.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الفصل الثالث: في بيان بعض مراتب الاخلاص بطريق الاجمال

الفصل الرابع: في تحذير منكري المقامات وطوائفهم

الفصل الخامس: في ذكر بعض درجات الاخلاص

 

الفصل الثالث

في بيان بعض مراتب الاخلاص بطريق الاجمال

على نحو يناسب وضع هذه الاوراق

فاحدى مراتبه تصفية العمل أعم من العمل القلبي والقالبي عن شائبة رضا المخلوق وجلب قلوب المخلوقين سواء كان للمحمدة أو المنفعة أو لغيرها، وفي مقابل هذه المرتبة اتيان العمل رياءً وهذا هو الرياء الفقهي وهو أحطّ وأدنى مراتب الرياء وصاحبه أرذل المرائين وأخسّهم.

المرتبة الثانية: تصفية العمل عن حصول المقاصد الدنيوية والمآرب الزائلة الفانية. وان كان الداعي هو أن الله تعالى يعطيها بواسطة هذا العمل كإتيان صلاة الليل لتوسعة الرزق وإتيان صلاة أول الشهر للسلامة من الآفات في ذلك الشهر وإعطاء الصدقات للعافية وسائر المقاصد الدنيوية وقد عدّ بعض الفقهاء عليهم الرحمة هذه المرتبة من الاخلاص شرطا لصحة العبادة اذا كان اتيان العمل للوصول إلى ذلك المقصود وهو خلاف التحقيق حسب القواعد الفقهية وان كانت هذه الصلاة عند أهل المعرفة لا قيمة لها أصلا فهي كسائر المكاسب المشروعة بل لعلها تكون أقل منها أيضا.

المرتبة الثالثة: تصفيته عن الوصول إلى جنّات الجسمانية والحور والقصور وأمثالها من اللذات الجسمانية، وفي مقابلة عبادة الاجراء كما في الروايات الشريفة، وهذا أيضا في نظر أهل الله كسائر المكاسب الا أن أجرة عمل هذا الكاسب أكثر وأعلى اذا قام بالامر ويخلصه عن المفسدات الصورية.

المرتبة الرابعة: أن يصفّي العمل عن خوف العقاب والعذاب الجسماني الموعود، وفي مقابلها عبادة العبيد كما في الروايات، وهذه العبادة أيضا في نظر أصحاب القلوب لا قيمة لها وخارجه عن نطاق عبودية الله ولا يفرق في نظر أهل المعرفة أن يعمل الانسان عملا من خوف الحدود والتعزيرات في الدين أو خوف العقاب والعذاب الأخروي أو للوصول إلى النساء الدنيوية أو الحور ونساء الجنة والعمل في جميع ذلك ليس لله بل هو الداعي لداعي الأمر الذي يخرج العمل عن البطلان الصوري طيقا للقواعد الفقهية ولكن ليس لهذا المتاع قيمة في سوق أهل المعرفة.

المرتبة الخامسة: تصفية العمل عن الوصول إلى السعادات العقلية واللذّات الروحانية الدائمة الازلية الابدية والانسلاك في سلك الكروبيين والانخراط في زمرة العقول القادسة والملائكة المقربين، وفي مقابلها العمل لهذا المقصد، وهذه الدرجة وان كانت درجة عظيمة والمقصد عاليا ومهمّا والحكماء والمحققون يهتمون بهذه المرتبة من السعادة اهتماما كثيرا ويرون لها قيمة ولكن في مسلك أهل الله. هذه المرتبة ايضا هي من نقصان السلوك وسالكها أيضا يعدّ كاسبا من الاجراء وان كان له فروق مع سائر الناس في المتجر والمكسب.

المرتبة السادسة: هي في ازاء هذه المرتبة، وهي تصفية العمل من خوف عدم الوصول إلى اللذات والحرمان عن هذه السعادات، وفي مقابلتها العمل لهذه المرتبة من الخوف، وهذه ايضا وان كانت مرتبة عالية وخارجه عن حدّ اشتهاء أمثال الكاتب ولكنها أيضا في نظر أهل الله عبادة العبيد، وهي عبادة معللة.

المرتبة السابعة: تصفية العمل عن الوصول إلى لذات جمال الله والوصول إلى بهجات أنوار السبحات غير المتناهية وهي جنة اللقاء. وهذه المرتبة أي جنة اللقاء هي من مهمات مقاصد أهل المعرفة وأصحاب القلوب وأيدي آمال النوع عنها قاصرة، والاوحدي من أهل المعرفة يتشرّف بشرف هذه السعادة وهم أهل الحب والجذبة من كمّل أهل الله واصفياء الله ولكن ليست هذه المرتبة هي كمال مرتبة الكمّل من أهل الله بل هي من مقاماتهم المعمولة والعادية لهم وما في الادعية كالمناجاة الشعبانية من أن أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين استدعوا هذه المرتبة من الله أو أشاروا بكونهم متحققين بها فليس من جهة أن مقاماتهم منحصرة بهذه المرتبة.

كما أن المرتبة الثامنة في ازاء هذه المرتبة وهي عبارة عن تصفية العمل عن خوف الفراق ايضا ليس كمال مقامات الكمّل وما قاله أمير المؤمنين عليه السلام: كيف أصبر على فراقك..فمن مقاماته المعمولة العادية ومقامات أمثاله كذلك.

وبالجملة، ان تصفية العمل عن هاتين المرتبتين ايضا لازمة عند أهل الله، والعمل معها معلل وليست خارجة عن الحظوظ النفسانية، وهذا كمال الخلوص، وبعدها مراتب اخرى خارجة عن حدود الخلوص وداخله تحت ميزان التوحيد والتجريد والولاية لا يناسب المقام بيانها.

 

الفصل الرابع

  في تحذير منكري المقامات وطوائفهم

اذا علمت مراتب الاخلاص ومقامات العبادات إلى حدّ فتهيّأ لتحصيله فإن العلم بلا عمل لا قيمة له والحجّة على العالم أتمّ والمناقشة عليه أكثر، فيا للاسف إننا محرومون بالكلية من المعارف الالهية والمقامات المعنوية لاهل الله والمدارج الغالية لاصحاب القلوب، فطائفة منا ولعلها هي الاكثر تنكر المقامات كلّها وترى أهلها على الخطأ والباطل وعاطلا ومن ذكرهم بشيء أو دعا إلى مقاماتهم يحسبونه شاعرا ودعوته شطحا ولا يرجى لهذه الطائفة من الناس أن يقدر أحد على توجيههم إلى نقصهم وعيبهم وإيقاظهم من نومهم الثقيل انك لا تهدي من أحببت ولا تسمع من في القبور.. نعم ان الذين هم كالكاتب المسكين ليس عندهم خبر عن شيء وليست قلوبهم حية بحياة المعرفة والمحبة الالهية فهم أموات، قبورهم البالية غلاف ابدانهم وقد حجبهم غبار هذا الجسم ومضيقة البدن المظلم عن جميع عوالم النور ونور على نور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.. هذه الطائفة كل ما يقرأ عليهم من الحديث والقرآن في المحبة والعشق الالهي وحبّ اللقاء والانقطاع إلى الحق فيقومون بتأويله وتوجيهه ويفسّرونه على طبق آرائهم فيوجّهون آيات اللقاء وحب الله على كثرتها إلى لقاء أشجار الجنة ونسائها الجميلة، ولا أدري أن هؤلاء ماذا يصنعون بفقرات المناجاة الشعبانية حيث يقول: " الهي هب لي كمال الانقطاع اليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها اليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك، الهي واجعلني ممّن ناديته فأجابك ولاحظته فصعق لجلالك ".

فما هذه الحجب النورانية وهل المراد من النظر إلى الحق النظر إلى أجّاص الجنة؟ وهل معدن العظمة هو قصور الجنة؟ وهل تعلّق الارواح بعزّ القدس هو التعلق بذيل حور العين لقضاء الشهوة؟.. هل هذا الصعق والمحو من الجلال يعني به جمال نساء الجنة؟. وتلك الجذبات والاغشية التي حصلت لرسول الله صلى الله عليه وآله في صلاة المعراج كان يشاهد أنوار العظمة تلك وما فوقها في محفل ما كان الامين جبرائيل محرما لسرّه ولا يتجرّأ للتقدّم قيد أنملة؟ هل كانت جذبة احدى النساء الحسان في الجنة؟. أو انه صلى الله عليه وآله كان يرى أنوارا كنور الشمس والقمر أو أشدّ منهما والقلب السليم الذي قال فيه المعصوم عليه السلام: والسليم قلب لقي الله وليس فيه سواه، هل المقصود عن غير الحق هو غير كرامة الحق التي يكون مرجعها ألا يكون غير أجّاص الجنة ومشمشها (فيا ويلي) (فيا ويلي) ترجمة كنائية من الجملة التي ذكرها المؤلف دام ظله في المتن وهي (خاك بر فرق من).فإن عنان القلم قد خرج من كفّي واشتغل بالشطحات ولكن لعمر الحبيب أنه ليس لي مقصود في هذا الكلام الا أن يحصل تنبّه للاخوة الايمانيين وخصوصا رجال العلم ولا ينكرون على الاقل مقامات أهل الله فإن هذا الانكار منشأ جميع الشقاوات، وليس مقصودنا ان نبين من هم أهل الله بل مقصودنا ألاّ ننكر المقامات وأما من هو صاحب هذه المقامات؟ فالله أعلم، وهذا أمر لا يطّلع عليه أحد (آن راكه خبرشد خبري باز نيامد) (مصراع للشاعر المعروف السعدي الشيرازي يقول: من كان عنده خبر فليس عنه خبر.) وطائفة أخرى هم الذين لا ينكرون مقامات أهل المعرفة ولا عناد لهم مع اهل الله ولكن الاشتغال بالدنيا وتحصيلها والاخلاد إلى لذاتها الفانية منعتهم من الكسب العملي والعلمي والذوقي والحالي، فمثلهم كمرضى يصدّقون مرضهم ولكن شهوة البطن لا تدعهم يقدمون على الحمية وشرب الدواء المرّ، كما أن الطائفة الاولى كمرضى لا يصدّقون المرض الكذائي والمريض الكذائي في دار التحقق ومع أنهم مبتلون بالمرض ينكرون أصل المرض.

وطائفة أخرى هم الذين اشتغلوا بالكسب العلمي واشتغلوا بتحصيل المعارف علما ولكنهم اكتفوا من حقائق المعارف ومعارف أهل الله بالاصطلاحات والالفاظ والعبارات المزركشة وقيّدوا أنفسهم وجمعا من المساكين في سلسلة الالفاظ والاصطلاحات واقتنعوا عن جميع المقامات بالمقالات، ويوجد ضمن هؤلاء زمرة يعرفون أنفسهم ولكنهم للترؤس على عدة مساكين جعلوا هذه الاصطلاحات اللفظية وبلا لبّ وسيلة لكسب المعيشة ويصيدون القلوب الصافية لعباد الله بالالفاظ الغارّة والاقوال الجالبة، هؤلاء شياطين من الانس وليس اضرارهم على عباد الله بأقل من ابليس، هؤلاء المساكين لا يدرون أن قلوب عباد الله منازل الحق تعالى ولا يحق لاحد التصرف فيها، فهم غاصبون منزل الحق ومخرّبون الكعبة الحقيقية فهم ينحتون أصناما ويضعونها في قلوب عباد الله التي هي الكعبة بل هي البيت المعمور، هؤلاء الممرّضون وقد أظهروا أنفسهم في زيّ الطبيب ويبلون عباد الله بالامراض المختلفة المهلكة وعلامة تلك الطائفة أنه يعتنون بارشاد الاغنياء والاكابر أكثر من ارشاد الفقراء والمساكين، فأكثر مريديهم من أرباب الجاه و المال وهم بأنفسهم ايضا في زيّ الاغنياء وأرباب الجاه والمال، ولهؤلاء القوم كلمات غارّة يطهرون أنفسهم عند المريدين عن التعلق بالدنيا مع أنهم في نفس الوقت متلوّثون بآلاف من القذارات الدنيوية ويعدّون أنفسهم في أعينهم من أهل الله وأولئك المساكين البلهاء (أي المريدين) ايضا يغضّون أبصارهم عن جميع عيوبهم المحسوسة ويسرّون بالاصطلاحات والالفاظ بلا لب والحال اذا انجر الكلام إلى هنا ينبغي أن نذكر حديثا أو حديثين يدوران في هذا الموضوع وان خارجا عن نسج الكلام ولكن التبرّك بكلام أهل البيت حسن جميل.

عن كتاب الخصال للشيخ الصدوق (رحمه الله) باسناده إلى ابي عبدالله عليه السلام قال: " ان من العلماء من يحبُّ ان يجمع علمه ولا يحب أن يؤخذ عنه فذاك في الدرك الاول من النار، وفي العلماء من اذا وُعِظ أنف واذا وعض عنف فذاك في الدرك الثاني من النار، ومن العلماء من يرى أن يضع العلم عند ذوي الثروة والشرف ولا يرى له في المساكين وضعا فذاك في الدرك الثاني من النار، ومن العلماء من يرى أن يضع العلم عند ذوي الثروة والشرف ولا يرى له في المساكين وضعا فذاك في الدرك الثالث من النار، ومن العلماء من يذهب في علمه مذهب الجبابرة والسلاطين فإن ردّ عليه وقصر في شيء من أمره غضب فذاك في الدرك الرابع من النار، ومن العلماء من يطلب أحاديث اليهود والنصارى ليغزر به علمه ويكثر به حديثه فذاك في الدرك الخامس من النار ومن العلماء من يضع نفسه للفتيا ويقول: سلوني ولعله لا يصيب حرفا واحدا والله لا يحب المتكلّفين فذاك في الدرك السادس من النار، ومن العلماء من يتخذ العلم مروّة وعقلا فذاك في الدرك السابع من النار ".

وعن الكليني (رحمه الله) في جامعه الكافي باسناده إلى الباقر عليه السلام " من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس اليه فليتبوّأ مقعده من النار، الرئاسة لا تصلح الا لأهلها ".

وعن الصادق عليه السلام: " اذا رأيتم العالم محبّا للدنيا فاتهموة على دينكم فإن كل محبّ بشيء يحوط ما أحبّ ". وقال: " أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام لا تجعل بيني وبينك عالما مفتونا بالدنيا فيصدّك عن طريق محبّتي فإن أولئك قطاع طريق عبادي المريدين ان أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم ".

والذين هم في هذه الطائفة ليسوا بحيّالين ولا خدّاعين بل كانوا سالكين طريق الآخرة وهم في صدد تحصيل المعارف والمقامات، قد يتفق لهم أن الشيطان القاطع للطريق غرّهم فاغترّوا وحسبوا ان المعارف والمقامات في الحقيقة عبارة عن الاصطلاحات العلمية التي صنعوها او استفادوا من صناعة غيرهم، فهم أيضا قد صرفوا نقد شبابهم وأيام حياتهم إلى آخر عمرهم في تكثير الاصطلاح وضبط الكتب والصحف كطائفة من علماء تفسير القرآن الذين يرون ان الاستفادة من القرآن منحصرة في ضبط اختلافات القراءات ومعاني اللغات وتصاريف الكلمات والمحسنات اللفظية والمعنوية ووجوه اعجاز القرآن والمعاني العرفية واختلاف افهام الناس فيها وجمعها، ويغفلون بالكلية عن دعوات القرآن وجهاته الروحية ومعارفها الالهية، فهؤلاء ايضا كمريض رجع إلى الطبيب وأخذ نسخة دوائه ورأى علاج نفسه في ضبط النسخة وحفظها وكيفية تركيباتها، فهؤلاء يقتلهم المرض ولا ينتج لهم العلم بالنسخة والرجوع إلى الطبيب نتيجة اصلا.

ايها العزيز ان جميع العلوم عملية حتى علم التوحيد فله ايضا أعمال قلبية وقالبية، ان التوحيد هو من باب التفعيل وهو عبارة عن اعادة الكثرة إلى الوحدة وهذا الاعمال الروحية والقلبية، فما دمت واقعا في الكثرات الافعالية ولم تعرف السبب الحقيقي ولم تكن عينك مشاهدة للحق، والحق في الطبيعة والجهات والكثرات الطبيعية فانية في الحق ولم ترفرف على قلبك راية سلطان وحدة فاعلية الحق فأنت بعيد عن الخلوص والاخلاص والصفاء والتصفية بالكلية ومهجور عن التوحيد، فالرياءات الافعالية بأجمعها والرياءات القلبية أكثرها من نقصان التوحيد الافعالي فمن يرى المخلوق الضعيف المسكين المستكين مؤثرا في دار التحقق ويعده متصرفا في مملكة الحق كيف يستطيع أن يرى نفسه غنيّا عن جلب قلوب المخلوقين ويخلص عمله ويصفّيه عن شرك الشيطان فلا بدّ من أن تصفّى العين والمنبع حتى ينبع منها ماء صافٍ، والا لم تكن متوقعا أن ينبع الماء الصافي من العين الموحلة، فأنت اذا علمت أن قلوب عباد الله تحت تصرف الحق وأذقت لذائقة القلب معنى يا مقلّب القلوب.. وأسمعت سامعته ذلك فلا تصير مع ما فيك من الضعف والمسكنة في صدد صيد القلوب واذا أفهمت القلب حقيقة بيده ملكوت كل شيء وله الملك وبيده الملك لاستغنيت عن جلب القلوب ولما رأيت نفسك محتاجة إلى القلوب الضعيفة لهذا المخلوق الضعيف ويحصل لك الغنى القلبي، إنّك لمّا أحسست في نفسك الحاجة ورأيت الناس محلا لعقدتك فاحتجت إلى جلب القلوب ولمّا ظننت نفسك متصرفة في القلوب باظهار القدس فاحتجت إلى الرياء وان كنت ترى أن الحلاّل هو الحق وما رأيت نفسك أيضا متصرفة في الكون لما احتجت إلى هذه الانواع من الشرك، ايها المشرك المدّعي للتوحيد، وأيها الابليس ابن آدم لقد ورثت هذا من الشيطان اللعين الذي يرى نفسه متصرفا ويهتف هتاف ولأغوينّهم فذلك المنحوس الشقّي في حجب الشرك ورؤية النفس والذين يرون العالم وأنفسهم مستقلة لا مستظلّة ومتصرفة لا مملوكة فانهم ورثوا الشيطنة من ابليس فاستيقظ من النوم الثقيل وأوصل إلى قلبك الآيات للكتاب الالهي والصحيفة النورانية الربوبية. فإن هذه الآيات العظيمة قد أنزلت لاستيقاظي واستيقاضك، ونحن حصرنا جميع حظوظنا في تجويدها وصورتها وغفلنا عن معارفها حتى حكم الشيطان فينا ووقعنا تحت سلطته. فأنا أختم الكلام على العجالة في هذا المقام وأتركه إلى المقام الآخر، وفي آداب القراءة أشير إلى نبذة من هذا المطلب ان شاء الله وأفتح طريق الاستفادة من القرآن لنفسي ولعباد الله بإذن الله وحسن توفيقه والسلام..

 

الفصل الخامس

في ذكر بعض درجات الاخلاص

فحيث وصل الكلام إلى هنا فلا بدّ لي من ذكر بعض الدرجات الأخرى للاخلاص تناسب المقام.

فمن درجات الاخلاص تصفية العمل عن رؤية استحقاق الثواب والأجر وفي مقابله شوبه بطلب الأجر ورؤية استحقاق الاجرة والثواب وهذا لا يخلو عن مرتبة من الاعجاب بالعمل ولابدّ للسالك من تخليص نفسه منه وهذه الرؤية رؤية الاستحقاق فهي من نقصان المعرفة بحاله وبحق الخالق تعالى شأنه، وهذا أيضا من الشجرة الخبيثة الشيطانية التي مرجعها رؤية النفس وعملها والانّيّة والأنانية. فالانسان المسكين ما دام هو في حجاب رؤية أعمال نفسه ويراها من عند نفسه ويرى نفسه متصرفا في الامر فلا ينجو من هذا المرض ولا ينال هذه التصفية والتخليص. فالسالك لابد له أن يجهد ويفهم القلب بالرياضات القلبية والسلوك العقلي والعرفاني، ان جميع الاعمال من الهبات الالهية والنعم التي أجراها الحق تعالى على يد العبد، فاذا تمكن التوحيد الفعلي في قلب السالك فلا يرى العمل من عند نفسه ولا يطلب الثواب بل يرى الثواب تفضّلا والنعم ابتدائية، وقد ذكرت هذه اللطيفة الالهية كثيرا في كلمات الائمة والاطهار عليهم السلام و خصوصا الصحيفة السجادية، تلك الصحيفة النورانية التي نزلت من سماء عرفان العارف بالله والعقل النوراني سيد الساجدين لخلاص عباد الله من سجن الطبيعة وتفهيمهم أدب العبودية والقيام في خدمة الربوبية، كما في الدعاء الثاني والثلاثين يقول عليه السلام: " لك الحمد على ابتدائك بالنعم الجسام والهامك الشكر على الاحسان ". وفي موضع آخر يقول: " نعمك ابتداء واحسانك التفضّل ". وفي مصباح الشريعة يقول: " وأدنى حدّ الاخلاص بذل العبد طاقته ثم لا يجعل لعمله عند الله قدرا فيوجب به على ربه مكافأة لعمله ".

والدرجة الاخرى للاخلاص تصفية العمل من الاستكثار والفرح به والاعتماد وتعلق الخاطر عليه. وهذا أيضا من مهمات سلوك السالك، والاستكثار يمنع السالك من قافلة السالكين إلى الله ويحبسه في سجن الطبيعة، وهذا أيضا ينبت من الشجرة الخبيثة الشيطانية ومنشؤه حب النفس الذي هو ارث من الشيطان الذي قال: " خلقتني من نار وخلقته من طين " (الاعراف 12) وهذا من جهل الانسان بمقامه ومقام معبوده جلّت عظمته.

اذا كان المسكين الممكن يعرف مقام نقصه وعجزه وضعفه ومسكنته ويعرف مقام عظمة الحق ومجده وكماله فلا يرى عمله عظيما أبدا ولا يحسب نفسه قائما بالامر، فالمسكين يتوقع لعمل لا يساوي سنة منه عند أهل الدنيا في سوقهم أزيد من توامين (توامين جمع تومان، وهو واحد النقد في ايران.) اذا كانوا واثقين من صحته وإجزائه توقعات غير متناهية لركعتين من ذلك العمل وهذا هو الفرح والاستكثار للعمل الذي هو مبدأ لكثير من المفاسد الاخلاقية والاعمالية يطول ذكرها، وقد أشاروا عليهم السلام في الاحاديث إلى هذا المطلب، كما في الكافي الشريف باسناده إلى موسى بن جعفر سلام الله عليهما أنه قال لبعض ولده: " يا بني عليك بالجدّ ولا تخرجنّ نفسك من حد التقصير في عبادة الله عزّ وجلّ ". وقال عليه السلام في حديث آخر: " كل عمل تريد به الله عزّ وجلّ فكن مقصّرا عند نفسك فإن الناس كلهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصّرون الا من عصمه الله عزّ وجلّ ".

وعنه عليه السلام: " لا تستكثروا كثير الخير ". وفي الصحيفة الكاملة في وصف ملائكة الله يقول عليه السلام: " الذين يقولون اذا نظروا إلى جهنم تزفر إلى أهل معصيتك سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك ".

فيا أيها الضعيف المقام الذي يعترف فيه رسول الله بالعجز والتقصير ويقول: " ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك " وهو أعرف خلق الله وعمله أنور من أعمال جميع الناس وأعظم من جميعها وكذا الائمة المعصومون يظهرون ذاك النحو من القصور والتقصير في المحضر المقدس (فماذا يتأتى من بعوضة نحيفة) (ترجمة مصراع كالمثل في لسان الفرس وهو (ازيشه لاغري جه خيزد؟).). نعم ان مقام معرفتهم بعجز الممكن وعزّة الواجب وعظمته تعالى شأنه كانت تقتضي تلك الاظهارات والاعترافات، وأما نحن المساكين فمن الجهل والحجب المتنوعة قمنا بالتكبر ونعجب بأنفسنا وأعمالنا، فيا سبحان الله ما أصدق كلام أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: " عجب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله ". فهذا من فقدان العقل، ان الشيطان يعمّي لنا أمرا ضروريا ولا نقوم بوزنه في ميزان العقل. انّا نعلم بالضرورة ان أعمالنا وأعمال جميع البشربل أعمال جميع ملائكة الله والروحانيين في ميزان المقايسة بأعمال رسول الله صلى الله عليه وآله والائمة الهداة سلام الله عليهم ليس لها قدر محسوس، ولا تعد شيئا، وفي نفس الوقت الاعتراف بالتقصير واظهار العجز عن القيام بالامر من تلك الاعاظم متواتر بل فوق حد التواتر، وهاتان القضيتان الضروريتان تنتجان لنا ألا نفرح بشيء من أعمالنا بل علينا اذا قمنا بالعبادة والطاعة طول العمر الدنيا أن نكون خجلين وننكس رؤوسنا في محضره. ومع هذا الوصف فقد تمكن الشيطان في قلوبنا وحكم على عقولنا وحواسنا بحيث لا نأخذ نتيجة من هذه المقدمات الضرورية بل كانت أحوال قلوبنا بعكس تلك النتيجة. ان مولى كانت ضربة واحدة منه يوم الخندق أفضل من جميع عبادات الجن والانس بتصديق من رسول الله يظهر في عبادته ورياضاته التي كان علي بن الحسين وهو أعبد خلق الله يظهر العجز أن يكون مثله العجز والتذلّل والاعتراف بالقصور والتقصير أكثر منا ورسول الله الذي كان على المرتضى وجميع ما سوى الله عبيدا لجنابه ومتنعمين من سقطات موائد نعمته في معارفه ومتعلمين بتعليمه بعدما خلع بخلعة النبوّة الختمية التي كانت تمام دائرة الكمال واللبنة الاخيرة للمعرفة والتوحيد يقوم بالامر عشر سنوات في جبل حراء على قدميه ويقوم بالطاعة حتى تتورّم قدماه الشريفتان وأنزل الله تعالى عليه " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " (طه 1 - 2) أيها الطاهر الهادي ما أنزلنا عليك القرآن لتلقى المشقة فانك طاهر وهاد وان كان الناس لا يطيعونك فهو من نقصهم وشقاوتهم لا من نقصان سلوكك أو هدايتك، ومع ذلك يعلن صلوات الله عليه عجزه وقصوره.

ان السيد ابن طاووس (قدس سره) ينقل حديثا عن علي بن الحسين عليه السلام ونحن نُبرِّك هذه الرسالة به وان كان الحديث طويلا في الجملة ولكن حيث إنه شرح بعض حالات المولى فتتعطّر شامة الارواح به وتلتذ ذائقة القلوب منه.

عنه (قدس سره) في فتح الابواب باسناده عن الزهري (بضم الزاي وسكون الهاء ابو بكر محمد بن مسلم بن عبيدالله بن عبدالله بن الحرث بن شهاب بن زهرة بن كلاب الفقيه المدني التابعي المعروف وقد ذكره علماء الجمهور وأثنوا عليه ثناء بليغا قيل أنه قد حفظ علم الفقهاء السبعة ولقي عشرة من الصحابة وروى عنه جماعة من أئمة علم الحديث وأمّا علماؤنا فقد اختلفت كلماتهم في مدحه وقدحه وقد ذكر المحدّث القمي قدس سره في سفينة البحار ما يتعلق به فمن أراد فليراجع) قال:

" دخلت مع علّي بن الحسين عليهما السلام على عبدالملك بن مروان قال: فاستعظم عبدالملك ما رأى من أثر السجود بين عيني علي بن الحسين عليهما السلام فقال: يا أبا محمد لقد بيّن عليك الاجتهاد ولقد سبق لك من الله الحسنى فأنت بضعة من رسول الله صلى الله عليه وآله قريب النسب وكيد السبب وانك لذو فضل عظيم على أهل بيتك وذوي عصرك ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤت أحد مثلك ولا قبلك الا من مضى من سلفك. وأقبل يثني عليه ويطريه، فقال علي بن الحسين عليهما السلام: كل ما ذكرته ووصفته من فضل الله سبحانه وتأييده وتوفيقه فأين شكره على ما أنعم يا أمير المؤمنين، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقف في الصلاة حتى ترم قدماه ويضمأ في الصيام حتى يعصب فوه فقيل له يا رسول الله ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول صلى الله عليه وآله: أفلا أكون عبدا شكورا الحمد لله على ما أولى وأبلى وله الحمد في الآخرة والاولى والله لا يشغلني شيء عن شكره وذكره في ليل ولا نهار ولا سرّ ولا علانية ولولا أن لأهلي عليّ حقّا ولسائر الناس من خاصّهم وعامّهم عليّ حقوقا لا يسعني الا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤديها إليهم لرميت بطرفي إلى السماء وبقلبي إلى الله ثم لم أرددهما حتى يقضي الله على نفسي وهو خير الحاكمين.. وبكى عليه السلام وبكى عبد الملك " الخبر..

ونحن أغمضنا عن ترجمة الحديث الشريف كما صرفنا النظر عن بعض مراتب الاخلاص الذي لا يناسب المقام ووضع الرسالة لئلا يوجب طول الكلام وملالة الخاطر.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست