.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الفصل الأول: في التوجه إلى عز الربوبية وذل العبودية

الفصل الثاني: في مراتب مقامات أهل السلوك

الفصل الثالث: في بيان الخشوع

الفصل الرابع: في بيان الطمأنينة

 

الآداب المعنوية للصلاة

المقالة الأولى

في الآداب التي تكون ضرورية في جميع الحالات الصلاتية

بل في جميع العبادات والمناسك

  وفيها اثنا عشر فصلاً

الفصل الأول

  في التوجّه إلى عزّ الربوبية وذلّ العبودية

من الآداب القلبية في العبادات والوظائف الباطنية لسالك طريق الآخرة التوجّه إلى عزّ الربوبية وذلّ العبودية، وهذا التوجّه من المنازل المهمّة في السلوك للسالك بحيث تكون قوّة سلوك كل من السالكين بحسب قوة هذا النظر وبمقدارها، بل الكمال والنقص لإنسانية الإنسان تابع لهذا الأمر، وكلما كان النظر إلى الإنّية والأنانية ورؤية النفس وحبّها في الإنسان غالبا كان بعيدا عن كمال الإنسانية ومهجورا من مقام القرب الربوبي، وأن حجاب رؤية النفس وعبادتها لأضخم الحجب وأظلمها، وخرق هذا الحجاب أصعب من خرق جميع الحجب، وفي نفس الحال مقدمة له بل وخرق هذا الحجاب هو مفتاح مفاتيح الغيب والشهادة وباب أبواب العروج إلى كمال الروحانية، وما دام الإنسان قاصرا على النظر إلى نفسه وكماله المتوهم وجماله الموهوم فهو محجوب ومهجور من الجمال المطلق والكمال الصرف والخروج من هذا المنزل هو أول شرط للسلوك إلى الله بل هو الميزان في حقانية الرياضة وبطلانها. فكل سالك يسلك بخطوة الأنانية ورؤية النفس ويطوي منازل السلوك في حجاب الإنيّة وحب النفس تكون رياضته باطلة ولا يكون سلوكه إلى الله بل إلى النفس (أمّ الأصنام صنم نفسك) (مصراع بيت للعارف الرومي مشهور: مادربت هابت نفس شما است) قال تعالى: " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ". (النساء 100)

فالهجرة الصورية وصورة الهجرة عبارة عن هجرة البدن "المنزل الصوري" إلى الكعبة أو إلى مشاهد الأولياء، والهجرة المعنوية هي الخروج من بيت النفس ومنزل الدنيا إلى الله ورسوله، والهجرة إلى الرسول و إلى الوليّ أيضاً هجرة إلى الله، و ما دام للسالك تعلّق ما بنفسانيّته وتوجّه منه إلى إنّيّته فليس هو بمسافر وما دامت البقايا من الأنانية على امتداد نظر السالك وجدران مدينة النفس وأذان أعلام حبّ النفس غير مختفية فهو في حكم الحاضر لا المسافر ولا المهاجر.

وفي مصباح الشريعة قال الصادق (ع): (العبودية جوهرة كنهها الربوبية فما فقد في العبودية وجد في الربوبية، وما خفي من الربوبية أصيب في العبودية).

فمن سعى بخطوة العبودية ووسم ناصيته بسمة ذلة العبودية يصل إلى عزّ الربوبية، والطريق للوصول إلى الحقائق الربوبية هو السير في مدارج العبودية فما فقد من الإنّيّة والأنانية في عبوديّته يجده في ظّل الحماية الربوبية حتى يصل إلى مقام يكون الحق تعالى سمعه وبصره ويده ورجله كما في الحديث الصحيح المشهور عند الفريقين. فإذا ترك العبد التصرفات من عنده وسلم حكومة وجوده كلها إلى الحق وخلّى بين البيت وصاحبه وفني في عزّ الربوبية فحينئذ يكون المتصرف في الدار صاحبها فتصير تصرفات العبد تصرّفا إلهيا، فيكون بصره بصراً إلهياً وينظر ببصر الحق ويكون سمعه سمعاً إلهياً فيسمع بسمع الحق، وكلما اكتملت ربوبية النفس وكان عزّها منظورا في نظرها نقص بمقدار من العزّ الربوبي لأن هذين: أي عزّ العبودية وعز الربوبية متقابلان " الدنيا والآخرة ضرتان " فمن الضروري للسالك أن يتفطّن إلى ذلّه ويكون ذلّ العبودية وعزّ الربوبية نصب عينيه.

وكلما قوي هذا النظر زادت روحانيته في العبادة وكانت روح العبادة أقوى، حتى إذا تمكن العبد بنصرة الحق وأوليائه الكُمّل عليهم السلام من الوصول إلى حقيقة العبودية، وكنهها فإنه يجد حينئذ لمحة من سرّ العبادة. وهذان المقامان - أعني مقام عزّ الربوبية الذي هو الحقيقة ومقام ذلّ العبودية الذي هو رقيقته - مرموزان في جميع العبادات وبالأخص في الصلاة التي لها مقام الجامعية. ومنزلتها بين العبادات منزلة الإنسان الكامل ومنزلة الإسم الأعظم بل هي عينه، وللقنوت، من الأعمال المستحبة. وللسجدة، من الأعمال الواجبة اختصاص بهذه الخصوصية وسنشير إليها فيما يأتي إن شاء الله.

وليعلم أن العبودية المطلقة من أعلى مراتب الكمال وأرفع مراتب الكمال وأرفع مقامات الإنسانية وليس لأحد فيها نصيب سوى الأكمل من خلق الله محمد صلى الله عليه وآله وأولياء الله الكمّل، فله صلى الله عليه وآله هذا المقام بالأصالة وللأولياء الكمّل بالتبعية وأما بقية العباد فهم في طريق العبادة عُرج وعبادتهم وعبوديّتهم معلّلة ولا ينال المعراج الحقيقي المطلق إلا بقدم العبودية ولهذا قال الله سبحانه: { سبحان الذي أسرى بعبده " (الاسراء: 1) فقد أسرى الله سبحانه بتلك الذات المقدسة إلى معراج القرب والوصول بقدم العبودية والجذبة الربوبية.

وفي التشهد الصلاتي هو رجوع من الفناء المطلق الذي حصل للمصلّي في السجدة، التوجّه إلى العبودية أيضاً قبل التوجه بالرسالة ويمكن أن يكون إشارة إلى مقام الرسالة هو أيضا نتيجة لجوهرة العبودية ولهذا المطلب ذيل طويل خارج عن نطاق هذه الأوراق.

 

الفصل الثاني

في مراتب مقامات أهل السلوك

اعلم أن لاهل السلوك في هذا المقام وسائر المقامات مراتب ومدارج لا تحصى. ونحن نذكر بعض مراتبه على النحو الكلّي، وأما الإحاطة بجميع جوانبه وإحصاء جميع مراتبه فخارج عن عهدتي وفوق طاقتي، فإن " الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ". قال الصادق عليه السلام: " الإيمان درجات وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهي تمامه ومنه الناقص البيّن نقصانه ومنه الراجح الزائد رجحانه ".

وقال الباقر عليه السلام: " إن المؤمنين على منازل، منهم على واحدة ومنهم على اثنتين ومنهم على ثلاث ومنهم على أربع ومنهم على خمس ومنهم على ستّ ومنهم على سبع، فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة اثنتين لم يقوَ، وعلى صاحب الاثنتين ثلاثا لم يقو " وساق الحديث ثم قال: " وعلى هذه الدرجات ".)

فمن تلك المراتب مرتبة العلم وهي أن يثبت بالسلوك العلمي والبرهان الفلسفي ذلة العبودية وعزة الربوبية، وهذا لبّ من لباب المعارف. فقد اتضح في العلوم العالية والحكمة المتعالية أن جميع دار التحقق وتمام دائرة الوجود إنما هو صرف الربط والتعلّق ومحض الفقر والفاقة أما العزّة والملك والسلطان فمختصة بذاته المقدس الكبريائي وليس لاحد من حظوظ العزة والكبرياء نصيب.

وذل العبودية والفقر ثابت في ناصيتهم وفي حاقّ حقيقتهم، وإنما حقيقة العرفان والشهود ونتيجة الرياضة والسلوك هي رفع الحجاب عن وجه الحقيقة ورؤية ذل العبودية وأصل الفقر والتدلي في نفسه وفي جميع الموجودات، ولعل في الدعاء المنسوب إلى سيّد الكائنات صلى الله عليه وآله: " اللهم أرني الأشياء كما هي " إشارة إلى هذا المقام بمعنى أنه صلى الله عليه وآله سأل الله سبحانه أن يشهده ذلة العبودية المستلزمة لشهود عزّ الربوبية.

فسالك طريق الحقيقة ومسافر سبيل العبودية إذا قطع هذا المنزل بالسلوك العلمي وركب مركب السير الفكري يقع في حجاب العلم ويصل إلى المقام الأول للإنسانية، ولكن هذا الحجاب من الحجب الغليظة وقد قالوا: العلم هو الحجاب الأكبر ولا بد ألا يبقى في هذا الحجاب وأن يخرقه ولعله إذا اقتنع بهذا المقام وسجن قلبه في هذا القيد يقع في الاستدراج، والاستدراج في هذا المقام هو أن يشتغل بالتفريعات الكثيرة العلمية ويجوّل فكره في هذا الميدان، فيقيم لهذا المقصد براهين كثيرة فيحرم من المنازل الأخر ويتعلق قلبه بهذا المقام ويغفل عن النتيجة المطلوبة وهي الوصول إلى الفناء في الله ويصرف عمره في حجاب البرهان وشعبه وكلما كثرت الفروع يصير الحجاب والاحتجاب عن الحقيقة أكثر.

فللسالك ألاّ يغتّر بمكايد الشيطان في هذا المقام ولا يحتجب بكثرة العلم وغزارته، ولا بقوة البرهان عن الحق والحقيقة ويتأخر عن السير في الطلب وله أن يشمّر الذيل بهمّته، ولا يغفل عن الجدّ في طلب المطلوب الحقيقي حتى ينال المقام الثاني.

وهو أن كل ما أدركه عقله بقوة البرهان والسلوك العلمي يكتبه بقلم العقل على صحيفة قلبه كي يوصل حقيقة ذل العبودية وعزّ الربوبية إلى القلب ويفرغ من القيود والحجب العلمية، ونحن نشير إلى ذلك المقام عن قريب أن شاء الله، فإذن، فنتيجة المقام الثاني هي حصول الإيمان بالحقائق.

والمقام الثالث هو مقام الاطمئنان والطمأنينة، وهو في الحقيقة المرتبة الكاملة من الإيمان، قال تعالى مخاطبا خليله " أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي " ولعلّنا نشير إلى تلك المرتبة أيضاً فيما سيأتي.

المرتبة الرابعة هي مقام المشاهدة، وهو نور الهي وتجلّ رحماني يظهر في سرّ السالك تبعا للتجليات الأسمائية والصفاتية وينوّر جميع قلبه بنور شهوديّ ولهذا المقام درجات كثيرة لا تتسع هذه الأوراق لذكرها.

وفي هذه المقام يبرز نموذج من قرب النوافل المعبّر عنه بـ " كنت سمعه وبصره ".

ويرى السالك نفسه مستغرقا في البحر اللامتناهي ومن ورائه بحر عميق في غاية العمق تنكشف له فيه نبذة من أسرار القدر، ولكل من هذه المقامات استدراج يختص به وللسالك فيه هلاك عظيم. ولا بدّ للسالك في جميع هذه المقامات من تخليص نفسه من الأنانية وأن يتخلص من رؤية نفسه وحبّها، فإنه منبع أكثر المفاسد ولا سيّما للسالك وسنشير إلى ذلك المطلب إن شاء الله.

 

الفصل الثالث

في بيان الخشوع

إن من الأمور اللازمة للسالك في جميع عباداته ولا سيما في الصلاة التي هي رأس العبادات ولها مقام الجامعية، الخشوع. وحقيقته عبارة عن الخضوع التام الممزوج بالحب أو الخوف وهو يحصل من إدراك عظمة الجلال والجمال وسطوتهما وهيبتهما.

وتفصيل هذا الإجمال هو أنّ قلوب أهل السلوك بحسب الجِبِلّة والفطرة مختلفة، فبعض منها عشقّي ومن مظاهر الجمال ومتوجه إلى جمال المحبوب بحسب الفطرة فهؤلاء إذا أدركوا في سلوكهم ظل الجميل، أو شاهدوا أصل الجمال تمحوهم العظمة المختفية في سرّ الجمال فتصعقهم، لأنّ في كل جمال جلالا مختفيا وفي كل جلال جمالا مستورا.

ولعله إلى ذلك أشار مولى العارفين وأمير المؤمنين والسالكين صلوات الله عليه وعلى آله أجمعين حيث قال:

" سبحان من اتسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته، واشتدت نقمته لأعدائه في سعة رحمته" فتغشاهم هيبة الجمال وعظمته ويأخذهم الخشوع في حيال جمال المحبوب ".

وهذه الحالة في أوائل الأمر توجب تزلزل القلب واضطرابه، وبعد التمكين تحصل للسالك حالة الأنس وتتبدل حالة الوحشة والاضطراب المتولدة من العظمة والسطوة إلى الأنس والسكينة وتجيئه حالة الطمأنينة، كما أن حالة قلب خليل الرحمن كانت كذلك.

وبعض من القلوب خوفّي ومن مظاهر الجلال، وأرباب تلك القلوب يدركون دائماً العظمة والكبرياء والجلال، وخشوعهم يكون من الخوف، ومن تجلي الأسماء القهرية والجلالية لقلوبهم، كما أن يحيى، على نبيّنا وآله وعليه السلام، كان هكذا. فالخشوع يكون ممزوجا تارة بالحب وأخرى بالخوف والوحشة، وان كان في حبّ وحشة، وفي كل خوف حبّ. ومراتب الخشوع على حسب مراتب إدراك العظمة والجلال والحسن والجمال، وحيث أن أمثالنا مع ما لنا من هذه الحالة، من نور المشاهدات محرومون فلا بد أن نكون بصدد تحصيل الخشوع من طريق العلم أو الإيمان. قال تعالى:

{ قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون " (1 المؤمنون:1-2) فجعل الخشوع في الصلاة من حدود الإيمان وعلائمه. فكل من لم يكن خاشعا في الصلاة فهو خارج عن زمرة أهل الإيمان طبقا لما قاله الذات المقدسة الحق تعالى شأنه. (1 قال الصادق عليه السلام " إذا دخلت في صلاتك فعليك بالتخشّع والإقبال على صلاتك فإن الله تعالى يقول: " الذين هم في صلاتهم خاشعون ".

قال المحقق الكاشاني ((* - لقب العالم الفاضل الكامل العارف المحدّث الحكيم المتألّه محمد بن المرتضى المدعو بالمولى محسن القاشاني صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة كالوافي والصافي والشافي والمفاتيح والنخبة والحقائق وعلم اليقين وعين اليقين وخلاصة الأذكار وبشارة الشيعة والمحجة البيضاء في إحياء الأحياء إلى غير ذلك مما يقرب من مئة تصنيف)).- في المحجة البيضاء ما حاصله: إن الخشوع في الصلاة على قسمين

الأول: الخشوع القلبي وهو أن يكون تمام همّته في الصلاة ومعرضا عما سواها بحيث لا يكون في قلبه سوى المحبوب.

والثاني: الخشوع في الجوارح وهو يحصل بأن يغمض عينيه ولا يلتفت إلى الجوانب ولا يلعب بأعضائه...

وبالجملة لا تصدر منه حركة سوى الحركات الصلاتية، ولا يأتي بشي من المكروهات.. ثم ينقل الروايات المتضمنة للأمور المكروهة في الصلاة.

وأقول: إن حقيقة الخشوع عبارة عن حالة قلبية تحصل للقلب من إدراك الجلال والجمال، وبمقدار ما يدرك القلب منهما تزول عنه الإنّيّة والأنانية فيخضع ويسلّم لصاحب الجلال والجمال.. وبهذه العناية نسب الخشوع إلى الأرض والجبال، فإن الأرض مسلّمة للعوامل الطبيعية وليس لها إرادة في إنبات النبات، بل هي تسليم محض، قال تعالى: " ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت " (فصلت 39). وهكذا الجبل بالنسبة إلى نزول القرآن فإن أنيّة الجبل تندكّ ولا يمكنه المقاومة، قال تعالى: " ولو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية الله " (الحشر 21).

وبما أن صلواتنا ليست مشفوعة بالخشوع فإن ذلك ناجم إمّا عن نقص الإيمان، أو فقدانه. وإن الاعتقاد والعلم مغايران للإيمان، فالعلم بالله وأسمائه وصفاته وسائر المعارف الإلهية الذي يوجد فينا، مغاير للإيمان وليس بإيمان.

والدليل على ذلك إن الشيطان كما يشهد له الذات المقدسة الحق عالم بالمبدأ والمعاد ومع ذلك فهو كافر، لأنه يقول:

" خلقتني من نار وخلقته من طين " فهو إذاّ يعترف بالحق تعالى وخالقيته، ويقول أيضاً:

" أنظرني إلى يوم يبعثون " فيعتقد بالمعاد وهو كذلك عالم بالكتب والرسل والملائكة، ومع ذلك كله خاطبه الله سبحانه بلفظ الكافر، وأخرجه من زمرة المؤمنين.

فإذاً يمتاز أهل العلم من أهل الإيمان، وليس كل من هو من أهل العلم أهل للإيمان، فيلزم للسالك أن يدخل نفسه في سلك المؤمنين بعد سلوكه العلمي، ويوصل إلى قلبه عظمة الحق وجلاله وبهاءه، وجماله جلّت عظمته كي يخشع قلبه، وإلا فمجرد العلم لا يوجب خشوعا كما ترونه في أنفسكم فإنكم مع كونكم معتقدين بالمبدأ والمعاد، ومع اعتقادكم بعظمة الله وجلاله ليست قلوبكم خاشعة. وأما قوله تعالى:

" ألم يأن للذين آمنوا أن يخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق " فلعلّ المراد منه هو الإيمان الصوري أي الإيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله، وإلا فالإيمان الحقيقي يلازم مرتبة من الخشوع لا محالة أو أن المراد من الخشوع في هذه الآية، هو الخشوع بمراتبه الكاملة، كما أن العالم ربما يطلق على من وصل من حد العلم إلى حد الإيمان، ويحتمل أن تكون الآية الشريفة " إنما يخشى الله من عباده العلماء " إشارة إلى هؤلاء.

وقد أطلق العلم والإيمان والإسلام في الكتاب والسنة على المراتب المختلفة منها وبيانها خارج عن وظيفة هذه الأوراق، وبالجملة على السالك لطريق الآخرة وخصوصا على السالك بالخطوة المعراجية الصلاتية أن يحصّل الخشوع بنور العلم والإيمان وان يمكّن هذه الرقيقة الإلهية، والبارقة الرحمانية في قلبه بمقدار ما يمكنه، فلعله يستطيع أن يحتفظ بهذه الحالة في جميع الصلاة من أولها إلى آخرها.

وحالة التمكّن والاستقرار وان كانت لا تخلو في أول الأمر من صعوبة وأشكال لأمثالنا، ولكنها مع الممارسة والارتياض القلبي أمر ممكن جدّا.

عزيزي، أن تحصيل الكمال وزاد الآخرة يستدعي طلبا وجدا، وكلما كان المطلوب أعظم فهو أحرى بالجدّ.

ومن الواضح أن معراج القرب إلى حضرة الألوهية، ومقام جوار رب العزة، لا يتيسر مع هذه الرخوة والفتور والتسامح، فيلزمك القيام الرجولي حتى تصل إلى المطلوب، وطالما أنك تؤمن بالآخرة وتعلم بأن النشأة الآخرة لا يمكن أن تقاس بهذه النشأة من حيث السعادة والكمال ولا في جانب الشقاوة والوبال، لأن تلك النشأة عالم أبدي دائم لا موت فيه ولا فناء له سعيدة في راحة وعزة ونعمة أبدية وهي راحة لا يوجد لها شبيه في هذا العالم، وعزة وسلطنة الاهيان ليس لهما نظير في هذه النشأة، و نِعَمُ ما خطرت على مخيِّلة أحد وكذلك الأمر في جانب الشقاوة فإن عذابها ونقمتها ووبالها ليس لها في هذا العالم مثيل ولا نظير، وتعلم أن طريق الوصول إلى السعادة إنما هو إطاعة رب العزة، وليس في العبادات ما يضاهي هذه الصلاة فإنها معجون جامع إلهي يتكفل بسعادة البشر (وان قبلت قبلت جميع الأعمال) فلا بدّ لك من الجدّ التام في طلبها ولا تتضايق في السعي إليها ومن تحمل المشاق في سبيلها مع أنه ليس فيها مشقة بل انك إذا واظبت عليها مدة يسيرة، وحصل لقلبك الأنس بها لتجدنَّ في هذا العالم من المناجاة مع الحق تعالى شأنه لَذّات لا يقاس بها لذّة من لذّات هذا العالم كما يظهر ذلك من السير في أحوال أهل المناجاة مع الله سبحانه.

وبالجملة فخلاصة ما ذكرنا في هذا الفصل، أنه إذا علم الإنسان بالبرهان أو ببيان الأنبياء عليهم السلام عظمة الله وجماله وجلاله، فلا بدّ إن يذكِّر القلب بها حتى يدخل الخشوع شيئا فشيئا في القلب بواسطة التذكُّر والتوجه القلبي والمداومة على ذكر عظمة الله وجلاله حتى تحصل النتيجة المطلوبة. ولا بد للسالك ألاّ يقنع في حال من الحالات بالمقام الذي هو فيه، فإنه مهما حصلت المقامات لأمثالنا فلا تساوي اصغر نقد في سوق أهل المعرفة، ولا تقابل في سوم أصحاب القلوب حبة خردل.

فليتذكر السالك في جميع حالاته نقائصه ومعايبه، فعلّه ينفتح له طريق إلى السعادة من هذه السبيل والحمد لله.

 

الفصل الرابع

في بيان الطمأنينة

من الآداب المهمة المهمة القلبية للعبادات - وخصوصا العبادات الذكرية - الطمأنينة. وهذه غير الطمأنينة التي اعتبرها الفقهاء رضوان الله عليهم في خصوص الصلاة، فهذه عبارة عن أن السالك يأتي بالعبادة مع سكون القلب، واطمئنان الخاطر، لأن العبادة إذا أتي بها في حال اضطراب القلب وتزلزله فالقلب لا ينفعل بمثل هذه العبادة ولا يحصل أثر من العبادة في ملكوت القلب ولا تصير حقيقة العبادة صورة باطنية للقلب، والحال إن من إحدى جهات تكرار العبادات وتكثير الأذكار والأوراد أن يتأثر القلب منها وينفعل حتى يتشكل باطن السالك شيئا فشيئا من حقيقة الذكر والعبادة، ويتحد قلبه بروح العبادة، وطالما لم يكن للقلب اطمئنان وسكون وطمأنينة ووقار لم يكن للأذكار والنسك فيه تأثير ولا يسري أثر العبادة في ظاهر البدن وملكه إلى ملكوته وباطنه ولا يؤدي إلى القلب حظوظة من العبادة. وهذا من الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلى بيان، ويعلم بأدنى تأمّل، وإذا كانت العبادة بهذه الكيفية بحيث لا يشعر القلب بها أصلا ولا يظهر منها أثر في الباطن لا يتحفظ عليها في سائر العوالم ولا تصعد من نشأة الملك إلى نشأة الملكوت، ومن الممكن أن تمحى صورتها بالكلية عن صفحة القلب (ونعوذ بالله) عند شدائد مرض الموت وسكراته المهيبة والأهوال والمصائب التي تكون بعد الموت فيقدم الإنسان على الله وهو صفر اليدين.

ونذكر لذلك مثلا، وهو أن الذكر الشريف: " لا إله إلا الله محمد رسول الله " إذا قاله أحد من قلبه وبإطمئنان من لبّه وراح يعلّم القلب هذا الذكر الشريف، فيتعلم القلب الذكر ويتكلم به شيئا فشيئا حتى يتبع لسان القلب اللسان الظاهر فيكون القلب ذاكراً أولا ثم يتبعه اللسان الظاهر، ويكون ذاكرا وإلى هذا المعنى أشار الإمام الصادق عليه السلام، على ما في رواية مصباح الشريعة قال:

" فاجعل قلبك قبلة للسانك لا تحركه إلا بإشارة القلب وموافقة العقل ورضى الإيمان ".

ففي أول الأمر ما لم ينطق لسان القلب فلسالك طريق الآخرة إن يعلّمه النطق ويلقي عليه الذكر. مع طمأنينة وسكون، فإذا انفتح لسان القلب بالنطق يكون القلب قبلة للّسان ولسائر الأعضاء. فإذا شرع القلب في ذكر تكون مدينة وجود الإنسان بأسرها ذاكرة، وأما إذا قال هذا الذكر الشريف بلا سكون في القلب ولا طمأنينة منه ومع العجلة والاضطراب واختلال الحواس فلا يكون منه أيّ تأثير في القلب ولا يتجاوز عن حدّ اللسان والسمع الحيواني الظاهري، إلى الباطن والسمع الإنساني ولا تتحقق حقيقته في الباطن ولا يصير صورة كمالية للقلب غير ممكنة الزوال فإن إصابته الأهوال والشدائد وبالخصوص أهوال الموت وسكراته وشدائد نزع الروح الإنساني فينسى الذكر بالمرّة وينمحي الذكر الشريف عن صحيفة قلبه بل اسم الله سبحانه وتعالى واسم الرسول الخاتم والدين الشريف الإسلام، والكتاب المقدس الإلهي والأئمة الهداة وسائر المعارف التي ما أنهاها إلى القلب فينساها كلها وعند السؤال في القبر لا يحير جوابا، والتلقين أيضاً لا يفيد حاله لأنه لا يجد في نفسه من حقيقة الربوبية والرسالة وسائر المعارف أثراً. وما قاله بقلقلة لسانه وما حصلت له صورة في القلب قد انمحى من خاطره ولم يكن له نصيب من الشهادة بالربوبية والرسالة وسائر المعارف.

وفي الحديث أن طائفة من أمة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، إذا أوردوهم في النار ونظروا إلى مالك: خازن جهنم نسوا اسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من هيبته مع أنهم من أهل الإيمان كما هو في نفس ذلك الحديث.

قال المحدّث العظيم الشأن المجلسي (1 إذا اطلق، فهو شيخ الإسلام والمسلمين مروّج المذهب والدين الإمام العلامة المحقق المدقق محمد باقر بن محمد تقي بن المقصود علي المجلسي قدس الله أرواحهم. قال صاحب المستدرك المحدّث العلامة النوري قدس سرّه لم يوفق أحد في الإسلام مثل ما وفّق هذا الشيخ المعظم والبحر الخضم والطود الاشم من ترويج المذهب واعلاء كلمة الحق وكسر صولة المبتدعين وقمع زخارف الملحدين واحياء دارس سنن الدين المبين ونشر آثار أئمة المسلمين بطرق عديدة وانحاء مختلفة أجلّها وأبقاها التصانيف الرائقة الأنيقة الكثيرة التي شاعت في الأنام وينتفع بها في آناء الليل والأيام العالم والجاهل والخواص والعوام والعجمي والعربي مع ما خرج من مجلسه جماعة كثيرة من الفضلاء وصرّح تلميذه الاجّل الاميرزا عبدالله الاصبهاني في (ض) انهم بلغوا إلى ألف نفس. (انتهى). ومن أجلِّ تأليفاته وأعظمها موسوعة بحار الأنوار وكل مؤلفاته الشريفة على ما وقع عليها التخمين تبلغ ألف ألف بيت وأربعة آلاف بيت وكسرا. توفي سنة 1110 (غقي) في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان وعمره إذ ذاك ثلاث وسبعون فانه ولد في سنة 1037 وهو يوافق عدد (جامع كتاب بحار الأنوار) ومرقده الشريف الآن ملجأ الخلائق بأصبهان في الباب القبلي من جامعها العتيق الأعظم ومن المجرّبات استجابة الدعوات عند مضجعة المنيف قدّس الله نفسه الزكيّة.)

رحمه الله في مرآة العقول في شرح الحديث الشريف: (كنت سمعه وبصره) ما حاصله أن من لم يصرف بصره وسمعه وسائر أعضائه في سبيل إطاعة الحق تعالى لم يكن له بصر وسمع روحاني وهذا البصر والسمع الملكي الجسماني لا ينتقل إلى ذاك العالم ويكون الإنسان في عالم القبر والقيامة بلا سمع وبلا بصر، والميزان في السؤال والجواب في القبر تلك الأعضاء الروحانية (انتهى ملخصا).

والأحاديث الشريفة في هذا النحو من الطمأنينة وآثارها، كثيرة، ومن هذه الجهة أمر بترتيل القرآن الشريف، وفي الحديث: عن أبي عبد الله (ع) قال سمعته يقول: " من نسي سورة من القرآن مُثّلَت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة، فإذا رآها قال من أنت ما أحسنك ليتك لي، فتقول: أما تعرفني، أنا سورة كذا وكذا لو لم تنسني لرفعتك إلى هذا المكان ".

وفي الحديث قال: " من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بدمه ولحمه ".

والسّر في ذلك أنّ اشتغال القلب وتكدره في أيام الشباب أقل. لذا يتأثر القلب من القرآن أكثر أسرع ويكون أثره أيضاً أبقى. وفي هذا الباب أحاديث كثيرة نذكر منها في باب القراءة إنشاء الله. وفي الحديث الشريف: " ما من شيء أحبّ إلى الله عزّ وجل من عمل يداوم عليه وإن قلّ " ولعل السر العمدة فيه أنه مع المداومة يكون العمل صورة باطنية للقلب كما ذكرنا.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست