.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

 

 

دروس من القرآن

التوحيد في المفهوم القرآني

ان العالم الذي نعيش فيه اليوم, يشهد تطوراً سريعاً لم يسبق له مثيل في جميع المرافق الفنية والعلمية, كما ان جميع الطاقات قد حشدت من أجل إيجاد أحسن السبل لرفع احتياجات الإنسان, وهذا الاهتمام الكبير بتسخير الطبيعة وتذليلها في طريق تحقيق الأهداف البشرية, يتطلب مزيداً من العمل والنشاط, وتراكم الأعمال يدعو بطبيعته إلى ضرورة الإسراع في إنجازها وعدم التفريط بأية لحظة دون الاستفادة منها إلى أقصى حد ممكن.

إلا أن الذي ينبغي الالتفات إليه هو ان الإنسان مهماً أراد توسيع نطاق أعماله فهو محدود الطاقات والقابليات, فإن صرف همه في جانب فلابد ان يكون على حساب جانب آخر.

ومن هنا فإن انصراف الإنسان اليوم بجميع طاقاته وملكاته نحو المسائل المادية قد أدى إلى غلظة في حسه المادي وإلى سيطرة الماديات على المعنويات.

ان مطالعة التاريخ ومراجعة الأوضاع الدينية للناس على مر العصور, تدلنا بما لا يقبل الشك على ان البشرية متى ما اسرفت في الجانب المادي من حياتها ضعفت روحها المعنوية ونسيت قيمها الدينية.

ان كل الاعتراضات والتشكيكات التي تثار ضد المبادئ الدينية والأسس المعنوية, إنما تنبع من هذه الروح المادية! وان المتتبع ليرى ان هذه التشكيكات تتكرر بالذات في عصور مختلفة, تثور حيناً لتواجه أجوبة رادعة, فتخمد لتعود في فترة أخرى أيضاً. وهذه مسألة غفل عنها أولئك الذين خالوا ان الشك الديني وليد عصر العلم!!.

ان الدغدغات المادية, وإيحاءات الغرائز, تتراكم في النفس البشرية فتملأ شعور الإنسان لتسوقه نحو الابتعاد عن العقل السليم, ويبدأ عندها اللسان يهذي بذم جميع المعنويات.

أننا نرى اليوم بعض هذه الألسن تتحرك لتقول: ان التعليمات الدينية تصلح لسكان الخيام ولا تجدي نفعاً لإنسان اليوم الذي غاص في أعماق المحيطات وحلق بين الكواكب. ولتقول أيضاً: ان الدين يدفع الإنسان لأن يعيش عالماً غيبياً موهوماً وهو بذلك يشل الإنسان عن ممارسة أعماله العلمية في حقل استثمار الطبيعة.

هذه الاعتراضات ليست بالجديدة, فهي كما قلنا وريثة التكذيب والتشكيك والافتراء الذي جوبهت به الدعوة الدينية في مختلف العصور.

لابد ان نشير في هذا الصدد إلى مسألة هامة هي ان العلوم الطبيعية, وان استطاعت ان تسلط الضوء على بعض المجهولات وتحل بعض الإلغاز, محدودة ومختصة في مجالها المعين ولا يمكن ان تكشف المجهولات الخارجة عن إطارها.

فعلم النفس مثلاً, لا نتوقع منه ان يحل لنا المسائل الفلكية.. والعلوم الطبيعية هي الأخرى ينبغي ان لا نزجها في فهم المسائل الروحية والميتافيزيقية.

فالعلوم الطبيعية, محايدة بالنسبة لما وراء الطبيعة لا تثبت ولا تنفي. بل تترك المجال لمنطق الدين كي يعالج المسائل الميتافيزيقية ويسبر اغوارها.

* * *

ان منطق القرآن في هذا الصدد, يتضح من الحقائق التالية:

1 ـ لم ينكر القرآن الكريم قانون العلية العام, بل أرجع كل ظاهرة كونية إلى عللها وأسبابها الطبيعية, وهذه الحقيقة واضحة في كل سياق الكتاب الكريم.

والإنسان كموجود صغير جداً من هذا الكون هو الآخر محكوم خلال مسيرة حياته وفي مصيره ومآبه بالقوانين التي تسير الموجودات, وليس له استقلال عن الظواهر الطبيعية التي تحيطه, ولا يستطيع ان يقف موقف المصارع المعارض للقوانين والنظم الكونية التي تتحكم فيه وفي جميع الموجودات. بل إنه يستطيع كظاهرة من ظواهر هذا الكون ان يستفيد من قواه المودعة فيه لتنفيذ مآربه التي لا تتحقق إلا إذا كانت مسايرة لسائر العلل والأسباب التي تتحكم في الوجود.

2 ـ يؤكد القرآن الكريم على ان زمام أمور الكون بجميع أجزائه, بيد إرادة رب واحد يسير هذا الكون طبقاً لقوانين ونواميس معينة, وهذا ما تدعو إليه الفطرة أيضاً.

فالوجود المستقل الوحيد في هذا الكون, هو وجود رب العالمين الذي لا يحتاج في وجوده إلى شيء خارج ذاته, وكل الأشياء التي نفترضها محتاجة إليه. وهو المصدر الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه والركون عنده بكل ما في الكلمة من معنى.

3 ـ يصرح القرآن الكريم بأن علم الإنسان محدود والله تعالى هو الذي تفرد بعلم الغيب الذي يحيط بخصائص جميع الأشياء.

والإنسان يستطيع بما وهبه الله من قدرة محدودة ان يكتشف جزءاً يسيراً جداً من قوانين هذا الكون وهذا القدر الذي يهديه عقله إليه هو ضئيل جداً بالنسبة لما يحيط الإنسان من مجهولات لا متناهية.

انطلاقاً من هذه النظرة فأن من الجهل والغباء ان يلجأ الإنسان إلى القوانين المحدودة التي اكتشفها ويركن إليها ويعتبرها أساساً مستقلاً لمسيرة هذا الكون, ومن الجهل أيضاً ان يعزف الإنسان عن العلة التامة التي تتحكم في هذا الوجود لمجرد انه توهمها مخالفة لميوله ورغباته.

والحقيقة العملية التي يمكن ان نحصل عليها من كل هذه المقدمات, هي ان الإنسان ينبغي ان يفهم وجوده باعتباره جزءً من هذا الكون, تتحكم فيه القوانين والعلل التي تسير هذا الوجود... وينبغي له ان يركن ويلجأ إلى من بيده زمام هذه القوانين ومن هو علة جميع العلل وهو الله تعالى, وان لا ينبهر بالقوانين المحدودة التي اكتشفها ليجعل منها رباً موهوماً.

ودعوة القرآن الكريم هذه, لا تطالب الإنسان بإهمال القوانين والعلل الكونية التي استطاع ان يكتشفها ولا تدعوه إلى الجلوس في انتظار الفرج الغيبي للوصول إلى أهدافه وغاياته, فالعامل الغيبي لا يؤثر إلا عن طريق العلل والأسباب.

والإنسان مكلف بالاستفادة مما وهبه الله من قدرة لاكتشاف القوانين التي تتحكم في هذا الكون والاستفادة منها لأغراضه وغاياته, على ان لا يلجأ ويركن إليها, بل يفهم نفسه باعتباره جزءً من هذا الكون محكوم بقوانينه ونواميسه ويلجأ إلى الله الذي ترجع إليه جميع العلل والأسباب والقوانين.

* * *

هذا التصور, إضافة إلى واقعيته فإنه يهب الإنسان مجموعة من الأخلاق الفاضلة والملكات الإنسانية السامية, كالتفاؤل والصبر والعزيمة والشهامة والإحساس بالارتباط بقوة جبارة لا تفنى ولا تقهر.

إضافة إلى أنه يقلع من النفس ما فسد من الصفات ورذل كالتكبر والأنانية والزهو والخيلاء والجزع والضعة واليأس والضعف وغيرها من الصفات الذميمة التي تعتري النفس الإنسانية.

ان هذا البحث وان كان قد اتخذ طابعاً فلسفياً, إلا ان جميع مضامينه قد استقيت من القرآن الكريم, ولا يخفى ذلك على من أمعن النظر في كتاب الله العزيز.

 

الدين في المفهوم القرآني

ان الانحراف الذي عصف بالرسالة الإسلامية في المراحل الأولى, أبعد المسلمين عن ممارستهم العملية لمفاهيم القرآن الكريم.. فالأسس التي وضعها القرآن للتكامل الاجتماعي والفردي قد غابت عن ذهينة الإنسان المسلم بفعل طواغيت الانحراف, وأضحى أفراد المجتمع الإسلامي يتخبطون في النطاق الضيق لذاتياتهم.

ولم تمر فترة طويلة حتى تحكمت في رقاب المسلمين فئة صادرت الحريات وعبثت بمقدرات الأفراد.. وعاد كل شيء خاضعاً لإرادة السلطان.. حتى التفكير الإسلامي أصبح خاضعاً لمخطط الشل والاخصاء, وكان ذلك طبيعياً, إذ لو عاش المجتمع أفكار القرآن الحقيقية لما عاد للطاغوت وجود, فلا بد إذن ان تتحول الدراسات القرآنية إلى جدل لفظي وعقائدي خاو فارغ من أي مضمون كي يطمئن ولاة الأمور على استمرار وجودهم.

وظل المجتمع الإسلامي يعيش انحطاطاً روحياً وفكرياً ومكث أبناؤه يرسفون تحت قيود الرقابات الفكرية حتى طلع عليهم البشير الغربي.

* * *

دخلت أوربا إلى العالم الإسلامي وهي مجهزة بكل وسائل الاستعباد والاستعمار, وكان أول درس لقنته لأبناء المسلمين يحمل التشكيك في كل القيم والأفكار والعقائد السائدة بينهم.. لقد أوحت لهم ان الفكر الأوربي وطريقة الحياة الأوربية, هي الطريقة المثلى التي ينبغي ان تتبع شاؤوا لأنفسهم الرقي والتقدم.

ولم يكن المجتمع الإسلامي يحمل مقومات الصمود والمقاومة أمام هذه الإيحاءات وتلك المغريات, فأنهار أمامها, وأضحى المثقفون والمتنفذون يلهجون بما لقنتهم به أوربا.. بدأوا يرددون مسألة التناقض بين الدين والعلم ومسألة الصراع بين تطور المجتمع والقيم الدينية.. ولقد وصل هذا الاستسلام إلى حد بدا فيه أبناء المسلمين يتلقون من الأوربيين نظرتهم عن الدين والإسلام, والتاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي.

وكان من الطبيعي ان يحمل الفكر الأوربي نظرة سلبية متشائمة عن الدين وقيمه وأفكاره. إذ ان أوربا عريقة في ماديتها من جهة, ولها ذكريات مرة مع الكنيسة واضطهادها الفكري ومحاكم تفتيشها من جهة أخرى, ومن هنا فأنها راحت تفسر التفكير الديني بأنه وليد جهل الإنسان بعلل الظواهر التي يشاهدها..

لقد جاء البشير الأوروبي يقول: ان الإنسان حينما كان يجهل علل الحوادث الطبيعية, فإنه أرجعها إلى مصدر غيبي سماه "الله", أما الآن فقد اكتشف العلم كل شيء, وما عاد للسبب الغيبي أي معنى.

وعلى هذا فلا يمكن للدين ان يحتل أية مكانة في المجتمع سوى ما تعلق بالمراسيم والطقوس التي لا أثر لها في سير الحياة الاجتماعية.

* * *

أما الفهم القرآني للدين فيختلف عن هذه النظرة تماماً, ويسلك القرآن لتحديد معنى الدين طريقاً آخر يتدرج على الشكل التالي:

1 ـ ان الفطرة الإنسانية السليمة, تحكم بأن كل ما في الكون خاضع لقانون العلية, فلا يمكن ان نتصور ظاهرة لم يكن لها وجود في الكون ثم وجدت دونما علة وسبب.

2 ـ من هذا القانون الكوني العام, نستنتج ان أجزاء الكون كلها مترابطة وذات تأثير متبادل بعضها بالبعض الآخر. ولقد أثبت العلم أيضاً ان حركة جميع الموجودات بما فيها الذرات بل أجزاء الذرات, خاضعة لما يحيطها من موجودات.

3 ـ والإنسان كظاهرة كونية يرتبط في وجوده بسائر موجودات الكون, وتتدخل في إيجاده عوامل لا حد لها ولا حصر تخضع كلها لإرادة رب العالمين.

ومن هذه المقدمات الثلاث نستنتج ما يلي:

ألف ـ لا معنى للصراع ضد الطبيعة, إذ ان استخدام القوانين التي تتحكم في الكون لصالح الإنسان لا يعني بأي شكل من الأشكال التمرد على الطبيعة. بل يعني اكتشاف الطريق الأفضل لحياة الإنسان عن طريق الاستفادة من القوانين الطبيعية.

ب ـ إن الإنسان كسائر الظواهر الكونية, يخضع إلى الجهاز المهيمن على هذا الكون, هذا الجهاز الذي يسير كل موجودات الكون في طريق كمالها ورقيها[1].

ج ـ إن أية ظاهرة في الكون بما فيها الإنسان تستطيع أن تسلك طريق تكاملها ورقيها إن طوت مسيرة القوانين الطبيعية, وعند ذلك كل القوانين الكونية مساعدة لهذه الظاهرة في شق طريق تكاملها. وإن شاءت هذه الظاهرة أن تتمرد وتعرض عن القانون الكوني العام, إما أن تنحرف عن مسيرها الطبيعي أو تفنى وتتحطم[2].

د ـ القرآن الكريم يؤكد على أن الحياة الإنسانية لا تفنى بموت الإنسان في الدنيا بل أنها خالدة[3].

ومن هنا فإن الطريق الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان ـ في نظر القرآن ـ هو الطريق الذي يضمن له سعادة الدنيا والآخرة, وهذا الطريق, يتحدد اتجاهه تبعاً للقانون الكوني العام الذي يتحكم في جميع الموجودات بما فيها الإنسان ويطلق القرآن على هذا الطريق اسم "دين"[4].

مما تقدم يتضح أن مفهوم القرآن عن الدين يتحدد بأنه المنهج الحياتي الذي يوفر للإنسان ـ إن اتبع هذا المنهج ـ السعادة الحقيقية, لكن هذه السعادة لا تقتصر على الحياة الدنيوية, بل إنها تشمل سعادة الدنيا والآخرة إذ لا فصل في رأي القرآن بين الناحية الدنيوية والأخروية.

واتضح أيضاً أن الدين يستمد المنهج الذي يعينه للإنسان من جهاز الطبيعة والخلقة, لا من عواطف الإنسان وأهوائه.

أي أن الدين خط الطريق اللازم لرفع الاحتياجات الفطرية للإنسان طبق موازين عادلة ثابتة. والإنسان نفسه إن ابتعد عن أهوائه وأغراضه الشخصية وحاول أن يكتشف احتياجاته وميوله الحقيقية, فإنه سوف لا يحيد عن الالتزام بما أمر به الدين لتلبية تلك الاحتياجات الواقعية الحقيقية.

وبعبارة أخرى فإن المنهج الذي يريده القرآن للمجتمع الإنساني يستند إلى الحق والواقع لا إلى الأهواء البشرية التي تبعد الإنسان عادة عن تشخيص المنفعة والضرر الحقيقيين[5].

إن المجتمعات المنسلخة عن منهج الدين ترضخ لإرادة فرد أو أفراد متعددين ولا وزن لمتطلبات الأفراد ولا قيمة لها.

وحتى المجتمعات الديمقراطية فإن إرادة "نصف الأفراد + 1" هي التي ينبغي أن تسود, وفي هذه الحالة لابد أن تصادر وتلغي إرادة بقية الأفراد الذين هم "النصف – 1".

أما منهج الدين, فينطلق من تلبية إرادة جميع الأفراد واحداً واحداً دونما إجحاف بإرادة أي فرد.

وكما قلنا فأن الإرادة الإنسانية والرغبة البشرية التي يهدف الدين إلى تلبيتهما ـ في نظر القرآن ـ هما الإرادة والرغبة الحقيقيتان اللتان تنبعان من فطرة الإنسان وتكوينه.

إن إطار هذا البحث واسع جداً ونكتفي بهذا التلميح عسى أن نكون قد وفينا الموضوع بعض حقه.



[1]  الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.

[2]  فمن أتبع هداي فلا يضل ولا يشقى, ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى.

[3]  قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه.

[4]  فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله.

[5]  كتاباً أنزل من بعد موسى يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم...

 

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست