.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

العدل الفردي

العدل الاجتماعي

العفة

 

العدل الفردي

للعدل الذي يوصف به الفرد مرتبتان تظهر أحدا هما في سلوك الشخص مع الناس الآخرين ومعاملاته معهم، فإذا أخذ الإنسان حقه كاملاًً وأعطى الغير حقه موفوراً سمي عند الخلقيين عادلاً ومنصفاً، وفي هذه الصفة يقول الإمام الصادق(ع): (سيد الإعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضي بشيء لنفسك إلا رضيت لهم بمثله)[1] .

ومن الناس من يتشاءم إلى حد بعيد من التشاؤم فيعد العدل في الإنسان مستحيلاً أو هو شيء يشبه المستحيل، فالإنسان وحش متمدين.

والظلم من شيم النفوس، فإن تجد                ذا عفة، فلعلة لا يظلم

ويذهب بعض هؤلاء المتشائمين إلى أكثر من هذا، فيقولون: (الظلم سر كامن في الطبيعة، فالنبات يعدو قويه على ضعيفه والحيوان يفتك كبيرة بصغيره والإنسان يستبد حاكمه بمحكومة) وهذه الفكرة وليدة عن القول بأن الإنسان شرير بالطبع والفلاسفة منقسمون حول هذا الرأي، والشرع يؤيد المذهب المعتدل في ذلك، ويجد الباحث المتتع شواهد كثيرة على ذلك من أقوال الإمام الصادق(ع).

لا ينكر المتشرعون شيوع الظلم بين أفراد الإنسان، ولكنهم يقولون: مصدر ذلك هو إهمال الغرائز النفسانية حتى تستبد بالحكم، وإعطاء النفس قيادها لتسير مع الأهواء بلا رقيب ولا حسيب، أما نفس الإنسان وغرائزه فهي مهيأة للمسير في طرق الخير وطرق الشر حسب ما يرتضيه له سلوكه وترسمه له أرادته واختياره، ولو تعاهد الإنسان غرائزه بالتهذيب والإصلاح لسارت نفسه على الهدى، وحقيقت له العدل بجميع معانيه، ولعل الحكيم العربي لا يريد أكثر من ذلك في بيته المتقدم.

والمرتبة الثانية من العدل الفردي تظهر في الفصل بين المتخاصمين بإعطاء الحق لصاحب الحق من غير حيف ولا تحيز, وعدالة القاضي هذه عند الإمام الصادق(ع) مظهر من مظاهر العدل النفساني لأنه يقول: " من أنصف الناس من نفسه رضي به حكما لغيره "[2] وهذا أفضل ما يوصف به الحاكم العادل والقاضي المصلح، وهل يتصور التحيز في الحاكم إذا أنصف الناس من نفسه، وهل ينسب إليه الحيف إذا كان أحب الناس إليه وأبغضهم عليه أمام عدله بمنزلة واحدة؟ وإذا علمنا ان العدل في المعاملة يلازم العدل الخلقي العام وجدنا أن العدل في رأي الإمام(ع) سلسلة واحدة يتصل بعضها ببعض اتصالاً وثيقاً لا تفكك بين أجزائه.

أقول: ان العدل في رأي الإمام سلسلة واحدة، لأنه يشترط في الحاكم ان ينصف من نفسه قبل أن ينتصف أمن غيره، ثم يقول ان الإنصاف من النفس أشد الأعمال أو هو من أشدها، ويحدثنا عن أبيه النبي(ص): " من واسي الفقير وأنصف الناس من نفسه فذلك هو المؤمن حقاً "[3] وقد عرفنا فيما تقدم أن المؤمن حقاً هو الإنسان الكامل الذي توازنت ملكاته واعتدلت أخلاقه، على أن اشتراط العدالة الشرعية في القاضي من المقررات الواضحة في المذهب الجعفري.

ثم هو يوضح ذلك إيضاحاً لا يقبل التشكيك حين يقول: " اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين "[4] الحكومة حق خاص للولي العام، العالم بالقضاء والعادل الأول في المسلمين، فلا تجوز لغير العالم بالقضاء، ولا لغير العادل من المسلمين، هكذا يقول الإمام الصادق(ع) في صفة الحاكم، وهكذا يجب ان يكون.

 الحاكم هو المثل للعدل الديني أو المدني في الحقوق والدماء، ومن الممتنع أن يمثل العدل جائر، والحاكم أمين الأمة على مقدراتها وأمين السلطة على رعاياها، ومن القبيح أن يؤتمن خائن، وإذا عجز الإنسان أن ينتصف لنفسه من نفسه، فهو عن إنصاف من غيره أعجز، وإذا كانت نفسه أول رافض لحكمه فإن غيره أولى برفضه وأحق برده، ولأمر ما حذرت الشريعة الإسلامية ان يصدر القاضي حكمه وهو غاضب.

ويقول الإمام الصادق(ع) " لسان القاضي وراء قلبه، فإن كان له قال وان كان عليه أمسك "[5] أجل ان لسان القاضي من وراء قلبه، والله من وراء قلبه ولسانه، وكم يهدم القاضي من صرح، وكم يقوض من دعامة بكلمة يقولها غافلاً أو يصدرها غاضباً، وفي هذا الحديث تحذير شديد من التسرع والاستعجال، فإن الحكم الجائر يكون على الحاكم قبل ان يكون على المحكوم. والحكم العادل يكمون له قبل ان يكون للمنتصر.

أما الرشوة على الحكم ...، أما بيع الضمير... والدين...، والقانون، واحترام النفس... ومقدرات الأمة... واعتماد السلطة، أما سحق جميع المقدسات بالقدم بازاء ثمن حقير يسمى بالرشوة فهو الدناءة في الهمة، والحقارة في النفس، والحياة للمجتمع، وهو السحت المحرم في كل نظام وعلى لسان كل مشرع، وهو الكفر بالله العظيم في قول الإمام الصادق(ع)[6] .

وللعدل عدو جائر قد يلبس ثوب الصديق، وهو التحيز والممالاة، فقد يجور المحاكم من حيث أنه يظن العدل، ويظلم من حيث أنه يعتقد الرحمة، وللحب القلبي والمظاهر الخارجية في ذلك أعظم الأثر.

من السهل على النفس إذا أجبت ان ترتكب ثم تعتذر، وان تفعل ثم تتعلل، لترضي الوجدان المكبوت، وتسلي العدل المرغم، وقد يخادع الضمير بتلك المعاذير فيقبل، ولكن العدل يسجلها صحيفة سوداء في ديوان الخائنين، والحاكم مسؤول عنها أمام الله، وأمام القانون الأدبي.

ومن هذه الناحية نجد فرقاً كبيراً بين عدل القضاء وعدل المعاملة، فإن الحب والميل القلبي قد ينافيان عدل القضاء لأنهما يثمران التحيز والمحاباة. أما العدل في المعاملة فإنه يزكو على الحب, ويتكامل على الود لأن المحب لا يجور على حبيبه، والصديق لا يظلم صديقه، وكثيراً ما بعث الحب على إيثار، ولعل هذا هو السر الأول في الحث على الحب الذي بالغت فيه الشريعة الإسلامية، وندب إليه أمناء الوحي، والذي يقول فيه الإمام الصادق(ع): " هل الإيمان إلا الحب"[7] ، ويقول: " ان المسلمين يلتقيان فأفضلهما أشد هما حباًَ لصاحبه"[8] وللحب والصداقة بحث سيأتي.

العدل الاجتماعي

يولد الإنسان وينمو، ويترعرع ويشب، ويتقلب في أدواره، ويتنقل في أطواره، وهو في جميع هذه الأحوال جزء من المجتمع الذي أحاط به، والإنسان مدين للمجتمع في أكثر صفاته وشيمه، فهو الذي حدب عليه وليداً،و غذاه طفلاً وتعاهده بالتوجيه يافعاً، وهو الذي لقنه اللغة في طفولته ومهد له طريق التعلم في صباه، وهيئة أسباب المعيشة في شبابه، وهو الذي علمه كيف يفكر وكيف يعمل، وكيف يأخذ، وكيف يعطي.

أكثر خصال الإنسان عادات يكتسيها من بيئته، وأكثر غاياته ميول يرثها عن أسلافه، وأكثر علومه نتائج يقتبسها من مرشديه، والاجتماع هو الصلة المتينة التي تجعل المجتمع كالجسم الواحد الحي، وتجعل الأفراد كالأعضاء لذلك الجسم، يقوم كل عضو منها بما يخصه من الأعمال التي تصلح المجتمع، ولذلك فالأفراد مشتركون في الغاية ومتماثلون في الحقوق والواجبات، ورقي الفرد في شخصيته الاجتماعية بمقدار ما ينتج لهذا المجتمع من خير، وما يؤدي إليه من ثمرة طيبة، وسقوطه فيها بمقدار ما يأتيه من شر وعمل فاسد، وقد يتمادى عمل السوء ببعض الأفراد فيكون كالأعضاء الموبوءة التي يجب فصلها عني الجسم وقاية له من شرها.

المجتمع جسم حي مدرك، له حياته الخاصة، ولحياته نظامها الخاص، وهو يتصف بالتوازن والانحراف في سلوكه كما يتصف الفرد الواحد من الناس، والنظام الاجتماعي العادل هو الذي يكفل للمجتمع ولإفراده على السواء جميع الحقوق والواجبات من غير تعد ولا تقصير، فإذا سار المجتمع على ذلك النظام العادل، وطبقه على سلوكه وسلوك أفراده سمي ذلك التوازن منه عدلاً اجتماعياً.

العدل الاجتماعي ان تسير الأمة إلى المثل الأعلى في الحياة وفي الأخلاق، وان تسعي ما أمكنها السعي إلى السعادة العامة والكمال المطلوب، وان تعد للإفراد طرق الوصول إلى الخير، فتنشئ المؤسسات الكافلة لخير البلاد والحافظة لخيراتها وتؤسس المعاهد الصالحة لأعداد الرجال وتثقيفهم بالثقافة الصحيحة، وان تتمسك بالأنظمة الشرعية الموجبة لحفظ الحقوق وسلامة النفوس، على أن تسير في جميع ذلك وفق النظام الصحيح، والحكمة الرشيدة التي يأمر بها العقل، ويقرها الشرع.

وتعاون أفراد الأمة وتضامنهم أعظم موجب لتحقيق هذا العدل وأبلغ مؤثر فيه، ويقول المتأخرون من الخلقيين إن المسؤول عن تحقيق هذه الغاية هي الحكومة التي تسيطر على الأمة وتتحكم في مقدراتها. أما أفراد الأمة فيقعون في الدرجة الثانية من هذه المسؤولية، ووظيفة الفرد هي مساعدة الحكومة في تحقيق الغاية بما يمكنه من الوسائل.

وهذا الرأي بين النقص لأن العدل الاجتماعي هو التوازن التام في سلوك المجتمع وسلوك أفراده، وتعاون الجميع على العمل في سبيل الخير واكتساب الصفات الخلقية المثلى، ونيل السعادة العامة، وهذا كله من مختصات المجتمع نفسه ومختصات أفراده، أما ما تقوم به الحكومة من إنشاء المؤسسات والمعاهد الصالحة فهم أحد مقدمات العدل الاجتماعي.

والإمام الصادق(ع) يرى ان الوسيلة الوحيدة لإنشاء هذا المجتمع المثالي هو إصلاح الأفراد وأعدادهم لأن يكونوا أعضاء صالحين، وتزويد كل فرد منهم بما يجب عليه للأسرة وللمجتمع، فإذا صلح الفرد وتهذبت الأسرة صلحت الأمة، وتوجهت إلى سبيل الخير والسعادة، وإذا أحتاج المجتمع بعد ذلك إلى شيء كان العدل الثابت للإفراد دافعاً لهم إلى التعاون والتضامن، وهذا هو المنهج الذي سلكه القرآن لإصلاح البشر وتهذيهم.

يقول الإمام(ع): (يحق للمسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمساواة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم الله رحماء بينكم متراحمين مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم)[9] ويقول: (ما قدست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويها غير متعتع)[10] .

وقد سمعنا الكثير من إرشاداته للفرد، وسيأتي ما هو أكثر، وقد قال في ذلك أيضاً: (ان استطعت ان تخالط أحداً من الناس إلا كانت يدك العليا عليه فافعل)[11] والبلد العليا هي التي تبتدئ بالمعروف وتسدي الإحسان، وتؤدي حقوق الغير إليه كاملة، وقد سمعنا قوله: (سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى بشيء لنفسك إلا رضيت لهم بمثله)[12] .

ويقول في تهذيب الأسرة: (إذا لم تجتمع القرابة على ثلاثة أشياء تعرضوا لدخول الوهن عليهم وشماتة الأعداء بهم وهي ترك الحسد فيما بينهم لئلا يتحزبوا فيتشتت أمرهم، والتواصل ليكون ذلك حادياً لهم على الألفة، والتعاون لتشملهم العزة)[13] وهو يتدرج في حديثة عن تآلف الأسرة تدرجاً طبيعياً، فأول مراحله هو نبذ التحزب والتفرق، وأهم أسباب التحزب هو الحسد، ولاسيما إذا كان الأقوياء فيجب نبذه لأنه يشتت الأمر ويفل الحد، والمرحلة الثانية هي التواصل والبر لأن التواصل يسبب الألفة والمحبة، وهذه هي المرحلة الثالثة وهي الأخيرة وواجب الأسرة فيها هو التعاون بين الأفراد في كل مهمة ليعيشوا أعزاء في جماعتهم وأفرادهم.

أما الحكومة وممثلها التام في عصر الإمام الصادق(ع) هو السلطان فإن الإمام يفرض عليه في إدارته: (حفظ الثغور وتفقد المظالم واختيار الصالحين لا عمالهم)[14] ويلزمه لرعيته: (بمكافأة المحسن ليزداد رغبة في الإحسان، وتغمد ذنب المسيء ليتوب ويرجع عن غيه وتألفهم جميعاً بالإحسان والإنصاف)[15] وللإمام فيما يشبه هذا كلمات كثيرة تحدد واجبات السلطان، ووظائف الأمراء وفروض الرعية.

وكل ما نستطيع ان نقوله عن هذه الكلمات وأمثالها إنها نصائح من الإمام(ع) يرشد بها خلفاء عصره ومن يشابههم في الحكم، ولا يسعنا ان نعتبرها رأياً للإمام في الحكومة المثالية التي ينشدها للمجتمع المثالي.

أما الحكومة المثالية في رأي الإمام فهي فكرة كبيرة ضعف قلب الزمان عن تحقيقها، وصغر الزمان عن احتمالها فطواها في مهدها يوم لف النبي (ص) في أكفانه، وبقيت أمنية مكبوتة في قلب الإمام الصادق(ع) وفي قلوب زعماء الإنسانية من آبائه وأبنائه، هي حكومة أسسها الله يوم أسس الدين، وشرع نظامها يوم أنزل القرآن، وسمى خلفاءها يوم بعث محمداً بالرسالة، وهي حكومة غرس النبي بذرتها يوم غرس التوحيد، وتعاهدها يوم تعاهد الأمة بالوصايا، ولست أقول إنه أثم العهد للخليفة الأول يوم الغدير، فهذا شيء قد لا يسيغه بعض القراء فقد تجاهله التأريخ من قبل هذا، وتجاهلته الأمة من قبل التأريخ، فقلبت النظام يوم انقلابها، وأسقطت من القائمة أسماء لتثبت مكانها أسماء.

نحن لا نتنكر للتأريخ حين يثبت ما كان وحين ينفي ما لم يمكن، ولكننا ننكر عليه حين يمده المؤرخ من وراء العقيدة وحين يمده من وراء السياسة، وكم لعبت السياسة في التأريخ أدواراً في عصوره الأولى، وتبعتها العقيدة على الأثر تمحو ما تمحو وتثبت ما تثبت، ولو قدر البقاء للدعاية الأموية الأولى بعد يوم الحسين(ع) ويوم الحرة لعفيِّ أثرهما في التأريخ.

لتبق هذه الحكومة المثالية أمنية مكبوتة في قلب الإمام الصادق(ع) وليسدل ستار الكتمان على عهد النبي الأخير، ولتتحول الخلافة الإسلامية ملكاً عضوضاً بعد عهد الخلفاء الراشدين فإن هذا لا يقلل من سعي الإمام في تهذيب الأمة، ولا يضعف من دعوته إلى إنشاء المجتمع العادل.

العفة

يقول القدماء من علماء الأخلاق: الشهوة أول قوة يعرفها الإنسان في حياته، والغضب هو القوة الثانية، ويسمون الأولى قوة الجذب، والثانية قوة الدفع، وهم يؤسسون على هذا الترتب الوجودي بين القوتين نتيجة علمية لها أثرها في تهذيب الملكات وإصلاحها. يقولون ان الشهوة أول قوة يعرفها الإنسان، فيجب ان تكون هي أول قوة يباشر الإنسان في تهذيبها، ويقررون ان إصلاح الملكات على هذا الترتيب أسرع في الأثر وأسهل في الإنتاج.

ونحن نجد الإمام الصادق(ع) في بعض أخلاقياته يقدم ملكات قوة الشهوة على ملكات الغضب عند التعداد فقد سمعناه يصف لنا العدل فيقول: " إذا غض طرفه عن المحارم ولسانه عن المأثم وكفه عن المظالم " ويقول: " المؤمن من طاب مكسبه، وحسنت خليقته وصحت سريرته، وأنفق الفضل من ماله، وامسك الفضل من كلامه، وكفى الناس شره، وأنصف الناس من نفسه"[16] وسمعناه يقول ما يشبه هذا في كلمات أخرى، فهل يصح لنا ان نعد هذا تقريراً من الإمام لهذه النتيجة؟

ليس من الحق ذلك لأن التقديم في التعداد غير وجوب التقديم في التهذيب. على ان الإمام (ع) قد يقدم فروع الغضب في بعض أخلاقياته الأخرى.

الرذائل الخلقية جرائم فتاكة يجب دفعها عن النفس مهما أمكن الدفع وسموم قاتلة يلزم الحذر منها ما أمكن الحذر وجميع النقائص الخلقية في هذا الحكم على السواء، ولا فرق بين القوى منها والضعيف، والأول والآخر، والحكمة في تقديم بعضها على البعض مختلفة جداً.

من الناس من يكون قوي الإرادة حازم النفس، ومن الخير لهذا الصنف من الناس ان يبتدئ بإصلاح ملكاته القوية لأن تأخيرها مظنة للفساد الخلقي العام. هذا إذا لم يتمكن من إصلاح جميع ملكاته دفعة واحدة.

ومن الناس من يكون ضعيف الإرادة واهن النفس ومن الصواب له ان يبتدئ بإصلاح الضعيف من صفاته ليثمرِّن به على جهاد القوي. وهذا الرأي وان لم نجد فيه قولاً صريحاً للإمام الصادق(ع) إلا ان النظرة الفاحصة في أقوله تؤكد لنا ان هذا خلاصة مذهبه في تهذيب الأخلاق.

قد تستبد الشهوة وتشذ وتتمرد على حكم العقل، وتسيطر على قوة العمل فتسمي هذه الشهوة المتمردة شراهة، ويكون تمردها هذا انحرافاً في الخلق، ويتكون من إهمال الغريزة وإعطائها الحرية الكاملة فتصنع ما تريد، وللسعي وراء الملذات التافهة والشهوات الرذيلة أثر بالغ في تنمية هذا الشذوذ وتربيته، فإن حرية الشهوات تجعل الحر عبداً مملوكاً " ومثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاًَ حتى يقتله"[17] والمراد من الدنيا في هذا الحديث هي شهواتها وملذاتها.

ومن البهائم قسم يشبه الإنسان في الصورة، ويلحق به في التعداد، وهو يناقضه في العمل ويباينه في السلوك، يرتكب مالاً ترتكبه البهيمة، ويعمل ما يخجل الإنسانية، ويعلل إعماله بأن الإنسان خلق ليكون حراً فليحطم كل قيد وليكسر كل غل، وليثر في وجه كل عادة ودين. الدين يقف في وجه الحريات فلينبذ، والعادات نجدد سلوك الإنسان فلتسقط، وأخيراً هي عادات غريبة يجب على المتمدين ان يسايرها وفقا للتطور ونبذاً للقديم.

مساكين هؤلاء قد سرى الاستعمار الغربي حتى إلى نزعاتهم، وأثر المستعمرون حتى في مجاري تفكيرهم، والمستعمرون دهاة مكرة يعرفون كيف يغزون عقول الضعفاء من طريق الشهوة ومظاهر الحرية ليأخذوا من قلوبهم كما أخذوا من رقابهم وأموالهم، وأنى لهؤلاء المساكين بأن ينقلوا عادات الغرب إلى الشرق، وأنى لهم أن يسايروا المتمدين في كل ما يعمل، وإذا كان في الغرب ساقطون يعملون مثل هذه الأعمال، فأن فيه عقلاء يترفعون عن الدنايا ويتنزهون عن الخسائس.

خلق الإنسان ليكون حراً في الفكر حراًَ في الحقوق، لا ليعبد الشهوات باسم الحرية، ويقلد البهيمة باسم نزع التقليد، ولا أقول أكثر من هذا لأنه لا يدخل في منطقة الباحث الخلقي.

وهنا لون من إفراط الشهوة، ولكنه لون أحمق ـ إذا صح ان نصف الألوان بالحماقة ـ أقول هو لون أحمق لأنه مشوه الغاية، مضطرب النتيجة، ولكنه رغم جميع ذلك شائع جداً، ولا سيما في الطبقة المترفة التي تدعي الرفعة، وتتولى رعاية الأمور، وهذا اللون هو تعاطي المسكرات.

أرأيت الإنسان بشحمه ولحمه يدخل الحانة ليهب عقله بلا ثمن، ويشتري الجنون منها بالمال؟ أرأيت من يساوم على مقدساته ومقدراته بهلة من الكأس ورشفة من العقار؟ أرأيت الإنسان يتمعك كما يتمعك الحمار، وينبح كما ينبح الكلب، ويعربد كما يعربد المجنون، ثم يدعي بعد ساعة أنه من رؤوس العقلاء ومن قادة المفكرين، وقد يتصدى لمهمات الأشياء ويتسلم مقاليد الأمور؟

هو في نشوة من سكره، ولذة من خياله، وماذا عليه إذا سلم ثمنها مضاعفاً من عقله، وماله وبدنه وراحته ودينه، فإنه يبيح جميع ذلك لنفسه، وماذا عليه إذا تمتم في كلماته، وتخاذل في حركاته، فإنها بعض نواحي اللذة، وأحد مظاهر الحرية التي ينشدها المتدينون من أمثاله، وليكن منزله جحيماً مستعراً للأسرة، فإن الحانة جنة له وارفة الضلال، وبعد فإنه يريد أن يتخلص من أرتاب الحياة فليتخلص من كل شيء يتصل بها.

ساعة شهية يستقبل فيها أحلامه وأوهامه ثم يفرغ ما في بطنه من خمر وما عقله من سكر، ثم يزاول أتعاب الحياة من جديد، وللعقلاء عليه أن ينظف ثيابه إذا علق بها شيء من أوساخ الطريق فماذا يريدون منه بعد ذلك. يتعلل المجانين بنظائر هذه العلل، وهل تكون علة الخيال إلا خيالاً، وهل يعتذر عن الجنون بغير الجنون؟

ومن هؤلاء من يترفع عن الحانات، ولكنه يتخذ من داره ماخوراً خاصاً لنفسه ولندمائه، فيشرب ويشربون بمنظر من فتاه وبمسمع من فتاته، ولعل فتاه هو الساقي ولعل فتاته هي المغنية، إنه فن... وإنه تسلية نفس... يا للسوء والجفاء... ويا للدناءة الخلقية، وإذا رضى الإنسان لنفسه بالنقيصة فكيف لا يقبل لعرضه بالدنية، وهل تبقي الخمرة فيه بقية من شعور ليميز بين الحسن والقبيح، والصحيح والفاسد...؟

عد على الفقراء من أمتك ببعض هذا الإسراف، وخصص شيئاً منه لمشاريع الخير، واحتفظ بالباقي ليومك العسير، وأفعل ما يفعله الرجل العظيم في نفسه القوي في إرادته، فستنال الذكر الجميل في الدنيا إذا كنت ممن لا يثق بالجزاء في الآخرة، كم رأيت من ثروة كبيرة دمرتها الخمرة، وجاه عريض لعبت فيه الكأس، وإذا كنت لم تشاهد شيئاً من هذا فإنك قد سمعت منه الشيء الكثير.

ومن هذه الألوان الحمقاء التي تغلب الغاية، وتعكس النتيجة تظاهر الشباب بمظاهر الأنوثة، وتصنع الفتى كما تتصنع الفتاة. هذا هو الداء الفاتك وهذا هو السم القاتل، ولو كان مختصاً بالشباب الفارغ الذي تعده الأمة كلاً ثقيلاً عليها لهان الأمر وسهل الخطب، لأن هذا النوع من الناس عار على المجتمع، ولكن ... ولكن الداء استعضل، والنقص استفحل حتى عمّ الشباب المثقف الذي تعده البلاد ليومها الآتي، وتدخره الأمة لسعادتها المرجوة.

أقول ان الداء استفحل لأنه يهدد مستقبل النهضة، ويزعزع كيان الأمة، وهل تنهض الأمة بالمساحيق والمعاجين؟ وهل ينهض بالأمة شباب قتل الترف ما فيه من طموح وأمات السرف ما فيه من جد، وأخمد التأنث ما في دمه من جذوة؟

إيه أيها الشاب الناهض. إيه يا عدة اليوم القريب، وغرة وطرة، وخد وقد، وسحر وفتون، كل هذه الأشياء خلقت لغيرك أيها الناشئ العزيز، وإذا كانت الطبيعة قد منحتك شيئاً منها فهي تؤهلك لمقام أسمى، ومحل أرفع، لا لتجعلك متعة وفتنة.

خلقت لتكون محل إعجاب وثقة، لا لتكون مثار عاطفة وحب، ولتكون موضع غزل وتشبيب ... وأخيراً فقد خلقت لتكون رجلاً.

هل تعلم كم في العيون التي ترنو إليك من نظرة خائنة، وكم في الابتسامات التي تستقبلك من ابتسامة مربية، وكم في الناس الذين يحومون حولك من قلب عابث. وأخيراً فهل تعلم أنك أنت الذي تجني بذلك على حاضرك الزاهي ومستقبلك الباسم. والشباب زهرة العمر ومستهل الحياة فهو أثمن من أن يقتل بتصفيف الطرة وصقل الغرة، وماذا يجنيه الشاب من تزجيج الحاجب وحلق الشارب غير إضاعة الوقت وتهديد المستقبل، فإلى السعي يا رجل الغد القريب، ويا أمل الأمة المنشود. إلى السعي فإن الرجل بثقافته وأعماله والرجل بسيرته وسريرته والرجل بجهاده في ميادين الحياة.

ولو أردنا ان نستعرض جميع الفروع التي تتصل بإفراط الشهوة لاحتجنا إلى مجلد ضخم، والإمام الصادق (ع) يذكر أكثر هذه الفروع في كلماته.

يشتد إفراط الشهوة فيتولد منه الحرص، ويقوى الحرص فيكون تهالكا في حب المال والجاه، وينتج منه التكبر، والرياء والتحاسد و. و. و...، والإمام الصادق (ع) يعرض جميع هذه الأدواء عرضاً إجمالياً حين يقول: (حب الدنيا رأس كل خطيئة )[18] أما الطمع الذي يثمر أكثر هذه النتائج فهو الذي يخرج الإنسان من الإيمان في رأي الإمام الصادق (ع)[19] وهي المذلة التي يقبح بالمؤمن ان تكون فيه[20] .

ويقول (ع) ( من كثر اشتباكه الدنيا كان أشد لحسرته عند فراقها)[21] الشهوات مصادر الآلام، وهي أسباب تؤدي إلى التعب وفقد الراحة، فالشهوة سبب للألم قبل حصولها لأن تحصيل الرغبات يستدعي من الإنسان طويلاً من السعي وكثيراً من الجهد، وهي سبب للألم بعد وجودها لأن حصول الرغبة يثير الحرص في الإنسان على طلب نظائرها فيسلبه الراحة ويفقده الطمأنينة، والشهوة سبب للألم بعد فراقها لأن فراق المألوف يبعث الأذى ويسبب الألم، وكلما كانت الرغبة أكثر ملائمة للإنسان كان فراقها أشد ألماً في قلبه، وأكثر مضاضة في نفسه، وقد تعرض الإمام الصادق (ع) لهذه الناحية في حديثه المتقدم، أما الناحية الأخرى فإنه يقول فيها: (من تعلق قلبه بالدنيا تعلق قلبه بثلاث خصال: هم لا يفنى، وأمل لا يدرك، ورجاء لا ينال)[22] .

وإذا توازنت قوة الشهوة في ميولها، وخضعت للعقل فيما يحكم، وأتبعت إرشاده في كل ما يشير كانت عفة وحرية، والإمام الصادق (ع) يسميها عفة حين يقول: (أي الاجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج)[23] ويسميها حرية حين يصف صاحب الدين فيقول: ( ورفض الشهوات فصار حراً )[24] ثم هو يحدد بها معنى الزهد بقوله: (أزهد الناس من ترك الحرام )[25] ، وحين يسأله بعض أصحابه عن الزهد فيقول له: (ويحك حرامها فتنكبه) وهذه هي الدرجة الأولى من الزهد التي يشترك فيها عامة الناس، وللزهد درجات أخرى متفاوتة يختص بها قوم من المخلصين، أما الرهبانية وإرهاق النفس بالتعذيب المتواصل وحرمانها من الحقوق المحترمة فهي أمور ليست من الزهد. بل وليست من الدين في قليل ولا كثير.


[1]  أصول الكافي الحديث الثالث من باب الأنصاف والعدل.

[2]  الكافي الحديث12 الأنصاف والعدل.

[3]  الوسائل كتاب الجهاد الحديث13 باب وجوب إنصاف الناس.

[4]  الكافي الحديث الأول كتاب القضاء.

[5]  الوسائل الحديث2 باب كراهة القضاء في حال الغضب.

[6]  الوسائل كتاب القضاء الحديث8 باب تحريم الرشوة.

[7]  الكافي الحديث5 باب الحب في الله.

[8]  الحديث14 من مصدر المتقدم.

[9]  الكافي الحديث15 باب حق المؤمن.

[10]  الوسائل الحديث9 باب وجوب الأمر بالمعروف.

[11]  الكافي الحديث14 باب حسن الخلق.

[12]  أشرنا إلى مصدر الحديث فيما سبق.

[13]  كتاب تحف العقول ص78.

[14]  كتاب تحف العقول ص78.

[15]  كتاب تحف العقول ص78.

[16]  الكافي الحديث18 باب المؤمن وعلاماته.

[17]  الكافي الحديث24 باب ذم الدنيا.

[18]  كتاب الخصال للصدوق ص15.

[19]  الكافي الحديث4 باب الطمع.

[20]  الحديث1 من المصدر المتقدم.

[21]  الكافي الحديث16 باب حب الدنيا.

[22]  الحديث17 من المصدر المتقدم، ويقول المجلسي في كتاب مرآة العقول المراد بالأمل في الحديث هو الأمل في البقاء في الدنيا والرجاء هو الرجاء للذاتها.

[23]  جامع السعادات ص311.

[24]  مستدرك الوسائل ج2 ص379.

[25]  الخصال للصدوق ص11

 

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست