.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

 

 

 القرآن ونظريتا "تنازع البقاء" و "انتخاب الأصلح"

ذهب العلماء والمفكرون في تفسير المسيرة البشرية وما يعتريها من مظاهر فناء وبقاء وتطور إلى مذاهب شتى, وشاع في الفترة الأخيرة على لسان علماء الطبيعيات أن الكائنات الحية في حالة صراع دائم وشامل وهو ما عُبر عنه بتنازع البقاء, وهذا الصراع يسفر دائماً عن انتصار الأنواع القوية وسقوط الضعيفة واضمحلالها وهذا ما سُمي بنظرية انتخاب الأصلح. وعن هذا الطريق تطوي الطبيعة بجميع مظاهرها مسيرتها التكاملية.

واتخذ هؤلاء العلماء من التجارب العلمية التي أجروها على أنواع الحيوانات والنباتات وما شاهدوه من انقراض بعض الأحياء في نقاط مختلفة من العالم دليلاً على صدق ادعائهم.

لقد فسرت مظاهر تطور المجتمع البشري وتكامله استناداً إلى هاتين النظريتين أيضاً, فقالوا إن المجتمعات الإنسانية في حالة صراع ونزاع ولا يبقى منها سوى المجتمعات القوية. والتاريخ سجل لنا حضارات سادت ثم بادت وفنيت بعد أن فشلت في معركة تنازع البقاء.

لكن هاتين النظريتين واجهتا على الصعيد العلمي ردوداً متعددة منها أن عالم الطبيعة قد احتفظ بموجودات أضعف مع وجود أنواع أقوى وأصلح للبقاء, كما أن بعض النباتات والحيوانات الضعيفة أمكن تبديلها بأنواع أقوى عن طريق تربية الإنسان لها.

وهؤلاء الذين ردوا النظريتين السابقتين افترضوا نظرية أخرى لتفسير مظاهر تكامل الطبيعة وهي نظرية "البيئة" فقالوا إن كل موجود مجبر على أن يتلائم مع الظروف الزمانية والمكانية والعوامل الطبيعية التي تحيطه, من هنا فإن اختلاف الحيوانات والنباتات وبقائها وانقراضها وتكاملها خاضع بأجمعه للظروف الجغرافية وسائر العوامل الطبيعية. وحاول أصحاب نظرية البيئة أن يجيبوا على ضوء نظريتهم على الأسئلة التي عجز أصحاب نظرية انتخاب الأصلح عن الإجابة عليها.

لكن هذه الفرضية لم تقو على النهوض أمام الردود العلمية التي جوبهت بها, إذ إن أنواعاً كثيرة من الحيوانات والنباتات لم تستطع حتى الآن أن تتلاءم مع ظروف البيئة التي تحيطها.

من هذه المقدمة نفهم أن الأسس الثلاثة المفترضة لتفسير تكامل المجودات الحية إن صحت في بعض مواضعها, فإنها لا تصلح لتعميمها كقانون عام شامل.

إضافة إلى ذلك فإن هذه الفرضيات ذات أثر سيئ جداً لو أردنا أن نفسر مسيرة المجتمعات البشرية على ضوئها. فلو فسرنا المسيرة البشرية على أساس نظرية تنازع البقاء لكان لزاماً علينا أن نقبل أن جميع الحروب والنزاعات الدموية بين أبناء البشر هي ظاهرة طبيعية لا يمكن اجتنابها.

و "انتخاب الأصلح" يسلب الطبقات الضعيفة حق الحياة, ويعتبر اعتداءات الأقوياء عليها مسألة طبيعية لا ضير فيها!

وفرضية "البيئة" هي الأخرى تسلب الإنسان استقلاله الروحي والفكري وتجعل منه موجوداً خاضعاً للظروف الطبيعية التي تحيطه لا حول له فيها ولا قوة.

* * *

ولا يفوتنا أن نذكر أن الأساس الفلسفي العام لنشوء الظواهر المادية وتطورها وتغيرها هو قانون العلية. فكل موجود مادي ـ حسب هذا القانون ـ يؤثر في الموجودات الأخرى كي يجعل منها موجودات متشابهة له, وهذه الظاهرة تبرز على شكل تنازع بقاء في العلل والمعلولات المادية.

ولابد بعد ذلك للعلل القوية أن يكون تأثيرها المادي منصباً على العلل الأضعف منها, وهذا ما عبر عنه بظاهرة "بقاء الأصلح".

كما أن تفاعل العلل والمعلولات لا يتم إلا تحت ظروف خاصة مناسبة وهذا ما تم التعبير عنه بضرورة التلاؤم مع البيئة.

لكن هذه الظواهر, تصح حينما يكون التأثير يكون التأثير المتبادل بين الموجودات المادية على شكل علة ومعلول فقط, ولا يمكن أن تنطبق هذه الفرضيات ـ في المفهوم الفلسفي ـ على الموجودات التي ليس بينها مثل هذه العلاقة.

 

رأي القرآن

ظن بعض المفسرين أن عدداً من آيات القرآن الكريم يُشير إلى نظريتي تنازع البقاء وانتقاء الأصلح منها:

1 ـ {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله, كذلك يضرب الله الحق والباطل, فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال}[1].

فهؤلاء ذهبوا إلى أن سيل الحوادث الطبيعية والاجتماعية تقضي على الظواهر الضعيفة التي لا تقدر على البقاء, وهي ما تم التعبير عنه بالزبد في الآية الكريمة, ولا تبقى إلا الأنواع القوية التي تستطيع أن تحافظ على مقومات وجودها في الطبيعة والمجتمع.

2 ـ {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير, الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله, ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً, ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}[2].

وقد قيل أن صدر الآية يشير إلى قانون البقاء وذيلها إلى انتقاء الأصلح.

3 ـ {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}[3].

وهذه الآية تشير ـ في زعمهم ـ أيضاً إلى النظريتين المذكورتين.

إن نظريتي "تنازع البقاء" "وانتخاب الأصلح" يصحان ـ كما ذكرنا ـ في نطاق معين خاص. والمفهوم القرآني الذي يؤكد على قانون العلية ينسجم مع هاتين النظريتين في الإطار الذي يصحان فيه, لكن الآيات الكريمة المذكورة لا تتعرض إلى النظريتين.

فالآية الكريمة الأولى, تؤكد على أن الحق ثابت وباق والباطل زائل لا محالة, ولا تتعرض الآية إلى نوع من التنازع والصراع على الإطلاق.

والآيتان الثانية والثالثة تشيران فعلاً إلى صراع أنصار الحق والباطل, وانتصار الحق. لكن هذا الانتصار لا يؤكد نظرية انتقاء الأصلح, إذ أن الآيتين لا تشيران إلى أن هذا الانتصار حدث بسبب ما جهز به أنصار الحق من قوى طبيعية, بل تؤكدان على النصر الإلهي كعامل أساسي في هذا الانتصار. إضافة إلى ذلك فالآية الثانية تؤكد على الضعف المادي لأنصار الحق.

من كل ما تقدم يتضح أن هذه الآيات ليس لها أية دلالة على تأييد القرآن لنظريتي تنازع البقاء وانتخاب الأصلح.

نحن نعتقد أن الأساس الذي يتحكم في المسيرة البشرية هو أساس "الاستخدام" وإلى هذا تشير الآية الأخيرة.

فالإنسان يميل فطرياً إلى الاستفادة من قوى الآخرين وطاقاتهم, وما من فرد على استعداد لأن يمنح الآخرين شيئاً من قوته وطاقته دونما مقابل, فلا بد للإنسان أن يعطي الآخرين شيئاً من قواه وطاقاته كي يستفيد من قوى الآخرين.

وأساس الاستخدام هذا ينتهي إلى تشكيل "المجتمع التعاوني" وهذا الترابط بين قوى الأفراد, يضمن بقاء المجتمع البشري ورقيه وتكامله, وهو ترابط ثابت ودائم لأنه يستند إلى أساس غريزي. وكل أطروحة لا تتناسب مع هذا الأساس الغريزي فإنها تؤدي إلى هدم المجتمع التعاوني أو ـ الفساد في الأرض ـ على حد التعبير القرآني.

فالله سبحانه يقي الأرض من الفساد عن طريق دفع الناس بعضهم ببعض. وهذا الدفع هو الذي يضمن بقاء المجتمع ودوام الروح التعاونية فيه.

فالآية الثالث, لا تشير إلى نزاع فئات المجتمع ولا تعني أن هذه الفئات تتصارع ويفني بعضها الآخر كي نستنتج منها تأكيد القرآن على تنازع البقاء, إذ أن مثل هذا الصراع يفسد الأرض والمجتمع ويوهن عرى التعاون بين الأفراد.

 

القرآن والحرية

الحرية رغبة فطرية لم تفارق الإنسان في أي زمن, بل أنها وجدت مع وجود الإنسان الرائد.. فالإرادة تدفع بالكائن الإنساني لأن ينال ما يهواه وما يشتهيه, ولأن يزيل العوائق التي تعتري طريقه نحو تحقيق رغباته.

لكن الإنسان موجود اجتماعي مدفوع فطرياً لأن يعيش مع أبناء جنسه ولأن يتعاون معهم في حل مشاكله.. والحياة الجماعية تتطلب الأنظمة والقوانين والأعراف التي تنظم حياة الجماعة, وهذه الأنظمة والقوانين تحد بالطبع من حرية الفرد لكنه لا مفر له من الالتزام بها حفاظاً على الحياة الاجتماعية من التمزق والتشتت.

من هنا لا يمكن أن يكون للحرية المطلقة وجود في أي مجتمع من المجتمعات, ومتى ما دار الحديث عن الحرية, فإنما يقصد بها الحرية النسبية لا المطلقة.

* * *

إن الذي ينبغي أن نؤكد عليه في هذا الفصل, هو الفرق الواسع الكبير بين نظرة الإسلام ونظرة الحضارة الحديثة إلى الحرية.

لقد شادت الحضارة الحديثة بنيانها على أساس تمتع الإنسان باللذائذ المادية إلى أقصى حد ممكن. فالفرد حر في كل عمل يميل إليه ويرغبه على أن لا يتنافى عمله والقوانين الوضعية في مجتمعه. فليست القيود الأخلاقية والدينية بذات وزن في مفهوم هذه الحضارة المادية. ولسنا في حاجة لتقييم هذه الحضارة نظرياً فالتجربة العملية التي مرت بها أثبتت أنها حطمت الروح الإنسانية والفضائل السامية في الإنسان وأنزلته إلى مستوى البهائم والحيوانات, وصدته عن ارتقاء سلم التكامل الذي هيأته له طبيعة الوجود.

أما المنهج الإسلامي, فهو قائم على أساس التوحيد أولاً, ثم على أساس تنمية الإرادة الإنسانية والتأكيد على الأخلاق في إطار معين تسوده قوانين ونظم خاصة, وبناءً على هذا, فإن الحرية في المفهوم الإسلامي تختلف كل الاختلاف عن الحرية في مفهوم الحضارة الحديثة.

لكننا لو أمعنا النظر في هذه القيود لألفيناها هي الحرية الحقيقية ذاتها, فالإسلام حرر الإنسان من "قيود العبودية لغير الله". وهي حرية ذات إطار واسع كبير تحطم الاغلال التي يرسف فيها الإنسان اليوم في ظل الحضارة الأوربية.

ان حرية الإسلام تحرر الفرد من قيود شهواته ونزعاته الحيوانية وترفعه إلى دور المتحكم في هذه الشهوات والنزعات, وتحرر الشعوب من الاستعمار والاستعباد, وتلغي السيطرة الطبقية في المجتمع, وتسلب من القوي حقه في التسلط على الضعيف, فيعلن القرآن منهجه بكل وضوح في الآية الكريمة:

{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}[4].

وضمن هذا الإطار, حث أبناء البشر على الاستفادة من نعم الله المسخرة للإنسان دونما إفراط أو تفريط.

{خلق لكم ما في الأرض جميعاً}[5].

{وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه}[6].

* * *

ولابد أن نشير بعد ذلك إلى أن الإسلام لا يبيح "حرية العقيدة" بشكل مطلق. فقد ذهب نفر إلى ذلك مستدلاً بالآية الكريمة {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}, واستنتج من هذه الآية أن الإسلام قد منح الناس الحرية فيما يعتقدون ويؤمنون به حتى ولو كان شركاً أو عبادة للصنم والطاغوت. وليس هذا من الإسلام بشيء أبداً. فالمنهج الإسلامي قائم على أساس التوحيد وإلغاء الشرك, فكيف يمكن أن يتضمن المنهج حرية مخالفة هذا الأساس؟! إنه تناقض واضح صريح. فكما أن القوانين الوضعية الراهنة لا يمكن أن تعطي للأفراد حرية مخالفتها فكذلك الإسلام لا يبيح مخالفة الأسس التي يقوم عليها تشريعه.

إن الآية المذكورة تؤكد على أن الإسلام قد اتضح وانجلى بفضل القرآن والسنة, ولا حاجة إلى الإكراه والإجبار في قبول الإسلام, ويؤيد ذلك قوله تعالى {قد تبين الرشد من الغي} فهي السبب فيما ورد في الشطر الأول من الآية {لا إكراه في الدين}.

إضافة إلى ذلك فإن جملة "لا إكراه في الدين" حقيقة تشريعية تستند إلى حقيقة تكوينية, إذ أن الإكراه والإجبار لا يمكن أن يكون إلا في الأعمال والحركات الظاهرية, ولا يستطيع أن يؤثر في القلب والفكر والاعتقاد. فالآية تنهى عن استعمال القوة في هداية الأفراد إلى نهج الدين فذلك غير ممكن تشريعياً وطبيعياً.

والآية بعد ذلك, تشير إلى ترك التقليد الأعمى في العقائد وتحث الناس على أتباع المنطق والعقل فيما يؤمنون ويعتقدون. فالفرد المكره المجبر على إتباع عقيدة معينة يقلد المؤمنين بتلك العقيدة دون أن ينطلق فيما يفعله من إيمان وذلك مرفوض في نظر القرآن. من كل هذا يتبين لنا أن عدم الإكراه في الدين لا يعني أبداً حرية الأفراد في انتخاب العقيدة.


[1]  سورة الرعد: 19.

[2]  سورة الحج: 45.

[3]  سورة البقرة: 251.

[4]  سورة آل عمران: 65.

[5]  سورة البقرة: 29.

[6]  سورة الجاثية: 14.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست