الاعتماد على النفس طريق النجاح

      

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا ونبينا محمد وآله أجمعين الطيبين الطاهرين.

 قال الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {وَأَن لَّيْسَ لِلآنسَانِ إِلاَ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} ، صدق الله العلي العظيم .

أهمية الاعتماد على النفس.

من المفاهيم التي بُلوِرت في الراويات بشرحٍ وافٍ بل ومسهب مفهوم الاعتماد على النفس في الوصول إلى التكامل الشخصي من الناحيتين المادية والمعنوية، وهذا المفهوم لم يأتي في الروايات بعنوان الاعتماد على النفس، وإنما عُبّر عنه بأكثر من تعبير، منها اليأس عما في أيدي الناس.

منهجية غرس الاعتماد على النفس.

قبل أن أُورِد هذه الراويات أريد أن أُوضح أمرين هامين لهما ارتباط بمسألة الاعتماد على النفس:

الأمر الأول: أهمية وعي الآباء لمفهوم الاعتماد :

إنّ الإنسان ومنذ نعومة أظفاره وصِغَرِ سِنه يحتاج إلى الأبوين، وهذه حاجة فطرية، فالأب والأم يُدركان بفطرتهما أنهما إذا لم يُقَدِّما العون إلى وليدهما فإنه لن ينمو نمواً طبيعياً، ولن يترعرع بالشكل المطلوب، فإذاً حاجة  الطفل لأبويه هي أمر فطري وطبعي يُدركه الأبوان، ولكن هذه الحاجة في المراحل الأولى هي من الوضوح بمكان كبير، وتضعف هذه الحاجة وتتضاءل بشكل تدريجي كلما كَبُرَ الولد وتَقَدّم به السن . ونستطيع أن نُقَسِم المُربيين من الآباء والأمهات في نظرتهم تجاه مفهوم الاعتماد على النفس إلى قسمين :

الأول : الآباء والأمهات الذين لا يدركون أهمية زرع الثقة في نفس الطفل للاعتماد على ذاته في الوصول لأهدافه، وإنما يحاولان تقديم يد العون بلا حدود لأبنائهما من دون أن يُوضحا لهم أنّ هذا العطاء أولاًً محدود، وثانيًاً له أمد سيتوقف عنده، ولابد للولد أن يدرك ذلك كي يصل إلى مرتبة في الاعتماد على شخصه و ذاته.

الثاني : الآباء والأمهات الذين لا يُفهِمون الولد أو البنت الاعتماد على نفسه في صِغَار الأمور منذ البداية، كي يتعلم الأسلوب الأمثل في وصوله إلى تحقيق مآربه في المستقبل، بل نجد أنّ الوالدين يُعطيان ذلك الولد أو تلك البنت كل ما يُريدان من دون شرح أو تبيان لأهمية الاعتماد على النفس وأثره البالغ في مسيرة حياته المستقبلية .

الأمر الثاني: سعي الآباء لاستقلال الأبناء .

إنّ هذا المطلب يرتبط بالفترة الزمنية التي يتَخرج فيها الأبناء من مرحلة الثانوية، أومن مرحلة المتوسطة، وفيها يتحدد مستقبل الولد، ولذا، على الأبوين أن يدركا وبالرغم من حاجة الولد الماسة لهما إلا أنه شخصية مستقلة عنهما، فالولد كيان مستقل يختلف عنهما في سيكولوجيته النفسية، بل في كثير من الخصائص والسمات التي ترتبط بشخصه، فهناك فوارق أساسية بين  الابن وبين الأبوين، وعلى الأبوين أن يُدركا استقلال شخصية الابن عنهما، لأنهما إذ لم يُدركا ذلك سوف يقعان في أخطاء فادحة، ومن تلكم الأخطاء ما يرتبط بتخرج الولد من المرحلة الثانوية، والتي نجد فيها الأب -مثلاً- عنده رغبة وميول تجاه بعض التخصصات العلمية أو بعض المِهن، وهذا يدفعه إلى المحاولة وبجدية، بل يبذل قصارى جهده من أجل أن يُقنع ذلك الولد أو تلك البنت بذلك التخصص الذي لا يرغبان في الانخراط فيه ، وهنا تبدأ المشكلة وينشأ صراع في داخل الولد بين المجال الذي يُحقق طموحه وبين المجال الذي يُريده الأب أو الأم. وهذا يجعله يسعى في تحقيق إرادة أبيه أو أمه، وليست إرادته الشخصية والمستقلة، وبالتالي لا يُفلح ولا ينجح في هذا الاختيار، وحتى إذا أفلح ونجح فسوف يكون ضعيفاً في ذلك الحقل، لأنه لم يختاره من خلال الدوافع والمحفزات الذاتية التي تنطلق من كنه وجوده. فوظيفة الأبوين هي أن يوضحا للولد رغبتهما في أن يتخصص في الحقل العلمي من الطب أو الهندسة المعمارية و ما إلى ذلك من التخصصات ، ولكن يُؤكدان على الولد بأنّ الرغبة الذاتية التي تنطلق منه هي التي تشكل العمود الفقري والأساس في الاختيار الذي ينبغي أن يستند إليه، وليس الاختيار على أساس رغبة الأبوين.

تحقيق طموحات الأب من خلال الابن.

       وقد قرأت كتاباً أعجبني كثيراً لأخصائيين في هذه المجال، ويشير هذا الكتاب إلى مصطلح يسميه “الانجاز عن طريق التشويه بالوكالة” يعني إذا أخفق الأب ولم يصل إلى ما كان يصبو إليه من طموح، فيريد أن يُحقق ذاته من خلال ابنه في المستقبل، وبالتالي يرتكب خطأين، خطأ في حق نفسه، لأنه لم يبذل الجهد الكافي، وخطأ آخر في حق ابنه، بأنه لم يجعله مستقلاً في إرادته لتحقيق طموحه، ومصطلح “الانجاز عن طريق التشويه بالوكالة” قد يحوي شيئاً من الغموض والإرباك، ولكن المقصود واضح وهو أنّ الأب يُريد أن يُحقق ما يطمح إليه  عن طريق ابنه، أي، إنّ الانجاز الذي أخفق فيه يُوكله إلى ابنه كي يحققه،  وهذا الكتاب هو “لأيان تثلر وتريزا دي جرينمو” واسم هذا الكتاب هو “علِّم صغارك الاستقامة والجرأة دون إكراه” ، ولقد أعجبني في هذا الكتاب  تخصصه الموضوعي، لأنه يذكر قصصاً هادفة وجميلة تُوصل الإنسان إلى الفهم السليم في جعل الابن يعتمد علي ذاته في تحقيق تخصصه العلمي، أو المهارات والحرف التي يريد القيام بها أو تعلمها.

الاعتماد على النفس في الروايات.

       عندما نتقصى الروايات عن المعصومين (ع) نجد أنها أولت أهمية بالغة  بمسألة الاعتماد على النفس ولكن ببيان آخر عُبِّر عنه تارةً “بضرورة اليأس عما في أيدي الناس” وتارةً أخرى “بأن لا يكون الإنسان كَلاًّ على الآخرين”، أي، يعتمد على الغير في تحقيق مطالبه، بل عليه أن يبذل قصارى جهده في الوصول لأهدافه المرجوة من قِبَله. ولذا، نجد إمامنا زين العابدين(ع) يقول: {رأيتُ الخير كلّه قد اجتمع  في  قَطعِ  الطمع عمّا في أيدي الناس}، أي لا يكون الإنسان مُتكِلاً على الآخرين في الوصول إلى ما يصبو إليه، بل يعتمد على شخصه، ولا يعني ذلك أنّ الابن يقطع احتياجه للأبوين بأي شكل، بل قد يحتاج للمساعدة حتى من الآخرين، قال تعالى:{لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}، وتشرح الراويات ذلك، بتسخير بعضهم لبعض، والغنى المطلق لله تعالى، ولكن لا بنحوٍ يكون هذه الاحتياج يُشكِّل عالةً وكلاًّ على الآخرين، بل يكون في ضمن الحدود المقننة، والأُطُر المعروفة. وأيضاً نجد الإمام الصادق(ع)  يقول:{اليأس مما في أيدي الناس عِزٌّ للمؤمن}، أي، إنّ هذا النوع من اليأس يجعل الإنسان يستشعر العزة، التي لها أهميتها القصوى للإنسان المؤمن، بل الراويات -كما أومأنا- تُبين بوضوح أنّ الكمال النفسي والتقدم في المجال الاقتصادي يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بمسألة الاعتماد على النفس، التي نجد إمامنا أمير المؤمنين(ع) يُعَبر عنها بقوله: {الحلم والأناة توأمان ينتجهما علو الهمة}، إنّ علو الهمة مصطلح آخر تذكره الروايات يشير إلى مسألة الاعتماد على النفس، ولذا، نجد الإمام علي (ع) أيضاً يقول: {قدر الرجل على قدر همته}، أي كلما كان اعتماده على نفسه أكبر كلما استطاع أن يُحقق ذاته بشكل أعظم، و يقول إمامنا الصادق(ع) مُوضحاً أنّ الأنبياء في وصولهم إلى الدرجات العُليا كان ضمن المسار الطبيعي لهم الذي يقوم على أساس مسألة الاعتماد على شخصياتهم بعد التوكل على الله، واستمداد العون منه .

الإمام الصادق(ع) يعرض نصائح لقمان(ع) .

يقول إمامنا الصادق(ع) حاكٍ عن لقمان الحكيم وصيته ونصائحه التي قدّمها لابنه بشكل مُترابط ومتسلسل :

الأول: التأني.

     هذه النقطة يُعبر عنها لقمان بقوله: {يا بُنيّ ألزم نفسك التؤدة في أمورك}، أي، أولاً عليك بالتأني، فالإنسان العاقل إذا لاحت فكرة في ذهنه لا ينطلق خلفها بسرعة من دون التفكير في عواقب الأمور، والإنسان عندما يُشخص هدفاً من الأهداف، فلابد من أن يُفكر ملياً، ويُجري دراسات موضوعية ومعمقة لما يريد أن يُقدِم عليه، ولذا، نجد في عصرنا الحاضر أنّ الشركات الكبرى دائماً إذا أرادت أن تُقدِم على مشاريع تعمل على دراسة جدوى، وهذا النوع من الدراسة يكون متعدد الجوانب، مثل دراسات الجدوى في الجانب الاقتصادي ودراسات جدوى في الجوانب الاجتماعية وما إلى ذلك ، وهنا أيضاً لقمان يعبر عن هذه المصطلح بمسألة التؤدة، يعني التفكير بتأمل وروية قبل الإقدام.

الثاني: الصبر في قضاء حوائج الإخوان.

     وهذه النقطة يقول لقمان(ع) عنها: {وصبّر على مؤونات الإخوان نفسك}، فالناس عندهم حوائج، ويحتاجون إليك في كثير منها، وهذا أمر طبيعي ومسار يتحرك فيه الناس، فيحتاج بعضهم إلى بعض، وقد تجد بعض الناس إذا احتجت إليه رأيت السأم والملل منه، وكأنه لم يحتج إليك في يوم من الأيام، ولكنّ البعض الآخر حتى لو تأتيه كثيراً تجده رحب الصدر، وحتى إذا لم يُرِد أن يحلّ لك قضية تجده بانشراح صدر يعتذر منك بلباقة وهذا ما يشير إليه لقمان في وصيته لابنه، فالإنسان ينبغي أن يكون عنده صبر في تحمل حاجات الآخرين، فإذا استطاع أن يسهم في حلها، وإلا اعتذر بنوع من اللباقة واللطف.

الثالث: قطع الطمع مما في أيدي الناس.

        يقول لقمان عن هذه النقطة، {وصبّر على مؤونات الأخوان نفسك فإن أردت أن تجمع عز الدنيا فاقطع طمعك عمّا في أيدي الناس}، فإذا أردت أن تصل إلى الخير في أمورك الدنيوية فاجعل نفسك مستقلاً في شخصك معتمداً على ذاتك، ثم يُبين لقمان هذه المسألة من خلال المثال الواضح والجلي فيقول (ع): {فإنما بلغ الأنبياء والصديقون ما بلغوا بقطع طمعهم عمّا في أيدي الناس}، هؤلاء العمالقة الذين خدموا البشرية في مسارها التاريخي الطويل، كان من أسرار شخصياتهم قطع طمعهم عن ما في أيدي الناس، أي يرى أن الاعتماد على شخصه في الوصول إلى مآربه هو المحور الرئيس في مساره.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لتربية أبنائنا وأحبائنا تربية صالحة.

وصلى الله وسلم وزاد وبارك على سيدنا ونبينا محمد وآله أجمعين الطيبين الطاهرين.


سماحة العلامة الشيخ حسين العايش       حفظه الله

الجمعة 24/ 5 /1426هـ

 

Loading