.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الباب الثاني: في القيام

الفصل  الأول: في السر الاجمالي للقيام

الفصل الثاني: في آداب القيام

الباب الثالث: في سر النية وآدابها

الفصل الأول: في حقيقة النية في العبادات

الفصل الثاني: في الاخلاص

 

الباب الثاني

في القيام

وفيه

فصلان

الفصل الأول

 في السر الاجمالي للقيام (قال بعض علماء الاخرة: واما الاعتدال قائما فهو مثول بالشخص والقلب بين يدي الله عز وجل فليكن رأسك الذي هو أرفع أعضائك مطرقا مطأطأ منكسا، وليكن وضع الرأس عن ارتفاعه تنبيها على الزام القلب التواضع والتذلّل والتبرّي عن الترؤس والتكبّر، وليكن على ذكرك ها هنا خطر القيام بين يدي الله عز وجل في هول المطلع عند العرض للسؤال واعلم في الحال أنك قائم بين يدي الله عز وجل وهو مطّلع عليك فقم بين يديه قيامك بين يدي بعض ملوك الزمان ان كنت تعجز عن معرفة كنه جلاله بل قدّر في دوام قيامك في صلواتك انك ملحوظ ومرقوب بعين كالئةٍ من رجل صالح من أهلك أو ممن ترغب في أن يعرفك بالصلاح فإنه تهدأ عند ذلك أطرافك وتخشع جوارحك وتسكن جميع أجزائك خيفة أن ينسبك ذلك العاجز المسكين إلى قلّة الخشوع، واذا أحسست من نفسك بالتماسك عند ملاحظة عبد مسكين فعاتب نفسك وقل لها انك تدّعين معرفة الله وحبّه أفلا تستحيين من استجرائك عليه مع توقيرك عبدا من عباده؟ أوَ تخشين الناس ولا تخشينه وهو أخق أن يخشى؟ (انتهى).

وقال الشهيد الثاني رحمه الله ما يقرب من هذا، وأضاف بعد قوله أو تخشين الناس ولا تخشينه وهو أحق أن يخشى قال: الا تستحيين من خالقك ومولاك اذا قدّرت اطّلاع عبد ذليل من عباده عليك وليس بيده خيرك ولا نفعك ولا ضرّك خشعت لأجله جوارحك وحسنت صلواتك ثم انك تعلمين أنه مطّلع عليك فلا تخشعين لعظمته أهو أهون عندك من عبد من عباده؟فما أشد طغيانك وجهلك وما أعظم عداوتك لنفسك ولذلك لما قيل للنبي صلى الله عليه وآله كيف الحياء من الله تعالى؟ فقال صلى الله عليه وآله: " تستحيي منه كما تستحيي من رجل صالح من قومك ".

وأما دوام القيام فهو تنبيه على ادامة القلب على الله تعالى على نعت واحد من الحضور. قال صلى الله عليه وآله ان الله مقبل على العبد ما لم يلتفت.. وكما يجب حراسة السرّ عن الالتفات إلى غير الصلاة فإن التفتّ إلى غيرها فذكره باطّلاع الله تعالى عليك وقبح التهاون بالمناجي مع غفلة المناجي ليعود إلى التيقّظ والزم الخشوع الباطني فإنه ملزوم الخشوع ظاهرا، ومهما خشع الباطن خشع الظاهر.

قال صلى الله عليه وآله وقد رأى مصليا يعبث بلحيته: " ما هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه فإن الرعية بحكم الراعي " ولهذا ورد في الدعاء " اللهم أصلح الراعي والرعية " وهو القلب والجوارح وكل ذلك يقتضيه الطبع بين يدي من يعظّم من أبناء الدنيا فكيف لا يتقاضاه بين يدي ملك الملوك وجبّار الجبابرة ومن يطمئن بين يدي غير الله تعالى خاشعا ثم تضطرب أطرافه بين يدي الله تعالى فذلك لقصور معرفته عن جلال الله وعن اطّلاعه على سرّه وضميره وتدبّر قوله تعالى الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين.. (انتهى)).

اعلم أن أهل المعرفة يرون القيام إشارة إلى التوحيد الافعالي، كما أن الركوع عندهم إشارة إلى التوحيد الصفاتي والسجود إلى التوحيد الذاتي، ويأتي بيانهما في محلّهما، واما بيان ان القيام إشارة إلى التوحيد الفعلي هو أن نفس القيام إشارة إلى هذا وضعا وفي القراءة إشارة إليه لفظا.

اما أن القيام فيه إشارة إليه وضعا، هو أن القيام إشارة إلى قيام العبد بالحق ومقام قيّوميّة الحق وهو التجلّي بالفيض المقدّس والتجلي الفعلي، وتظهر في هذا المقام فاعلية الحق وتستهلك جميع الموجودات في التجلي الفعلي وتضمحل تحت كبريائه الظهوري، والادب العرفاني للسالك في هذا المقام أن يتذكر بهذه اللطيفة الالهية ويترك التعينات النفسية ما استطاع ويذكر للقلب حقيقة الفيض المقدس ويوصل إلى باطن القلب نسبة قيّومية الحق وتقوّم الخلق بالحق فاذا تمكنت هذه الحقيقة في قلب السالك تقع قراءته بلسان الحق ويكون الذاكر والمذكور هو الحق وينكشف له معنى " انت كما أثنيت على نفسك وأعوذ بك منك " ببعض مراتبه ويجد قلب العارف بعض أسرار الصلاة، كما أن في النظر إلى محل السجود وهو التراب والنشأة

الاصلية وخضوع الرقبة ونكس الرأس الذي هو لازم للخضوع اشارة إلى الذلّ والفقر الامكاني والفناء تحت عزّ الكبرياء وسلطانه: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله وهو الغنيّ الحميد.

وأمّا انّ في القراءة لفظا اشارة إلى مقام التوحيد الفعلي فسيأتي تفصيله في سورة الحمد المباركة ان شاء الله.

 

الفصل الثاني

  في آداب القيام

وهي أن يرى السالك نفسه حاضرا في محضر الحق ويعلم أن العالم محضر الربوبية ويحتسب نفسه من حضّار المجلس بين يدي الله ويوصل إلى قلبه عظمة الحاضر والمحضر ويفهم القلب أهمية المناجاة مع الحق تعالى وخطره ويحضّر قلبه قبل الورود في الصلاة بالتفكر والتدبّر ويفهمه عظمة المطلب ويلزمه بالخضوع والخشوع والطمأنينة والخشية والخوف والرجاء والذل والمسكنة إلى آخر الصلاة ويشارط القلب أن يراقب هذه الامور ويحافظ عليها ويتفكر ويتدبر في أحوال أعاظم الدين وهداة السبل أنهم كيف كانت حالاتهم في الصلاة وكيف كانوا يتعاملون مع مالك الملوك ويتخذ من أحوال أئمة الهدى أسوة لنفسه ويتأسى بهؤلاء الاعاظم ولا يكتفي من تاريخ حياة أعاظم الدين وأئمته بسنة وفاتهم ويومها وسنة تولدهم ويومه ومقدار أعمارهم الشريفة وأمثال تلك من الامور التي لا تترتب عليها فائدة جليلة بل يكون عمدة سيره في سيرهم الايماني والعرفاني وسلوكهم، كذلك انه كيف كانت معاملتهم في العبودية وكيف كان مشيهم في السير إلى الله وأي مقدار كانت مقاماتهم العرفانية التي تستفاد من كلماتهم الاعجازية فيا أسفا، انّنا نحن أهل الغفلة وسكر الطبيعة والمغرورون بالآمال خلفاء الشيطان الخبيث في جميع الامور ولا نستيقظ أبدا من النوم الثقيل ولا نخرج عن النسيان الكثير وان استفادتنا من مقامات أئمة الهدى ومعارفهم قليلة، بل ولا شيء يذكر أصلا واكتفينا من تاريخ حياتهم بالقشر والصورة وصرفنا النظر بالكلية عما هو غاية لبعثة الانبياء عليهم السلام. وفي الحقيقة ينطبق علينا المثل المعروف (استسمن ذو ورم). ونحن نذكر في هذا المقام بعض الروايات الواردة في هذا الباب فلعله يحصل التذكر لبعض الاخوان المؤمنين والحمد لله وله الشكر.

عن محمد بن يعقوب بإسناده عن أبي عبدالله عليه السلام قال: " كان علي بن الحسين عليهما السلام اذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه فاذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقا ".

وباسناده عنه عليه السلام قال: " كان أبي يقول كان علي بن الحسين اذا قام إلى الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء الا ما حركت الريح منه ".

وعن محمد بن علي بن الحسين في العلل باسناده عن ابان بن تغلب قال: " قلت لابي عبدالسلام عليه السلام اني رأيت علياً بن الحسين اذا قام إلى الصلاة غشي لونه لون آخر، فقال لي والله ان علياً بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه ".

وعن السيد علي بن طاووس في فلاح السائل في حديث فقال أبو عبدالله عليه السلام: " لاتتم الصلاة الا لذي طهر سابغ وتمام بالغ غير نازغ ولا زائغ عرف فوقف وأخبت فثبت فهو واقف بين اليأس والطمع والصبر والجزع كأنّ الوعد له صنع والوعيد به وقع يذل عرضه ويمثل عرضه وبذل في الله المهجة وتنكب اليه المهجة غير مرتغم بارتغام يقطع علائق الاهتمام بعين من له قصد واليه رفد ومنه استرفد فاذا أتى بذلك كانت هي الصلاة التي بها أمر وعنها أخبر وانها هي الصلاة التي تنهي عن الفحشاء والمنكر ". الحديث.

وعن محمد بن يعقوب باسناده إلى مولانا زين العابدين عليه السلام انه قال: " وأمّا حقوق الصلاة فإن تعلم أنه وفادة إلى الله وانك فيها قائم بين يدي الله فاذا علمت ذلك كنت خليقا أن تقوم فيها مقام العبد الذليل الراغب الراهب الخائف الراجي المسكين المتضرع المعظم مقام من يقوم بين يديه بالسكينة والوقار وخشوع الاطراف ولين الجناح وحسن المناجاة له في نفسه والطلب اليه في فكاك رقبته التي أحاطت بها خطيئته واستهلكتها ذنوبه، ولا قوة الا بالله ".

وعن النبي صلى الله عليه وآله: " اعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك ".

وعن فقه الرضا عليه السلام: " فاذا أردت أن تقوم إلى الصلاة فلا تقم اليها متكاسلا ولا متناعسا ولا مستعجلا ولا متلاهيا ولكن تأتيها على السكون والوقار والتؤدة (التؤدة: بضم التاء كهمزة من الوئيد وهي السكون والرزانة والتأني " مجمع البحرين ".) وعليك الخشوع والخضوع، متواضعا لله عزّ وجلّ متخاشعا عليك الخشية وسيماء الخوف راجيا خائفا بالطمأنينة على الوجل والحذر فقف بين يديه كالعبد الآبق المذنب بين يدي مولاه فصف قدميك وانصب نفسك ولا تلتفت يمينا وشمالا وتحسب كأنك تراه فإن لم تكن تراه فانه يراك " الحديث.

وفي عدة الداعي روى " ان ابراهيم عليه السلام كان يسمع تأوّهه على حدّ ميل حتى مدحه الله بقوله: إنّ ابراهيم لحليم أوّاه منيب وكان في صلاته يسمع له أزيز (أزيز: صوت غليان القدر.) كأزيز المرجل (المرجل: قدر من النحاس.) وكذلك يسمع من صدر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله مثل ذلك وكانت فاطمة عليها السلام تنهج في الصلاة من خيفة الله " إلى غير ذلك من الاخبار.

والاخبار الشريفة في هذه الموضوعات أكثر من أن تسعها هذه الرسالة، وفي التفكر فيما ذكر منها كفاية لاهل التذكر والتفكر بالنسبة إلى الاداب الصورية وبالنسبة إلى الاداب القلبية والمعنوية وكيفية القيام بين يدي الله.

وتفكر في حالات علي بن الحسين ومناجاته مع الحق تعالى وأدعيته اللطيفة التي تعلّم آداب العبودية لعباد الله تعالى، لا أقول أن مناجاتهم عليهم السلام كانت لتعليم العباد فإن هذا الكلام بلا مغزى وباطل صادر من الجهل لمقام الربوبية، ومعارف أهل البيت فإن خوفهم وخشيتهم كانت أكثر من جميع الناس وقد تجلت عظمة الحق وجلاله في قلوبهم أكثر من الكل ولكني أقول: لابد أن يتعلم عباد الله منهم كيفية العبودية والسلوك إلى الله تعالى، فاذا قرأوا أدعيتهم ومناجاتهم فلا تكون القراءة لقلقة اللسان بل يتفكرون في كيفية تعاملهم مع الحق وإظهارهم التذلل والعجز والحاجة للذات المقدسة ولعمر الحبيب أن علي بن الحسين من أعظم النعم منّ بها ذات الحق المقدسة على عباده وأنزله من عالم القرب والقدس لاجل تفهيم عباده طرق العبودية ولتسألنّ يومئذ عن النعيم.. واذا سئلنا لماذا ما قدّرنا هذه النعمة وما استفدنا من هذا الرجل العظيم؟ فلا تحير جوابا غير أن ننكس برؤوسنا ونحترق بنار الندامة والاسف ولا ينفع حينذاك الندم.

فيا أيها العزيز، فالآن لك الفرصة والعمر العزيز الذي هو رأس مالك موجود وطريق السلوك إلى الله مفتوح وأبواب رحمة الحق مفتوحة والسلامة وقوة الاعضاء والقوى مستقرّة ودار زرع عالم الملك قائمة، فاصرف همّتك واعرف قدر هذه النعم الالهية واستفد منها وتحصّل الكمالات الروحانية والسعادات الازلية والابدية وخذ نصيبا من هذه المعارف الكثيرة التي بسطها القرآن الشريف السماوي وأهل بيت العصمة عليهم السلام على بسيط أرض الطبيعة المظلمة ونوّروا العالم بالانوار الساطعة الالهية فنوّر أرض طبيعتك المظلمة بالنور الالهي ونوّر بنور الحق تعالى بصرك وسمعك ولسانك وسائر القوى الظاهرة والباطنة وبدّل هذه الارض الظلمانية إلى أرض نورانية بل إلى سماء عقلانية ففي يوم تبدّل الارض غير الارض وان لم تتبدل أرضك غير الارض ولم تتنور بنور الرب فلك ظلمات ومشقات وأنواع الوحشة والظلمة والذلة والعذاب، فالان القوى الظاهرة والباطنية لنا مظلمة بالظلمات الشيطانية وأنا أخشى من أنه ان بقيا على هذه الحال فبالتدريج تتبدل الارض الهيولانية التي فيها نور الفطرة أرضا سجّينيّة مظلمة خالية من نور الفطرة ومحجوبة عن جميع أحكام فطرة الله وتلك شقاوة ليس بعدها سعادة وظلمة لا يعقبها نور ووحشة لا ترى وجه الاطمئنان وعذاب ليس وراءه راحة فمن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.. أعوذ بالله من غرورات الشيطان والنفس الامّارة بالسوء فإن عمدة المقصد والمقصود للانبياء العظام وتشريع الشرائع وتأسيس الاحكام ونزول الكتب السماوية وخصوصا القرآن الشريف الجامع الذي صاحبه ومكاشفه نور الرسول الخاتم المطهّر صلى الله عليه وآله هي نشر التوحيد والمعارف الالهية وقطع جذور الكفر والشرك والحول وعبادة إلهين اثنين وسر التوحيد والتجريد سار وجار في جميع العبادات القلبية والقالبية بل كان يقول الشيخ العارف الكامل شاه آبادي روحي فداه: ان العبادات اجراء التوحيد من باطن القلب إلى ملك البدن.

وبالجملة: النتيجة المطلوبة من العبادات هي تحصيل المعارف وتمكين التوحيد وسائر المعارف في القلب، وهذا المقصد لا يحصل الا بأن يستوفي السالك الحظوظ القلبية للعبادات ويعبر من الصورة والقالب إلى الحقيقة واللبّ ولا يتوقف في الدنيا والقشر فإن الوقوف في هذه الامور أشواك في طريق سلوك الانسانية، والذين يدعون إلى الصورة فقط وينهون الناس عن الآداب الباطنية ويقولون أنّه لا معنى للشريعة ولا حقيقة لها سوى هذه الصورة والقشرة فهم شياطين الطريق إلى الله وأشواك سبيل الانسانية ولا بد أن يستعاذ من شرّهم إلى الله فإنهم يطفئون للانسان نور فطرة الله الذي هو نور المعرفة والتوحيد و الولاية وسائر المعارف ويسدلون عليه حجب التقليد والجهالة والعادات والاوهام ويمنعون عباد الله عن العكوف بجنابة والوصول إلى جمالة الجميل ويصدّون عن طريق المعارف ويوجهون إلى الدنيا وزخارفها والجهات المادية والجسمانية وعوارضها القلوب الصافية الطاهرة لعباد الله التي زرع في خميرتها الحق تعالى بذر المعرفة بيدي جماله وجلاله وأرسل الانبياء العظام وأنزل الكتب السماوية لتربية ذاك البذر وتنميته، ويصرفون تلك القلوب عن الروحانية والسعادات العقلية ويحصرون العوالم الغيبية والجنات الموعودة في المأكولات والمشروبات والمنكوحات وسائر المشتهيات الحيوانية، هؤلاء يظنون ان الحق تعالى اذ بسط بساط الرحمة المعظّمة وبعث الانبياء العظام لادارة البطن والفرج. وغاية معارفهم أنك اذا حفظت بطنك وفرجك في الدنيا تصل إلى شهواتها في الاخرة، فهؤلاء لا يهتمون بالتوحيد والنبوّات بمقدار ما يهمّهم الجماع الذي يكون مدّته خمسمئة سنة !! ويحسبون جميع المعارف مقدمة لتأمين البطن والفرج، واذا أراد حكيم الهي أو عارف ربّاني أن يفتح إلى عباد الله بابا من الرحمة ويقرأ لهم درسا من الحكمة الالهية لا يمتنعون عن أيّة تهمة وغيبة وأيّ سبّ وتكفير، بالنسبة إلى هؤلاء وقد انغمروا في الدنيا الى حد ويهتمون بشهوات بطونهم وفروجهم إلى غاية لا يحبّون من حيث لا يشعرون أن تكون في دار التحقق سعادة سوى الشهوات الحيوانية مع أنه لو كانت في العالم سعادات عقلية فلا تضر بطنهم وفرجهم فأمثالنا ممّن لم يتجاوزوا حد الحيوانية ولا يتيسّر لنا غير الجنّة الجسمانية وادارة البطن والفرج، وهي أيضا نأملها بتفضّل الله سبحانه ولكن لا نظنّ أن السعادة منحصرة فيها. وجنة الحق تعالى محصورة بهذه الجنة الحيوانية، بل للحق تعالى عوالم لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد، وان أهل المحبة الالهية ومعرفة الله سبحانه لا يعتنون بشيء من تلك الجنّات ولا يتوجّهون إلى عالم الغيب والشهادة وأنّ لهم جنة اللقاء، وان أردنا أن نذكر الآيات القرآنية والاحاديث الواردة عن أهل بيت العصمة في هذا الباب لكان مخالفا لوضع هذه الرسالة، وهذا المقدار ايضا كان من طغيان القلم والمقصود العمدة هو توجيه قلوب عباد الله لما خلقوا له وهو معرفة الله سبحانه التي هي فوق جميع السعادات وليس شيء مقدماً عليها وليس مقصودنا من الذين هم أشواك سلوك الطريق علماء الاسلام العظام وفقهاء المذهب الجعفري الكرام عليهم رضوان الله بل بعض الجهلة والمنتحلين للعلم فانهم من جهة القصور والجهل لا التقصير والعناد صاروا قطاع طريق عباد الله، وأعوذ بالله من شر طغيان القلم والنيّة الفاسدة والمقصود الباطل. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

 

الباب الثالث

في سر النية وآدابها

وفيها

خمسة فصول

الفصل الاول

في حقيقة النية في العبادات

اعلم ان النية عبارة عن التصميم والعزم على إتيان شيء وإجماع النفس على إتيانه بعد تصوّره والتصديق بفائدته والحكم بلزوم إتيانه وهو حالة نفسانية ووجدانية تكون بعد هذه الامور ونعبّر عنها بالهمة والعزم والارادة والقصد، وهي موجودة في جميع الامور الاختيارية ولا يمكن تخلّف فعل إرادي عنها، وهذا الامر موجود في تمام العمل من أوله إلى آخره حقيقة من دون شائبة مجاز فيه ولا يلزم أن تكون حاصلة في الذهن في أثناء العمل أو في أوله تفصيلا ويتصوّر الفاعل هذا القصد والتصميم فعلا بل ربما يكون ان الانسان يأتي بالعمل بذلك التصميم والعزم ذاهل وغافل بالكلية عن الصورة التفصيلية للعمل وعن التصميم، ولكن تلك الحقيقة موجودة، ويوجد العمل في الخارج بتحريكها كما هو واضح وجدانا في الافعال الاختيارية.

وبالجملة، هذا التصميم والعزم الذي هو عبارة عن النيّة في لسان الفقهاء رضوان الله عليهم موجود في كل عمل بلا تخلّف بحيث لو أراد أحد أن يوجد العمل الاختياري بدونه فهو غير ممكن له ومع ذلك فإن وسوسة الشيطان الخبيث ودعابة الواهمة العقل محكوما لهما وتعميان هذا الامر الضروري على الانسان المسكين، وعوضا من أنه يصرف عمره في معارف التوحيد ومعرفة الحق والسعي وراءه يوسوس له ابليس الخبيث ويصرف نصف عمره في أمر ضروري وشيء واجب الحصول.

ان للشيطان حبائل ومكائد كثيرة فيلزم أحدا لترك أصل العمل وفي آخر اذا يئس من أنه يترك أصل العمل فيلزمه بالرياء والعجب وسائر المفسدات، واذا لم يوفّق لهذا الامر فيبطل عمله من طريق التظاهر بالقداسة فيوهن عبادات جميع الناس في نظر الانسان وينسب الناس إلى عدم المبالاة ثم يلزمه أن يصرف جميع عمره في النيّة مثلا التي هي أمر ملازم للعمل أو في التكبيرة أو في القراءة التي هي كلها من الامور العادية ولا تحتاج إلى مؤونة، وبالآخرة لا يرضى عن الانسان الا بأن يبطل عمله باحدى الطرق المذكورة.

ان للوسواس شؤونا كثيرة وطرقا عديدة لا نستطيع أن نبحث الان في جميعها ونستقصي جميع شؤونها، ولكن الوسوسة في النية لعلها أكثر أضحوكة وأعجبها بين أنواع الوسوسات لانه اذا أراد أحد أن يقوم بكلّ قواه وفي جميع عمره أن يأتي بأمر واحد اختياري بدون نيّة لا يمكن له أن يكون هذا في عهدته ومع ذلك ترى واحدا مسكينا مريض النفس وضعيف العقل يعطّل نفسه في كلّ صلاة مدّة مديدة لكي توجد صلاته مع النية والعزم، فمثل هذا الشخص كمن يتفكر مدة مديدة لان يهيئ نية وعزما لذهابه إلى السوق أو لتغذّيه. فالصلاة التي ينبغي أن تكون لهذا المسكين معراج قربه ومفتاح سعادته وبالتأدّب بآدابها القلبية والاطّلاع على أسرار هذه اللطيفة الالهية يكمل ذاته ويؤمّن النشأة الحياتية، فهو يغفل عن ذلك كله بل لا يراها ضرورية لنفسه بل يعد جميعها باطلة ويصرف رأس ماله العزيز في خدمة الشيطان وإطاعة الوسواس الخنّاس ويجعل عقله الموهوب من الله سبحانه الذي هو نور الهداية محكوما لحكم ابليس.

فعن عبدالله بن سنان قال: ذكرت لابي عبدالله عليه السلام رجلا مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت: هو رجل عاقل فقال أبو عبدالله (ع) وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان فقلت له وكيف يطيع الشيطان؟ فقال سله هذا الذي يأتيه من أيّ شيء هو فإنه يقول لك: من عمل الشيطان.

وبالجملة لا بد للانسان أن يجذر هذا الجذر بكل ما تيسّر له من الرياضة والكلفة، فإنه يمنع الانسان عن جميع السعادات والخيرات، فمن الممكن أن تكون عبادات الانسان في طول أربعين سنة غير صحيحة حتى بحسب الصورة وتكون فاقدة لاجزائها الصورية الفقهية فضلا عن الآداب الباطنية والشرعية ومما يضحك الثكلى أن بعض هؤلاء الاشخاص المبتلين بالوسواس يرون أعمال جميع الناس باطلة ويحسبون أنهم لا يبالون بدينهم مع أن هذا الوسواس نفسه ان كان مقلّدا فمرجع تقليده أيضا واحد من الناس المعروفين، وان كان هو من أهل الفضل فليرجع إلى الاخبار ويرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وأئمة الهدى عليهم السلام ايضا كانوا في هذه الامور كمتعارف الناس، فهذه الطائفة الوسواسية فقط من بين الناس يعملون على خلاف رسول الله والائمة المعصومين عليهم السلام وفقهاء المذهب وعلماء المللّة ويعدّون أعمال الناس جميعا كلا شيء وعملهم موافقا للاحتياط ويرون أنفسهم مبالين بالدين. فمثلا في باب الوضوء، الاخبار البيانية لوضوء رسول الله صلى الله عليه وآله متواترة على الظاهر بأنه صلى الله عليه وآله يصبّ غرفة من الماء على وجهة وغرفة إلى يمينه وغرفة إلى شماله، وقد قام إجماع فقهاء الامامية على التحقيق بأن هذا الوضوء صحيح وظاهر كتاب الله ايضا هو ذلك، وفي الغسل الثاني بل الغرفة الثانية استشكل بعض ولكن الغرفة الثانية بل الغسل الثاني أيضا لا بأس به وان كان في استجبابه كلام ولكن الغسل الثالث بدعة ومبطل للوضوء بلا اشكال رواية وفتوى، فالآن انظر إلى عمل الوسواسي المسكين فهو لا يكتفي بعشرين غرفة تسبغ كل غرفة منها تمام اليد وتحسب غسلة تامة فوضوؤه حينئذ باطل بلا اشكال، فهذا الشقيّ الضعيف العقل يرى هذا العمل الذي أتى به طاعة للشيطان ووسوسته صحيحا وموافقا للاحتياط ويرى أعمال سائر الناس باطلة، فمن هنا يعلم وجه صدق الحديث الشريف الذي عدّه من السفهاء، فيعلم أن من يرى العمل الذي يخالف عمل رسول الله صحيحا والعمل الذي يكون موافقا لعمله صلى الله عليه وآله باطلا فهو إمّا خارج عن الدين أو سفيه لا عقل له، وحيث إن هذا المسكين ليس بخارج عن الدين فهو سفيه لا عقل له لا محالة ومطيع للشيطان ومخالف للرحمن وليس لهذه المعصية والداء العضال علاج سوى التفكر في الامور التي ذكرناها والمقايسة لعمله بعمل المتدينين والعلماء والفقهاء رضوان الله عليهم، فإن رأى نفسه مخالفا لهم فيرغم أنف الشيطان ولا يعتني بذاك اللعين فإذا وسوس له الشيطان في وساوسة بأن عملك باطل يجيبه اذا كان عمل جميع فقهاء الامة باطلا فليكن عملي ايضا باطلا، فمن المرجو أنه اذا خالف الشيطان مدّة ويستعيذ في ضمن هذا إلى الحق تعالى بالعجز والحاجة من شرّه، أن يزول هذا المرض وتنقطع عين طمع الشيطان عنه كما أنه في الروايات قد ذكرت هذه الطريقة لدفع كثرة الشك الذي هو ايضا من القاءات الشيطان. ففي الكافي الشريف باسناده إلى أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: " اذا كثر عليك السهو فامض على صلاتك فانه يرشك أن يدعك انما هو من الشيطان ".

وفي رواية أخرى عن الباقر أو الصادق عليهما السلام قال: " لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه فإن الشيطان خبيث معتاد لما عوّد فليمض أحدكم في الوهم ولا يكثرنّ نقض الصلاة فإنه إذا فعل ذلك مرّات لم يعد اليه الشكّ ". قال زرارة: ثم قال: " انما يريد الخبيث أن يطاع فاذا عصي لم يعد إلى أحدكم ".. وهذه المعالجات المهمّة في جميع الامور التي تكون من القاءات الشيطان ومن دعابات الواهمة الشيطانية، وقد قررت في الاحاديث الشريفة لذلك أدعية ايضا فمن أرادها ايضا فليراجع الوسائل ومستدركها في أواخر كتاب الخلل.

 

الفصل الثاني

في الاخلاص

من مهمات آداب النية وهو في نفس الوقت من مهمات جميع العبادات ومن المقررات الكلية الشاملة الاخلاص وحقيقتة تصفية العمل عن شائبة سوى الله وتصفية السرّ عن رؤية غير الحق تعالى في جميع الاعمال الصورية واللبّية والظاهرية والباطنية وكمال الاخلاص ترك الغير مطلقا وجعل الإنّيّة والأنانية والغير والغيرية تحت قدميك، قال تعالى: " ألا لله الدين الخالص " (الزمر 3) أي أن الله تعالى قد اختار لنفسه الدين الخالص فإذا كان لشيء من الحظوظ النفسانية والشيطانية دخل في الدين فلا يكون خالصا وما ليس بخالص فإن الله لم يختره وما كانت فيه شائبة الغيرية والنفسانية فهو خارج عن حدود دين الحق. قال تعالى: " وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " (البينة 5).. وقال تعالى: " من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب " (الشورى 20). وقال رسول الله صلى الله عليه وآله على ما نقل: " لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر اليه ". وقال تعالى: " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت وقع أجره على الله " (النساء 100). ويمكن أن تكون هذه الأية المباركة متكلفة لجميع مراتب الاخلاص أحدهما الهجرة الصورية التي تقع بالبدن وهذه الهجرة اذا لم تكن خالصة لله بل كانت للحظوظ النفسانية فليست هجرة إلى الله ورسوله وهذه هي مرتبة الاخلاص الصوري الفقهي.

والثانية الهجرة المعنوية والسفر الباطن الذي مبدؤه البيت المظلم للنفس وغايته الله تعالى ورسوله الذي مرجعه الحق ايضا لأن الرسول بما هو رسول ليس له استقلال بل هو آية ومرآة وممثل، فالهجرة اليه هجرة إلى الحق (حبّ خاصان خد احبّ خدا است) (مصراع للعارف المثنوي الرومي يقول: حب المخصوصين لله هو حب الله) فمحصلّ معنى الآية الشريفة على حسب هذا الاحتمال هو أنه من هاجر بالهجرة المعنوية وسافر بالسفر القلبي العرفاني وخرج من بيت النفس ومنزل الانانية وهاجر إلى الله من دون رؤية نفسه ونفسانيته وحيثيّته فجزاؤه على الحق تعالى، واذا كان السالك في سلوكه إلى الله طالبا لحظ من الحظوظ النفسانية ولو كان هو الوصول إلى المقامات بل ولو كان هو الوصول إلى قرب الحق بمعنى وصول نفسه إلى الحق فليس هذا السلوك سلوكا إلى الحق بل السالك لم يخرج بعد من البيت بل هو مسافر في جوف البيت من ركن إلى ركن ومن زاوية إلى زاوية، فالسفر اذا كان في مراتب النفس وللوصول إلى الكمالات النفسانية فليس بسفر إلى الله بل هو سفر من النفس إلى النفس، ولكن لا بد للسالك من هذا السفر في سفره إلى الله ولا يقدر أحد أن يسافر السفر الرباني من دون السفر النفساني غير الكمّل من أولياء الله وهذا الشأن للكمّل فقط ولعل الآية الشريفة: " سلام هي حتى مطلع الفجر " (القدر 5) تشير إلى هذه السلامة من التصرفات الشيطانية والنفسانية في جميع مراتب السير، في الليالي المظلمة الطبيعية التي هي ليلة القدر للكمّل حتى طلوع فجر القيامة الذي هو للكمّل رؤية جمال الاحدية، وأما غيرهم فليسوا سالمين في جميع مراتب السير بل في أوائل الامر فلا يكون سالك خارجا من التصرفات الشيطانية فاعلم أن هذه المرتبة من الاخلاص أي السلامة من أول مرتبة السير إلى الله إلى آخر مراتبها وهي حصول الموت الحقيقي بل ما بعد الحياة الثانوية الحقانية وهي الصحو بعد المحو لا تتيسر لأهل السلوك والمتعارفين منن أصحاب المعرفة والرياضة وآية هذا النحو من الخلوص هي أنه لا سبيل لغواية الشيطان عليهم وطمع الشيطان مقطوع عنهم بالمرّة كما قال تعالى في الآية الشريفة ناقلا عن ذاك الخبيث: " فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين " (سورة ص 81 - 82 - 83). وقد نسب الاخلاص ههنا إلى عين العبد لا إلى فعله وهذا مقام فوق الاخلاص في العمل ولعل المراد من الحديث النبوي المعروف من أخلص لله أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه إلى السانه، هو الاخلاص بجميع مراتبه يعني الاخلاص العملي والصفاتي والذاتي ولعله يكون ظاهرا في الاخلاص الذاتي وتكون بقية مراتب الاخلاص من لوازمه، وشرح هذا الحديث الشريف وبيان المقصود من ينابيع الحكمة وكيفية جريانها من القلب إلى اللسان ومدخلية الخلوص في هذا الجريان وخصوصية الاربعين صباحا خارج عن نطاق البيان في هذه الرسالة ويحتاج إلى رسالة مستقلة، والرسالة المعروفة بتحفة الملوك في السير والسلوك المنسوبة إلى العارف بالله بحر العلوم هو السيد محمد بن مهدي بن العالم السيد مرتضى بن العالم الجليل السيد محمد البروجردي الطباطبائي كان (ره) سيد العلماء الاعلام ومولى فضلاء الاسلام علامة دهره وزمانه ووحيد عصره وأوانه قال العلامة النوري في المستدرك: قد أذعن له جميع علماء عصره ومن تأخّر عنه بعلوّ المقام والرئاسة النقلية والعقلية وسائر الكمالات النفسانيّة حتى أن الشيخ الفقيه الاكرم الشيخ جعفر النجفي مع ما هو عليه من الفقاهة والرياسة كان يمسح تراب خفّه بحنك عمامته وهو من الذين تواترت عنه المكرمات ولقاؤه الحجة صلوات الله عليه ولم يسبقه في هذه الفضيلة أحد فيما أعلم الا السيد رضى الدين علي بن طاووس وقد ذكرنا جملة منها بالاسانيد الصحيحة في كتابنا دار السلام والجنّة المأوى والنجم الثاقب لو جمعت لكانت رسالة حسنة (انتهى).

 تولّد في الحائر الشريف سنة 1155 (عقنه) وتوفي في النجف الاشرف سنة 1212 (غريب) ودفن بجنب باب المسجد الطوسي وبجنبه دفن ولده العالم الفاضل السيد محمد رضا رضي الله عنه) المرحوم فعمدة نظره شرح هذا الحديث الشريف وهي رسالة لطيفة وان كانت لا تخلو من المناقشات، ولذا لا يراها البعض من تأليفات هذا السيد الجليل وليس ببعيد.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست