.

:الموضوع

 

الفصل الثاني عشر

الوسوسة العملية

الوسوسة العملية

قد تحدّثنا سابقاً وقلنا إن الوسوسة تنقسم إلى قسمين الأول: فكري، والثاني: عملي، ولقد بحثنا في الموضوع الأول وبقي لنا أن نبحث في الثاني.

فالوسوسة العملية: هي تلك التي يكون فيها الإنسان ظاناً في طهارته أو وضوئه، أو غسله، أو عبادته بشكل غريب، وغير طبيعي، فتراه مثلاً يتوضأ أربعة مرات أو خمسة، وبعدها تحدثه نفسه بأن وضوءه باطل، وقد تكون بعض قطرات الماء نجسة، وما شابه ذلك من الوسواس.

إن الوسوسة العملية إذا ظهرت في المؤسسة الأسرية هدّتها من الأساس وتركتها خاوية، فمن أين تأتي هذه الوسوسة؟.

سبق أن ذكرنا بأن الشيطان إذا تسلط على عقل الإنسان جعل منه منافقاً، غشاشاً، محتالاً وفي مجال السياسة كذاباً ومتلاعباً.

وإذا ما تسلط الشيطان على القلب وجعل منه تبعاً له، أضحى صاحب ذلك القلب من عبّاد المال، وعبّاد الشهرة.

وقد يتسلط الشيطان على قوة الإنسان التخيلية فيوسوس له فكرياً وعملياً، ليرى أشياء لا حقيقة لها ولا واقع، وكذلك يسمع أصواتاً خفية يظنها في يقينه بأنها حق يجب أن يعمل به، بينما لا تكون غير وساوس شيطانية متدنيّة.

فالجبان ـ على سبيل المثال ـ إذا كان الشيطان متسلطاً على قواه التخيلية يرى الجن أو الملائكة إذا قضى ليلة في إحدى الخرائب، بل ويسمع أحاديثهم في الوقت الذي لا يوجد هكذا شيء بالمرة.

أو قد يدخل أحد الجبناء من الذين تسلّط الشيطان على قواه التخيلية إلى مقبرة، فيرى الموتى أحياءً عندما لا يكون أحد إلى جانبه، بل قد يرى أحدهم يجري خلفه ويمسك به فيغشى عليه.

فلو فرضنا أنه لا يوجد جنّي في تلك الخِربة، ولم يخرج ميت من قبره ليمسك به فمن كان ذلك الذي يصدر الأصوات والأفعال؟ إنها قوة الخيال المؤثرة على بصره وسمعه، وقواه اللامسة والتي جلبت إليه ذك البلاء المهيب.

أما بالنسبة للوسوسة العملية فترى على سبيل المثال شخصاً يشعر بترشح الماء من آلته بعدما غسلها بالماء مرات عديدة بالرغم من أنها لم تكن كذلك ولكن الوسواس الذي في قلبه المتسلط عليه الشيطان يخبره بأنه ما زال نجساً وعليه أن يتطهر مرة ثانية وثالثة ورابعة.

وخلاصة القول إن الأشياء التي يرى فيها ضرراً عليه يقطعها فوراً، على العكس من تلك التي يرى فيها نفعاً له، فهو لا يطمئن لها، ولا يتأتى له أن يقطع فيها، ففي مسائل الطهارة لا يستطيع أن يصدق طهارته إلاّ بعد تطهيرٍ كثير وكذا في مسائل النجاسة.

إن مثل هؤلاء أفراد لا يمكن القول فيهم إلاّ أنهم مرضى، ومرضهم روحي، فإذا ترك أحدهم الاهتمام بمعالجة هذا المرض تفاقم عليه ليصبح كالسرطان المتفشي في جميع أنحاء الجسم، وعندها يكون إنساناً غير طبيعي في المجتمع.

قال الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام:

(جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله هلكت، فقال له (ص) أتاك الخبيث فقال لك: من خلقك؟ فقلت الله، فقال لك: الله من خلقه؟ فقال: أي والذي بعثك بالحق لكان كذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ذاك والله مَحضُ الإيمان)[1].

ومحض الإيمان يعني بها زواله وانمياثه من القلب حين يعرض الشيطان فيوسوس للقلب.

إن الذي يجب أن نفطن إليه هو أن الشيطان اللعين مستعد لحرفنا عن الطريق القويم إلى الطريق المعوّج، فيأتي لهذا عن طريق المعصية، ويوقع بذاك عن طريق الكسب الحرام، ويشجع آخر على التوغل في الشهوات، ويقول لآخر بان السلطة جميلة وتليق بك وحدك، وكذا يوسوس للناس حينما يشخّص ضعفهم حتى يسيرون على نهجه المنحرف فيتنكرون للعفّةِ والشرف والأمور الطبيعية.

يقال إن شخصاً رأى الشيطان في منامه، وكان في يده حبال كثيرة فسأله عن سبب حملهِ لتلك الحبال؟ فقال إنها لجرّ الإنسان إلى جهنم الحامية، ثم سأله ثانية، وما هذه السلاسل التي تحملها على كتفك؟ فقال: إنها للسيد الرضي، ولقد ذهبت إليه الليلة فقيدته بها كرات كرات ولكنه قطعها في المرات الثلاث.

ثم سأله عن حبالٍ ملوّنة كان يحملها؟ فقال الشيطان: إن لكل فرد طريقة أتقدم بها إليه، وهذه الألوان هي الطرق والمناهج التي يمكن أن ينحرف بها البشر عن الصراط المستقيم، فأحدها الغيبة، والثاني هو التهمة، والثالثة: الشايعة، والرابع هو الوسواس الذي أقيد به الذي يريد التطهر، أو الوضوء، أو العبادة والخامس..

(فبما أغويتني لأقعدَنَّ لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينَّهُم من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن ايمانهم، وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين) (الأعراف/16 و 17).

قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام:

(احذروا عدوّاً نفذَ في الصدور خفياً، ونفث في الآذان نجياًّ)[2].

وقال سلام الله عليه أيضاً:

(الفتن ثلاث: حبّ النساء وهو سيف الشيطان، وشرب الخمر وهو فخ الشيطان، وحبّ الدينار والدرهم وهو سهم الشيطان)[3].

إن الشيطان قد يوسوس للمرأة المتساهلة والمتهاونة في أمور دينها، فيشجعها على التبرّج، والسفور، ليصل بها في نهاية الأمر إلى التنكر للعفّة والشرف، ويأتي الرجل فيوسوس له لكي يقيّد الاثنين بحبائله فيجرّهما إلى جهنم وبئس المصير:

(لأتخذَنَّ من عبادك نصيباً مفروضاً، ولأضلَّنَّهم ولامنيَّهُم ولآمرنهم فليُبَتكُنَّ آذان الأنعام، ولآمرنهم فليغيِّرُنَّ خلقَ الله) (النساء/118، 119).

وقال العزيز الحكيم أيضاً بصدد تولّي الإنسان للشيطان:

(ومن يتخذ الشيطانَ وليًّ من دون الله فقد خسر خسراناً مبينا) (النساء/119).

ويقول أيضاً تباركت أسماؤه في مكان آخر بعد أن قال الشيطان سأغوينَّهم جميعاً:

(واستفزز من استطعت منهم بصوتك، وإجلِبْ عليهم بخيلِكَ ورجلك، وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدُهُم الشيطان إلاَّ غروراً) (الإسراء/64).

قد يكون المغرر به جاهلاً، وضعيفاً فكرياً فيسط الشيطان الرجيم له أحد رجاله الجهلاء ليجرّه إلى جهنم بخيط وليس بحبل، وقد يكون المغرر به عاملاً فيقيّض له شيطاناً عالماً يأتيه بالاستدلالات لكي يحلل لنفسه استطعام الحرام.

وقد يسول الشيطان لأحدهم الغش، أو التطفيف في الميزان، أو الرشوة إذا كان ذا مقامٍ إداري، وقد يأتي لأحدهم عن طريق العلم، والرغبة في التسلط، وحبّ المال والجاه وما إلى ذلك.

وخلاصة القول: إن لكل إنسان طريقاً يأتيه الشيطان منه وهذا ما ذكره المرحوم الشيخ غلام رضا يزدي حينما قال على منبره عبارة جميلة بهذا الصدد.

قال: إن لكل شخص شيطاناً، وشيطاني حتماً سيكون احد شيوخ الشياطين، لكي يتمكن من الاستدلال بإغوائه لإقناعي وجرّي إلى الهلكة: (اجلب عليهم بخيلك ورجلك).

ومن أجل أن يدفع البشر شياطينهم، عليهم أن يلتزموا دائماً بقراءة سورة الفلق، واسعوا لأن تعلّموا أبناءَكم قراءة السور الأربعة التي تبدأ بكلمة (قل) وحثّوهم على قراءتها حينما يخرجون من الدار صباحاً كي يتمكنوا من حفظ أنفسهم وأرواحهم من همزات الشياطين المردة:

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(قل أعوذ بربّ الفلق) أي التجئ على الذي أزاح الظلام عن الصبح، أو ربّ كل ما ينفلق عنه، كالمطر والنبات والعيون والأولاد (من شرّ ما خلق) من شرّ ذي نفسٍ وغيره جسماً كان أو عرضاً (ومن شرّ غاسق إذا وقب) أي من شر الليل الحالك أو الشديد الظلمة إذا دخل ظلامه، وتخصيصه بهجوم البلاء فيه غالباً. (ومن شرّ النفاثات في العقد) النساء أو النفوس السواحر اللواتي ينفثن ـ ينفخن ـ بريق أو بدونه في العقد التي تصنع من الخيوط المرقاة، وعُرفت دون غاسق وحاسد لأن كلّ نفاثة شرية بخلافهما. (ومن شر حاسد إذا حسد) أي الذي يُظهر حسده، وفعل ما يحمله عليه، وتخصيص الثلاثة بعدما يعمها، وهو (ما خلق) لشدة شرّها.

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(قل أعوذ بربّ الناس .ملك الناس. إله الناس).

خصّوا بالذكر تشريفاً لهم، وملك الناس، إله الناس عطف بيان إذ ليس كل رب ملكاً، وليس كل ملك رباً أو إلهاً، وهذه الثلاثة تؤذن بكمال قدرته على الإعادة وتكرير الناس لزيادة التشريف والبيان (ومن شر الوسواس) اسم بمعنى الوسوسة، أريد به الشيطان سُمِّيَ بفعله مبالغة (الخناس) لأنه يخنس أي يتأخر إذا ذكر العبد ربه. (الذي يوسوس في صدور الناس) يوسوس عندما يجدهم غافلين عن ذكر رب السماوات والأرضين (من الجنة والناس) بيان للوسواس، أي الشيطان أو للذي يوسوس من الإنس، لأن الوسواس قد يكون جنياًّ وقد يكون إنسياً، اللهم اكفنا شر الجنّ والإنس، واغفر لنا، ما تعمدنا، وأخطأنا، ونسينا، وسهونا، واعف عنا، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

قال إبليس:

(خمسة ليس لي فيهن حيلة وسائل الناس في قبضتي: من اعتصم بالله عن نية صادقة، واتكل عليه في جميع أموره، ومن كثر تسبيحه في ليلة نهاره، ومن رضي لأخيه المؤمن ما يرضاه لنفسه، ومن لم يجرع على المصيبة حتى تصيبه، ومن رضيَ بما قسَّ الله له، ولم يهتم لرزقه)[4].

قال الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام بعد أن قال له جميل بن درّاج: إنه يقع في قلبه أمرٌ عظيم فقال (ع): (قل لا إله إلا الله، فقال جميل: كلّما وقع في قلبي شيء قلت لا إله إلا الله فيذهب عنِّي)[5].

وجاء في تفسير الميزان: (إن المراد من اتّباع خطوات الشيطان ليس اتّباعه في جميع ما يدعو إليه من الباطل بل اتّباعه فيما يدعو الله من أمر الدين بأن يزيّن شيئاً من طرق الباطل بزينة الحقّ ويسمي ما ليس من الدين باسم الدين فيأخذ الإنسان به من غير علم)[6].

إن التعامل مع الأفراد الذين يشعرون بإلقاءات الشياطين في نفوسهم ينبغي أن يكون دقيقاً، وحذراً، كالتعامل مع أيّ مريض، كون المبتلي بالوسواس لا يعدو أن يكون مريضاً وغلاّ ما صدرت عنه تلك الأفكار والأفعال التي لا ترتبط بالواقع المعاش.

فالغضب، والانتقاد، والشدّة في الحديث يزيد في مرض افرد الوسواسي، وعندها يضحى مجنوناً، لذا ينبغي أن نجامله ونسايره مدة من الزمن كيّ تخف وطأة المرض عليه فيتعافى بإذن من الله تباركت أسماؤه.

اللهم إنا نسألك وندعوك بحق بنت رسول الله (ص) الزهراء البتول سلامك عليها أن تجعل الشفاء من نصيب مرضى المسلمين وخصوصاً أولئك المبتلين بالوساوس والخيالات إنك أرحم الراحمين وصليّ اللهم على محمّد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.



[1]  أصول الكافي/ ج4، ص156.

[2]  غرر الحكم.

[3]  بحار الأنوار/ ج73، ص140.

[4]  بحار الأنوار/ ج69، ص378.

[5]  أصول الكافي/ ج4، ص155.

[6]  الميزان/ ج2، ص101.