.

:الموضوع

انسجام الدين مع الفطرة

 فطرة التعلق بالله

العبادة مسألة فطريّة

أهمية العبادة والدعاء

عبادة الزهراء فاطمة سلام الله عليها

 

الأخلاق البيتية

الأستاذ مظاهري

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه، وأشرف بريّته أبي القاسم محمد صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين سيّما بقيّة الله في الأرضين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

إن البحث الذي سأتطرق إليه في هذا الشهر المبارك بإذن الله تعالى، وبلطفٍ من بقيّة الله (عج) أسميته " الأخلاق البيتية ".

وأطلب من الزهراء البتول عليها السلام في هذا الأمر أن تتلطّف ليقع هذا البحث في المكان الذي يكون مورد عناية الجميع،ويكون مفيداً ونافعاً لنا جميعاً، ولو تأتّى لنا البلوغ بهذا البحث إلى أسمى مراتبه لسوف تكون الفائدة عامة، وعندها سيجد الجميع فيه دواءً ناجعاً لهم مما يعانون من مشاكل أخلاقية واجتماعية ونفسية.

البحث يمكن أن يعد من الناحية الأخلاقيّة قيّماً، ومن الناحية النفسية والاجتماعية مفيداً، وهو في كلّ أحواله نحتاج إليه كما يحتاج إليه جميع من يعيش على سطح هذه الكرة الأرضية.

هذا البحث يحتوي على مقدّمة وفصول متعددة، وفي المقدمة نتعرض إلى ستة مواضيع مقتضبة تدور حول انسجام الفطرة مع الدين، معنى الفطرة، تعلّق الإنسان بخالقه، العبادة مسألة فطرية، أهمية العبادة والدعاء، وعبادة السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها؛ وبعد المقدمة سنشرع في فصول البحث إن شاء الله تعالى.

مقدمة

انسجام الدين مع الفطرة

نستفيد مما جاء في القرآن الكريم بأن الدين الإسلامي هو دين الفطرة، أي أنه يتلائم وينسجم مائة بالمائة مع خلقة الإنسان ومصيره، وعمق روحه.

قال الباري تعالى في محكم كتابه المجيد:

(فَأقِمْ وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيِّم) (الروم/30).

لقد جعل الله تبارك وتعالى الدين الإسلامي ديناً وسطاً، أي لا يوجد فيه إفراط ولا تفريط، وعليه يكون مطابقاً مائة بالمائة للفطرة الإلهية، ولهذا السبب كان هذا الدين قيّماً أو بالأحرى أبدياً قائماً على مرور الدهور والأزمان.

وهذه الآية الشريفة كأنما تريد أن تقول: لأن هذا الدين دينٌ وسطٌ، ولكونه يتلائم والفطرة، إذن هو باقٍ، وعليه يكون رسول الإسلام خاتم الأنبياء.

معنى الفطرة

الفطرة: هي الخلقة التي يكون عليها كلّ موجود أوَّلَ خلقه، أو الطبيعةُ السليمة التي لم تُشَبْ بعيب، والفطرة السليمة في اصطلاح الفلاسفة: استعدادٌ لإصابة الحكم والتمييز بين الحق والباطل.

معلوماتنا تنقسم إلى قسمين: الأول فكري نكتسبه من التعليم نظير ما يقوله المعلم أثناء الدرس ويكتسبه التلميذ منه، أو مثلما أقوله لكم في هذا الاجتماع المقدس وأنتم تكسبون بعض المعلومات مما أقول.

هذا هو قسم من المعلومات التي يمتلكها الإنسان، وهي التي ترتبط بالعقل البشري؛ أما القسم الآخر من المعلومات التي لا ترتبط بالعقل هي تلك التي حصل عليها مع قيام وجوده في هذه الدنيا، وترتبط بالغرائز والميول، نظير أن يكون جائعاً فيأكل حتى يشبع، وعطشاناً فيشرب الماء حتى يرتوي؛ أي المبادئ والأفكار الموجودة في النفس قبل التجربة.

إن إدراك الجوع والعطش نوع من المعلومات لا يمكن احتسابها ضمن دائرة التعليم والتعلّم، بل نوع من المعلومات التي يبحث عنها الإنسان فيجدها.

أي أن الإنسان ومن خلال هذه الغرائز التي زرعها رب العالمين فيه يتأتّى له إدراك الجوع وإدراك الشبع، وبعبارة أخرى يجد الإنسان الجوع والعطش ثم يجد الشبع والارتواء بعد الأكل والشرب، وهذه الغرائز تقسم إلى قسمين.

القسم الأول: غرائز يشترك فيها مع الحيوانات، وقد تكون بعض الغرائز أقوى في الحيوان مما عليه في الإنسان من مثل الأكل والشرب.

القسم الثاني: غرائز تبرز بعد أن تُنبّه لتدخل الإرادة في توجيهها وجهةً خاصة، وهي ما تسمّى بغرائز الفطرة.

فالفطرة هي نوع من أنواع الغرائز تبرز وفق الأفكار الموجودة في العقل البشري، ووفق حدّة التنبيه، على العكس من تلك التي تبرز من حيث لا يشعر الإنسان بها، وبدون إلفات أو تنبيه، بل تبرز من غير إرادة.

 فطرة التعلق بالله

من جملة ما جُبِلَ عليه الإنسان من فِطرات، وهنَّ كثار، فطرة التعلّق بالله، وفطرة البحث عن الله تبارك وتعالى، فالإنسان بطبيعته باحثٌ عن الله في ذاته، ومتعلّق بالله تبارك وتعالى من حيث لا يشعر، ولو تأتّى هتك الستر والحجاب، بالإضافة إلى انعدام الصفات الرذيلة في الإنسان، لوجدنا إنساناً يبحث عن الله تعالى مثلما يبحث الظمآن عن الماء، وهذه المسألة ليست بمسألة تعليم ولا تعلم، بل مسألة وجدانية تكمن في أعماق النفس البشرية منذ أن خُلق البشر.

لا يوجد من لم يصل به الأمر إلى حالة من الضيق، حيث يصل الإنسان في بعض أوقاته إلى أن يقطع يده عن الجميع ليمدّ يده إلى الله تعالى فقط، بعد أن يعتقد أن لا ملجأ من تلك الحالة إلاّ إلى الله جلّت حكمته، وعندها يضحى الإنسان باحثاً عن المنجي الوحيد مثلما يبحث الظامئ عمّا يبلُّ به شفتيه من ماء، وهذه الحالة بيَّنها القرآن المجيد في الآية المباركة التي تقول:

(فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدّين، فلمّا نجّاهم إلى البرِّ إذا هم يشركون) (العنكبوت/65).

إن هذه الآية الشريفة تبيّن لنا الحالة العصيبة التي يصل فيها الإنسان إلى التوحيد، حين يراه الله تعالى يدعوا باخلاص بأن ينجّيه مما هو فيه، وعندها يدرك أن الله سميع، بصير، رؤوف، كريم وقدير، وأنّه القدرة المطلقة، والعلم المطلق، والرأفة المطلقة.

فالبشر إجمالاً يسمع مناديا ربّه في البلايا والمصائب من حيث لا يشعر، فتراه يقول: إلهي إنك قادرٌ على أن تنجيني مما أنا فيه، إلهي إنك تعلم حالي، فالطف بي كما فعلت ذلك من قبل، إلهي أنت الرؤوف، أنت الجواد، أنت... أنت.

على أيّة حال، إن البلايا والمصائب تستجمع جميع الكمالات في الشخص المبتلى، وحينها يمجد الله تعالى. ويسمى حينئذ موحداً، وعلى حدّ قول الله تعالى: (مُخلصاً) في دعائه.

إن "124" ألف نبيّ ورسول وما أُنزل إليهم من كتب، كان كل ذلك من أجل إحياء هذه الفطرة، الفطرة التي تبرز جليّة عند البلايا والرزايا والمصائب، ليصل الإنسان من خلالها إلى المقام أو المكان الذي يُبقيه دائماً يبحث عن الله، ويبقيه دائماً متعلقاً بالله تبارك وتعالى.

وبعبارة أخرى، إن جميع الأنبياء والرسل، وكلّ هذه المساجد، وما فيها من المنابر، وكلّ هذه العبادات هي من أجل تذكير الإنسان بربّه الذي خلقه فسوّاه في أحسن تقويم، وهذا ما أشارت إليه الآية الشريفة التي جاء فيها:

(إنَّني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني، وأقم الصلاة لذكري) (طه/14).

فهذه الآية المباركة تعني: إذا أضحى المحراب والمنبر مذكّرا للإنسان بربّه دائماً، وأضحت الأنبياء والرسل وكتبهم باعثاً على عدم نسيان رب الأرباب، تعلّق الإنسان بربّه تعلّق العاشق بمعشوقه، وأصبح يراه بعين قلبه، عندها لا تراه يرفع يديه بالدعاء والطلب والحاجة إلاّ إليه سبحانه، وبهذا يصل إلى المقام الذي وعده الله به:

(رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) (النور/37).

فبلوغ المقام السامي والرفيع لا يبقي على أستارٍ ولا على حجب، فلا التجارة تمنعه عن ذكر الله ولا بيع ولا أي شيءٍ آخر، كونه أصبح يرى الله ويُدرك وجوده، ومن لم يَر الله بعين قلبه، عُدّ كالجائع الذي لا يدرك جوعه وهذا محال، إذن هناك شيء غير طبيعي ألا وهو وجود حجاب أو ستر يحول دون حكومة الله على قلب الفرد، وهذا الحجاب هو اللهو، والتجارة، وحبّ الدنيا، وما إلى ذلك، ولكن لو أزيح هذا الحجاب من على ذلك القلب لرأى الإنسان ربّه، ولعاد إلى فطرته التي فطر عليها، بل ولأضحى باحثاً عن الله تعالى في كلّ ما يرى أو يسمع.

إن هذه المسائل لا تدلل على أنها مرتبطة بالتعليم أو التعلّم، وليس لها علاقة بالنظم، ولا ببراهين الصديقين، والحدوث والإمكان، بل إنها مرتبطة فقط بالوجدان.

من المعلوم لدينا ولديكم بأن الإنسان حينما يجدُ ضالّته، أو يجدُ ربّه الذي يبحث عنه في كلّ آثاره، يكون كالإنسان الظامئ المدرك لحالة الظمأ، والخارج عليها بحالة الارتواء بعد للماء؛ لذا يتصاغر الإنسان مقابل ربّه بعد أن يجده أقرب إليه من حبل الوريد.

العبادة مسألة فطريّة

إن من جملة ما جبل عليه الإنسان من فطرة هي مسألة العبادة، فصوم شهر رمضان على سبيل المثال ينسجم والفطرة البشرية. لذا ترى قلب الفرد المحبّ لله يحاول التشبه به سبحانه. وإن أسمى مراتب التشبّه بالله هو الصوم، فالذين نراهم يتلذذون بصيام شهر رمضان المبارك ويبكون في أواخر أيامه ـ كما كان يفعل الإمام علي بن الحسين (ع) ـ يجدون انسجاماً بين الصيام وفطرتهم، لذا هم يفرحون حينما يأتي شهر الصيام، وينقبضون نفسياً حينما يريد أن يفارقهم إلى العام القادم.

وكذا الأمر بالنسبة للصلاة، فالمصلّي الذي يروم القرب من الحبيب، وقد تمكن من إزاحة الحجب والأستار بينه وبين الباري تعالى يتلذذ حينما يقوم للصلاة بشكل ليس بعجيب على من أدرك معنى الصلاة، وعلى حدّ قول الإمام الصادق جعفر بن محمد (ع): " الركعتان في جوف الليل أحب إلي من خير الدنيا وما فيها "[1].

فالذي لا يبدل خير الدنيا بركعتي صلاة، لا شك من إدراكه لوجود الله تبارك وتعالى، ولا شك في أن فطرته هي التي أمرته بالتصاغر أما الله تعالى في جوف الليل والناس نيام.

ولذا فهو يتلذذ في الصلاة والعبادة، ويستسهل الإنفاق في سبيل الله، ولا يستصعبه، ومن يفعل ذلك فهو لا يمكن أن يعتبر إلاّ جامع لجميع صفات الكمال،ولهذا نجده يضحّي بماله وزوجه وولده ونفسه في سبيل الله، ومن أجل الله، مثله كمثل الفراشة التي تحترق أمام الشمعة المشتعلة، وكم هو جميل تعبير القرآن المجيد حين قال:

(تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، ومما رزقناهم ينفقون، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون) (السجدة/16، 17).

من هم هؤلاء الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ إنهم الذين تعرّفوا على الله تعالى، إنهم من حكمت صفات الجمال والجلال الإلهية على قلوبهم، وهم من أزيحت الحجب والأستار عن أعينهم، ليجدوا الله أمامهم، وهذه المسألة لا تتعلق بالمرة بالعلم والتعلّم.

فهؤلاء الأفراد الذين تركوا مضاجعهم، وقاموا إلى الصلاة، صلاة الليل، ينفقون ممّا رزقناهم في سبيل هذا الذي قاموا للصلاة من أجله، إنهم يتلذذون بهذا القيام، وذاك الإنفاق بشكل لا يدركه إلاّ من عمل به لتضحى الصلاة والصيام والإنفاق وما إلى ذلك أموراً عادية، كونها تنبع من كوامن الوجدان، من كوامن الفطرة، ولا يقف الأمر عند مسألة الصلاة والصيام والإنفاق والخمس والزكاة، بل يتعدّاه إلى أبعد من ذلك، إلى الجود بالنفس والمال إذا رأوا أن الأمر يستلزم ذلك، ناهيك عن قيامهم بإعطاء الزكاة أو الخمس أو متابعة أمور الفقراء والمعدمين.

مثلهم في ذلك كمثل الظمآن الذي يسعى وراء الماء أينما كان؛ فالجائع على سبيل المثال يسعى للفوز بلقمة خبز من خلال متابعته لذلك، والمتعلق بالله تعالى بعدما وجده وعرفه يسعى لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والخمس وما إلى ذلك، لأنه يجد في ذلك لذّته، ويجد كذلك أعلى مراتب لذّاته في الطواف حول بيت الله تبارك وتعالى؛ نظير ذلك العاشق الذي يطوف حول سور وبوابة مدينة معشوقه، فتراه حيناً يقبّل السور، وأخرى يرى مقبلاً للبوابة، وهذا ما نراه في حالة الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والسعي وراء كلّ ما يؤمِّن كلّ تلك اللذّة المقدسة.

فالعاشق وجد معشوقه، وجده في قلبه الذي طالما بحث عنه، وعندها تمكن المعشوق من إقامة حكومته على ذلك القلب وصاحبه، فالحاكم هو الله تعالى،والمحكوم هو القلب الذي ينبض بالحياة، وما يمكن أن يصدر عن صاحب ذلك القلب من عبادة أضحى فطرياً، ووجدانياً، كون ذلك الفرد رأى الله بعين قلبه، مثل ذلك الذي يرى الجوع والعطش بحسّه وشعوره.

أيها الأحبّة الجالسون، على علمي أنكم ترون الجوع، وترون العطش، ولكن ليس بهذه العين التي قد تخطأ في بعض أحيانها، بل بعين القلب، بعين الغريزة التي لا يمكن أن تعرف الخطأ يوماً ما.

إن بعض البشر يرون بعين الفطرة ذاتاً تجمع كلّ الكمالات، ولذا هم يعشقون تلك الذات؛ ما نوع ذلك العشق؟ عشقٌ لا يرى فيه العاشق من معشوقه غير الجميل، ولا يشعر منه بغير العشق أبداً، وهذا ما رأينا من زينب بنت علي (ع) حينما أجابت ذلك الأحمق المسمّى "عبيد الله بن زياد" بعد أن قال لها: أرأيت صنع الله فيكم؟ ـ هذا بعد مقتل الإمام الحسين: (ع) في صحراء كربلاء  فأجابت: " ما رأيت إلاَّ جميلاً.. ثكلتك أمك يا بن مرجانة "[2].

إلا تفهم؟ ألا ترى؟ إن الذي قدّمنا في سبيل الله تعالى هو الصواب، وما عداه خطأٌ فاضح،ولكنك لن تدرك ذلك أبداً لكثرة الرين والحجب الجاثمة على قلبك، أما نحن فقد وجدنا ربّنا بعد أن تمكّنا من إزاحة الأستار والحجب فأصبح كل شيءٍ بالنسبة لنا أمراً طبيعياً، أمراً فطرياً؛ فالجهاد، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، الحبّ في الله، البغض في الله، وكل شيء لا نراه إلاَّ أمراً فطرياً.

فمن وجد ربّه ينبغي له أن يصلّي، ومن أراد أن يتعرّف على إنسانيته يجب عليه أن يصوم ويتشبه بالحيّ الذي لا يموت، كي يتمكن من السير في طريق الكمال، لأن الذي لا يحاول التشبّه بالله تعالى لا يتأتى له رؤية أول طريق الكمال أبداً.

وخلاصة القول: إن جميع عبادات الإسلام لا تتعدى أن تكون أمراً فطرياً، أمراً يبحث عنه في أعماق الضمائر، فإذا ما أردنا أن نجد هذا الأمر الفطري، ينبغي أن تزال الأستار والحجب كي نتمكن من العثور عليه، ومن لم يستطع أن يجد ربّه فليعلم بأنه مريض، ومن رأى منكم تثاقله لإقامة الصلاة فليستدل على مرضه من تلك الحالة.

قد يكون الإنسان في بعض أحيانه جائعاً، لكنه لا يشعر بذلك، بسبب المرض، فتمرّ عليه الأيام دون تناولٍ للطعام، ويبقى عليه حيا بواسطة تزريقه بالسوائل في الدم مباشرة، ويبقى لا يجد رغبة في الأكل بالشكل الطبيعي، كونه مريضاً، والمريض لا تعمل غرائزه.

وكذا الامر بالنسبة لغريزة الفطرة، فمن شعر بثقل الإنفاق في سبيل الله تعالى، فليعلم بمرضه، مثله كمثل ذلك الذي لا يطعم الطعام لمدة يومين أو ثلاثة، بالإضافة إلى عدم ميله لأن يطعم شيئاً بعد تلك الأيام الثلاثة، كونه لم يجد الجوع بعد، أما صاحبنا هذا الذي يستثقل الإنفاق ثم يعثر بعد على غريزته التي أثقلتها الأستار والحجب من مثل أستار حبّ الدنيا، أستار الصفات الرذيلة وأستار المعاصي والذنوب والآثام التي جبلته لا يدرك الصلاة والصيام وباقي الأغذية الروحية.

ذبح بعضهم خروفاً في زمن رسول الله (ص) وقسّمه على الفقراء والمساكين، وبعد أن سأله الرسول (ص) عما بقي منه، أجاب: يا رسول الله بقيت رقبته باستثناء، فناء رقبته، لأن الرقبة لم تعط في سبيله تعالى.

إن الإنفاق في سبيل الله، والطواف حول بيت الله، وبذل النفس على جادة الله، وترويج ما جاء في كتاب الله، وما إلى ذلك لا يحتاج في طبيعته إلى استدلال، ومن اراد الاستدلال على ذلك لا يمكن أن يكون له أساس من حديد، بل من خشب ومن كان أساسه من خشب صعب عليه إدراك تلك المعاني.

فالاستدلال لمن هو مثلي حسن، وهو كذلك لمن كان في دائرة الأعداء، والكل يجب أن يكون لديهم استدلال في أصول دينهم، ولكن يبقى ذلك الاستدلال سهل الكسر (خشبي)؛ أي لا تأثير له على إثارة الفطرة والوجدان. فقد نشاهد أفراداً يحللون برهان الصدّيقين بشكل جيد، ويتمكنون من إجلاس الحركة الجوهرية، والمعاد الجسماني لملا صدرا على كرسي البحوث، ولكن هل يكون كل ذلك دليلاً على أن عبادتهم أصبحت فطرية؟ كلا، لأن الذي يريد أن يثبت ذلك وهو مفطور على فطرة الله السليمة لا يحتاج بالمرّة إلى أف باء العلم، وإن الكثير من الذين لا يمتلكون ألف باء العلم أقوى من كثير من الفلاسفة، لاستطاعتهم تمزيق الأستار والحجب من خلال ارتباطهم بالله، واكتسابهم نوراً ترك آثاره في قلوبهم فجعل من الصلاة والصوم، والبذل في سبيل الله، واجتناب المعاصي أمراً طبيعياً بالنسبة لهم، بل أمراً يشعرون من خلاله باللذة العظمى التي لا تماثلها لذة.

إن اجتناب المعاصي فتح الدرب لهم لكي ينهلوا من النور الإلهي، بعد أن أدركوا بأن تلك المعاصي تؤثر على القلب المفطور على حبّ الله، وتحول دون الالتزام بما أمر الله؛ فالقلب العاصي والمتيّم بالآثام يشبه إلى حدًّ ما الحديث الموضوع في النار الحامية، والذي اكتسب لون النار ليضحى ناريًّاً أو كالخشب الملتهب والمتأثر بالنار، والذي يعصب على ناظره التمييز بينه وبين النار.

وأما الشخص الذي ابتعد عن المعاصي والآثام فسوف يبقى على ما فطره الله عليه من طهارة وقلب سليم، فهو لا يحتاج إلى علم كثير كيما يدرك الغاية من وجوده، والغاية من ذهابه، لعدم وجود أستار وحجب تحول دون هذا الفهم، وذلك الإدراك.

أهمية العبادة والدعاء

قال تعالى في محكم كتابه:

(إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) (طه/14).

إنك عبدي، فهل تريد أن تجدني؟ ستجدني ولكن ليس بهذه العين التي في رأسك، لأن هذه العين، عين الحيوان، ولكنك ستجدني بالعين التي لا يمتلكها الحيوان؛ هل تريد أن تسمع سلامي؟ ستسمعه ولكن ليس بهذه الأذن! لأنها إذنٌ حيوانية؛ بل ستسمعه بتلك التي لا تمتلكها الحيوانات. هل تريد أن تفهم ماذا في الأمر؟ وهل تريد أن تجدني؟ وتراني؟ وتسمع كلامي؟ إذن عليك أن تعبدني، وتحكم علاقتك معي، هذا إذا كنت تروم أن تضحى عالماً، أو فيلسوفاً، أو متحدثاً فحلاً فما عليك إلاّ أن تعبدني تقيم الصلاة بالشكل الذي أريد حتى تصل إلى المقام الذي تريد.

إذن إقامة الصلاة بتدبّر، وإقامتها في أوقاتها تعجّل في بلوغ المقام الرفيع، ولذا أرجو أن تهتموا بالصلاة في هذا الشهر المبارك، وبالخصوص صلاة الليل التي تعتبر بمثابة التحدّث إلى الله تبارك وتعالى.

هنيئاً لأولئك الذين يوفقون في هذا الشهر الفضيل للتحدث إلى الجبّار العظيم، هنيئاً لأولئك الذين يتكلّمون مع الحيّ الذي لا يموت، ويتحدث هو أيضاً إليهم.

كيف يتحدث المولى تعالى إلى عباده، أو مع مخلوقاته؟.

يتحدث الباري إلى عباده حينما يناديهم من خلال القرآن المجيد: (يا أيها الذين آمنوا). وعلى حدّ قول الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): " أيها الإنسان حينما تقرأ القرآن وترى عبارة يا أيها الذين آمنوا، أجب وقل: لبَّيك لبَّيك ".

والحق يقال إن بعض الأفراد يسمعون كلام الله تعالى حينما يمرّون بأعينهم على عبارة " يا ايها الذين آمنوا " ولكن ليس بهذه الأذن، بل تلك الأذن الإنسانية، وعندها يجيبون بلسانٍ إنسانيّ بليغ ويقولون: " لبَّيك لبَّيك ".

ماذا يعني الدعاء؟ الدعاء هو الهمس مع الله تعالى، أو الهمهمة معه تباركت أسماؤه، أو يقال إنه التحدث إليه جلّت صفاته، ولا بأس أن يكون الدعاء خالياً من التفكير بخلو أو ملء البطون، أو سيستجاب الدعاء أو لا يستجاب؛ لأن التفكير في مثل هذه الأمور يعدّ مسألة فرعيّة لا ينبغي الالتفات إليها؛ وليعلم الداعي بأن الذي يقول يا الله أو اللهم يراه الله ويسمع كلامه مثلما يراه أي شخص يتحدث إليه ويسمعه، لذا فليكن الذي يدعو ربه على يقين بأنه يراه ويسمعه ويردّ عليه ويقول له نعم، نعم. جاء في القرآن المجيد وبمضامين متعدّدة ما يُشير إلى أن الباري تعالى طلب من البشر أن يدعوه ليستجيب لهم:

(ادعوني استجب لكم) (المؤمن/60).

أي لا تبخل بالطلب وحاول جاهداً أن تدعو الله تعالى وتتذرع إليه كيما يستجيب لك، وطبيعي أن الإنسان إذا دعا ربّه استجاب له، فإن كان الأمر في صالحه تمّ له ما أراد، وإن لم يكن في صالحه، كان من الأفضل أن لا يُعطى ما يريد.

وهناك معنى أدقّ وأعمق يعرفه أهل القلوب الخاشعة وهو: أن يا عبدي: قل يا رب، وسأجيبك بنعم، ولكن ينبغي لك امتلاك إذن تسمع هذه " النعم " " ادعوني استجب لكم " فيا أيها العبد عليك بالتحدث إليّ دائماً، والصلاة هي التحدث مع الله تعالى، وحديث الله مع العبد.

فسورة الحمد، وما يليها من سورة في الصلاة تعني حديث الله تعالى إلى عبده، وما يقي من الصلاة يعني تحدث العبد مع ربّه أو إليه تعالى.

إن أعلى مراتب اللذة هي تلك التي يتحدث فيها العاشق إلى معشوقه، حديث من وجد حبيبه، والتحدث إلى هذا الحبيب الذي ملك قلب ذلك المحبّ، وهذه الحالة هي أسمى درجات اللذة، إنها الصلاة.

عبادة الزهراء فاطمة(سلام الله عليها)

لقد جرّنا الحديث إلى حديث آخر لم أكن أفكر في التعرّض إليه، لكنني أتمنى من الله تعالى أن يكون من الأفضل أن أتطرق إلى ما لم أريد التطرق إليه.

كانت فاطمة ابنة رسول الله (ص) شابّةً، والشباب بشكل عام يحتاجون إلى النوم الذي يؤمِّن لهم القيام بأعمالهم على أفضل وجه، وبشكل عام ما يحتاجون إلى النوم أكثر من احتياج الشيوخ والشيبة إليه.

كانت الزهراء سلام الله عليها متعبةً، ويبدو عليها النصب فهي في النهار تعمل جُلَّ أعمال المنزل، بالإضافة إلى الاهتمام بالأطفال وما يلمهم في مجمل حياتهم اليومية.

وفي أحد الأيام، دخل رسول الله (ص) إلى منزلها ليراها تغطّ في نومٍ عميق بينما كانت إحدى يديها على المطحنة " الرحى " والتي استعملتها طوال اليوم، ناهيك عن وجود أحد أولادها إلى جانبها، فجاء إليها ليوقظها ويقول لها: أيها العزيزة، تذوقي مرّ الدنيا من أجل حلاوة الآخرة.

كانت الزهراء البتول (ع) مُتعبة، فالمنزل يريد منها عمل، وتربية الأولاد يلزمها المتابعة والاهتمام، بالإضافة إلى ما يحتاجه الزوج.

لم يكن معها في البداية من يعينها على كلّ ذلك، وبعد أن تمّ لها ذلك، وجاءت خادمتها "فضّة" إلى الدار جاء إليها الرسول الأكرم (ص) ليقول لها بأن هذه الخادمة هي إنسانة مثلها لذا ينبغي عليها أن تتعامل معها بلطف وأن تقتسم معها العمل يومٌ لها، ويوم لفضَّه.

وبالرغم من ذلك التقسيم كانت سلام الله عليها تئن من التعب، فالأعمال المنزلية ليست بالمسألة الهيّنة، والتزام تربية الأطفال والاعتناء بهم مسألة صعبة، بالإضافة إلى الاهتمام بحقوق الرجل ـ وسنتحدث عن ذلك في بحثنا القادم إنشاء الله ـ وهي الاخرى مسألة ترافقها مشاكلها الخاصة بها.

وبالرغم من كل تلك المشاغل والمسائل التي تنجزها الزهراء (ع) بشكل مرتّب، فهي تقوم في قلب الليل، في الوقت الذي تهجع فيه الأجساد إلى الراحة، للمناجاة، لذكر الله الذي ما بعده ذكر، فلا تعرف معنى للنوم، ولا للتعب، بل تقوم، وتقوم، وتقوم حتى تتورم رجلاها من كثرة القيام والوقوف عند باب الله الذي لا يردّ سائله.

ولقد نقلت بعض الروايات بأن الزهراء سلام الله عليها كانت تقف كثيراً عند عبارة "إياك نعبد وإياك نستعين" مما تسبب في ورم رجليها؛ وهذا ما نقل عن الرسول الكريم (ص) أيضاً.

إنهم كانوا يدعون الله تباركت أسماؤه في هدأة الليل، ويقولون له اللهم تقبّل منّا، وارض عنا، وارحمنا، ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنّا، هذا بعد أن كانوا يدعون للآخرين طويلاً، ثم يدعون لأنفسهم قليلاً.

وفي هذا الصدد نُقل عن الإمام الحسين (ع) أحد سبطي رسول الله (ص) أنه كان يرى والدته فاطمة سلام الله عليها تدعو للجار بشكل خاص، وللمسلمين بشكل عام فقال لها بأنْ تدعو له أيضاً، فتجيبه أن الجار مقدَّمٌ علينا " الجارُ ثم الدار "[3].



[1]  وسائل الشيعة /ج5 ص 276.

[2]  اللهوف ص/90.

[3]  بحار الأنوار/ج10، ص 25.