.

:الموضوع

 

الفص الثامن

تطفّل الآباء والأمهات

تطفّل الأبوين

يبحث هذا الفصل في تدخّل أو تطفّل الأبوين في حياة الأبناء، وهو بحث مهم جداً، لذا أطلب من الآباء أن يمعنوا النظر فيه جيداً.

إن الكثير من المشاكل التي يمكن أن تحدث في المؤسسة العائلية ترجع في أساسها إلى تطفّل الأبوين في الحياة الخاصة لأبنائهم، وحتى أن الكثير من الانفصالات وحالات الطلاق يمكن إرجاعها إلى هذا التطفّل أو ذلك التدخل، في الوقت الذي لا ينبغي أن يتمّ ذلك.

إن هذا المرض الاجتماعي " تطفّل الأبوين " لاقى ـ مع الأسف ـ شيوعاً كبيراً بين الكثير من العوائل في مجتمعنا المُعاش، فلم يفرّق بين المتديّن وغيره، وبين المتعلم وغير المتعلّم، حيث نرى الغالبية العظمى ـ علمت أم لم تعلم ـ توجّه ضربة قاصمة لحياة أبنائها المتزوجين من خلال هذا التدخل الممقوت.

إن الحيوانات ترضع صغارها وتهتمّ بها ما دامت تحتاج إلى ذلك، ولكنها تترك لها الشروع بحياة مستقلّة حينما تراها لا تحتاج إلى عناية خاصة، حتى إن بعض الطيور لتهيء الحبوب لصغارها أياماً عديدة أو بضعة شهور، وعندما تشعر بأن تلك الصغار تستطيع الطيران ـ ولو بصورة غير جيّدة ـ تمتنع عن قبولها في أعشاشها.

كلكم شاهدتم العلاقة بين النِعاج وصغارها، وكلكم لاحظتم العلاقة الخاصة التي تبديها الشاة لصغيرها حيث تمتنع عن الابتعاد كثيراً عن صغيرها مخافة بروز حالة من الغربة بينها وبينه، وهذه الحقيقة موجودة في جميع أنواع الحيوانات.

ومن هنا يمكن أن نستفيد بأنه يجب علينا أن نحسن تربية البنت حتى تكبر وتنضج، ولا نحرمها من العطف والحنان المادي والمعنوي وفق ما جاء به الإسلام العظيم، إلى أن تذهب إلى بيت الزوجية لتمارس حياة مستقلة، وعندئذ لا ينبغي للأم أو الأب بعد ذلك أن يتدخّلا في أمورها الخاصة مبررين ذلك بأنهما يحبانها ويخافان عليها من الحيف والغبن.

فإذا ما حدث نزاع بين المرأة وزوجها يجب أن تأخذ أم الزوجة جانب الصهر لا جانب ابنتها، ولو كان صهرها المقصّر، وكذا بالنسبة لوالد الزوجة.

إن أحد أضرار مجانبة البنت أو الوقوف إلى جانبها من قبل أبويها هو منعها من اتخاذ قرار مستقل في كيفية ديمومة حياتها الزوجية، وإن تحريض البنت على مسائل يمكن أن تؤدي بحياتها الزوجية إلى ما لا تحمد عقباه جناية، وخيانة بحق تلك الأسرة، لأن الاحتمال وارد في أن يؤدي ذلك التحريض إلى الانفصال بين الزوجين، وإذا لم يبلغ الأمر ذلك الحد، فمن المؤكد أن المحبة والود والاحترام ستتبخّر من الجو العائلي للمتزوجين، وسيضحى البيت متأزماً ومتشنجاً بشكل عام.

وكذا الأمر بالنسبة للغلام، فإذا ما بلغ سن الزواج وجب على أبويه تزويجه، فإذا ما حدث ذلك فينبغي لهما أن يمتنعا عن التدخل في حياته الخاصة، ولا نقول بعدم إسداء النصح والوعظ طبق ما جاء في شرعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله؛ كلا؛ فهذه المسألة واجبة، ولكن التدخل والتطفل الذي يؤدي إلى برود العلاقات الأسرية مرفوض وممقوت، ويجب علينا جميعاً أن نقف عند هذا الأمر بكل جدية كي لا يحدث ما يبعث ما يبعث على تشرذم المجتمع الصغير أو المؤسسة الأسرية.

فإذا ما رأى الأبوان حدوث نزاع بين الزوجين، يتطلّب تدخلهما لحلّه وفق الأسس الإسلامية، عرضا خدماتهما عليهما بدون الانحياز إلى أحد الطرفين، فإن لم يستطيعا حل ذلك النزاع عُرضت المشكلة على مختار المحلّة أو عالمها المعروف بتقواه.

قد نرى في بعض الأحيان أن إحدى الأمهات تطلب من ابنها المتزوج أن يمتثل لما تقول في حق زوجته، ولو أدّى ذلك إلى طلاق الزوجة، وهذا خطأ فاحش يرفظه الإسلام العظيم، ويحاسب عليه بشدة، وقد نرى أحد الآباء يرغب في أن يكون أبنه عبداً تابعاً له وعليه أن يستشيره حتى في أقل أموره المنزلية، مما يؤدي إلى أن تحتقر الزوجة زوجها الذي لا يفكر إلا من خلال رأس أبيه، وحينما تبرز النزاعات، وتطفو الخلافات على السطح ويبدأ أطراف النزاع بممارسة الغيبة والنميمة والتهمة:

(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عدابُ الحريق) (البروج / 10).

أيتها السيدة! إنّ القرآن يقول لك: إياك إياك أن تفتني ابنتك، وأعني هنا بالفتنة: بلبلة أفكارها، والمساهمة في إيجاد حالة من القلق والاضطراب تؤدي بها إلى تخريب بيتها، وهي ما وصفها القرآن بأنها أشدّ من القتل:

(والفتنةِ أشدّ من القتل) (البقرة/191).

ومن فعل ذلك يكون قد قتل الناس جميعاً:

(من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) (المائدة/32).

فمن ساهم في إيجاد فتنة بين زوجين عُدّت معصيته أشدّ من معصية الذي يقتل نفساً بغير نفس:

(وما يعلّمان من أحدٍ حتى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرءِ وزوجه..) (البقرة/102).

جاء في الخبر أن أحد المسنّين ـ كان قد فرق بين ابن له وزوجته ـ حضر في مجلسٍ كان فيه الإمام الحسين (ع)، فاعترف بما فعل فقال الإمام له: هل تعلم ما سيترتب على ذلك من ذنوب؟ لو إنك فصدت أوردة أعناقهما لكان أقل معصية مما فعلت.

فإنّ تكدير العلاقة بين زوجين مستأنسين ببعضهما أشدّ معصية عند الله مما لو عّذِّبا حتى الموت، وهذا ما تفعله بعض الأمهات أو بعض الآباء وهم لا يشعرون.

فالزوجة عندما تسقط من عين زوجها بسبب النميمة، أو التهمة التي يمكن أن تحيكها أم الزوج تبعث على انحطاط معنويات الأبناء وتعقيدهم إلى آخر أعمارهم، وستكون تلك الأم مبتلاة بتلك المصيبة بالإضافة إلى مصيبة جهنم التي لا بدّ لها من تحمّلها بالإكراه في تلك الحياة الآخرة.

إن التجريح اللساني، أو الانتقاص من زوجة ابنك سيؤدي بك إلى تهيئة عقربٍ يلسعك في قبرك ما دمت فيه، وسيكون رفيقاً لك حتى قيام الساعة، فلِمَ تقحمين نفسك في مثل هذه المآزق التي لا يمكن الخروج منها؟ ولم ترتبين لنفسك أوضاعاً لا تنمّ إلاّ عن حماقة في الرأي؟.

وأنت أيها الأب! لا تحاول إيذاء زوج ابنتك من خلال تجريحك له، أو إكراهه على شراء بعض المستلزمات المنزلية، ولا تسعى للانتقاض منه أمام الآخرين، فإن فعلت ذلك فقد خلقت لابنتك مشاكل ومشاكل عظاماً قد تؤدي بصهرك إلى تطليق ابنتك تلك التي تدّعي بأنك تحبّها وترجو لها السعادة.

أيها الزوج! إن من العار عليكم معاداة أمّ زوجتك بلا سبب بيِّن، فهي كأمك، فعاملها على مستوى ما لديها من عقل، وإن كنت فطناً ذكياً كسبتها إلى جانبك في جميع الأمور وبذلك تفوز برضاها ورضا الله جلّت أسماؤه.

ليس من العار أن تكون إحدى الزوجات كالابنة بالنسبة لأم زوجها تُبدي لها المحبة والود، وتترفق لها في الحديث، لأن تلك الأم تعبت وسهرت الليالي من أجل إيصال ابنها إلى هذا الحد من العمر، ومن العار أن تحاول الزوجة تجريح أم زوجها، وإلقاء بعض العبارات النابية لأن ذلك سيؤدي بها قبل تلك الأم إلى ما لا تحمد عقباه في الدنيا والآخرة.

جاء في بعض الأمثال بأن جملاً ـ وحينما كان الجو بارداً ـ طلب من بعض الدجاج أن يدخل رأسه في بيتهن احتماءً من البرد، وبعد ن وافقت على ذلك، أدخل كلّ جسمه ليخرب بيت الدجاج، وبذلك لم يهنأ هو بالدفء ولا الدجاج.

وإن البعض من العرائس على مثل ذلك الجمل، فبعدا تدخل الدار وتطمئن إلى زوجها، تريد التسلّط على كل شيء في تلك الدار، فهي لا تريد أمّه ولا أباه وهذا ما يتناقض مع الإنسانية، بالإضافة إلى أن فيه معصية لله تبارك وتعالى.

وبناء على ذلك، لا بد لي من أن أوصي الأزواج والزوجات والأمهات بضرورة إفشاء المحبّة والألفة بين الأسرة الواحدة، لأن مكان تلك الأسرة هو محل رحمة الله العزيز المتعال، وأن الجميع سيجلسون سوية في جنات الله فيطري بعضهم على البعض الآخر في جوًّ تسوده رحمة الباري ولطفه.

أما أولئك الذين يتحين الواحد منهم الفرص بصاحبه، فليس لهم من الآخرة إلا أن يلعن بعضهم البعض، ويلقى الواحد منهم باللائمة على البقية لذا قال المولى تعالى فيهم:

(كُلَّما دخلت أمةٌ لعنت أختُها) (الأعراف/38).

وعليه لم ترغبون في دخول جهنم؟ وإذا قلتم بأنكم لا ترغبون بذلك، فما هو الوازع الذي يحدوكم لفعل تلك الأفعال المشينة التي لا تؤدي بكم إلاَّ لجهنم؟.

إذا كنتم ترغبون في سعادة الدارين فما عليكم إلا أن تكونوا أحراراً في دنياكم مستقلين، وكذا ينبغي أن يكون ابناؤكم، فالزوجة الوفية لا تتمكن أمها من تدمير حياتها الزوجية، والرجل الوفي لا يستطيع أبواه من إيجاد الفرقة بينه وبين زوجته؛ وإن العقلاء لا يتأثرون بما يقول هذا وذاك، بل يعملون وفق ما جاء في كتاب الله وسنّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، وإلاَّ فإنهم الخاسرون ولا أحد سواهم.

لو تحرّينا مجمل النزاعات التي تحدث بين الأزواج لشاهدنا آثار أصابع الآباء والأمهات واضحة على صفحات تلك النزاعات، فهذا ينحاز إلى ابنته، وتلك تنحاز إلى ولدها في مشكلة لا تحتاج إلى نزاع ولا إلى خصومة، وبدل أن يحل الآباء والأمهات مشكلات ابنائهم ترى البعض منهم يزيدون النار حطباً، وهذا عين الخطأ.

إن أحد الأعمال القبيحة الشائعة هذه الأيام هو ترك الزوجة لدارها في حالة حدوث سوء تفاهم بينها وبين زوجها.

ممن غضبت أيتها السيدة المحترمة؟ من زوجك؟ إن الزوجة لا تغضب من زوجها، ولا تترك منزلها لأتفه المسائل، وإذا كنت تريدين الذهاب إلى منزل أمّك، فهذا عارٌ عليكِ، وإذا كانت أمك إنسانة متدينة وملتزمة فما عليها إلا أن ترفضك، أو تنصحك بالرجوع إلى بيتك الذي هو بيت زوجك، ولو فعلت غير ذلك لكانت بفعلتها تلك قد قلعت جذور المحبة من تلك الدار.

يرجع الرجل في بعض الأوقات متعباً بعد جهد جهيد إلى منزله الذي عدّه القرآن المجيد مكاناً للراحة والهدوء، ولكنه بدل أن يحظى بقسطٍ من الراحة تشرع زوجته قبل تهيئة طعامه باغتياب أُمه الي مرّت عليها في الصباح لعمل ما، وإذا ما رأى أمه لوحدها في المنزل، تبدأ هي الأخرى باغتياب زوجته، وإنها غير ملائمة له، ولا تناسبه بالمرة، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينمّ عن انحطاط وتسافل في المستوى الفكري والثقافي.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية بذات محرم في بيت الله الحرام)[1].

ولا يظن أحدكم أن جزاء الزنا شيء يسير، إذا ذهب صاحبه من الدنيا بدون توبة: لقد قال رسول الله فيه:

" من فجر بامرأة ولها بعل، انفجر من فرجها من صديد واد مسيرة خمسمائة عام يتأذى أهل النار من نتن ريحهما، وكانا أشد الناس عذاباً "[2].

أما بالنسبة للغية والتهمة، وإسقاط فرد مؤمن من أعين الناس فهو أكبر معصية من الربا الذي يعد درهماً منه بسبعين زنية بذات محرم، فتصوّر جزاء الغيبة والتهمة.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(الغيبة أسرعُ في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه)[3].

وعن جابر الأنصاري أنه قال: كنا عند النبيّ صلى الله عليه وآله، فهبّت ريح منتنة فقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله:

" أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين "[4].

إن بعض النساء الوضيعات لا يكتفين بالغيبة والنميمة والتهمة فحسب بل يتعدين تلك الحدود إلى مسائل أخرى فترى إحداهن تبحث في حقيبة زوجة أبنها حينما تكون غائبة عن الدار، وهذا ما يدلل على وضاعة وصفاقة هكذا نساء، كونها لا تستطيع فعل ذلك أمامها، وتفعله في غيابها، وهذا ليس من الإنسانية في شيء، وليس من الأخلاق في شيء.

المسألة الأخرى هي التجسس، فقد يكون أحد الأزواج ممارساً لعملية التجسس على زوجته، وهذا ما ينمّ على ضعف في شخصيته، ودليل على عدم الوثوق بها، فتراه يبحث تارة في حقيبة يدها، وأخرى في جيوب ثوبها وهذا عمل قبيح، وغير مقبول أخلاقيا ولا إنسانياً، ولا عرفياً.

وقد تفعل ذلك المرأة نفسها مع زوجها، فتحاول أن تتبعه إلى أول الحارة لترى كيف يتعامل أو يتصرف مع الآخرين وعندما يأتي إلى الدار تفتش جيوبه بدقّة، وقد تساعدها أمها في ذلك العمل المشين ظناً منها أنها تحب ابنتها، لذلك تعمل على مراقبة زوجها علّها تعثر على شيء يمكن أن تخلق من خلاله نزاعاً قد يجرّ إلى الطلاق، والانفصال، وبعثرة المؤسسة الأسرية.

وفي الختام أقول أيها الآباء! أيتها الأمهات! اتقوا الله الذي هو بين ظهرانيكم، وفكّروا في أمر آخرتكم، ولا تثيروا النزاعات هنا وهناك بسبب ما تمتلكون من فراغ أو أمراض نفسية، أو نفسيات عدوانية.


[1]  تفسير علي بن إبراهيم/ ج77، ص58، مكارم الأخلاق/ ص119.

[2]  بحار الأنوار/ ج6، ص366.

[3]  أصول الكافي/ ج4، ص59.

[4]  الحلال والحرام في الإسلام/ ص477.