.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

القناعة والاقتصاد

الشجاعة

الشجاعة البدنية

الشجاعة الأدبية

عزة النفس، وعلو الهمة

 

القناعة والاقتصاد

يحد الإنسان من شهواته ورغباته فيضمن لنفسه الراحة من العناء، ويوفر عليها كثيراً من الزمن، ويقتصد في المعيشة ويعتدل في حب المال، ويسمى الاعتدال في حب المال قناعة، ويسمى الاقتصاد في المعيشة رفقاًَ، ويقول فيه الإمام الصادق (ع): (الرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال)[1] ويقول أيضاً: (ما زوي الرفق عن أهل بيت إلا زوي عنهم الخير)[2] ويقول: (ضمنت لمن أقتصد أن لا يفتقر)[3] وليس بين البخل وبين الاقتصاد صلة، ولكن من البخلاء من يعلل عن إمساكه بأنه نوع من الاقتصاد الذي يأمر به العقل، وهي علة يتعلق بها المذنب وعذر يسوقه إليه شعوره بالجريمة، الاقتصاد تنظيم معيشة الإنسان على ما يفرضه العقل الصحيح، وتتحمله المقدرة المالية فيعطى في موضع الإعطاء ويمسك في موضع الإمساك بلا سرفٍ ولا تقتير، والبخل هو المنع في موضع وجوب الإعطاء.

الاقتصاد هو التوازن العادل وطرفاه هما الإسراف والتقتير، أما الكرم والإيثار فهما لا ينافيان الاقتصاد إذا اقتضتهما الحكمة، وتحملتهما المقدرة، المقتصد سخي لأنه (يؤدي واجب الشريعة، وواجب المروءة، وواجب العادة ) والبخيل هو (الذي يمنع واحداً من هذه الواجبات ).

والقناعة صفة تقارب الاقتصاد في الأثر، وتقابله في المعنى، والفرق بينهما هو الفرق بين الخلق والسلوك، القناعة ملكة في الإنسان تكسبه الرضا بالقليل، والاكتفاء بما يسد الحاجة، والاقتصاد تنظيم المعيشة على ما تفرضه الحكمة وتدعو إليه الضرورة وأثر كل منهما اطمئنان النفس بما يحصل لها من القوت، والاقتصاد محتاج إلى مناعة قناعة في وجوده، والقناعة محتاجة إلى الاقتصاد في ظهورها في العمل، فيكون بين الوصفين تضامن في العمل واتحاد في الأثر.

خلق الإنسان وخلقت معه الحاجة والوسائل التي يسد بها تلك الحاجة، لابد للإنسان من القوت لأنه يريد ان يعيش ولابد له من الملبس لأنه يريد ان يجتمع، ولابد له من المسكن لأنه يريد ان يستقل، إذن فالإنسان محتاج إلى هذه الضرورات وإلى أمثالها من وسائل الحياة، وهو محتاج إلى مال يبلغه تلك الغايات، وإلى مكسب يوصله إلى المال، وكيف يحصل على الكسب بغير الاجتماع.

حلقات من الحاجة يتصل بعضها ببعض، ولا ينفك بعضها عن بعض، والمال بعض الحلقات المتصلة، ولا ينكر أحد أهميته في الحياة، ولكن الشيء الذي يستنكره العقل أن يجعل المال هو الغاية الأولى والأخيرة تحطم في سبيله كل غاية، وتستخدم في تحصيله كل وسيلة، وينبذ كل تشريع ونظام.

النفس ميالة إلى الشهوات، والمال يسهل لها طريق الحصول على هذه الغاية، هذا هو مبدأ الشر وهذه هي جرثومة الداء، هذا هو الذي يفسر لنا المبالغة التي نجدها في ذم المال والتحذير منه فإن التخلص من الأدواء التي يسببها جمع المال عسير جداً.

(ان الشيطان يدبر أبن آدم في كل شيء، فإذا أعياه جثم له عند المال فأخذ برقبته )[4] هذه كلمة يقولها الإمام الصادق (ع) في التحذير من المال وبالأحرى في التحذير من النقائص التي يسببها جمع المال، والشيطان يجثم لأبن آدم عند المال إذا أعياه في كل شيء، إذن فالمال أعظم شباك الشيطان وأكبر مصائده، والإنسان مفتقر إلى المال لأن الحاجة تدعوه إلى طلبه، وإذن فلا بد أن يلتقي الخصمان على مجزرة المال، ولابد أن يغلب المتيقظ منهما الغافل، ويظفر الجاد بالهازل، فإن المال باب الشهوات ومفتاح المطامع، والإنسان رهين أطماعه وعبد شهواته، وهكذا يستعبد الحر ويبلغ الشيطان أمنيته من عدوه فيأخذ برقبته رضي الإنسان بهذه النتيجة أم أباها.

وللشريعة الإسلامية نظرة معتدلة إلى المال، فهو خادم أمين يبلغ به الإنسان حاجته، وللخادم الأمين منزلته وله مقامه، على ان يبقى السيد سيداً، ويظل العبد عبداً، والمال وسيلة محبوبة توصل الإنسان إلى الخير، وتحصل له السعادة ووسيلة الخير خير، وسبب السعادة سعادة، على ان تبقى الوسيلة وسيلة والغاية غاية، وأما تحصيل المال بالسرقة والخيانة، والظلم في المعاملة والتعدي على الحقوق، و.. فهو أشد المحظورات عند الشرع والعقل، ومن أعظم المنكرات في العلم الأخلاق، لأنه يميت الغاية قبل الحصول على الوسيلة، وينقض الأساس قبل ان يتم البناء، ولست بحاجة إلى ذكر الشواهد على ذلك من كلمات الإمام الصادق (ع) لأن تحريم هذه الأشياء من ضروريات الدين الإسلامي.

ولست أذكر الربا والمرابين إلا بخير، فإن الربا اختلاس يبيحه النظام المدني، والمرابين سراق يحترمهم القانون، وماذا على المسلم إذا أكل الربا هنيئاً مادام القانون يثبت له هذا التجاوز، وما دامت المعاملات الربوية شائعة بين الناس, فليغتصب أموال الناس باسم النظام، وليموه على جريمة بإسم التأويل، وليكن بعد هذا محارباً لله ولرسوله في رأي القرآن، وليكن الربا أشد حرمة من الزنا في رأي الإمام الصادق (ع)، فإنه يتأول قبل ان يرتكب، وليس عليه بعد التأويل شيء.. وبعد فإن تحريم الربا فكرة يحب على المسلم ان يعترف بها في مقام الاعتقاد، وليس عليه ان يطبقها في مقام العمل.

والفقير قد يكون آمناً من أكثر هذه الجرائم التي تتعلق بالمال، ولكنه قد يتعرض لما هو أشد منها جرماًَ وأكبر أثماً.

قد يحمله الاعواز على ان يسرق، وقد يدعوه الفقر إلى ان يخون، أو يستدين ثم ينكر، وقد... وقد.، والفقير إلى جانب اليأس أقرب منه إلى طرف الرجاء، وإلى الجزع أكثر ميلاً منه إلى الصبر، وأكثر ما يقترفه من الذنوب نتيجة ذلك اليأس والثمرة ذلك الجزع، وأحاديث الأئمة من أهل البيت (ع) قد تنوعت للفقير بأنواع البشائر لتحيي فيه ميت الرجاء، وتبعث في قلبه روح الأمل، ثم أمرته بالكسب ورغبته في الاقتصاد، وللأمام الصادق (ع) كلمات تتصل بهذا البحث يجب ان تتخذ قواعد عامة في باب الاقتصاد، ومن هذه الكلمات قوله:

" لا تكسل في معيشتك فتكون كلا على غيرك"[5]

" ضمنت لمن أقتصد ان لا يفتقر"[6]

" أنظر من هو دونك في المقدرة، ولا تنظر إلى من هو فوقك "[7]

" السرف أمر يبغضه الله حتى طرحك النواة فإنها تصلح لشيء "[8].

" من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس "[9] .

" تَعَوَّذوا بالله من غلبة الدين وغلبة الرجال "[10] .

الشجاعة

أبرز صفات الرجولة، واعز ملكاتها، وأكثرها أثراً في تهذيب الأخلاق، وتنظيم الأعمال، لأن تهذيب الملكات جهاد، والمحافظة على الملكات المهذبة جهاد آخر، والمجاهد مخذول إذا لم تناصره الشجاعة ولم يرافقه الصبر، وبالثبات تنجح المساعي وتبلغ المقاصد، وتتم الإعمال، والشجاعة بنفسها إحدى الملكات التي لا تحصل إلا بالمجاهدة، لأنها توازن في قوة الغضب، وكيف يتوازن الغضب من غير كفاح، وكيف ترد عاديته بغير جهاد، وإذن فلا بد للإنسان من قوة أخرى تضرب الغضب بالغضب وتمزج اللين بالقوة لتركب من المجموع مزيجاً معتدلاً يسمى بالشجاعة، وتلك القوة هي الحكمة، وجنديها المكافح هو قوة الإرادة.

(الغضب ممحقة لقلب الحكيم) بهذه الكلمة القصيرة يصف الإمام الصادق (ع) آثار الغضب ثم يقول بعدها: (من لم يملك غضبه لم يملك عقله)[11] الحكمة دليل الخير ورائد الإصلاح، وقلب الحكيم مصدر هذه الدلالة ومشرق ذلك النور ولكن ماذا يجدي هذا الدليل إذا هاج الغضب، وماذا ينفع هذا إِذا احتدم الغيظ.

قد يسترشد الأعمى فيرشد، وقد يستدل الحائر فيهتدي والغاضب لا يقبل الإرشاد ولا يسمع النصح، لأن الغضب جنون والمجنون لا يسمع نصح الناصحين، دليل هذه الدعوى ظاهر في عيني الغاضب، وعلى تجاعيد وجهه، واحتباس أنفاسه، وتزاحم الكلمات على شفتيه، ثم هو قد يعتذر بعد ذلك عن أعماله بأنه غاضب، إذن فهو يعترف على نفسه بالجنون (ومن لم يملك غضبه لم يملك عقله).

وتهذيب الغضب يكون قبل حصوله، وطريقه هو التفكير في أسباب الغضب والتأمل في عواقبه وما يجره على النفس وعلى الغير من أضرار وأخطار. وليس من الصلاح ان يتعرض المرشد للإنسان في ساعة غضبه، لأنه قد يضيف بإرشاده إلى الغضب غضباً ويجمع إلى النار حطباً، ولكن من الخير ان يتمهله في النتيجة، وان يصرفه عن الفكرة صرفاً تدريجياً، لأن الغضب ثورة في دم القلب هم كما يقولون وبالتماصل وصرف الفكر تسكن هذه الثورة ويخلد الإنسان إلى السكون، ويقول بعض علماء النفس (إذا غضبت فعد العشرة) وهو يشير إلى هذا المعنى لأن تعداد العشرة يستدعي فرصة ولو قصيرة ويسبب تغيراً في وجهة النظر لو قليلاً.

(الغضب مفتاح كل شر)[12] يزول الغضب عن الإنسان ببطء أو بسرعة، ويبقى في النفس ما تبقى النار في الهشيم، وإذا خلقت النار أثراً واحداً أو أثرين، فإن الغضب يبقي آثاراً كثيراً لا يضبطها حساب، فالحقد، وحب الانتقام والقسوة وسوء الخلق، والبغي، والعجب، والكبر، و...و... كل هذه من ثمرات التهور والإفراط في قوة الغضب.

ويقابله من جانب التفريط الجبن، وإذا كان التهور خروجاً عن حدود الإنسانية إلى حد الجنون، فإن الجبن ضعة في صفات الرجولة إلى حد السقوط.

يعيش الجبان في جو من الاضطراب ،ويخلق لنفسه مشاكل من الذعر. لأنه يفقد أعز شيئين يحتاج إليهما الإنسان، وهما: الثقة بالنفس، وقوة الإرادة، وعدوه الأول والأخير: الخوف والشعور بالنقص، ولو فكر قليلاً لعلم ان جميع ذلك من نسيج الوهم، وان الاحتياط الذي يتخذه لنفسه هو أشد ظلمة من الواقع الذي يحذر منه، لأن عاقبة هذا الخوف معلومة الخطر أما الواقع الذي يفر منه فهو خطر محتمل، ويحدثنا التاريخ ان كثيراً من الجبناء قتلهم الخوف من حيث أنهم يجتنبون مواضع الخوف.

وللجبن أثر سيئ على الصفات والأعمال، فهو يطبع الأخلاق بطابع الذعر، ويسم الإعمال بسمة التردد، وقد يكون من المستحيل على الجبان ان يتم عملاً واحداً صحيحاً حتى في هذه الأعمال التي يتحصن بها من الخوف من غير وجود سبب يوجب الخوف، والعجز عن احتمال ما يجب تحمله من الأمور، وضعة النفس وقصور الهمة، وفقدان الغيرة.

أما الشجاعة فهي أول فضيلة للقوة الغضبية، ولها مظهران: ثبات في مقام الدفاع. وإقدام في محل الجهاد.

والشجاعة لا تتميز بلون واحد، ولا تختص بسمة خاصة، فالغضب للحق شجاعة لأنه مما يأمر به العقل، والحلم عن الجهل الجاهل شجاعة لأنه مما يدعو إليه الرشد والثورة على الباطل شجاعة لأنها مما تقتضيها الحكمة، يتقدم الشجاع في موضع التقدم على الباطل شجاعة لإنها مما تقتضيها الحكمة، يتقدم الشجاع في موضع التقدم، ويتأخر في محل التأخر، وهو في كلتا الحالتين شجاع لأنه ثابت القلب أمام المخاطر، شجاع لأنه يدبر حركاته بالحكمة. ويقسمها المتأخرون من الخلقيين إلى شجاعة بدنية، وشجاعة أدبية.

الشجاعة البدنية:

(جبلت الشجاعة على ثلاث طبائع، لكل واحدة منهن فضيلة ليست للأخرى: السخاء بالنفس، والأنفة من الذل، وطلب الذكر، فإذا تكاملت في الشجاع كان البطل الذي لا يقام لسبيله والموسوم بالإقدام في عصره، وإذا تفاضلت فيه بعضها على بعض كانت شجاعة في ذلك الذي تفاضلت فيه أكثر وأشد أقداماً)[13] .

عناصر الشجاعة ثلاثة على ما يقرره الإمام الصادق (ع) في هذا الحديث، يجب توفرها في الشخص ليسمى شجاعاً بالاستحقاق، والذي يفقد واحداً منها لا يستحق هذه الصفة لأنه يفقد ركناً من أركان الشجاعة.

(1)   السخاء بالنفس، وهذا هو العنصر الأول في الأهمية أيضاً، وإذا عرفنا ان السخاء بالشيء هو بذله عن طيب نفس علمنا الذي يتكلف بذل نفسه لبعض الدواعي لا يستحق ان يسمى شجاعاً، وان اجتمعت فيه العناصر الأخرى للشجاعة ولكن قد يتكرر هذا التكلف من الإنسان حتى يصبح معتاداً عليه، ويعود سخياً ويستحق صفة الشجاعة إذا استكمل بقية عناصرها.

(2)   و (3) الأباء والشمم، وهما خلقان نفسيان متلازمان في الأكثر، وأثر الأباء احتفاظ الإنسان بكرامة نفسه وترفعه عن الدنيء من الأمور، وأثر الشمم، طلب الرفعة والتوجه إلى المراتب الجليلة، وهما قريبان في المعنى من عزة النفس، وعلو الهمة، وسنذكرهما فيما يأتي. وهذه العناصر الثلاثة المتقدمة قد تجتمع في الشخص بأرقي مراتبها فيصفه الإمام (ع) بالشجاع الكامل وبالبطل الذي لا يقام لسبيله. وقد يضعف فيه بعض العناصر فيفقد من الشجاعة الكاملة بمقدار ذلك النقص.

أما الشرط الأول للشجاعة وهو إخضاع قوة الغضب لقوة العقل فيقول فيه: ثلاثة تعقب مكروها. حملة البطل في الحرب في غير فرصة، وان رزق الظفر[14] .النفس أثمن شيء يجده الإنسان، ونفس البطل أعز ذخيرة يحتفظ بها ليومها الأكبر، فيجب عليه ان لا يخاطر بهذه النفس إلا إذا أحرز الفرصة ووثق بالفوز، وإلاّ فإنه يبيع نفسه من غير ثمن، والعقل يعد مجازفاً وإن رزق النصر، لأن نصره هذا وليد المصادفة، والمصادفات لا تدخل تحت مقياس.

والشجاعة لا تختص بالجندي يقدم نفسه فداء للدين، أو يبذل دمه لنصرة الوطن فإن للشجاعة البدنية أنواعاً كثيرة, لأن شدائد الحياة لا تدخل تحت حساب، وملاقاة هذه الأهوال شجاعة متى كان الإقدام فيها بإشارة العقل وإرشاده فالشجاعة تكون في الجندي وفي القائد، والطبيب ورجال الإنقاذ على سواء إذا اجتمعت في هؤلاء عناصر الشجاعة التي ذكرها الإمام في حديثه السابق.

الشجاعة الأدبية

قد يصوب الإنسان رأياً من الآراء أو يعتنق مبدءاً من المبادئ، فيعتقد أنه الحق، ثم يجهر بهذه العقيدة وان كلفة الجهر بها غالياً، وأدى ثمنها مضاعفاً فيسمى جهره هذا شجاعة أدبية عند الأدباء المعاصرين.

والشجاعة الأدبية خطة كبيرة يقوم عليها أساس نشر الحق وإعلان المبادئ السامية، وهي خطة المصلحين العظماء الذين اضطهدوا في إسعاد البشر وما توا لإحيائهم، والذين تنكرت لهم البشرية أحياءًٍٍ ثم خلدت لهم الذكر أمواتاً، ومن هؤلاء جنود مجهولون خدموا الناس فأنكرهم الناس وجهلهم التاريخ، ولكن أعمالهم مدونة في سجل هو أرفع من التأريخ، وإذا شكر الحق أعمالهم، ورفع لهم منازلهم فماذا يصنعون بتقدير الناس.

والشريعة الإسلامية تجعل هذا المبدأ من أهم فروضها، وأكبر واجباتها وتسميه (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)،ويقول الإمام الصادق(ع) في بيان وجوبه: (ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)[15] ويقول في الحث عليه: (مروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقربا أجلاً ولم يباعداً رزقاً)[16] .

مرت على الإمام الصادق (ع) أيام مختلفة تبدلت فيها سياسات وتقبلت فيها أمور، وقد شاهد الإمام (ع) فيها أنواعاً من الحكم، وكانت الأيام تبتسم له مرة وتعبس مرة أخرى، وكان الحكم يقسو تارة، ويلين تارة، والإمام بين هذه الأحوال ينتهز الفرصة لنفسه ولأصحابه في نشر الدعوة إلى المذهب، فيأمرهم بالإعلان حين تبسم لهم الأيام، ويحذر هم عنه حين تعبس، وهذا الحذر والتكلم أثران من آثار التقية التي عرفت في المذهب الجعفري، والتي شرعها الله في كتابه.

وأسرف بعض المذاهب التي تنتسب إلى الشيعة في التكتم بعقائده وأحكامه حتى بعد ارتفاع الشدة وانتهاء أيام الجور، وتمسك المذهب الإسماعيلي بذلك مشهور في التاريخ، ولإيضاح معنى التقية وبيان أسرارها وأحكامها كتب أخرى وباحثون آخرون، والذي نقوله هنا: ان الأمر بالمعروف في رأي الإمام الصادق يكون واجباً ومن أهم الواجبات حين يكون موجباً لتأييد الحق وتعزيز دعوته، وهو حرام إذا عرض بالدماء الزكية، وخاطر بالنفوس المحترمة، وهو من أشد المحرمات حين يكون سبباً لإهانة الحق وإذلاله، ولذلك فهو يقول: (المذيع علينا كالشاهر سيفه علينا، رحم الله عبداً سمع بمكنون علمنا فدفنه تحت قدمه)[17] ويقول أيضاً: (من روى علينا حديثاً فهو ممن قتلنا عمداً ولم يقتلنا خطأ )[18] هكذا يأمر أصحابه بالكتمان في أيام الشدة:

عزة النفس، وعلو الهمة

معرفة الإنسان بقيمته تستدعي طويلاً من التأمل، كثيراً من التيقظ والانتباه، فقد يسرف به حب الذات فيعطي نفسه أكثر مما تستحق من القيمة، وقد يسف به الصغار فيظلمها أقبح الظلم، وعزة النفس تتطلب من الإنسان شيئين:

1ـ ان يحدد قيمة نفسه تحديداً صحيحاً

2ـ ان يحدد منازل من يتصل بهم من الأصدقاء، وقيمة ما يباشره من الأعمال، فيضع نفسه في موضعها الذي يليق بها بمن يناسبه من الأصدقاء ويباشر ما يليق بشأنه من الأعمال، والتعدي عن ذلك إذلال للنفس وتعريض بكرامتها إلى الانتقاص، وفي ذلك يقول الإمام الصادق (ع): (ان الله فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه ان يكون ذليلاً )[19] ويقول: " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه " وسأله الراوي عن معنى إذلاله لنفسه فقال: " يدخل فيما يعتذر منه "[20] .

أما علو الهمة فهو استشراف الإنسان إلى المعالي، ونزوعه إلى الرفعة والسمو.

خلق الإنسان مجبولا على حب السعادة، والحصول على الكمال، ولكن الوصول إلى هذه الغاية دونه عقبات ومصائب، ولذلك فالذين يجتهدون في طلب الكمال قليلون، والذين يصلون إلى الغاية أقل هذا القليل، وعلو الهمة وحده هو الذي يسهل هذه العقبات، ويذلل هذه المصاعب.

أما قاصر الهمة فقد يقعد به العجز عن السعي وقد يرجع إلى الوراء من منتصف الطريق وفي ذلك يقول الإمام الصادق (ع) " ثلاثة يحجزن المرء عن طلب المعالي: قصر الهمة، وقلة الحيلة، وضعف الرأي "[21] .

كثيرون أولئك الذين يفهمون من عزة النفس معنى الكبرياء، ومن علو الهمة معنى العظمة الزائفة، وهي نظرة خاطئة ترسل من غير تدبر، عزة النفس ترفعها عن الدنايا والنقائص، وعلو الهمة هو طموح الإنسان إلى شريف الأعمال والأخلاق، وهما أساسان لرقي الفرد ورقي الأمة.

يقدم الإنسان غيره عند تساوي الحقوق فيسمى مؤثراً، ويتسامح في بعض شؤونه فيكون متواضعاً، ويتغاضى عن جهل الجاهل فيسمى حليماً وهو عزيز النفس عالي الهمة في جميع ذلك، من عزة النفس ان يؤثر في موضع الإيثار، ومن علو الهمة ان يحلم في موضع الحلم، وعلو الهمة أداة ينال بها الإنسان ما لا يناله بالثروة، ويدرك بها ما لا يدرك بالمناصب، المنصب عادية والثروة زائلة، وعلو الهمة ثروة نفسية باقية ما بقى الإنسان، وتظل أنظر إلى من هو فوقك في الكمال، وثق بنفسك قبل المسير، وإذا سرت فضع قدمك يتثبت وانقله بجزم فستجد اللذة عند أول قدم تضعها، وستفوز بعد قليل بالغاية، ستعترضك في الطريق أشباح وأوهام يسميها العامة من الناس مصاعب فلا تعرها التفاتا، ولا تلق لها بالا، فإن السلم لا بد له من المدارج. تقدم ولو خطوة فإنها تمهد سبيل الخطوة الثانية ولا تقف في مسيرك إلا حين يأمرك العقل بالأناة فإن الوقوف تضييع للفرصة وتبذير في الزمن، ولتكن العقبات بعد ذلك ما كانت، فإن العقبات لا تصد الحر عن قصيده، ولا تضعف من إرادته " ومن انتظر بمعالجة الفرصة مؤاجلة الاستقصاء سلبته الأيام فرصته لأن من شأن الأيام السلب وسبيل الزمن الفوت "[22] .


[1]  الكافي الحديث9 باب الرفق

[2]  الحديث8 من المصدر المتقدم

[3]  جامع السعادات ص361.

[4]  أصول كافي الحديث4 باب حب الدنيا.

[5]  الكافي الحديث9 باب كراهية الكسل من كتاب المعيشة.

[6]  جامع السعادات ص361.

[7]  جامع السعادات ص361.

[8]  تحف العقول ص89.

[9]  الكافي الحديث16 باب الرفق.

[10]  الكافي الحديث الأول باب الدين.

[11]  الكافي الحديث13 باب الغضب.

[12]  الحديث الثالث من المصدر المتقدم.

[13]  كتاب تحف العقول ص78.

[14]  تحف العقول ص78.

[15]  الكافي الحديث4 باب الأمر بالمعروف.

[16]  الوسائل الحديث34 باب وجوب الأمر بالمعروف.

[17]  تحف العقول ص57.

[18]  تحف العقول ص57.

[19]  فروع الكافي الحديث1 باب كراهة التعرض لما لا يطيق.

[20]  الحديث5 من الباب المتقدم.

[21]  تحف العقول ص77.

[22]  تحف العقول ص93.

 

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست