.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

توطئة

الخلق

 

الأخلاق عند الإمام الصادق (ع)

العلامة محمد أمين زين الدين

توطئة

 (1)

للبيان حق الإيضاح والتصوير، وللفكر سلطة النقد والتحليل، وللحق فوق هذا وذاك حكومة عادلة تنير الهدى للبصير، وترغم العادي بالحجة، والكاتب مدين للحق في تفكيره، قبل أن يكون مديناً في تصويره.

للكاتب ان يتفنن في حديثه ما يشاء له الذوق، وأن يتعمق في بحثه ما تسمح به قوة النظر، ولكن عليه قبل ذلك أن يتخذ من الحق دليلاً، ومن العلم الصحيح مرشداً، عند ما يريد ان يعرض على قرائه عظيما من عظماء الإنسانية، ومعجزة من معجزات القرون، ولاسيما إذا كان هذا العظيم من أمثال جعفر بن محمد الصادق، مثال العقل السامي، والإنسانية الكاملة.

ستعترض الباحث في طريقه أسرار، وستقف أمامه شؤون وألغاز، يقف دون حلها وقفة الحائر ولعله يرجع عنها رجعة الخاسر، إلا أن يسترشد بهدى العلم الصحيح.

أقف عند ملتقى الخطوط من عبقرية الإمام جعفر بن محمد فتتملكني دهشة لم أكن أعهدها لنفسي، ويكاد اليراع ان يكبوا من يدي، وتموت الكلمات على شفتي. لم يعودني عليه البيان من قبل، ولم يخني في مثله التفكير.

تلك هي مزالق الفكر البشري المحدود إذا أراد ان يسمو إلى آفاق غير محدودة، وحيرة المصور حين يلتقي بأضواء غير متناهية.

بماذا يحيط الفكر المحدود من هذه الآفاق ليخصه بالتحليل، وماذا يعين المصور من هذه الأضواء المتشابكة ليفرده بالتصوير، أي النواحي من الإمام جعفر بن محمد أقدمها للقراء, وأية خاصة منه أتناولها بالبحث، وكل ناحية منه حرية بالبحث وكل خاصة منه جديرة بالتحليل، كل نواحي جعفر بن محمد علم، وكل خواصه إِعجاز..

وبعد أمر وأمر اخترت علم الأخلاق موضوعاً لحديثي عن الإمام الصادق (ع) وليس عليّ أن يرتضي جميع القراء مني هذا الاختيار، مادمت حراً في الإرادة وكانوا أحراراً مثلي، ومادام علم الأخلاق من النفائس النادرة في ميراث الإمام، وكل إرادته واختياره.

الأخلاق هو العلم الذي يبعث الكمال في النفس البشرية, وينمّي القوة والاستقلال في العقل البشري، وهو العلم الذي يساير الإنسانية في اتجاهاتها، ويوجهها عند حيرتها، ويأخذ بيد العقل عند اضطرابه، ويمده بالقوة عند ضعفه، وعلم الأخلاق هو الرسالة العامة التي يجب على كل حي مدرك ان يبلغها إلى كل حي مدرك، وهو الأمانة الكبيرة التي يجب على كل كائن عاقل ان يؤديها إلى كل كائن عاقل.

لهذا ولأمثاله اخترت علم الأخلاق موضوعاً لحديثي عن الإمام الصادق (ع) وان لم يكن أجلَّ مميزات الإمام ولا ابرز خواصه، على أن للإمام عناية خاصة بعلم الأخلاق تكفي الباحث حجة على هذا الاختيار، ومن أثر هذه العناية أن طابع علم الأخلاق يكاد يظهر على كل كلمة نقلت عن الإمام وعلى كل أثر نسب إليه.

لم أقصد في بحثي هذا ان أتحدث عن الوجهة الخلقية في نفس الإمام الصادق (ع) فإن هذه الوجهة نفسية تهم الباحث عن عظمة الإمام في شخصيته، أما الذي يبحث عن عظمة الإمام في علمه فعليه أن يتحدث عن علم الأخلاق عنده، وان كانت الوجهة الثانية تكشف عن الأولى في الأكثر.

(2)

لم يعتمد الإمام جعفر بن محمد في أخلاقه على نظرية استفادها من فيلسوف، ولا قاعدة أخذها من حكيم، ولكنه استقاها من ينبوع الوحي واستفادها من هدي القرآن، نعم إنه لم ينتسب إلى مدارس الفلسفة في أثينا، ولم يخضع لبيوت الحكمة في الهند ولكن الفلسفة بعض ما تخرج فيه من جامعة القرآن، والحكمة بعض الفروع التي تلقاها في مدرسة أبيه محمد، وإن فتى نمت شبيبته في بيت محمد، وكملت نفسيته بإرشاد محمد، وامتزجت بروحه روحانية كتاب محمد جدير أن يكون غنياً عن فلسفة إِفلاطون وحكمة أرسطو والمثالية ومعتصرات العقول ونسائج الأفكار.

ولعل أثر هذه التربية يظهر جلياًَ في أحاديث الإمام (ع) وأحاديث الأئمة من آبائه وأبنائه، فإن الباحث قد يجد الأثر الواحد مروياً عن أكثر من إِمام واحد وإِذا استقصى في بحثه وجد الحديث بلفظه ومعناه مروياً عن جدهم الأكبر(ص) فمنه يقتبسون، وإليه ينتهون، كالأشعة من النور، وكالثمرة من الشجرة.

(3)

الأخلاق إِحدى الجهات الإنسانية التي عني بها دين الإسلام، واهتم بها اهتماماً كبيراً، والذي يستقصي تعاليم الكتاب وإِرشادات السنة يعلم مقدار هذا الاهتمام، ومبلغ هذه العناية، وهذه الظاهرة من الدين الإسلامي إحدى مميزاته عن سائر الأديان، وإحدى مؤهلاته للخلود.

وهي جارية على ما تفرضه جامعية الدين، وجفاء أخلاق المتدينين، يوم غرس بذرته، وإذا كان شذوذ الأخلاق ناتجا عن تطرف في الغريزة أو إِسفاف في العادة، او قصور في التربية، وإذا كانت أمراض الروح أشد فتكاً في معنويات الأمة، وأعظم أثراً في إِبعادها عن الخير والسعادة، فجدير بالدين الجامع، وجدير بالمصلح المهذب أن يتكفل إِتمام النقص في الأخلاق، ويتبين مواضع الخلل في النفس، ويعالج الخطر في الغريزة الموبوءة لِيُكَوِّن من الفرد عضواً صالحاً لمكانته من الأمة، ويجعل من الأمة مجتمعاً قابلاً للعلم في سبيل الخير.

الإسلام دين فردي اجتماعي وهو في إجتماعية فردي أيضاًَ، ينظر الإسلام في سعادة الفرد كما ينظر في سعادة الأمة، ويسعى لتهذيب الشخص كما يسعى لتنظيم المجتمع، وإذا كان صلاح الأمة مشروطاً بصلاح أفرادها كان اهتمام الدين بسعادة الفرد من ناحيتين:

 تهمه سعادة الفرد لأنه ممن يجب إِيصاله إلى الكمال.

وتهمه سعادة الفرد لأنها شرط في سعادة الأمة. وكلتا هاتين الغايتين يدعوا إليهما الدين الجامع. وإذن فلابد للإسلام أن يكون دين أخلاق، ولابد لقادة الدعوة فيه من بث روح الأخلاق، والإمام جعفر بن محمد أحد أولئك القادة. وبعض حملة ذلك المصباح.

كلنا نعلم أن الفلسفة الخلقية جزء من التراث القديم، بحث عنها الإنسان حين بحث عن أحوال الوجود، وحين علم أن النفس البشرية من أهم أفراد هذا الوجود وأن أخلاق هذه النفس من أبرز نواحيها، ومن أظهر خواصها، وقد استنفد هذا البحث كثيراً من جهده، وطويلا من زمانه، حتى أتته النتائج منقادة كما يريد.

ولكن الذي نلاحظه أن العرب في أيامها الأولى لم تكن تسمع عن هذه الفلسفة شيئاً، ولم تلمح منها إلا ظلالا خفيفة أدركتها بغرائزها... نطق بها حكماؤها ونظمها شعراؤها، وان الدين الإسلامي الذي نشأ بين هؤلاء العرب والذي صدع بتعاليمه محمد العربي الأمي قد تعرض لعلم الأخلاق فيما تعرض له من النواحي، فأسس له نظماً وقواعد تتمشى مع أدق الموازين في التطبيق، وأشدها إِحكاماً في القياس، وأكثرها انسجاماً مع الزمان المختلف والبيئات المختلفة.

نعم تعرض الإسلام لعلم الأخلاق بأساليب وجد العربي الأمي فيها ما أدركه بالفطرة، وقرأ فيها الفيلسوف ما أثبته بالبرهان وأكبر الجميع هذا الشرع الجديد الذي يعضد البرهان بالفطرة ويركز الفطرة على البرهان، ويصلهما جميعاً بوحي السماء ليضمن لهما العصمة في الإنتاج والغزارة في المادة. ولعل الوقت يتسع لنا بعد هذا فنبحث الموضوع كما يقتضي العلم أن يبحث، ولعلنا نحاسب الاُستاذ أحمد أمين عن نظرته إلى الأخلاق في الإسلام، فإن علاقتها باللفظ أشد من علاقتها بالمعنى والاُستاذ حين يتسرع بإرسالها يشبه البسطاء الذين يكتفون في معرفة الشيء بظواهره الشكلية.

(4)

علم الأخلاق حق إنساني مشاع، لا يختص بطائفة من البشر دون طائفة,ولا يحتكره فريق دون فريق، وإذا كانت الخاصة هي التي أسست قواعده، وشرعت نظامه، فإن العامة تشابهها في الحاجة، وتشترك معها في الغاية ما دامت للجميع ملكات يجب تعاهدها بالإصلاح، وغرائز يلزم إخضاعها للتوازن، وما دامت لهؤلاء وهؤلاء أعمال يحكم عليها بالخير أو الشر. ولجميعهم حق في السعادة ونصيب من الخير الأعلى.

ولست أذهب بعيداً حين أقول: حاجة العامة إلى علم الأخلاق أكثر فهو بهم اَلصق، لأن الأمراض الخلقية في العامة من الناس أكثر شيوعاً، وأعظم تفشياً وحاجة المريض إلى الطب أشد من حاجة الطبيب.

علم الإمام الصادق بذلك، وعلم ان لهؤلاء العامة إفهاماً لا تقبل المصطلحات الغريبة، ولا تستسيغ العبارات البعيدة. فكان لزاماً عليه ان يوضحها لهم على حسب ما يدركون، وان يترجمها لهم بما يفهمون، فكان من أبرع من أوضح، أدق من ترجم، على ان أكثر ما يهتم به المثاليون من قادة الدين هي ناحية التطبيق من علم الأخلاق، لأنها أكثر دخلا في التوجيه الخلقي الذي يهتم به الدين. ولأن الوحي قد كفاهم مؤونة الاستقراء، وأراحهم من عناء البحث والتمحيص.

(5)

لعلماء الحديث من شيعة أهل البيت (ع) حرص شديد على تدوين ما لأئمتهم من أقوال وإرشّادات، فهم يجمعون منها كل شاردة وواردة ـ ما تعلق منها بالفقه الجعفري، وما تعلق منها بغيره ـ فكان من نتائج هذا الحرص ان دونت جوامع وجمعت دواوين، وكانت أخلاقيات الإمام الصادق (ع) بعض ما دون.

تميزت الشيعة بذلك لا لأن نصائح الأئمة كانت خاصة بهم، بل لأنهم أكثر اهتماماً بآثار أئمتهم، وإذا استثنينا هذه الوجهة فلم تكن الشيعة إِلا بعض من تجب له النصيحة في رأي الإمام (ع) فإن حبه للخير والإصلاح يأبى له ان يمنع النصيحة عن أيَّ أحد ينتفع بها.

لم يبخل الإمام بنصيحة على مسلم يوماً ما، وتعاليمه الخلقية لسفيان بن سعيد الثوري، وزملائه الآخرين من رؤساء المذاهب بينة واضحة على هذه الدعوى، وهو القائل: "خير الناس من أنتفع به الناس" والراوي عن أبيه النبي (ص): "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم " وكل ما تتميز به الشيعة من ذلك أنهم لتعاليمه أسمع، ولأقواله أحفظ ، وان الإمام هو المسؤول عن تهذيبهم، لأنه عميد مذهبهم.

خلف لنا علم ألا ثر ثروة كبيرة من أخلاقيات الأمام الصادق (ع) يجدها الباحث منتشرة في فصول كتب الحديث، ولاسيما الأخلاقية منها، ولكنه لم يحفظ لنا كتاباً يختص بأخلاق الأمام، إذا استثنينا (مصباح الشريعة ) الكتاب الذي آثار بعض علماء الحديث عاصفة الريب في نسبته إلى الإمام الصادق، وكان لهم في أمره شكوك وشكوك.

نعم ان علم الحديث لم يحفظ لنا كتاباً يختص بأخلاق الأمام الصادق (ع) ولكنه حفظ أنا بين طيّاته درراً من أخلاقه، وجواهر من عرفانه، لو اعتنى الباحثون بجمعها لألفوا مجموعة رائعة في العلم

أما كتاب (مصباح الشريعة ) فإن نسبته إلى الإمام جعفر بن محمد أخذت دوراً مهماً كانت فيه حديث أهل النقد من علماء الحديث، وقد انقسموا فيه إلى شطرين، وكل ما أتى به النافون تشكيك وتردد، ولا يهمنا ان نتعرض لا ثبات هذه النسبة أو نفيها، ولا ان نستعرض أدلة المثبتين وشكوك الناقدين، فإن لهذا النوع من البحث كتباً أخرى، على ان أحاديث الأخلاق والسنن لا تحتاج إلى عناية كبيرة في التوثيق، وقد اعتمد على كتاب (مصباح الشريعة) كثير من علماء الحديث، وصححه جماعة من الأ ثبات، وهذا كاف في صحة الاعتماد عليه.

سماحاً أيها القارئ الكريم: لقد اطلنا بك الوقوف على المنعرجات، وتشعبت بنا الطرق عن الغاية، ولابد للكلام عن هذه النواحي ان يطول، فلنسر بعد هذا إلى غايتنا وكان الله معنا.

محمد أمين زين الدين

الخلق

"إن الله ارتضى لكم الإسلام ديناً"

"فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق"

الإمام الصادق (ع)

الخلق

كلمة الخُلُق تستعمل في اللغة بمعنى السجية، وبمعنى الطبع، والعادة، والدين، والمروءة. وقد ذكر اللغو يون لكل واحد من هذه المعاني شواهد من أقوال العرب وأمثالها.

وبين هذه المعاني صلة قريبة تكاد تجمعها في إطار واحد. ولعل معنى الكلمة في اللغة واحد وهذه المعاني إفياؤه وظلاله، ولعل هذا المعنى الواحد في اللغة هو الذي يعرفه الخُلُقيون من هذه الكلمة أيضاً، وان كانت النصوص اللغوية قاصرة عن إثبات ذلك.

والخلقيون يعرفون من معنى هذه الكلمة إنها ملكة من ملكات النفس، ويقولون ان أظهر خاصة تتميز بها هذه الملكة هي صدور الأفعال عن الإنسان من دون إِمعان فكر أو أعمال روية.

ويقول بعض الخلقيين (الخلق صورة الإرادة)[1] ولعل هذه القائل يحاول ان يبدل البيان ببيان آخر أكثر منه وضوحاً، وأوفى شرحاً، إلا إنه لم يفلح في هذه المحاولة فاضطره الغموض إلى شرح طويل، أبعد فيه المعرف عن التعريف، وإذا كان يريد من لفظ الصورة: الملكة الكامنة في النفس، والمسخرة للإرادة حين العمل لم يكن بين التعريفين مخالفة.

لكل إنسان في نفسه صفات كثيرة العدد، متباعدة الآثار؛ كالوفاء، والصدق، والسخاء، والشجاعة. وهذه الصفات مصدر لأكثر أعماله، والخلق من هذه الصفات النفسية هو ما تركز في النفس، وانطبعت به انطباعاً كاملاً.

والعلماء الخلقيون يبحثون في الدرجة الأولى عن هذه الملكات النفسانية من حيث إنها تتصف بالاعتدال والانحراف وتقبل التحوير والتهذيب، أما الأعمال التي يصدرها الإنسان باختياره، والتي يحكم عليها العقلاء بالخير أو بالشر فيسميها الخلقيون سلوكا، ويبحثون فيها بحثاً ثانوياً، من حيث إنها مظهر خارجي للخلق الكامن، ولأن العمل من ناحية أخرى هو المفتاح لتهذيب، الصفة النفسية إذا كانت منحرفة، ولانحرافها إذا كانت مستقيمة.

ولذلك فلا يمكننا ان نعتبر العمل الاختياري موضوعاً لعلم الأخلاق، وان أصر على هذا الرأي الأستاذ أحمد أمين[2] وأطال في شرحه وإيضاحه، لا يمكننا ذلك لأن هذا الرأي لا يتفق مع أصول العلم.

موضوع هذا العلم هو (الخلق ) والخلق صفة نفسية وليست عملاً من الأعمال، وان كان العمل الاختياري مظهرها الخارجي، والأستاذ يقيم على هذا التأسيس أشياء أخرى قد نعرض لبعضها فيما يأتي.

والخلق لا يمكن أن يكون وليد مصادفة، ونتيجة اتفاق، لأن الأخلاق ملكات، ولابد للملكات من أسس كما لابد للبناء من قاعدة، وأسس الخلق: الغريزة، والوراثة، والبيئة، والتربية، والعادة. والفلاسفة القدماء حين يقولون: "يولد الإنسان صحيفة بيضاء يرسم فيها المربي ما يشاء" يريدون بذلك أن نفس الطفل مرنة الغرائز، سريعة التأثر والانطباع باشارات المربي وإِرشاداته، لأن غرائز الطفل لا تزال بعد في جدتها، لم تسيره إلى وجهة خاصة، ولم تكسبه خلقاً معيناً، فهي قابلة للتوجيه، ومستعدة للتهذيب، وإذن فهم يريدون من بياض صحيفة الطفل خلو نفسه من الملكات الخلقية، لا عريها عن الغرائز والطبائع الموروثة، والمربي يكسبها أخلاقاً لا ينشىء فيها غرائز، وهم يقولون هذا في الرد على من يقول: الإنسان خيِّر بالطبع، ومن يقول: هو شرِّير بالجبلَّة.

ولنترك الأستاذ أحمد أمين يفسر قولهم هذا بما يشاء ليخطئهم في الرأي، وليدل على خطأهم بأعمال الغريزة في الإنسان حين يولد، لقد فسر على ما اشتهى، ثم أشكل على ما فسر.

أما قانون الوراثة الذي أشار إليه الأستاذ هنا، والذي بني عليه هدم هذه النظرية فلا يدل على أن الطفل يرث من أسلافه أخلاقاً، وكل ما يدل عليه أن الطفل يرث منهم مبادئ أخلاق، واستعداداً في غرائز، والفلسفة القديمة لا تنكر ذلك، والشرع والأدب العربي القديم يعترفان بذلك أيضاً. وتأثير هذه الأسس في تكوين الخلق الإنساني ليس على نهج واحد، فإن الغرائز تظهر أشكال ميول ورغبات، والوراثة تحوير في استعداد الغريزة، وأثر التربية أو البيئة توجيه النفس عند إرادة العمل، وأثر العادة تثبيت الصفة الحادثة إحالتها خلقا، وإذن فمبادئ الخلق تنحصر في صنفين:

(1) اختياري يفتقر وجوده إلى إرادة الإنسان واختياره، ومن هذا القسم: العادة؛ وبعض مفردات التربية، والبيئة، كالمدرسة والأصدقاء.

(2) اضطراري لا حكومة لإرادة الإنسان على وجوده وان كانت لها حكومة على تأثيره، ومن هذا القسم: الغريزة. والوراثة، والبعض الآخر من مفردات البيئة والتربية.

والإمام الصادق (ع) يصرح بهذا التقسيم فيقول: (إن الخلق منحة يمنحها الله خلقه فمنه سجية، ومنه نية) ويفسر لفظ السجية بالجبلة في بقية الحديث فيقول: (صاحب السجية هو مجبول لا يستطيع غيره؛ وصاحب النية يصبر على الطاعة تصبراً فهو أفضلهما)[3] ويقابل السجية بالنية وهي الإرادة.

ومعنى الحديث ان الخلق الحسن منه ما تسوق إليه الجبلة، وتبعث إليه الفطرة، وهذا القسم لا يجد الإنسان صعوبة في تكوينه، ولا في الاستمرار عليه، ومنه ما يكون على خلاف ميول الإنسان ورغباته؛ وهذا القسم هو الذي يحتاج إلى مجاهدة النفس في تكوينه، وإلى مصابرتها في الاستمرار عليه، فهو أفضل القسمين؛ وإرجحهما في الميزان.

وإذا وجهنا نظرة فاحصة نحو هذه الأسس رأينا للعادة خاصة لا تتمتع أخواتها الأخرى بنظيرها، للعادة ان تستقل في تكوين أي خلق من أخلاق الإنسان، وليس للغريزة ولا للأسس الأخرى مثل النفوذ والاستقلال، لأن الخلق ملكة، والملكة لا تتكون للنفس إِلا بتكرار العمل[4]

ونتيجة هذا ان جميع الأسس الأخرى محتاجة إلى انضمام العادة إليها في تكوين الخلق النفسي، وان للعادة سلطاناً على تغيير كل خلق يتصف به الإنسان، وان للعقل سيطرة على تهذيب الغرائز، لأن له سلطاناً على تحوير العادات.

والإمام الصادق (ع) يقرر هذه النتيجة فيقول: (ما ضعف بدن عما قويت عليه النية)[5]

تهذيب الغرائز النفسية جهاد، وفي الخروج على مؤثرات البيئة والوراثة عناء وصعوبة، ولكن جميع ذلك سهل على الإرادة القوية، ولا خير في الرجل إذا لم يكن قوي الإرادة.

ويقول أيضاً: (ان الله ارتضى لكم الإسلام ديناً فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق)[6] الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده إكراماً لهم وامتناناً عليهم، به ينجحون في الدنيا، وبأتباعه يفلحون في الآخرة، فيجب عليهم ان يجاهدوا الخلق السيئ من أنفسهم، لأن الإقامة على الأخلاق السيئة إساءة لا تلتئم مع قدسيَّة الإسلام، هكذا يقول الإمام الصادق في حديثه هذا، وإذن فهو يرى ان تهذيب الأخلاق ممكن وان كان جهاداً، وعلى هذا النهج وبمثل هذه النغمة يقول: (من أساء خلقه عذب نفسه)[7].

سوء الخلق عذاب يختاره الإنسان لنفسه إذا أساء خلقه، وهو جحيم يجب على العاقل ان يتخلص منه، هو عذاب لأنه ضعة في النفس وخمود في العقل ،وهو عذاب لأنه نقص في الإنسانية، وشذوذ عن التوازن، وهو عذاب يختاره الإنسان لنفسه، لأنه هو الذي يسعى في تكوينه، والإمام بقوله هذا يحاول أن يجعل من إرادة الإنسان سلاحاً ماضياً لكفاح الرذائل ومحاربة النقائص.

ومن الخلقيين من يرى ان الأخلاق انطباعات نفسية يستحيل عليها التحوير والتهذيب، فليس للعقل عليها آية حكومة, وليس للإرادة على تغييرها آية قدرة، وهذه نظرية مجحفة تهدم بناء السياسات وتلغى فائدة التشريع، وتبطل نظم الأخلاق وهذه النتائج وحدها كافية في إبطال هذا القول.

أما قول الإمام الصادق في حديثه المتقدم: (صاحب السجية هو مجبول لا يستطيع غيره) فلا يعني به أن من الأخلاق ما يستحيل عليه التهذيب؛ وإنما يعني أن تكوين الخلق بسبب العادة فقط أكثر صعوبة على الإنسان مما إذا تساعدت على إنشائه الغريزة والعادة، فإن الإرادة إذا صادفت ميلاً غريزياً أسرعت إلى العمل، وبتكرار العمل تحصل العادة، ويتركز الخلق، وهما عند المكافحة والتهذيب على العكس من ذلك، لأن تغيير مجرى العادة أسهل بكثير من تعديل مجرى الغريزة.

وطالما سماه الصادقون من أهل البيت (ع) جهاداً وما أحقه بهذه التسمية، لأن الثبات فيه يستدعي حزم المجاهد وللمناضل فيه أجر المجاهد، وقد قال أبوهم النبي (ص) لبعض سراياه عند رجوعها من الحرب، (مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر[8].

ثم فسر لهم الجهاد الأكبر الذي بقي عليهم بجهاد النفس على أخلاقها، وقال الإمام الصادق (ع): (واجعل نفسك عدواً تجاهده)[9]. وهو يريد بالنفس هنا ملكاتها الوضيعة. ومن أحق بالمجاهدة من هذا العدو المخادع، والخصم الألد، الذي يحمل سلاح العذر تحت ستار النصيحة، ويمزج السم القاتل بحلاوة الأمل هي عدو داخلي يحب اخضاعه بقوة العدل لحكومة العقل.


[1] قول ينقله الأستاذ محمد أحمد جاد المولى بك في الجزء الأول من الخلق الكامل ص 51.

[2] ولذلك فهو يفسر نظرة الإسلام إلى الأخلاق تفسيراً يتصل بالفقه الإسلامي أكثر من اتصاله بعلم الأخلاق، ويعرف الخلق بأنه عادة الإرادة؛ وينقد الفلسفة القديمة التي تقول: يولد الطفل خلواً من الأخلاق، ثم يكتسب أخلاقه بالتربية. ويرد عليها بأعمال الطفل حين يولد، ويقول أشياء أخرى تتصل بهذا الرأي.

 

[3] الكافي الحديث11 باب الخلق.

[4] العادة مرونة تحصل للنفس من تكرار العمل حتى تألفه ويسهل عليها ان تأتي به من غير أمعان فكر، ويشترط الأستاذ أحمد أمين في تكوين العادة وجود ميل نفساني نحو العمل ينضم إلى تكراره، ويقول:هما أمران لابد منهما في تكوين العادة، ولا يكفي أحد هما عن الآخر، ولم يظهر لنا وجه مقبول لهذا الشرط الذي يشترطه الأستاذ.

[5] أمالي الصدوق ص198

[6] الكافي الحديث 4 باب المكارم

[7] أمالي الصدوق ص124.

[8] الوسائل كتاب الجهاد الحديث الأولى من باب وجوب جهاد النفس.

[9] أصول الكافي الحديث 7من باب نوادر الاستدراج.

 

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست