.

:الموضوع

 

 الفصل السابع 2

4 ـ الحاجة المعنوية

 4 ـ الحاجة المعنوية

مثلما يحتاج الإنسان إلى رضاء جسمه، فهو يحتاج أيضاً إلى رضاء روحه، إن الفرق بين الإنسان والحيوان يكمن في هذه النقطة الحساسة، كون الحيوان لا يمتلك إلا بُعداً واحداً، وهو البعد الغريزي.

إن للحيوانات حاجات مادية فقط، وإذا ذهبنا أبعد من ذلك، نرى له احتياجات عاطفية، أما الإنسان فهو غير ذلك كونه يمتلك بعدين الأول مادي مقرون بالرغبات، والثاني روحي مقرون بالمعنويات، وهذا البعد الثاني يستقي من نبع الملكوت، حيث شرف الله تعالى الإنسان بهذه الروح التي هي جزء من روحه جلّت صفاته:

(فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (الحجر/29).

لذا ينبغي القول بأن الإنسان يمتاز عن الحيوان ببعديه اللذين يحتاجان إلى غذائين، غذاء جسمي من مثل الأكل، وإطفاء الغريزة الجنسية، وغذاء روحي إذا ما تُرك ولم يُهتم به أصبح الإنسان مثل الحيوان بل قد يكون أسفل مرتبةً:

(ولقد ذرأنا لجنهم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعينٌ لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالنعام، بل هم أضلّ، أولئك هم الغافلون) (الأعراف/179).

فإذا لم يصل الإنسان إلى غذائه الروحي مما يبعث على موتها، فمن الأفضل له أن يبكي على نفسه ليل نهار، لأن الباري تعالت أسماؤه قال في آية أخرى: (إن شرّ الدواب عند الله الصّمّ البُكمّ الذين لا يعقلون) (الأنفال/22).

فالفاقد للروح، كمريض الجسد الذي يشعر بعدم الارتياح وعلى حد قول رسول الله صلى الله وآله:

" نعمتان مكفورتانِ الأمن والعافية "[1].

وحقاً ما قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه إنهما نعمتان عظيمتان فالمريض جسمياً لا يقوى على فعل شيء، ولكن الإنسان في بعض أحيانه يكون سليم الجسد مريض الروح، وإذا ما مرضت الروح أضحى وضعه خطيراً، وخطيراً جداً، لأن ذلك يؤدي إلى الوقوف في مقابل القرآن المجيد، والوقوف في مقابل الرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار، وحينها يتأتى له تأويل الآيات القرآنية وفق ما ينسجم وروحه المريضة:

(فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه من ابتغاء الفتنةِ وابتغاء تأويله)(آل عمران/7).

إن مرض الروح ليس كمرض الجسد كون مريض الروح يبارز ما جاء في كتاب الله تعالى بالرغم من أنه (أي القرآن المجيد) شفاء ورحمة للمؤمنين، ولكنه في الوقت ذاته يزيد الظالمين خساراً:

(وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً) (الإسراء/82).

إن شفائي ورحمتي لا تشمل الظالم، وليس له عندي إلاّ الخسران، وإن البطيخ والبرتقال غذاءٌ جيد، ولكن الذي في معدته فرصة، لا يتأتى له استطعامه.

فالمريض روحياً يمكن أن نشبهه بذلك المريض ذي الفرصة والذي لا يمكن أن يطعم من البرتقال والليمون شيئاً لذا يكون المريض روحياً خَطير الوضع، مثلما يكون الخطر محدقاً بالذي تنزف معدته دماً ويريد استطعام المخللات أو الحمضيات.

إن الذي تموت روحه و تمرض لا يقصر الخطر عليه فقط، بل يتعداه إلى جميع أفراد مجتمعه، ابتداءً من الأقربين مِنْ مثل ابنه وابنته وزوجته و.. و..، لذا ينبغي لنا أن نهتم كثيراً بالمسائل المعنوية في المنزل، فالرجل يراقب حالة زوجته المعنوية، والمرأة تفعل ذلك أيضاً، والاثنان يتابعانها عند أولادهما، كي لا تتناقض الروح مع الجسد.

فنرى البعض ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ لا يولون أهمية تذكر لهذه المعاني، بالرغم من أنهم يهتمون كثيراً بملبس ومأكل أبنائهم، وعندها يضحى الابن كالكلب العقور، أو كالغدة السرطانية التي يستشري داؤها هنا وهناك.

ما هو غذاء الروح؟

إنها الصلاة والصيام وقراءة القرآن المجيد إنها الدعاء والتبتل، والنهوض في قلب الليل لمناجاة رب العالمين.

فالمرأة التي لا تصلي، وإذا ما صلّت نقرت كنقر الغراب لا تأمن أن ينزل على دارها، وعلى زوجها وأبنائها البلاء في الدنيا والآخرة:

(يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) (التحريم/6).

أيها السيد المؤمن! ابتعد عن الصفات الرذيلة، وقساوة القلب كي لا تصبح وقوداً للنار الحامية من خلال التزامك بالصلاة والارتباط بالله العلي العظيم، ومن ثم تعليم ابنائك وزوجتك.

عليكم أن تكونوا من أهل القرآن المجيد، من أهل الدعاء، من أهل الالتزام بالفرائض التي فرضها الباري تعالى على عباده، من القائمين في الليل للمناجاة والتبتل لكي تسمو أرواحكم إلى حيث الترفع عن الموبقات والإساءات والمعاصي.

فالرجل وامرأته إذا لم يبلغا حالة إقامة الصلاة على أوقاتها تتهاوى أرواحهم رويداً رويدا حتى تصل إلى عدم الاهتمام بهذا الغذاء الروحي، وعندها تموت الروح فيضحى الإنسان لا يَفْرُق كثيراً عن الحيوانات التي لا تمتلك إلا الغرائز، من مثل الأكل، والجنس، والعاطفة.

إن حساب الروح يختلف كثيراً عن الحسابات المادية، والعاطفية، والجنسية، ولهذا أرسل الباري جلّت صفاته "124" ألف نبيّ قسمٌ منهم يحمل رسائل سماوية ـ كتاب ـ وقسمٌ آخر يمتلك معجزة الهية إلى حيث الكمال، وهذا ما فعله الأوصياء من آل محمد (ص)، وأوصياء الأنبياء والرسل سلام الله تعالى عليهم أجمعين، وهذا المسألة مهمة جداً في حياة البشر.

وللتدليل على سموّ إنسانية الحسين بن علي عليهما السلام نقرأ في زيارته:

" أشهدُ أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر ".

كان الوقت ظهراً وكان اليوم هو العاشر من شهر محرّم الحرام،وكان الإمام الحسين بن علي ينظر إلى أجساد أصحابه المجدّلين في العراء، وعلى تلك الحال جاءه أحد الصحابة ليقول له: يابن رسول الله كلّم القوم ليمهلونا ساعة حتى نصلي الظهر، فتبسم الإمام سلام الله عليه وقال: اللهم اجعلني مقيم الصلاة.

وقف الإمام الحسين (ع) للصلاة، ووقف خلفه أصحابه وآل بيته، ولكن القوم كانوا يرمونهم بالسهام والنبال التي كانت كالمطر في عزّ الشتاء.

إن المنزل الذي يخلو من الصلاة ـ لا سمح الله ـ مملوءٌ بالميكروب، مملوءٌ بالقسوة والوحشية حتى لو كان جميل المظهر، وحتى لو كان من في ذلك المنزل جميلي المنظر والشكل والملبس، هؤلاء لا يمكن أن يخلفهم خلفٌ صالح، كلا إن خلفهم سيكون مثلهم وحشي الروح مريضاً بالرغم من ظاهره السليم: (فخلفَ مِنْ بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة، واتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيًّا) (مريم/59).

والغيّ هنا في الآية هو الضياع، و" سوف " تعني التحقق الحتمي لذلك الغيّ، ويقال إنه توجد في جهنم بئر تمدّ جهنم بالنار إذا خبت؛ اسمها " الغيّ ".

فالبنت التي تصلّي ولكن آخر الوقت، وعلى عجلةٍ من أمرها، قد تنفلت من صلاتها بعد مدة، وتضيع مع من ضاعوا، وتهلك، إلا إذا شجّعها الأبوان على الالتزام في وقتها، عند ذاك ستشملها رعاية الباري تعالى، وليعلم الجميع بأن الباري جلّت أسماؤه لو رفع عنايته من على رؤوسنا لحظةً واحدة، لكنّا في ضياع عجيب، وضلال ما بعده ضلال.

في رواية نقلها الفخر الرازي في تفسير سورة (العصر) جاء فيها.

إن إحدى النساء ـ على ما يبدو ـ رفع الله عنها رحمته فجاءت إلى رسول الله (ص) فقالت يا رسول الله، ما العمل وقد توغّلت في المعاصي، هل لي من توبة؟.

إنني محصنة، وقد زنيت وحملت، وأنجبت من حرام، وخوفاً من أن يعلم زوجي بذلك، ألقيت بالغلام في خُمرة الخل فمات من ساعته، ثم بِعْتُ ذلك الخل النجس على الناس!!.

فأجابها صلوات الله وسلامه عليه بأنها تركت صلاة العصر في أحد الأيام، وعندها مالت بوجهها عنه، مال بوجهه عنها فحدث لها ما حدث.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

" الصلاة عماد الدين، فمن ترك صلاته متعمداً فقد هدم دينه، ومن ترك أوقاتها يدخل الويل، والويل وادٍ في جهنم كما قال الله تعالى: (ويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) "[2].

" عن مسعدة بن صدقة قال: سئل أبو عبد الله الصادق جعفر بن محمد (ع) ما بال الزاني لا تسمّيه كافراً، وتارك الصلاة تسمّيه كافراً، وما الحجّة في ذلك؟ قال: لأن الزاني وما أشبهه  إنما يفعل ذلك لمكان الشهوة، ولأنها تغلبه، وتارك الصلاة لا يتركها إلا استخفافاً بها "[3].

أيها الفتيان! أيتها الفتيات! إذا أردتم أن تكونوا سعداء في الدنيا والآخرة اهتمّوا بصلاتكم، وكونوا مؤدبين في أدائها أمام الجبار المتكبر كيلا تمرض قلوبكم: " في قلوبهم مرض " أو " زيغ " أو " رين " وكلها تعطي نفس المعنى.

وفي الحقيقة إن القلوب المريضة هي تلك القلوب الصادئة التي ترى الصلاة ثقيلة، ولا تشعر بلذّة حينما تقف أمام الحيّ الذي لا يموت، وليعلم الذي يشعر بلذّة حينما ينظر إلى ما حرّم الله تعالى بأنه مريض روحياً، وينبغي أن يُعالج، وإذا لم يفعل ذلك واسودّ قلبه فلا يفلح بعدها أبداً.

قال الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام:

" إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتةٌ سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً "[4].

وقال عزّ من قائل في محكم كتابه المجيد:

(أفمن شرحَ الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربّه، فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله) (الزمر/22).

قال الإمام الهمام الباقر محمد بن علي عليه السلام:

(ما من عبدٍ إلاَّ في قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتةِ نكتةٌ سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يُغطِّي البياض، فإذا غُطِّي البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عز وجل: (كلاّ بل ران على قلوبهم)..)[5].

هل تعلم أن المنزل الذي لا يسمع فيه غير أصوات الأغاني والموسيقى إلى اين سيصل؟ وهل تعلم أن الاغتياب الذي يمارسه الرجل وامرأته علاوة على التهمة وإشاعة الفساد يجعل فهما ظالمين، ويجعل من منزلهما مقراً للشياطين والمردة من الجن؟.

والأهم من ذلك كله أن المعصية بشكل عام، تطبع على الإنسان صفات رذيلة تبقى ملاصقة له حتى في دخوله القبر، وجهنم الحامية، وأنها تضر بالقلب بسرعة، وتؤثر فيه سلباً بشكل عجيب، بحيث تمنع صاحب القلب ذاك من التزام الأعمال الخيّرة.

قال الإمام جعفر بن محمد عليه السلام:

" إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإن العمل السيء أسرع في صاحبه من السكين في اللحم "[6].

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(اتقوا الذنوب فإنها ممحقة للخيرات، إن العبد ليذنب الذنب فيّنسى به العلم الذي كان قد علمه)[7].

إن الصفات الرذيلة لا يمكن قلع جذورها بسهولة، وإنها لتحتاج إلى فترة زمنية طويلة كيما ينتهي منها المبتلي بها، فإذا ما تمكن منها فوف يستطيع زرع شجرة الفضيلة، والجدير بالذكر بأنه لا يوجد منا من هو خالٍ من صفات رذيلة، وعليه يجب أن نسعى بجدّ وبسرعة لقلع جذور هذه الصفات التي لا تؤدي بنا إلاّ إلى الخسران العظيم ـ لا سمح الله تعالى ـ.

إن الصفات الرذيلة تشبه إلى حدّ ما قبساً من نار جهنم، فإذا سارعنا إلى إطفائها، بلغنا النجاة إلى ساحل الصفات الحميدة، وإن لم ننجح في ذلك تفاقمت تلك النار وأصبح إطفاؤها صعباً مستصعباً، بل قد يضحى مستحيلاً.

ايتها السيدة الجليلة! أيها السيد المسلم! هل تريدان أن تكونا من عباد المال، أو من طلاب الرئاسة، هل تريدان إقامة حرب جملٍ ثانية وأنتما تعرفان عليّ بن أبي طالب عليه السلام، من هو علي؟ إن طلحة والزبير يعرفانه أحسن منا جميعاً، ولكنهما بالرغم من نزول أكثر من 100 آية في حقه وقفا ضده في حرب الجمل، وهما يعرفان جيداً بأن الرسول الأكرم قال فيه الكثير الكثير؛ إنما كانا من طلاّب الجاه والمال والرئاسة مما جرّا على المسلمين المصائب والبلايا.

وإذا أردنا أن نسأل عن الشخص الذي أشعل فتيل واقعة الجمل، فسيأتينا الجواب بأنه: الحسد، حب المال، طلب الرئاسة.

إن ابن ملجم ـ عليه اللعنة حينما ضرب علياً عليه السلام بسيف مسموم لم يكن يظن بأنه يفعل ذلك إلا قربة إلى الله تعالى!! ولو سئل سائل عمن قتل أمير المؤمنين (ع) لجاءه الجواب: إنه العناد المتمثل بشخصية ابن ملجم الملعون، وإلاَّ فإن أمير المؤمنين علياً (ع) لم يكن شخصاً غير معروفٍ، ولم يكن خافياً على ابن ملجم الذي سمع رسول الله  (ص) يقول بحقّه:

(عليّ سيد المؤمنين، عليّ عمود الدين)[8]

(إن علياً وشيعته هم الفائزون يوم القيامة)[9].

(من لم يقل عليّ خير الناس فقد كفر)[10].

أيتها السيدة! لا تكوني من المعاندين، وإلاَّ أصبحت من الخاسرين، وكذا أنت أيها السيد لا تكن معانداً فتخسر دنياك وآخرتك، عليكما بالتنكر للهوى والرغبات، عليكما ن تقبلا النصيحة والوعظ، ولا تنقادا لإلقاءات الشياطين، لأن الشياطين لا تريد خيركما بالمرة، بل تريد أنيساً لها في نار جهنم الحامية.

وفي الختام أود الفات أفكار السيدات والسادة إلى مسألة مهمة وخطيرة الا وهي مراقبة الحاجات المعنوية، فلا يطعمن أحدكم أبناءه ـ والعياذ بالله ـ طعاماً حراماً، لأن ذلك سيؤدي بالأولاد إلى الاستخفاف بالصلاة وانهيار المعاني الروحية لهم، وبذلك موت المحبة مع موت أرواحهم ليضحى المنزل، زنزانة مظلمة، موحشة بلحاظ القضايا النفسية والروحية:

(أو كظلمات في بحرٍ لُجِّيّ يغشاه موجٌ من فوقه موج، من فوقه سحابٌ ظُلماتٌ بعضها فوق بعض) (النور/40).


[1]  بحار الأنوار/ ج81، ص170.

[2]  بحار الأنوار/ ج82، ص202.

[3]  الكافي/ ج2، ص386.

[4]  بحار الأنوار/ ج73، ص327.

[5]  بحار الأنوار/ ج73، 353.

[6]  بحار الأنوار/ ج 73، ص 330.

[7]  بحار الأنوار/ ج73، ص377.

[8]  تفسير نور الثقلين/ ج5، ص605.

[9]  تاريخ دمشق لابن عساكر: ج2، ص408.

[10]  تاريخ دمشق لابن عساكر/ ج2، ص444.