.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

العوامل التي تضمن استمرار الاستقامة

المقصود بالمراقبة:

ماذا عن الله؟

الشاب المجتهد في العبادة:

المقصود بالمحاسبة:

المحاسبة عند أمير المؤمنين عليه السلام:

أهمية المحاسبة:

الجانب الأول: الفترة الزمنية:

الجانب الثاني: الهدوء النفسي:

كيفية المعاقبة:

 

  الدرس التاسع

العوامل التي تضمن استمرار الاستقامة

صمام الأمان:

بعد أن عرفنا أهمية الإرادة ودورها في تغيير العادات الذميمة في نفس الإنسان، وعرفنا أيضاً كيف تتـقوى هذه الإرادة، وبعد ان دخل الإنسان في قلب المعركة مع النفس الأمارة، فان هذا المجاهد يحتاج إلى المدد من الأسلحة التي يطمئن بواسطتها بحتمية انتصاره في نهاية المعركة.

وهذا الدرس قد خصصناه لهذا الشأن حيث سنتحدث عن بعض الأمور التي أعتبرها الإسلام عوامل مساعدة للتحلي بالفضائل والتخلص عن الرذائل، بل هي صمام أمان يضمن استمرار الفرد على الاستقامة والابتعاد عن الانحراف بقدر كبير.

وقد أوصى علماء الأخلاق منذ القدم بالاهتمام بهذه العوامل وعدم الغفلة والتغافل عنها حيث أنها كالوقود الذي يدفع المحرك للأمام دائماً وبلا توقف، وهنا سيكون لإبليس وجنوده الدور في صد السالك في هذا الطريق عن هذه العوامل أو تصويرها له بأنها صعبة عسيرة، فليكن هذا السالك يقظا حذرا من وسوسة هذا اللعين يلعنه بقلبه ولسانه وليستعن بالله تعالى على ذلك، ولأهمية هذه العوامل فإننا سنذكرها هنا ولو بصورة موجزة.

العامل الأول: المراقبة:

لكي يضمن السالك بقاء الأخلاق الحميدة في نفسه على الدوام فعليه أن لا يغفل لحظة عن نفسه فإن النفس أمارة بالسوء تميل بطبعها إلى الانحراف والرذيلة والطغيان والفساد وتتمنى أن تبقى بلا رقيب كي تفعل ما يحلوا لها وبكل حرية، ولذلك كان لزاماً على الإنسان السالك لتهذيب أخلاقه أن يكون مع نفسه بمثابة التاجر الرقيب على حركات وسكنات شريكه، فما لم يراقبه فإنه قد يخونه، ولتكن المراقبة للنفس على الدوام ليلاً ونهاراً وفي كل مكان وليعتبر نفسه كدائرة وهو المسؤول عنها.

المقصود بالمراقبة:

المراقبة هي أن يلاحظ نفسه قبل الإقدام على أي قول أو عمل، ويجعل الله تعالى نصب عينيه وليعتقد أنه تعالى مطلع على باطنه فضلاً عن ظاهره، يقول تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}[1]، ويقول تعالى: {ألم يعلم بأن الله يرى}[2]، ويقول تعالى: {إن الله كان عليكم رقيباً}[3]، وكذلك يقول تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا}[4].

ويقول الرسول (ص) لبعض أصحابه: (إستح من الله حق الحياء واعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)[5].

ويقول الإمام الحسين (ع) في دعاء عرفة: (اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك..) ويقول فيه أيضا: (عميت عين لا تراك عليها رقيباً..)، وعلى الإنسان ان يقول لنفسه بلسان الحال: (إني عاهدت ربي الذي انعم علي بما لا يحصي من النعم ان أبقى في خدمته ولا اخرج عن أوامره طيلة هذا اليوم)، وليبق هذا العهد إلى أن يحين وقت المحاسبة، وبطبيعة الحال فان المراقبة لا تتعارض مع العمل اليومي للإنسان أو الذهاب والإياب والدراسة والتجارة وأشباهها والحاصل أن على كل واحد منا الاعتقاد جزماً لا يعتريه شك بأن العالَم كله محضر ربوبي.

لا يمد رجليه:

ذكروا أن المقدس الأردبيلي (قده) لم يكن يمد رجليه مطلقاً طيلة أربعين سنة حتى عندما يريد النوم، وعندما سئل قال: إنني أخجل أن أمد رجلي أمام ربي.

بهذا فضلته عليكم:

كان بعض العلماء يرفع شاباً على تلاميذه كلهم فلاموه في ذلك فأعطى كل واحد منهم طيراً وقال: اذبحه في مكان لا يراك فيه أحد، فجاءوا كلهم بطيورهم وقد ذبحوها فجاء الشاب بطيره وهو غير مذبوح فقال له: لماذا لم تذبحه، فقال: قولك لا تذبحه إلا في موضــع لا يراك فيه أحد، لا يكون مكاناً إلا يراني الواحد الأحد، فقال: أحسنت ثم قال لتلاميذه: لهذا رفعته عليكم وميزته عنكم، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:  

 

خلوت ولكن قل علي رقيب

إذا ماخلوت الدهر يوماً فلا تقل

وهذا هو شأن المتقي إذ يتذكر ربه عندما تسول له نفسه بالمعصية ويراه رقيباً عليه، يقول تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}[6].

فإذا همّ الإنسان أن يسرق أو يغتاب أو يخون أو يطفف الميزان أو يظلم أو يفحش أو ينظر نظرة محرمة.. الخ. فليتذكر أن الله تعالى مطلع على كل ذلك.

ماذا عن الله؟

كان عبد الله بن عمر في قافلة حجاج بيت الله الحرام فالتقوا براعي يرعى قطيعاً من الأغنام، فأرادوا شراء خروف منه، فقال: إن هذه الأغنام ليست لي ولا يحق لي أن أبيع منها، فقال عبد الله بن عم: بعنا أحد الخراف بأي ثمن وإذا جاء صاحبها وعرف فقل: إن ذئباً التهمه، وفجأة صرخ الراعي: وأين الله؟ وماذا عن الله؟ إن صاحب الخراف غير حاضر أتعتقد أن الله غير موجود أيضاً؟! فتأثر جميع الحجاج الذين كانوا في القافلة، ولما التقوا مع صاحب الأغنام اشتروا منه الراعي الذي كان عبداً له وأطلقوه بعد أن اشتروا القطيع ووهبوه له، كل ذلك ببركة المراقبة لله تعالى والخوف منه.

كيف نعمق الشعور برقابة الله تعالى؟

إن الإسلام أرشدنا إلى أمور من شأنها تقوية عنصر الرقابة في النفس وهي:

1) أن يجتهد الإنسان في تحصيل اليقين (بالله وبالآخرة وبالثواب والعقـاب) وذلك بالتزود من المعارف التي تبحث عن عظمة الله تعالى ومن خلال هذا اليقين وهذه المعرفة بالله سبحانه سيخافه ويهابه وبالتالي يمتنع عن ممارسة أي مخالفة له، يقول الرسول (ص): (من كان بالله أعرف كان من الله أخوف)[7]، ويقول أمير المؤمنين (ع) في دعاء الصباح: (من ذا يعرف قدرك فلا يخافك ومن ذا يعلم ما أنت فلا يهابك)، ويقول الإمام السجاد (ع) في أحد ادعيته: (سبحانك عجباً لمن عرفك كيف لا يخافك)[8].

2) أن يجعل فكره ملازماً للموت والبرزخ والقيامة والحساب الدقيق.

وا فضيحتاه:

روي أن أعرابياً أسلم على يد رسول الله (ص) فأمر بعض أصحابه أن يعلمه من القرآن الكريم فعلمه سورة الزلزلة ومنها قوله: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}[9]، فقال الأعـرابي: كفاني هذا، ثم جاء إلى الرسول (ص) يسأله: هل يسأل عن الأعمال يوم القيامة حتى ما كان بوزن الذرة؟ فقال: (ص): (بلى)، فصاح الإعرابي وافضيحتاه، فقال (ص): (رجع فقيهاً)، أي أنه لما تيقّن برقابة الله عليه واطّلاعه على جميع تصرّفاته فقد استحق أن يكون فقيهاً.

3) حضور مجالس العلماء المتقين والابتعاد عن مجالس الفساق والعصاة المنحرفين وأهل الدنيا حيث أن القسم الأول يذكر بالله وبالآخرة وأما القسم الثاني فإنهم أموات يميتون القلوب، يقول (ص): (أربع يمتن القلوب: الذنب على الذنب وكثرة مناقشة النساء  ـ  يعني محادثتهن  ـ  ومماراة الأحمق تقول ويقول ولا يرجع إلى خير ومجالسة الموتى فقيل له يا رسول الله وما الموتي؟ قال: كل غنيّ مترف)[10].

المقصود بكثرة مناقشة النساء الخوض معهن في كلام لا صلة له بالآخـرة، كالقصص الفكاهية والجدال فيما لا فائدة فيه، أما اذا كان لتبليغ حكم شرعي او رفع شبهة عقائدية فهذا أمر مطلوب عقلاً وشرعاً، وحياة للقلوب وليس موتا لها بشرط الانتباه حتى في هذه الحالات الراجحة من مكائد الشيطان.

4) ممارسة العبادات بشتى أنواعها بصورة مستمرة كالصلاة والذكر وقراءة القـرآن.. الخ، لأنها تقرب إلى الله تعالى وبالتالي يترسخ لدى العبد بأن جميع تصرفاته بل أنفاسه محصاة عليه.

الشاب المجتهد في العبادة:

رأى بعضهم شاباً حسن العبادة والاجتهاد فقال: يا فتى على ما بنيت أمرك؟ فقال: على أربع خصال، فقال: وما هي؟ فقال: علمت أن رزقي لا يفوتني منه شئ وإن وعد الله حق وصدق فاطمأننت إلى وعده، والثانية علمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، والثالثة علمت أن أجلي يأتيني بغتة فبادرته، والرابعة علمت أني لا أغيب عن نظر الله تعالى في سري وعلانيتي فأنا مراقبه في كل أحوالي، وهذا من أثر العبادة والاجتهاد فيها.

يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون}[11].

ويقول تعالى في الحديث القدسي: (إنما يسكن جنات عدن الذين إذا همـوا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني..).

والحاصل أن العبد إذا كان على يقين من اطلاع الباري على ضميره فكيف يقدم على مخالفته وعصيانه وهو جبار السموات والأرض عزيز ذو انتقام؟ يقول الإمام السجاد (ع) في مناجاة الراجين: كيف أنساك ولم تزل ذاكري وكيف ألهو عنك وأنت مراقبي؟!! وهذا معنى المراقبة وهي أحد العوامل التي تضمن الاستقامة لدى العبد.

العامل الثاني: المحاسبة:

إذا كان للمراقبة الدور الفعال في مجال الحفاظ على الاستقامة فإن للمحاسبة الدور المهم والمناسب أيضاً في هذا المجال إذ هي وسيلة لحفظ العلاقة التي ركزتها المراقبة للنفس وهي علاقة الإنسان بربه.

المقصود بالمحاسبة:

 المحاسبة هي النظر فيما أقدمت عليه النفس من قول أو فعل فيما مضـى من الوقت، فإن أتت بالأوامر المكلفة بها على وجهها الأكمل ولم تقصر في شئ منها، فعليه أن يشكر الله تعالى على التوفيق ويكلف نفسه بذلك الشكر ويحثها على المداومة على الطاعات ويرغبها فيها.

وأما إذا كانت النفس قد قصرت في شئ من الأوامر أو فوتت شيئـاً من الطاعات أو أنها ارتكبت مخالفة منهياً عنها، فعليه أن يقف معها موقف المعاتب اللائم ويؤنبها ويعذلها ويصارحها على أخطاءها وتقصيرها، ومن ثم يأتي دور المعاقبة الذي سنتكلم عنه بعد قليل.

ومحاسبة الإنسان لنفسه يجب أن تكون في الدقة أكثر مما يصنع التاجر بشريكه، فكما يفتش التاجر في حساب الدنيا عن أدنى نقص فمن الأولى أن يكون مع نفسه لأن ذلك يتعلق بأمر الآخرة، يقول الرسول (ص): (لا يكون العبد مؤمناً حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه والسيد عبده)[12].

ويقول (ص): (لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه فيعلم من أين مطعمه ومن أين مشربه، أمن حل ذلك أم من حرام)[13].

المحاسبة عند أمير المؤمنين عليه السلام:

سئل أمير المؤمنين (ع) عن كيفية محاسبة النفس، فقال: (إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال: يانفس إن هذا يوم مضى عليك لا يعود أبداً، والله سائلك عنه فيما أفنيته، فما الذي عملت فيه؟ أذكرت الله أم حمدتيه؟ أقضيت حق أخ مؤمن؟ أنفست كربته؟ أحفظتيه بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظتيه بعد الموت في مخلفيه؟ أكففت عن غيبة مؤمن بفضل جاهك؟ أأعنت مسلماً؟ ما الذي ضيعت فيه؟ ثم قال: فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله عز وجل وكبره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً، استغفر الله عز وجل وعزم على ترك معاودته)[14].

أهمية المحاسبة:

تعتبر محاسبة النفس عند العارفين من الطاعات الواجبة وجزء من حياتهم اليومية وإن من لم يحاسب نفسه يعد أحمقاً غير عاقل أو غير معتقد بحساب يوم القيامة، إذ كيف يغفل عن محاسبة النفس التي تسقط حساب يوم القيامة أو توجب خفته على الأقل؟ وهذا ما أشار إليه الرسول (ص) إذ يقول: (أكيس الكيّسين من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت وأحمق الحمقى من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني)[15].

ويقول (ص): (يا أباذر حاسب نفسك قبل أن تحاسب فإنه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن وتجهز للعرض الأكبر يوم تعرض لا يخفى على الله خافية)[16].

ويقول الإمام الصادق (ع): (فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإن في القيامة خمسين موقفاً كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون)[17]، ثم تلا هذه الآية: (يـوم مقداره خمسين ألف سنة)[18].

ومن خلال هذه الكلمات النورانية نعرف أهمية المحاسبة ومقدار ضرورتها كما نعرف الموقع الحساس لها في جانب الاستقامة.

برنامج المحاسبة:

لكي تعطي المحاسبة ثمارها يانعة وتؤدي الغاية المنشودة منها فلا بد من وضع برنامج لها وذلك بمراعاة جانبين:

الجانب الأول: الفترة الزمنية:

بأن تكون فترات محاسبة النفس متقاربة نسبياً لكيلا تجد مجالاً لمعاودة الأخطاء التي اقترفتها، وقد حددت كثير من النصوص الفترة الزمنية بين محاسبة وأخرى على أن تكون مرة بين اليوم والليلة بحيث يعيد الانسان الفكر في كل ما فعله منذ جلوسه من النوم صباحاً إلى الساعة التي هو فيها وهي آخر ساعة من اليوم، قال الإمام الصادق (ع): (حق على كل مسلم يعرفنـا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه، فـإن رأى حسنة استزاد منها وإن رأى سيئة استغفر منها لئلا يخزى يوم القيامة)[19].

ويقول الإمام الكاظم (ع): (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل شئياً خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه وإن عمل شيئاً شراً استغفر الله وتاب إليه)[20].

ويفضل أن يركز على المحاسبة يومي الإثنين والخميس لأن الأعمال تعرض فيها على الرسـول (ص) وأهل البيت (ع) وكذلك يجعل محاسبة شهرية وسنوية شاملة.

الجانب الثاني: الهدوء النفسي:

فلا بد من استغلال الوقت لها واختيار الحالة التي تكون النفس فيها هادئة غير مضطربة وغير مشغولة بشغل يلهيها عن المحاسبة وإلا فقد تصاب بالنفور وتكون النتيجة عكسية سلبية بدلاً من أن تكون إيجابية، وقد اهتمت النصوص الإسلامية بهذا الجانب:

يقول أمير المؤمنين (ع): (ما أحق الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله شاغل يحاسب فيها نفسه فينظر فيما اكتسب لها وعليها في ليلها ونهارها)[21].

ويقول الإمام الصادق (ع): (إذا أويت إلى فراشك فانظر ما سلكت في بطنك وما كسبت في يومك واذكر أنك ميت وأن لك معاداً)[22].

فنلاحظ التأكيد على ضرورة الهدوء النفسي أثناء المحاسبة والمعاتبة وغالباً ما تكون النفس كذلك ليلاً وبالذات عندما يخلو بنفسه على فراشه في حالة من الاسترخاء والابتعاد عن الضوضاء والإنشغالات الفكرية.

يا ويلتاه!!

حكي أن رجلا يقال له توبة إبن الصّمه كان محاسبا لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره فجلس مع نفسه ذات يوم ليحاسبها محاسبة كلّية لجميع أيّام حياته فإذا عمره ستّون عاماً، فحسب أيّامها فكانت أحد وعشرين ألف يوما وخمسمائة يوم، فقال: يا ويلي ألقى كذا مالكا  ـ  أي خازن النّيران  ـ  بأحد وعشرين ألف ذنب؟! فصعق صعقة كانت فيها نفسه!!![23]

ثمار المحاسبة:

عند محاسبة الإنسان نفسه بالطرق السليمة فإنه سيجني ثمارها وآثارهـا بصورة جلية واضحة ونحن نذكر بعض هذه الثمار على سبيل المثال لا الحصر:

1)       معرفة العيوب وإصلاحها: يقول أمير المؤمنين (ع): (من حاسب نفسه وقف على عيوبه وأحاط بذنوبه واستقال الذنوب واصلح العيوب)[24]، ويقول (ع): (ثمرة المحاسبة صلاح النفس)[25].

2)       الربح: إن التاجر لن يربح إلا إذا داوم تفتيش شريكه أو عامله بين فترة وأخرى وهكذا من حاسب نفسه، يقول أمير المؤمنين (ع): (من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر ومن خاف أمن)[26].

3)       الأمان من الله تعالى: يقول أمير المؤمنين (ع): (حاسبوا أنفسكم تأمنوا من الله الرهب وتدركوا عنده الرغب)[27].

4)       السعادة: يقول أمير المؤمنين (ع): (من حاسب نفسه سعد)[28].

والحاصل أن للمحاسبة دوراً لا ينكر في إصلاح النفس والتحلي بالخصال الحميدة والابتعاد عن الرذائل الذميمة وبالتالي ضمان أكثر لاستمرار الاستقامة، والمأمول أن تتحول المحاسبة عند السالك إلى ملكة بحيث يصبح هذا العمل لديه سهلا للغاية، وعندها سيشعر باللذة والأنس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، مضافا إلى النّجاة في الآخرة. للاطلاع أكثر في مجال محاسبة النفس يراجع كتاب (محاسبة النفس للسيد ابن طاووس).

العامل الثالث: المعاقبة:

بعد أن تتحقق المحاسبة ويتعرف الإنسان من خلالها على التقصير من النفس في بعض الحقوق الواجبة عليها فلا ينبغي أن يقف إلى هذا الحد فقط بل عليه أن يستوفي منها كل ذلك، ويعاقبها على كل تقصير لأنه لو أهملها سهل عليه ارتكاب المخالفات وتعود عليها وأنس بها وبالتالي يصعب فطام نفسه عنها.

والمعاقبة تعد عاملاً مكملاً لا غنى عنه في شق الطريق نحو الفضائل والسلوك إلى الله تعالى.

كيفية المعاقبة:

يكون مقدار العقوبة التي ينـزلها الإنسان على نفسه بمقدار التقصير ونوعه، فإذا فوتت النفس الفرائض التي هي رأس مال الإنسان طالبها بقضائها على أتم وجه وإذا أدتها ناقصة نقصانا لا يوجب القضاء، كلفها بالنوافل إجبارا لذلك النقص، وإذا تناولت لقمة حرام عاقبها بالجوع والصوم عدة أيام، وإذا اغتابت مؤمناً عاقبها بالالتزام بالصمت الطويل إلا عن ذكر الله تعالى، وإذا أساءت الظن بالآخرين عاقبها بإرسال هدية إلى المظنون فيهم، وإذا حسدت ألزمها بزيارة المحسود والسلام عليه، وإذا نظرت إلى محرم عاقبها بمنع النظر إلى ما تستلذه النفس من المباحات مدة معينـة، ويعاقبها على السكوت في موضع الكلام والكلام في موضع السكوت، بل يعاقبها على التفكير في غير محله والخواطر الفاسدة بما يناسب ذلك من العقاب، وهكذا الحال في سائر المعاصي والتقصيرات.

التصدق بالبستان عقاباً:

روي أن أحد صحابة الرسول (ص): يدعى أبو طلحة الأنصاري كان يصلي يوماً في بستان له وفي أثناء الصلاة وقع بصره على طائر فوق شجـرة يريد الخروج من وسطها فلفت ذلك الطائر انتباهه بحيث لم يعلم كم صلّى من الركعات، ولما انفتل من صلاته أسرع إلى الرسول (ص): وشرح له الحال، ثم قال: لقد تصدقت بهذا البستان، ثم جعله فعلاً بيد الرسول (ص): يصرفه كيف شاء وهكذا عاقب هذا الصحابي نفسه بالتصدق بجميع البستان بسبب إنشغاله في فريضة واحدة!![29]

لا يشرب البارد طيلة حياته:

ينقل أن بعضهم نظر إلى امرأة حراماً فعاقب نفسه بعدم شرب الماء البارد طيلة حياته فكان يشرب الماء الحار لينغص على نفسه العيش!!

وهذه الحكايات السابقة متعلقة بمعاقبة الإنسان لنفسه إذا كان التقصير فيما بينه وبين ربه فتكون بهذه الكيفيّه المذكورة، أما إذا كان التّقصير متعلّقاً بالآخرين وبظلمهم فلابد أن تكون المعاقبة بالتسامح والاعتذار منهم وإرجاع حقوقهم إليهم.

والخلاصة: من كل ما تقدم يتضح لنا جلياً أهمية هذه العوامل الثلاث (المراقبة والمحاسبة والمعاقبة) في إصلاح النفس والسلوك نحو الله تبارك وتعالى، فعلى الإنسان أن لا يغفل عنها وإلا فإنه سيصل أثناء رحلته المباركة إلى طريق مسدود مظلم لا نور فيه، ويكون ظالما لنفسه أو ربما لغيره، وننبه على أن تطبيق هذه العوامل الثلاث تحتاج إلى إقناع النفس بأهميتها أولاً وإلى قوة الإرادة ثانياً وبالتالي ممارستها بشكل دائم لتصبح ضرورة كبقية الفرائض اليومية.

للقراءة والتأمل

روي أن رجلا قال بحضرة أمير المؤمنين (ع): استغفر الله، فقال له: (ثكلتك أمك! أتدري ما الاستغفار؟ ان الاستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العودة إليه أبداً، والثالث ان تؤدى إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعه، والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدى حقها، والخامس ان تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلتصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس ان تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: استغفر الله)[30].

الأسئلة

السؤال الأول: ما هو دور العوامل الثلاث في الإستقامة بصورة عامة؟

السؤال الثاني: اذكر آية تشير إلى رقابة الله للخلق، مع حادثة تدل على ذلك أيضاً؟

السؤال الثالث: كيف نعمق الشعور برقابة الله تعالى؟

السؤال الرابع: هات حديثاً يدل على أهمية المحاسبة؟

السؤال الخامس: لكي تؤدي المحاسبة وظيفتها لابد من مراعاة جانبين ما هما؟

السؤال السادس: اذكر ثمارا ثلاثة لمحاسبة النّفس؟

السؤال السابع: اذكر مثالاً على كيفية معاقبة الإنسان لنفسه؟



[1] ق آيه 16.

[2] العلق آيه 14.

[3] النساء آية 1.

[4] المجادلة آيه 7.

[5] البحار 72 ص 279.

[6] الاعراف آية 201.

[7] البحار ج 70 ص 393.

[8] البحار ج 86 ص 277.

[9] الزلزلة آية (6-7).

[10] البحار ج 103 ص 242.

[11] الحشر آية 11.

[12] البحار ج 70 ص 72.

[13] البحار ج 77 ص 86.

[14] ميزان الحكمة ج1 ص 620.

[15] ميزان الحكمة ج1 ص 618.

[16] ميزان الحكمة ج1 ص 619.

[17] ميزان الحكمة ج1 ص 619.

[18] المعارج آية 4.

[19] ميزان الحكمة ج1 ص 619.

[20] ميزان الحكمةج1ص619.

[21] ميزان الحكمة ج1 ص619.

[22] ميزان الحكمة ج 1 ص 619.

[23] الأنوار البهيّه ص253.

[24] ميزان الحكمة ج1 ص620.

[25] ميزان الحكمة ج1 ص620.

[26] ميزان الحكمة ج1 ص620.

[27] ميزان الحكمة ج1 ص620.

[28] ميزان الحكمة ج1 ص620.

[29] كتاب صلاة الخاشعين ص39 للشهيد السيد دستغيب.

[30] نهج البلاغة قصار الحكم رقم 417.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست