.

ولعل النص التالي للإمام علي (ع) أشد وضوحاً:

"الاعجاب يمنع من الازياد".[5]

فهذا النص بدوره، يوضّح كيف أن الاعجاب يمنع الشخصية من أن تتابع عملها، مكتفية بقدر محدد منه أياً كان حجمه في تصور الشخصية.

مضافاً إلى ذلك، إن مثل هذا الاحساس يقترن بنظرة مريضة لدى الشخصية عن ذاتها، غير منحصر في التوقف عن الممارسات الايجابية فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى وقوعها في هوة المرض النفسي، على هذا النحو الذي يشير الإمام علي (ع) أيضاً, إليه:

اعجاب المرء بنفسه، يدل على ضعف عقله.[6]

فهذه السمة (ضعف العقل)، لا تعني مرضاً عقلياً مثل (التخلف العقلي) أو انخفاض درجة الذكاء الفطري، بقدر ما تعني: التصور الواهم للشخصية عن (ذاتها)، وهو تصور تطبعه سمة (المرض) مادام قائمةً على الاحساس بالرضى، وبالاعجاب، وبالتفوق وسواه من أشكال التورم الذاتي.

على أن أشد أنماط هذا الاحساس خطورة، هو: ما إذا صاحبه غياب (التقدير الاجتماعي): حيث يترتب عليه وقوع الفرد في هوّة مرض آخر هو: اماتة الحس المسؤول لديها. فلو افترضنا أن عالماً أو موظفاً قد اقترن نشاطه بـ(التقدير) من قبل المؤسسة الاجتماعية التي ينتسب إليها، ... فإن نشاطه سيأخذ حجماً بقدر حجم (التقدير) الذي تسلمه.

وفي حالة غياب التقدير تماماً ـ على سبيل المثال ـ فإن النشاط يبدأ بالضمور تدريجياً حتى ينعدم الحس بالمسؤولية لديه، في نهاية المطاف: مادام الحس بالمسؤولية مرتبطاً بمشروعية الرغبة في تسلم الأجر أو المكافأة أو التقدير.

من هنا، فإن التصور الإسلامي لهذه الظاهرة، يأخذه منحى آخر في معالجتها هو: تدريب الشخصية على تنمية الاحساس بـ(القصور) بدلاً من (الاعجاب).

ثم: تدريبها على أن تمحض نشاطها لله، معلقة ذلك على تسلم التقدير منه تعالى وليس من (الآخرين).

ونحن إذا دققنا النظر في كل من وجهتي النظر: الإسلامية والأرضية لظاهرة التقدير، أمكننا أن ندرك مدى الفارق بينهما (في حقل الصحة النفسية) فيما تقتادنا الأولى إلى صياغة شخصياتنا متوافقة سوية، ... بينا تقتادنا الثانية إلى صياغتها مريضة، منشطرة، متصارعة.

والسر في ذلك، ان البحث عن (التقدير الاجتماعي) يعد ـ من حيث المبدأ ـ سمة مرضية مادام حائماً على (الذات)، كما أن درجة المرض تأخذ بالتضخم حينما تقترن بـ(الاعجاب) بما أنجزته الشخصية من عمل.

وفي حالة (الاحباط) أي غياب (التقدير)، فإن المرض يأخذ طابع الخطورة: مادمنا نتوقع ـ في أحد وجهي التقدير (وهو: الحب) ـ ان الآخرين ليسوا ـ في الحالات جميعاً ـ على استعداد لمنح (الحب) مما يدع الشخصية نهباً للصراع والخيبة، كما اننا (في الوجه الآخر من التقدير: وهو المكافاة) نتوقع أن الآخرين ليسوا أيضاً على استعداد في الحالات جميعاً ـ على تقديم (المكافاة)، مما يقتاد الشخصية إلى التراخي في انجازها، ثم: ما يستتبع هذا التراخي من فقدان الحس بالمسؤولية، مما يضاعف من خطورة المرض بما يصاحبه أولاً من مشاعر التوتر والصراع عند الاحباط، وبما يجره ثانياً من خلخلة لجهاز القيم لديه.

على العكس من ذلك، نجد أن الشخصية الإسلامية عندما تلغي الحاجة إلى التقدير الاجتماعي، فإنها تعوضه بتقدير من السماء. وعندها تلغي (الآخرين) من حسابها، وتقبل على متابعة انجازها دون أن تعني بالاحباط ونتائجه. فالاحباط لوحده (وهذه ما تقره الاتجاهات النفسية بأكملها) هو الذي يقتاد الشخصية إلى الوقوع في هاوية المرض النفسي مادام يحسس الشخصية أولاً بخيبة أمل في اشباع حاجاتها، ومادامت خيبة الأمر تجره إلى التوتر والصراع ثانياً. أما الشخصية الإسلامية، فإنها لا تواجه (الاحباط) أساساً، مادامت قد ألغت الآخرين من حسابها، ومادام اشباع حاجاتها موكولاً إلى (تقدير السماء) التي ستسد حاجاتها من حيث لا تحتسب: وتمنحها ـ في اليوم الآخر ـ (تقديراً) لا حدّ له، مما تجعلها ـ وهي تمارس انجازاً ما ـ آمنة، راضية، متوافقة، متوازنة: لا تحيا صراعاً، ولا توتراً، ولا خيبة أمل.

 


[1]  الوسائل: باب 7، حديث 5، أحكام العشرة.

[2]  الوسائل: باب 3 حديث 1، احكام العشرة.

[3]  تحف العقول، صفحة 213.

[4]  الوسائل: باب 23 حديث 4 مقدمة العبادات.

[5]  نهج البلاغة، صفحة 183، جلد 2.

[6]  الوسائل: باب 23 حديث 6.

 

.

اللاحق

السابق

  الفهرست