بِـــرُّ الوَالِــدَيْن

  قال الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم:  {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وقال تبارك وتعالى : {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} صدق الله العلي العظيم.
 من الواجبات التي أكد عليها القرآن الكريم واستُعرِضَتْ في السنة النبوية وكذلك في الأحاديث الواردة عن أهل البيت صلوات اله وسلامه عليهم أجمعين، بّر الوالدين وما أدراك ما بّر الوالدين ! وعند التأمل في هذه النصوص الإسلامية، نجد العَجب العُجاب في التشديد والحض على بّر الوالدين, وكذلك في ذكر الآثار الوضعية المترتبة على بّرهما.

 الآثار الوضعية لبّر الوالدين: 
قبل البدء باستعراض بعض آي القرآن الكريم والأحاديث الواردة عن النبي صلى اله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام , لا بأس من التذكير بأمرٍ هام ، وهو ، أنّ موجبات التفوق في الحياة تتأتى عبر مجموعة من الأمور , من أهممها الارتباط بالله،  والعلم ، والارتباط بالله يتَأَتَى عبر الطاعات التي أمر الله تبارك وتعالى بها, وهناك مفردات من الطاعات ، كالصلاة والزكاة والصوم والحج ، ومن هذه المفردات بّر الوالدين ، فهو  من الروابط الوثيقة بين العبد وربّه، وبالتأكيد ، فالإنسان إذا ارتبط بالله تبارك وتعالى ، فسوف يهيأ له الأسباب ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ويدفع عنه البلاء ، ويزيح عن طريقه العقبات ، فيرى أسباب التوفيق تتأتى إليه الواحد تلو الآخر ، فالكون بأجمعه بيد الله . والإنسان يسعى لتحصيل التوفيق عبر مجموعة من الأمور ، كالبكور في طلب الرزق ، والخُلق الحسن ، والتعامل مع الناس بشفافية ووضوح , ولكن الأكبر في التأثير ، كما ورد في الروايات ، هو بّر الوالدين ، وبالخصوص في طلب الرزق ، وفي الصحة في الجسد , وفي دفع العقبات الكأداء التي تعترض طُرق الإنسان , فكل هذه الأشياء ، وأكثر منها يتحصل عليه ذلك البّار ، بإذن الله تبارك وتعالى .ولدينا من القِصص في الأحاديث الواردة عن أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وكذلك في حياتنا اليومية مشاهد وأحداث.

 بّر الوالدين وطلب الرزق: 
       فإذاً ، بّر الوالدين تترتب عليه آثار كبيرة وعظيمة، وسأُشير إلى أثرٍ هام، وهو مسألة طلب الرزق، فالإنسان يسعى في طلبه ، ويُمضي جُلّ أوقاته في الكدح من أجل تحصيل الرزق ، ولكن إذا رجعنا إلى الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، سنجد إنّ من أوثق الأسباب لتحصيل الرزق والرفاهية في العيش مسألة بّر الوالدين.
 إنّ بّر الوالدين يفتح على الإنسان أبواباً من الرزق لا تخطر بباله أبداً, هذا فضلاً عن التوفيقات التي يحصل عليها الإنسان في الكثير من شؤون حياته الأُخرى ، فالإنسان الذي يكدح في تحصيل الرزق بجهدٍ كبيرٍ، يمكنه أن يحصل على الرزق الوفير ، بجهدٍ أقل ، إذا كان بّاراً بوالديه ، بل يظهر من الروايات ، إنّ الله تبارك وتعالى يُهيأْ أسباباً غير عادية لذلك البّار لوالديه ، كما ذُكر في تفسير البقرة التي أُحْيِيَ بها ذلك الميت من بني إسرائيل، وكيف أن تلك البقرة طُلِبت بثمنٍ أكثر من وزنها ذهباً بأضعاف متعددة ، وكان السبب يعود لإنسان بّارٍ لوالديه. ومن هنا نُدرك أنّ بّر الوالدين ، أحد الأسباب القوية للرزق الوفير.

  أهمية بّر الوالدين في الأديان السماوية :
 إنّ بّر الوالدين أُكِد عليه في الرسالات السماوية جمعاء ، ولكن يختلف أتباع الديانات السماوية عن أتباع القوانين والمسائل الأخلاقية التي تُسن وتُنظم من قِبَل المُنظرين، فهناك طبعاً قوانين تراعي المسنين والشيوخ ( كبار السن ) والضعفاء وأهل الإعاقات، ولكن القانون السماوي ركّز على أهمية بّر الوالدين بشكل يَفْرق جوهرياً عن ماهو موجود في هذه الأنظمة والقوانين.

 الإحسان إلى الوالدين في القرآن والأحاديث:
 ولننظر إلى ما يُبينه القرآن الكريم في بّر الوالدين ، قال الله تبارك وتعالى:   {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ، فالله تبارك وتعالى بعد أن يأمر بشكره ، الذي يوجب المزيد من الخير ، يأمر بشكر الوالدين ، وبعد أنْ يأمر بطاعته ، يأمر بطاعة الوالدين ، وبعد أنْ يُحَرّم  الإشراك به ، يأمر بالإحسان إلى الوالدين، أي (أن عدم الإحسان إلى الوالدين على حد الإشراك بالله) ، وعقوق الوالدين أو الإساءة إليهما ، هو أعظم وأشد من عدم الإحسان إليهما ، الذي هو على حد الإشراك بالله تبارك وتعالى ، وهو من الذنوب التي لا تُغفر.
قال الله تبارك وتعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}، ويقول إمامنا الصادق صلوات الله وسلامه عليه,لما سُئِل عن معنى الإحسان في الآية المباركة في قوله تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قال صلوات الله وسلامه عليه:
( الإحسان،أنْ تُحسنَ صحبتهما ولا تُكلفهما أنْ يَسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه ، و إن كانا مستغنيين عنه ) . قد يكون الوالد مستغنٍ ، ولكن الله تبارك وتعالى يريد بالإحسان أن تُفيض وتُغْدق عليه من العطاء والرأفة والحنان وإظهار الاهتمام به،مما له التأثير البالغ في نفسه ، يعني أن تراعي الحاجات المادية والنفسية والمعنوية الأخرى ، ثم يقول الإمام الصادق: [ أليس يقول عز وجل: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} فالإمام (ع) يستشهد بالآية ، ويعني أنّ الولد قد يحب المال ووالده لديه المال، ولكن يُقدم هذا المال لوالده أو لوالدته ، ليكون مصداقاً لقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. ويقول عليه السلام في معنى {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} : [ إنْ أضجراك فلا تقل لهما أُفٍ ] .
وهنا نشير إلى مسألة هامة تتعلق بكبار السن الذين يكون لديهم رغبة في الكلام الكثير ، وقد يؤدي بالولد ، إلى نوع من السأم والضجر والملل ، الذي يتطلب قدراً كبيراً من التحمل والصبر ، وألا يتضجر ، بل يظهر السرور والانشراح ، ويُبدي نوعاً من التأدب تجاه الوالدين ، مُظهراً لهما أنّه استفاد من الكلام الذي يسمعه منهما .
 طبعاً في كثير من الأحايين ، نجد أنّ التوجيهات التي تصدر من الوالدين – نتيجة لاختزان تجربة كبيرة – تعود على الولد بفوائد جمة ، قد لا يلتفت إليها ، إلا بعد زمنٍ طويلٍ ، ويقول إمامنا الصادق عليه السلام في قوله تعالى: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}: [ إن ضرباك فقل لهما غفر الله لكما فذلك منك قول كريم ] أي ، أنْ تدعوَ لهما بالمغفرة والرحمة ، ويُبين عليه السلام معنى قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} قال عليه السلام : [ اتملأ عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورقة, ولا ترفع صوتك فوق صوتيهما ، ولا يديك فوق أيديهما ، ولاتُقدم قدمهما ] ، أي لا تتقدم عليهما في المشي . وأُضيف هنا شرحاً لمعنى قوله تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}, فراخ الطير الصغير تتعامل بنوعٍ من المحبة واللطف عندما تريد من الأب أو الأم الطعام والرزق ، ليس فقط عبر الإشارات والموجات الصوتية التي هي لغة خاصة بين الطيور ، بل يُلّوح ذلك الطير الصغير بجناحه، ليبدي ضعفه وتواضعه، أمام الأب والأم ، وهذا معنى في غاية الدقة . وعند تتبعنا للروايات الشريفة ، عن المعصومين عليهم السلام ، نجد روايات كثيرة ومتعددة ، تحض على بّر الوالدين ، نكتفي بهذه الرواية ، التي يُسأل فيها النبي صلى اله عليه وآله وسلم عن أفضل الأعمال ، فيقول : (الصلاة لوقتها , ثم ماذا يا رسول الله ؟ قال : وبّر الوالدين).  

ماذا نعني بالوالدين ؟

إنّ المقصود من الوالدين ، في الآية {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، هما ، الوالد وإن علا, أي: ( يشمل آباء الوالد وأجداده ) ، والوالدة وإن علت ( أي يشمل آباء الوالدة وأجدادها )، فالآية شاملة لهما، وقد جاء هذا التفسير في الروايات الواردة عن أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, وفي أقوال علماءنا الأبرار.

 تعامل النبي صلى الله عليه وآله مع البّار بوالديه :
 إنّ النبي صلى الله عليه وآله ، كان يتعامل مع البّار بوالديه ، بطريقة معينة، يُبدي فيها اهتمامه الخاص بالبّار بوالديه ، ويعطي للأمة درساً ، في بّر الوالدين ، ومن يتصف بهذه الصفة ، ونجد أنّ التاريخ يحدثنا عن أخت النبي من الرضاعة ، عندما ، جاءت إليه ، فاحتفى بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بحفاوةٍ بالغة وفرش لها رداءه ، وأخذ يُحدثها ويُضاحكها ، ثم جاء أخوها بعد ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, فتعامل معه بخُلقٍ حسنٍ ، ولكن بأقل مما كان يتعامل مع تلك الأخت. فلما سُئِل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عن فعله ، أوضح بقوله : إنّها كانت أبّر لوالديها منه. 

كيف نتعامل مع الوالدين ؟

 إنّ الوالدين ، بعد أن يقضيا في هذه الحياة في كدحٍ وتعبٍ مضنٍ ، من أجل تحصيل العيش الرغيد لأبنائهما ، يصلان إلى مراحل ، قد تصعب عليهما الحركة ، ويعوزه النشاط ، ولا تسعفه الحيوية ، وبالأخص مرحلة الشيخوخة ، التي يحتاج فيها إلى مزيد من الرعاية والاهتمام ، وبالتالي يتطلب منا ، أن نتعامل معهما ، بمنتهى اللطف والمحبة ، ولا يعني هذا أن نهتم فقط ،بتلبية احتياجاتهما , بل يريد الله منا ، أن نُظهر نوعاً من الذُل و الخضوع ، أمام ذلك الوالد وتلك الأم ، وهذا يُحقق للإنسان مزيداً من اللطف والعناية به لا يعلم به إلا الله تبارك وتعالى .قرأت الكثير من سير العلماء والصالحين الذين يقولون: إنّ بّر الوالدين ، من أسرار التوفيقات في العبادات والطاعات, والتحصيل العلمي, والقُرب من الله, والمحبة لأهل البيت, ودفع البلاء . 
 وينبغي لنا أن نُعلّم أبنائَنا على مسألة البر والاحترام لآبائهم وأمهاتهم, وبعض الناس ، لا يلتفت إلى أنّ التربية السليمة  ترشدنا إلى أن نُربي الطفل منذ نعومة أظفاره على بّر الوالدين ، لأن ذلك يحقق له السعادة ويوصله إلى الدرجات العالية التي يطمع الوالدان في أن يصل الولد إليها.

 قصة واقعية في برِّ الوالدين :  
يسمع الإنسان أنّ البّار لوالديه يصل إلى درجات وتوفيقات لا يحصل عليها الإنسان العادي فضلاً عن ذلك الإنسان العاق ، حتى ذكر لي أحد الثقاة : أنّ أحد الرؤساء الكبار في منطقتنا عنده والد ، غير متعلم وبسيط , ولكنه يحترمه في غاية الاحترام , وكان الوالد يتعامل بشدة وقسوة مع الولد ، ولكن في قِبال ذلك يتعامل الولد معه في غاية اللطف والمحبة ، فلما سُئِل : أنت في هذا من المستوى من العلم والموقع الاجتماعي ، فكيف تتعامل مع والدك بهذه الطريقة ؟ أجاب بجواب غاية في الروعة وقال : وما يدريك أنّني ما وصلت لهذا المنصب والمكانة الاجتماعية ، إلا نتيجة طبيعية لهذا التعامل, وهذه المحبة والاحترام لذلك الأب وتلك الأم.
بالطبع إن كل ما أمر الله تبارك وتعالى بالنسبة للأب ، فعلماؤنا الأبرار يؤكدون أن للأم ثلاث مرات من أمثال ما للأب من المحبة والاحترام والتقدير والبر ، إذاً علينا أن نراعي هذا الجانب ، ولقد سمعت ما دعاني إلى التحدث عن بّر الوالدين بعض العقوق في مجتمعنا ، وللأسف أنّ أُولئك الذين يعقّون آباءهم وأمهاتهم ، لا يعلمون ماذا يدخره المستقبل لهم من مآسي لا يعلم بها إلا الله ؟!
أقْل تلك المآسي هو الفقر والابتلاء وعدم التوفيق ليس إلى الطاعات فقط بل حتى في العلاقات الاجتماعية مع الناس.
فلنحذر كثيراً من عقوق الوالدين ونُراعي  ما أكد عليه القرآن الكريم والأحاديث المتواترة والكثيرة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام.

Loading