.

:الموضوع

 المحبّة

التمييز الممقوت

الفصل العاشر 1

الوفاق في البيت

يبحث هذا الفصل في مسألة الوفاق الذي يجب أن يسود بين أفراد الأسرة الواحدة، ولا بُد لنا من القول بأن التوافق الأخلاقي بين أفراد الأسرة الواحدة بشكل كامل (100%) لا يمكن أن يكون.

فالزوجة لا تتوافق مع زوجها 100%، ولا الأم مع عروسها، ولا البنت مع أمها، ولا الغلام مع ابنه، بسبب وجود الاختلاف في الأذواق مما يبعث على بروز اختلاف ـ ولو بسيطاً ـ بين الجميع، أرادوا ذلك أم أبوا.

يقول علماء النفس: إن الاختلاف المشاهد في البيت بين أفراد الأسرة الواحدة أمر طبيعي، وإن عدم الوفاق 100% يرجع سببه ـ على حدّ قول أحد الفلاسفة ـ إلى أن الإنسان هو أحد المخلوقات المستقلة، ولا نعلم مدى صحة هذه العبارة، ولكن الذي نعلمه وندركه هو أن بين أفراد البشر اختلافاً أخلاقياً وذوقياً ملموساً ومحسوساً.

فما الذي نفعله إذن، لبلوغ توافقٍ أخلاقي نسبته عالية؟.

إذا كان التوافق بين الزوجين يصل إلى 70% فالأمر حسن وجيد، وينبغي لهما أن يشكرا الله تعالى على تلك النعمة العظمى، وإذا كان لا يتعدى نسبة 5% يجب أن نقول هذه النسبة جيدةٌ هي الأخرى أيضاً، ولو بلغت نسبة الوفاق بين أم الزوج والزوجة هذه النسبة، فستعمر الأرض بساكنيها، وكذا الأمر بالنسبة للوالد الولد.

إن الشيء الذي نغفل عنه دائماً هو عدم وجود توافق أخلاقي 100%، ولذا ترى الغالبية العظمى من البشر يرومون توافقاً أخلاقياً 100% وهذا لا يمكن أن يصل إليه البشر، لاختلاف أذواقهم ورغباتهم كما ذكرنا سلفاً.

إذن، فما الذي نفعله كي نتمكن من بلوغ أعلى النسب في التوافق الأخلاقي.

يوجد عاملان مهمان وأساسيان يمكن أن يتدخلا لرفع تلك النسبة وهما.

1 ـ المحبة

إذا سادت المحبة والود والوئام بين الزوج وزوجته، وبين الأب وابنه، وبين البنت وأمها، وبين الزوجة وأم زوجها، فسوف نشاهد 30% أو 50% من الاختلافات التي يمكن أن تقوم فيما لو لم تكن تلك المحبة، وبناءً على ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

(حبّك للشيء يُعمي ويُصمّ)[1].

فالمحبّ على ما يبدو لا يرى أخطاء حبيبه، ولا يتأتى له أن يرسلها على لسانه، بل ويبرر أخطاء حبيبه إلى درجةٍ غير معقولة، وأكثر من ذلك دفاعه عن ذلك الحبيب حينما يخبره الناس بما يفعل ويعمل.

وعين السخط تُبدي المساويا

 

عين الرضا عن كي عيبٍ كليدَةٌ

نقل البعض لنا حكاية عن قيس وليلى ـ ولا أعلم إذا كانت حقيقة أم خيالية ولا أدري هل توجد هكذا حقائق في كيان البشر أم لا؟.

يقال إن ليلى كانت طبخت طبيخاً بسبب نذر نذرته، وما إن سمع قيس بأنها فعلت ذلك، وأن الناس كانوا يتسابقون إلى دارها حتى بعث إناءً له من فخار بيد صديق له، ليجلب به شيئاً من ذلك الطبيخ.

ذهب صاحبه إلى منزل ليلى فناولها الإناء وقال لها: إن هذا الإناء هو لقيس ولا بأس عليك لو ملأتيه له، وما إن سمعت باسم قيس حتى رمت بالإناء جانباً لينكسر، فوصل الخبر لقيس فقال:

لما كسرت ليلى الإناء

 

لو كانت تميل لغيري

أي لو كانت ليلى تحبّ فرداً آخراً غيري، لكسرت إناءه مثلما كسرت إنائي، وما كسرها للإناء إلاّ من شدة حبها لي، حيث كانت تريد أن تراني حاملاً إنائي، ولم ترغب في رؤية غيري يحمله لي.

فالسيدة التي تعشق زوجها، لا يتأتى لها أن ترى سيئاته، بل حتى سيئاته تراها حسنات، ولذا نشاهدها تدافع عنه بقوة، وتدافع عن كل ما يمكن أن يكون له مساس بزوجها، من قريب أو من نسيب أو ما شابه ذلك، وهذا ما لاحظته عند بعض السيدات اللواتي يعشقن أزواجهن حيث تراهن يتبسّمن ويلتزمن بالطاعة، ويشكرن الباري تعالى كثيراً على نعمة وجود الزوج بالرغم من شدته وخشونته وتعسفه، ويبررن تلك الشدة والخشونة بأنها حبّ شديد لهنّ من أزاجهن، ويقلن: إن الدليل على حبه المفرط هو عدم بروزه لهذه الشدة مع الأخريات، وما شدته إلا لرغبة فيه للعيش في بيت الزوجية الجميل.

إن إحدى المسائل المهمة التي ينبغي للجميع أن يلتفتوا عليها، وأن يأخذوها بعين الاعتبار هي مسألة التودد والتلطف بالكلام، واستخدام العبارات الرقيقة والجميلة، حيث يمكن أن تفعل تلك العبارات أشياءً لا يمكن أن يتصورها إلاَّ من عمل بها، حيث ترى الزوجة زوجها جميلاً وهو في واقعة قبيح، وتراه أعلم الناس، في الوقت الذي لا يختلف عنهم كثيراً.

ويمكن القول إن الكلام الجميل والعبارات الرقيقة يكون مثلها كمثل الفلفل والمخللات في الطعام حيث تضفي على مجمل الحديث رونقاً خاصاً، وتكسبه طعماً يذوق لذته الطيِّبة من يسمعه، فينعكس أثره في القلب لتنمو زهرة يانعة يفوح عطرها ليشمل حتى المتحدث.

وعلى العكس من ذلك نشاهد كلمة خبيثة أو تجريحاً قد لا يعنيه قائله، يفعل فعله في القلب كالسهم المنطلق من قوس عدو، حينها على المحبة التي لن ترجع إلى ذلك القلب ثانية إلا بصعوبة.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

(ما اصطحب اثنان إلاّ كان أعظمهما أجراً عند الله تعالى وأحبّهما إليه أرفقهما بصاحبه)[2].

لقد أولى الإسلام العظيم أهمية بالغة لمسألة طاعة الزوجة لزوجها، وحسن معاملة الزوج حيث لم يستطع الشارع المقدس أن يجد عملاً أكثر أجراً وثواباً من حسن تبعل المرأة، وحسن خلق الزوج مع زوجته.

قال الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليه السلام:

(ما مِن امرأة تسقي زوجها شربة من ماء إلا كان خيراً لها من عبادة سنة..)[3].

وقال أيضاً عليه السلام:

(أيّما امرأة خدمت زوجها سبعة أيام أغلق الله عنها سبعة أبواب النار، وفتح لها ثمانية أبواب الجنة تدخل من أيّها شاءت)[4].

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(جلوس المرء عند عياله أحبّ إلى الله تعالى من اعتكاف في مسجدي هذا)[5].

وجاء في الخبر أن الرسول الأكرم (ص) كان قد بشّر الرجال والنساء المتزوجين بفتح الله أبواب الجنة لهم، وإلحاقهم بمقام الأنبياء والأوصياء والصالحين إذا التزموا بخدمة بعضهم البعض وفق ما جاء في شرعته سلام الله تعالى عليه:

(ومنْ يُطِعِ الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيِّين والصّديقين والشهداءِ والصالحين، وحسُنَ أولئك رفيقاً) (النساء/69).

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ولا حسنة من عملها حتى تعينه وترضيه، وإن صامت الدهر.. وعلى الرجل مثل ذلك الوزر إذا كان لها مؤذياَ ظالماً)[6].

وقال أيضاً صلوات الله وسلامه عليه:

(من صبر على سوء خلق امرأته واحتسبه، وأعطاه الله بكل مرة يصبر عليها من الثواب ما أعطى أيوب عليه السلام على بلائه، وكان عليها من الوزر في كل يوم وليلة مثل رمح عالج..)[7].

وقال كذلك صلى الله عليه وآله:

(من صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها مثل [ثواب] آسية بنت مزاحم)[8].

 التمييز الممقوت

من جملة الأشياء التي تسلب المحبة من البين العائلي، والذي ينبغي لنا أن نحذره هو التمييز الممقوت بين صهرين أو بنتين أو غلامين.

فترى على سبيل المثال أن إحدى البنات ترث قليلاً بينما ترِث أختها أكثر منها، أو قد يُحرم فتى من ذلك، والسبب في ذلك حب الأبوين لتلك البنت مثلاً.

أو يحرم أحدهم ابنته من الإرث، ـ والعياذ بالله ـ لأنه لا يحبّها، وعندما تسأله عن ذلك يبرر عمله بشتى التبريرات المزخرفة.

إن هذه المسائل وغيرها يمكن ان تحيد بالبنت أو الابن عن جادة الصواب فتبرز الجنايات والخيانات وكل ما يسيء إلى الإنسانية والبشرية، قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

(رحم الله من أعان ولده على برّه قال: قلت: كيف يعينه على بره؟ قال: يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يرهقه، ولا يخرق به، وليس بينه وبين أن يدخل في حد من حدود الكفر إلا أن يدخل في عقوق أو قطيعة رحم)[9].

فالوالدين اللذان يعينان أبناءَهما على العقوق ملعونان، لأن الابن عندما يرى أمه مقصّرة في أعماله مع زوجته، ومعتدية عليها بدون سبب يذكر يضطر إلى إبداء بعض الخشونة معها فيضحى عاقاًّ بحقها، وعندها يخسر خير الدنيا، وخير الآخرة.

وعندما يرى الولد بأن والده يميّز بينه وبين بقيّة إخوانه، يغتم ويهتم، ويصبح معقّداً، فيسيء الظن بالوالد ـ والعياذ بالله ـ عندها يستسهل استغابته، والتحدث عليه وكأنما يتحدث على أخٍ له، وهذا هو العقوق، كون الابن لا يحق له التكلم على أبيه بالمرة، ولو كان ابوه مقصّراً في حقه، وليعلم الشباب بأن احترام الأبوين واجب ولازم حتى لو كانا أميين أو غير مثقفين:

(وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحساناً، أمّا يبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَر أحدهما او كلاهُما، فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولاً كريماً) (الإسراء/23).

قال الصادق جعفر بن محمد عليه السلام:

(بر الوالدين من حسن معرفة العبد بالله، إذ لا عبادة أسرع بلوغاً بصاحبها إلى رضا الله من حرمة الوالدين المسلمين لوجه الله تعالى، لأن حق الوالدين مشتقّ من حق الله تعالى إذا كانا على منهاج الدين والسنّة ولا يكونان يمنعان الولد من طاعة الله إلى معصيته، ومن اليقين إلى الشك، ومن الزهد إلى الدنيا، ولا يدعوانه إلى خلاف ذلك، فإذا كانا كذلك فمعصيتهما طاعة، وطاعتهما معصية، قال الله عز وجل: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) وأما في العشرة فدار بهما، وارفق بهما، واحتمل أذاهما لحق ما احتملا عنك في حال صغرك، ولا تقبض عليهما فيما قد وسّع الله عليك من المأكول والملبوس، ولا تحوِّل بوجهك عنهما، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما، فإنه من التعظيم لأمر الله وقل لهما بأحسن القول وألطفه، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)[10].

أيها الآباء! أيتها الأمهات! لا ينبغي لكم جميعاً التفريق بين أولادكم في المحبة، ولا يجدر بكم أن تميّزوا بين الصغير والكبير، أو الغلام والبنت لأن ذلك يبعث على خلق الخلافات بين الأخ والأخت، وبين البنت وأختها فتكونان مذنبين من جرّاء فعلتكما تلك، وقد ينجرّ ذلك العداء إلى الأجيال القادمة، وهذا ما شاهدته فعلاً في بعض مجتمعاتنا المعاشة.

إن جميع هذه المسائل من قطع رحمٍ، ومن وجود اختلافات ونزاعات تعدّ معاصي وآثاماً، والأكثر معصية منها وإثماً هو من كان السبب في وجودها.

إنه تقصير ذلك الأب الأحمق الذي كان يميّز بين ابنائه ولا يواسي بينهما أبداً، كونه كان يحبّ أحدهما، ويبغض الآخر وهذا كفر بنظر أهل القلوب الحيّة.

أيها السادة! أيتها السيدات! إن ما تعيشون فيه اليوم من مصائب وخلافات ونزاعات بين أبنائكم وأحفادكم، مرجعه إلى التمييز الممقوت الذي زرعتم بذوره أنتم حينما تقبّلون أحدهم، وتركون الآخر بدون مواساة.

أيها الأبوان! عليكما أن تحذوا التودد إلى أحد الأبناء في الوقت الذي يسمع أو يرى أبن آخر لكم حديث الودّ ذاك، واعلموا بأن ذلك الأبن سيضحى مجرماً أو منحرفاً إذا بقيَ تعاملكم ذاك على وضعه، فكم هو جميل ذلك التعامل الذي يتساوى فيه الأبناء جميعاً، وكم هو حسنٌ وعاقل ذلك الأب الذي يحتضن ولديه الواحد تلو الآخر، ولا يقتصر على أحدهما بذلك الفعل.

قال الإمام جعفر بن محمد عليه السلام:

" قال والدي عليه السلام: والله إنِّني لأصانع بعض ولدي وأجلسه على فخذي وأنكز له المخّ، واكسر له السكّر، وأنَّ الحق لغيره من ولدي، ولكن مخافة عليه منه ومن غيره، ألا يصنعوا به ما فعل بيوسف واخوته، وما أنزل الله سورة إلا أمثالاً، لكن لا يجد بعضنا بعضاً كما حسد يوسف اخوته، وبغوا عليه، فجعلها رحمة على من تولاّنا، ودان بحبّنا، وحجّة على أعدائنا، ومن نصب لنا الحرب والعداوة "[11].

أيها الآباء! لا ينبغي لكم أن تميّزوا بين أبنائكم، ولو فعلتم ذلك لخربتم بأيديكم أساس المؤسسة الأسرية، على العكس من ذلك فإن حكم المحبة في البيت يسمو بالبيت ومن فيه إلى عليين، ويرفع معه 30% من مجمل النزاعات أو الخلافات التي يمكن أن تحدث بدون تلك المحبة.



[1]  بحار الأنوار/ ج77، ص165.

[2]  بحار الأنوار/ ج75 ص 55.

[3]  وسائل الشيعة/ ج14، ص116.

[4]  وسائل الشيعة/ ج14، ص116.

[5]  تنبيه الخواطر/ ص 362.

[6]  وسائل الشيعة/ ج14، ص116.

[7]  بحار الأنوار/ ج76، ص367.

[8]  بحار الأنوار/ ج103، ص237.

[9]  وسائل الشيعة/ ج15، ص119.

[10]  بحار الأنوار/ ج74، ص77.

[11]  بحار الأنوار/ ج74، ص78.