.

:الموضوع

 

الفصل العاشر 2

العفو ـ الصفح

بحثنا هذا يدور حول مسألة العفو والصفح الذي يبعث على المحبة والألفة والوئام في الوسط العائلي.

إن كلمة العفو كلمة مقدسة، وعندما يريد الإنسان أن يصورها لنفسه يشعر بخروج نورٍ يسطع منها، يلامس شغاف قلوب العافين.

إنها جميلة ومقدّسة إلى الحد الذي تكون فيه دائماً جنباً إلى جنب كلمة المحبة، ولجمالها الفائق، وتأثيراتها الرائعة في النفوس أكَّدَ القرآن الكريم كثيراً وقسّمها إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ذلك الذي يحدث حينما يرى الفرد شخصياً يسيء عامداً، فيعفو عنه ويتجاوز عن سلوكه السيء في سبيل الله، وفي سبيل القيم الإنسانية السامية:

(خُذِ العفو وأمر بالعرف وأعرضْ عن الجاهلين) (الأعراف/199).

أيها المسلمون! عليكم أن تلتزموا بالعفو حتى يضحى ملكةً لديكم، وإذا إردتم البقاء على هذه الصفة المحمودة يجب عليكم أن تعلّموا من هو معكم في الدار عليها، والالتزام بها، وبناء على ذلك فمن رأى من أهل داره إساءة ينبغي له أن يعفو ويصفح كي تعمّ المحبة والودّ في هذا الوسط.

أما القسم الثاني فهو أعلى وأسمى مرتبةً من سابقه، وفيه يترفع الفرد عن رؤية الإساءة، فلو أساءت زوجته أمامه يحاول جاهداً أن يفعل شيئاً يُفهم منه بأنه لم يَرَ تلك الإساءة بالمرة كي يعفو عنها.وهذا ما يسمى بالصفح، وقد قال فيه القرآن الكريم:

(وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبّون أن يُغفر الله لكم) (النور/22).

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(تجاوزوا عن عثرات الخاطئين يقيكم الله بذلك سوء الأقدار)[1].

وقال أيمر المؤمنين عليّ (ع) بصدد الصفح:

(ما عفا عن الذنب من قرعَ به)[2].

وجاء في الخبر أن الأفراد الذين يعفون سيعفو الله عنهم يوم القيامة، أما الذين يصفحون، أي لا يعاتبون المسيء أبداً، وكأنهم لم يروا منه إساءة، يتجاوز الله عنهم، ولا يذكر مساوئهم بالمرة ويدخلون الجنة بدون حساب.

فكن أيها الرجل من المصفحين في المنزل، وكأنك لم تر سيئاً من زوجتك حينما تشعر أنها أساءت، هذا إذا أردت أن تدخل الجنة بدون حساب، ولا أعني هنا الإساءات التي لها مساس بالشرف والعفة وما إلى ذلك، كلا، بل أعني المسائل التي تتعلق بالطعام، أو النظافة أو ما إلى ذك من الأمور التي ينبغي للعاقل أن يتجاوزها ويصفح عنها.

قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام لابنه الحسن سلام الله عليه:

(إذا استحق أحد منك ذنباً، فإن العفو مع العدل أشد من الضرب لمن كان له عقل)[3].

يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في بيت شعر منسوب إليه:

فمضيت تحتَ فقلتُلا يعنيني

 

ولقد أمرُّ على اللئيم يسبُّني

وجاء آخر سورة الفرقان في ذكر صفات المؤمن:

(وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) (الفرقان/63).

إن الفرد الذي لا يهتم ولا ينزعج من أحاديث الجهلة والمسيئين يمكن أن تنطبق عليه هذه الآية المباركة، فالرجل الذي يرد بيته ويرى أن وضع المنزل سيئاً، وكذا وضع الأولاد والزوجة ينبغي له أن يصفح، وإذا أراد أن يتحدث في الأمر وجب عليه أن يرى فرصةً مناسبة لذلك الحديث بحيث لا يؤثر على معنويات زوجته أو أبنائه.

وكذا بالنسبة للزوجة إذ ينبغي لها أن تغض النظر وتصفح عن زوجها إذا ما رأت منه ما يخالف قانون الأسرة المقدس.

والجدير بالذكر أن القرآن الكريم وصف المؤمنين الخيّرين وصفاً جميلاً في سورة الفرقان فدلل على صفحهم، وتسامحهم كي يرعوي المسيء، ويثوب إلى عقله.

وقال العزيز في محكم كتابه المجيد:

(وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً) (الفرقان/72).

نفهم من هاتين الآيتين الشريفتين بأنه لا بد للمؤمن من أن يعفو ويصفح، فإذا ما لطم وجهه طفلٌ لا يعدو سنَّهُ عن سنة أو سنتين، وجب عليه أن يتصرف وكأن شيئاً لم يكن، وهذا الصفح في مثل هذه المواضع لهو دليل على كرامة ذلك المؤمن، وسموّه، ومقامه الجليل.

أما بالنسبة للقسم الثالث، وهو الذي يجب أن يعمل به الخاصة من المسلمين من الذين بلغوا مقامات ومراتب لم يبلغها عامة الناس فهو: الإحسان لمن أساء إليهم:

(ويدرؤون بالحسنة السيئة) (القصص/54).

أي يدفعون بالطاعة المعصية، أو بالحلم الجهل، وقد كررت هذه الآية في عدة أماكن من القرآن الكريم، ولكن بأشكال أخرى:

(ادفع بالتي هي أحسن السيئة) (المؤمنون/96).

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أحسن إلى من أساء إليك)[4].

لقد أكّد الباري على هذه المسألة كثيراً في سورة يوسف التي عدّها أحسن القصص، وحقاًّ إنها سورة مليئة بالدروس الأخلاقية والاجتماعية العريقة، وإذا ما قرأها الإنسان وعمل بها جاهداً سيضحى إنساناً كاملاً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى.

إن هذه السورة تحمل في سطورها نقاطاً عجيبة، ومواقف مهمة ينبغي أن نقف عندها وقفاً خاصاً.

يقول القرآن المجيد: إن زليخا أساءت كثيراً ليوسف، وألقت به في غياهب السجن ولكنه لم يتمكن من الخروج لا بعد أن ألهمه الباري كيفية إيصال السؤال التالي إلى الملك:

(ما بالُ النسوة اللاّتي قطعن أيديهن) (يوسف/50).

عندها قالت زليخا لزوجها:

(الآن حصص الحق، أنا راودته عن نفسه، وإنّه لمن الصادقين) (يوسف/51).

وبعد أن خرج يوسف من السجن قال:

(ذلك ليعلم أنِّي لم أخنه بالغيب) (يوسف/52).

أي هل تعلمون لماذا خططت لإقرار تلك النساء، واعترافهن بخطئهن؟ لقد فعلت ذلك من أجل كسب البراءة لنفسي، كوني علمت بأن الأمر سيؤول لي وأضحى عزيز مصر، وهذا يتناقض مع ما عليّ من اتهام، فتحملت سنين عشراً في السجن، ولم أفكر بفضح تلك النساء أبداً، إلا بعد أن اضطرني الأمر الأهم على ذلك، وإلا لن يتأتى لي، ولن أسمح لنفسي كشف أفعال زليخا، وصاحباتها اللواتي قطعن أيديهن، وهذه العبارة تعد صفحاً من جانب يوسف جميلاً، لا يمكن أن يكون أو يليق إلاّ به، ولمثله من المؤمنين والخيّرين.

أما بالنسبة للصفح الثاني الذي أبداه يوسف سلام الله عليه، فهو ذاك الذي أظهره لإخوانه بعد أن ألقوا به في غيابت الجبّ، ليُباع ويُشترى ويحدث له ما حدث، لقد قال يوسف لإخوته بعد أن استتب له الأمر:

(لا تثريب عليكم، اليوم يغفر الله لكم) (يوسف/92).

يقال إن يوسف كان يعاني كثيراً حينما يجلس إلى مادة الطعام، ومعه إخوانه، وكانت أفكاره تتداعى ويتذكر جريمة إخوانه القبيحة وكيفية إلقائه في غيابت الجبّ، لذا لم يهنأ له عيش، ولم يطبْ له طعام، وعندها شعر بأن إخوانه قد يكونون خجلين منه، فتحدث لهم قائلاً: إنكم لو لم تلقوا بي في تلك البئر لما تمكنت من الوصول إلى هذا المكان، إذن أنتم السبب في سعادتي وعزّتي، وأنتم من أوصلني إلى هذا المقام.

(قال ادخلوا مصر إنشاء الله آمنين)(يوسف/99).

أما المرتبة الثالثة من صفح يوسف عليه السلام فكانت أسمى من تلك المرتبتين الأوليين حيث يُفهم منها بأن يوسف (ع) كان كاملاً.

يقال إن يوسف (ع) وبعد أن رفع أباه على العرش قال:

(يا أبتِ هذا تأويل رؤياي من قبلُ قد جعلها ربّي حقاًّ، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن، وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) (يوسف/100).

لقد أراد يوسف أن يقول لأبيه، إن الشيطان هو السبب في اختلافاتنا وإن إخوتي لا ذنب لهم، فلا تلومّنهم أو تعنّفهم وإن بلوغي هذا المقام السامي كان بسببهم.

إن القرن ليس كتاب قصص وحكايات ترفيّة، إنه كتاب قانون واجتماع ودين وسياسة، لذا يريد أن يقول لنا من خلال هذه الحكاية: أيها المسلمون! اصفحوا، اعفوا، وأحسنوا للمسيء ما استطعتم كي يتأدب ويرتدع، ويعلم أن الباري تعالت أسماؤه أقسم على نفسه أن يُجري ما يشاء ونهم لعاجزون.

إن في القرآن المجيد آية تحمل معنيين ظاهريين كما هو الحال في بعض آيات القرآن الكريم، وقد فسَّرها المفسرون بشكل يختلف عن تفسير علماء الأخلاق وهي:

(وجزاءُ سيئةٍ مِثلُها) (الشورى/40).

فالمعنى الأول: يكون إذا قطع أحدهم يدك قطع حاكم الشرع يده، وهذا التفسير هو الذي قال به المفسّرون، أما التفسير الثاني والذي التزمه علماء الأخلاق الافاضل فهو: إذا ساء أحد إليك، فأسأت إليه فستكون أنت ومَنْ أساء إليك مذنبين، وإنّ من رماك بحجر عُدَّ مذنباً، فإذا رددت عليه الحجر كنت مثله مذنباً ولذا قال الباري تعالى بحق العافين والمصفحين " ويدرؤن بالحسنة السيئة" أي إذا أساء إليهم شخص أحسنوا إليه، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.

لقد منع أهل مكة الرسول الأكرم (ص) على مدى " 13 " سنة من تبليغ رسالته بالشكل الذي يريد، ولم يدخل الإسلام في هذه المدة المديدة غير 40 إلى 50 شخصاً.

لقد استطاع الرسول الأكرم (ص) وفي السنة الثامنة للهجرة من التسلط على أهل مكة بعد أن جاء بجيش يفوق تعداده على "12" ألف نفر، ليدخلوا مكة بدون إراقة دماء، وليشعر الرسول ومن معه بلذّة عجيبة بعد أن كابد على مد " 20 " سنة، تخللتها " 28 " معركة من أجل إخلاء بيت الله الحرام من تلك الأوثان والأصنام.

وبعد الدخول مباشرةً أمر الرسول الأكرم (ص) ابن عمه عليّ (ع) بتحطيم الأصنام والتي كان تعدادها "360 " صنماً، ليتطهر بيت الله من وجودها إلى الأبد، بعد ذلك جاؤا إلى قرب تلك الباب ـ وهي موجودة الآن ـ لينظروا إليها ويستشعروا جذبها المعنوي لهم ثم شرعوا بقراءة دعاء الوحدة لا إله إلا الله وحده وحده وحده.

كان المسجد الحرام يغصّ بالناس، أولئك الناس الذين رموا الاحجار على رسول الله (ص) قبل سنين عديدة، إنهم الناس الذين تمكنوا من إسالة الدماء من جبهته الشريفة الطاهرة، وقف الجميع ينتظرون أوامر رسول الله (ص)، وكانت الغالبية العظمى ترتجف هلعاً وخوفاً، ظناًّ منهم بأن رسول الله (ص) سيأمر علياًّ (ع) بشهر سيفه ليعمله في رقابهم، ولكن الذي حدث غير ذلك.

وما إن انتهى الرسول الكريم من دعاء الوحدة حتى التفت إلى أبي سفيان، وهد آكلة الأكباد ومن لفّ لفّهم، فبدأوه بالحديث قائلين: يا رسول الله! افعل بنا ما تشاء، فإن لك الحق في ذلك، فن قتلتنا فأنت محق، وإن مثّلت بنا فمعك الحق!

(لا تثريب عليكم اليوم يغفرُ الله لكم) (يوسف/92).

بعد ذلك قبل الرسول (ص) منهم إسلامهم بالرغم من أنه يعلم بأن الكثير منهم منافقون، ولكنه قبل منهم ظاهر شهادتهم وجعل من بيت أبي سفيان أمناً لمن دخله تطييباً لنفسه، كونه كان رئيساً لمكة فمنحه رسو الله رئاسة ظاهرة كي يأمن شرّه.

ذكرت كتب التاريخ أنه عندما دخل الرسول (ص) إلى مكة، حمل أحدهم علماً وبدأ يجول في أنحاء المدينة ويقول: " اليوم يوم الملحمة " (سننتقم اليوم منكم).

فوصل الخبر إلى أسماع رسول الله صلى الله عليه وآله، وعندها غضب الرسول (ص) غضباً شديداً، فأرسل علياًّ عليه السلام ليأخذ ذلك العلم ويدور به في أزقّة مكة ويقول: "اليوم يوم المرحمة".

هكذا كان رسول الله (ص) رحيماً شفيقاً عطوفاً، وكذا كان أهل بيته الأطهار سلام الله عليهم أجمعين.

إن القرآن يريد عفواً، بل ويريد أسمى من ذلك إنه يريد صفحاً، ويريد إحساناً ودرءاً للسيئة بالحسنة.

إن الجار الجيد ليس هو الذي يعمل خيراً لجاره، كلا، لأن ذلك واجب عليه، بل إن الجار الحسن هو من تمكن من أن ينسجم مع جاره المسيء، وأن يتمكن من غض نظره عن سيئات جاره، وأن يصبر على اذاه.

كان أحد الأجلاّء مريضاً ومشرفاً على الموت، فذهب إليه جاره ليطمئن على أوضاعه، فرآه مضطجعاً على أرض رطبة في غرفة لها جدار ملاصقٌ لمنزله وقد عبر الماء منه إلى منزل هذا الجار، فاغتاظ واهتمَّ، وقال لجاره المريض:

لِمَ لم تقل شيئاً لي بصدد هذه الرطوبة التي جاءتك منّا؟.

فأجاب: لم أحبب إتعابك معي، وإيقاعك في مخمصةٍ يمكن أن أتحملها لوحدي!

هكذا يريد الإسلام منّا، يريد تعاملاً رفيعاً سامياً حتى مع الغرباء، ولا يريد منّا ذلك التعامل الذي قد يصدر من بعض النساء مع أمهات أزواجهن أو من بعض الزوجات اللواتي لا يعرفن درء السيئة بالحسنة.

والحق يقال إن هذه الآية المباركة الشريفة يجب أن تكتب بماء الذهب، وتعلق على الجدار لنراها كل يوم، ليس بعنوان منظر جميل، أو آية قرآنية نتبرك لها، كلا، بل لنزيل بها من قلوبنا ما علق بها من أدران، ولننظر إليها بتأمل كي يضحى العفو والصفح ملكة في كوامننا ونفوسنا الأمّارة بالسوء.

أيها السيد! عارٌ عليك إذا ما صفحت عن زوجتك التي قد يبدر منها ما يمكن اعتباره إساءة إليك، وعارٌ عليك إذا لم تتبسم حينما تكون غاضباً وكذا بالنسبة لك أنت أيتها الزوجة، عليك أن تُزيلي سحنات وجهك الغاضب أمام زوجك ولو كان ظالماً لك لأن المرأة تعني المحبة والرجل يعني المروءة، فاتقوا الله تعالى وعلّموا أبناءكم على العفو والصفح والإحسان لمن أساء إليهم ليعمّ الخير والبركة في يبيت الزوجية الذي باركه الله تعالى أسماؤه.



[1]  نبيه الخواطر/ ص360.

[2]  غرر الحكم.

[3]  بحار الأنوار/ ج77، ص316.

[4]  بحار الأنوار/ ج77، ص171.