.

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

السعادة والخير

الخير

الاعتدال والانحراف

 

السعادة والخير

"السعادة سبب خير بتمسك به"

"السعيد فيجره إلى النجاة"

الإمام الصادق (ع)

(2)

السعادة والخير

يستطيع الكائن الحي[1] أن يصدر من الأعمال ما يعاكس بها نظام الجذب العام، والجماد والنبات لا يقدران على ذلك، يستطيع الحيوان أن يتسلق الجبل مثلاً، وأن يتنقل حيث تقوده الرغبات وتسوقه المطامع. وماء البحر لا يستطيع ذلك من نفسه، ولا يفعله إلا حين يكون مقسوراً، وهذا يدلنا على أن للكائن الحي قوة نفسية تميزه بهذه الخاصة عن جميع ما يشاركه في الوجود، وهذه القوة النفسية هي الإرادة، وقديماً عرف المنطقيون الكائن الحي بأنه "المتحرك بالإرادة".

وهذه القوة النفسية " الإرادة " واحدة في العدد، ونسبتها إلى جميع الأعمال التي يصدرها الحيوان نسبة متساوية، ولذلك فكان من المستحيل على الإرادة أن تتوجه إلى نقطة معينة من الأعمال إذا لم تعينها نفس ذلك الموجود الحي، ونتيجة جميع ما تقدم أن للحيوان إرادة تصدر عنها أعماله وتصرفاته، وأن لهذه الإرادة أغراضاً توجهها إلى ما تعمل والى ما تترك، وبهذا يشترك الإنسان مع جميع أفراد الحيوان.

وينفرد الإنسان عنها بأن أغراضه مسبوقة بالتعقل والتدبر، فهو الذي يستطيع أن يعلل ويتفكر، ويقارن بين الأشياء وأضدادها، ويقيس المستقبل بالحاضر فيختار الجيد من الأمور، والمثلى من الغايات، أما الحيوان فيسوقه الوهم إلى أتباع الغريزة فيما تأمر وما تحذر، وليس له وراء الغريزة والوهم قائد ولا سائق.

توجه الطبيعة غرائز الحيوان وميوله، فتتبعها إرادته تنفذ ما تأمر، وليس له اختيار كامل يمكنه أن يستقل به عن أحكام الطبيعة وميول الغريزة، والإنسان وحده هو الذي يستطيع ذلك، فهو الذي يصدر أحكامه على الغريزة، ويغير أحكام الطبيعة، ويصنع العجائب بإرادته واختياره.

وللإنسان نزعة نفسية ثابتة، وهي حب الجودة، فهو يتكلف الجيد من الأعمال ويتحرى الجيد من الغايات، وهو يحاول أن يكون سابقاً في أعماله، وأن يكون جميلاً في كل مظهر من مظاهره، ثم هو يحب المدح ويلتذ لسماعه، وهذا يدلنا على ان الغاية الأولى للإنسان هي الكمال المطلق، وان الجودة التي يتمناها لصفاته، ويتوجه إليها في جميع أعماله إنما هي مظهر من مظاهر هذا الكمال الذي تنتهي إليه جميع غاياته، وترتبط به جميع مقاصده، وإذا علمنا أن علم الأخلاق يبحث في صفات الإنسان، وأعماله وفي كيفية تهذيبها، وإرجاعها إلى التوازن فقد إتضح لنا أن غاية علم الأخلاق هي إيصال الإنسان إلى الكمال المطلق في أخلاقه وأعماله، وإذا كان هذا بنفسه تعريف السعادة على ما يقوله بعض الفلاسفة المقدمين كانت النتيجة ان غاية علم الأخلاق هي السعادة للإنسان.

"سعادة كل كائن حصوله على كماله الذي قد تهيأ له" بهذا يحددون معنى السعادة ثم يقولون في تعليله: ان الوجود على الإطلاق خير، وإذا كان الخير مما يقبل التفاضل بين أفراده، كان كمال ذلك الوجود خير ذلك الخير، وإذن فالكمال المطلق الذي يتوجه إليه الإنسان في أعماله وصفاته هو"الخير الأعلى "، وهذا هو تعريف السعادة عند ارسطوا فالتعريفان يشيران إلى معنى واحد، على ان بين السعادة والخير فرقاً من وجهة أخرى.

ويرى قوم من الفلاسفة: ان الغاية. الأولى للإنسان من جميع أعماله هي اللذة[2] وقد أخذت هذه النظرية دوراً مهماً بين الفلاسفة المحدثين، ومن أهم ما يؤخذ عليها من وجوه النقد.

(1) ان الغاية هي النتيجة التي يهدف إليها العامل ويوصل إليها العمل، ولذلك فيجب ان تكون متأخرة عن العمل في الوجود، واللذة تصاحب العمل في أكثر الأحيان وتنتهي بانتهائه، فلا يمكن ان تعتبر غاية له.

فمن يتقدم للدفاع عن وطنه، أو للجهاد عن دينه، يجد لعمله هذا لذة حين هو يدافع أو يجاهد، ولكن هذه اللذة ليست غايته، من جهاده أو دفاعه لأنها تقارنهما في الوجود، وغاية الشيء لا تقارنه، ثم هو قد يقتل، وقد يحول دون فوزه في الجهاد حائل فلا تستمر اللذة إلى ما بعد العمل فكيف تكون غاية له، وفي كثير من الأشياء تكون اللذة حين العمل أشد منها بعد انتهائه.

(2) وان الإنسان قد يصدر أَعمالاً بدافع من غريزته قبل ان يعلم ان هذه الأعمال سارة

أو مؤلمة، واللذة والألم شعوران لا يحصلان للنفس إلا بعد الاختيار والتجربة.

 فالطفل حين يرتضع ثدي أمه لأول مرة، وهو حين يبكى إذا تأخر عنه الرضاع لأول مرة إنما يعمل ذلك بدافع من غريزته إلى الرضاع أو إلى البكاء، لا لأنه يجد لذة في الرضاع أو يحس بألم في الحرمان، لأنه لم يختبر ذلك بعد.

على ان الأنصاف يقتضينا ان نعتدل في الحكم على هذه النظرية بالصحة أو بالفساد، فهي ليست بمطلقها صحيحة لما قدمناه من الأدلة ولما لم نذكره منها حذراً من الإطالة، وهي ليست بمطلقها فاسدة، لأننا نجد الإنسان يصدر بعض أعماله مجرد اللذة ولا يتطلب منها غاية أخرى.

وإذن فالفعل الذي يعمله الإنسان بإرادته واختياره يكون على قسمين:

(1) أخلاقي: وهو الذي يكون مظهراً للخلق الصحيح والذي يكون صدوره بإشارة العقل وإرشاده، وهذا هو الذي يجب ان تكون غايته هي الكمال الإنساني المطلق، وإذا أعقبت هذا النوع من العمل لذة فهي شيء آخر يصحب الغاية؛ يتقدم عليها أو يقارنها في الوجود.

(2) غير أخلاقي: وهو الذي لا يعد كذلك، وفي هذا الصنف من العمل الاختياري قد تكون الغاية هي اللذة، وقد تكون الغاية هي الكمال، وقد تكون شيئاً يتوهمه الفاعل كمالا.

وسواء ثبت ان اللذة بمطلقها خير أم لم يثبت، فلا يسعنا التصديق بأن السعادة هي اللذة مادامت السعادة هي الخير الأعلى وكان أكثر اللذات مصحوباً بالألم.

لبعض الفلاسفة ان يجعل الغاية من جميع الأعمال هي اللذة، ولهم ان يختلفوا في تعيين هذه اللذة وتوصيفها، وللأستاذ أحمد أمين ان يفسر معنى السعادة " باللذة والخلو من الألم " إذا أحب ان يختار هذا التفسير على ان يكون ذلك رأياً خاصاً له في معناها، ولكن ليس له ان يجعل ذلك تفسيراً للسعادة عند جميع الفلاسفة.

نحن لا ننكر ان من الفلاسفة من يوافق الأستاذ على هذا التفسير، ولكننا ننكر عليه ان يجعله رأياً للجميع فيقول: "ويعنون بالسعادة اللذة والخلو من الألم".

السعادة هي الخير الأعلى، بهذ1 تعرفها الخاصة، وهذا ما تفهمه العامة من معناها أيضاً، وإذا تجدد بين الفريقين اختلاف بعد ذلك فإنما هو في تعيين أفراد الخير الأعلى، فإن الخاصة تعرف من الخير الأعلى مثالية سامية، لا تدركها عقول العامة، وللعامة في تحديده رأي قصير لا تذعن له الخاصة.

تدرك العامة من الخير الأعلى معنى بسيطاً تحدده لها أنظار بسيطة، فترى أن السعادة هي الثروة، والصحة، والرفاه، لأنها لا تعرف من الخير الأعلى غير هذا وما يشبهه، والخاصة لا ترى في ذلك ما يسمى كمالاً، ولا تعد الحصول عليه سعادة، إلا إذا كان السعادة معنى آخر[3].

وكمال النفس عند هؤلاء ارتقاؤها إلى المراتب العقلية الرفيعة، واستيفاء حظها من الإنسانية الكاملة وبين هاتين الطائفتين طبقات متوسطة تعرف من الكمال ومن الخير الأعلى غير ما يعرفه هؤلاء جميعاً فتكون السعادة عندهم شيئاً آخر.

أما الإمام الصادق (ع) فيقول: "دعامة الإنسان العقل ـ وبالعقل يكمل "[4] ويقول: " اليقين يوصل العبد إلى كل حال سني ومقام عجيب "[5] ويقول: " أن الإيمان أفضل من الإسلام وان اليقين أفضل من الإيمان، وما من شيء أعز اليقين " [6] ويقول " إِن الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في الشك والسخط"[7].

وهذا الرأي هو الذي يقرره المثاليون من الفلاسفة فهم يقولون: الكمال رقي النفس في مراتبها العقلية، والإمام يقول (الروح والراحة في اليقين ) واليقين أعلى مراتب الحكمة والإنسانية الكاملة التي يقولون بها هي الإيمان الكامل الذي جعله أفضل من الإسلام ومن مطلق الإيمان ولعلك تلمس من لفظ الروح في قوله؛ معنى اللذة في قولهم؛ لأنه يقابله بالهم والحزن وإذن فالكمال في الرأيين بمعنى واحد وحصول ذلك الكمال للإنسان هو الخير الأعلى أو السعادة. وقد يكون هذا معنى النجاة في قوله (السعادة سبب خير يتمسك به السعيد فيجره إلى النجاة) [8] وإذا أردت ما هو أكثر صراحة في ذلك فهو يقول (إذا منّ الله على العبد جمع له الرغبة في المعروف والقدرة والإذن فهنالك تمت السعادة والكرامة)[9].

للإيمان في رأي الإمام الصادق طرفان: اعتقاد وعمل. ومرتبة اليقين هذه تأخذ بالاعتقاد إلى حد الكمال وتبسط على العمل فضيلة التوازن وبذلك يحصل الإيمان الكامل الذي هو أفضل من الإسلام ومن مطلق الإيمان، وتتم السعادة والكرامة.

ويقول الإمام أيضاً (لا ينبغي لمن لم يكن عالماً أن يعد سعيداً )[10] وكيف ينال السعادة من حرم كمال العلم، وكيف تحصل الإنسانية الكاملة لمن يقوده الجهل.

الخير

علمنا ان كل تصرف يصدره الإنسان باختياره فهو مسبوق بالتفكير في نتائجه وبالموازنة بين الجهات المرجحة لفعله ولتركه. وإذن فهنا أشياء نشتاق إليها في نفوسنا ونتوسل إلى تحصيلها بأعمالنا ونعد الفعل الذي يوصلنا إليها راجحاً. وهنا أشياء أخرى ننفر منها بمقتضى طباعنا ونجتنب العمل الذي يؤدي بنا إليها ونعده مرجوحا. وقد أطلق الخلقيون على الأشياء الأولى كلمة الخير وعلى الأشياء الثانية كلمة الشر وهم يحكمون على العمل بأنه خير أو شر بملاحظة ما ينتجه من الجهات المذكورة، وإن اختلفوا في موازين الخير والشر والمقاييس التي تقاس بها الأشياء ليعلم أنها خير أو شر وقد يوجهنا البحث إلى هذه الناحية فيما يأتي:

(الخير هو موضوع جميع الآمال ) هكذا يقول أرسطو في تعريف الخير[11]. ويقول فيلسوف آخر "الخير ما يتشوقه الجميع " ويقول ثالث "هو ما يقصده الجميع في أعمالهم " وبين هذه التعاريف فروق واضحة إلا أنها تجتمع على الجهة التي ذكرناها.

ولفظ الخير عند الخلقيين القدماء يحكي معنيين متناسبين وللتفرقة بينهما يصفون أحد هما بالخير المطلق والثاني بالخير المضاف، والتعاريف المتقدمة تحدد الخير بمعناه الأول.

والخير المضاف هو كل وسيلة توصلنا إلى الخير المطلق والفارق بينهما هو الفارق بين الوسيلة والغاية، أو بين الغرض الأدنى والغرض الأقصى.

قد توصلنا الغالية إلى غاية أخرى أسمى منها فتكون الغاية الأولى خيراً مضافاً لأنها أوصلتنا إلى الخير المطلق ولنا ان نعتبرها خيراً مطلقاً أيضاً لأنها غاية بعثنا إليها الشوق وتوسلنا إلى حصولها بالعمل.

والإمام الصادق (ع) يذكر المعنى الأول من الخير فيقول: " جعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا "[12]. ويقول " السعادة سبب خير يتمسك به السعيد فيجره إلى النجاة "[13].ويذكر المعنى الثاني فيقول " إذا أردت شيئاً من الخير فلا تؤخره " [14] ويقول: " افتتحوا نهاركم بخير، وأملوا على حفظتكم في أوله خيراً وفي آخره خيراً "[15] ويقول: " احسن من الصدق قائله وخير من الخير فاعله"[16].

 

الاعتدال والانحراف

" ومن كان عاقلا كان له دين"

"ومن كان له دين دخل الجنة "

الإمام الصادق (ع)

(3)

الاعتدال والانحراف

الغرائز قوى فطرية تسوق إرادة الحيوان إلى العمل، وتظهر في الإنسان على أشكال ميول ورغبات، ولذلك فالخلق النفسي مدين في وجودة للغريزة قبل أن يكون مديناً للعادة (لأن الغريزة هي الدافع الأول إلى إيجاد العمل. والعادة هي الدافع الثاني إلى تكراره ) والغريزة تبذر الخلق في النفس لتنمية العادة، والغريزة تعين الغاية التي تتوجه إليها الإرادة ثم. تتبعها العادة ويتكون الخلق.

من الواضح أن الناس مختلفون في إتباع ميول الغريزة فإن بعضهم يتبعها بأعماله إلى حد الإفراط، وبعضهم يتجافى عنها إلى حد التفريط، فإذا تكرر العمل من هؤلاء وهؤلاء نشأت لهم عادات منحرفة وأكسبتهم العادات أخلاقاً غير مستقيمة.

وفريق من الناس يعتدلون في إتباع هذه الميول فتنشأ لهم العادات المعتدلة، ويكتسبون منها الأخلاق السوية. ومن البين أيضاً أن هذه الغرائز لم تجعل في الإنسان ليتبعها في كل ما تأمر وتنهى، ولو كان الأمر كذلك لم يرتفع الإنسان عن درجة الحيوان، ولا ليزهد فيها كما يزهد في الشيء التافه؛ لأنها أودعت فيه لضرورات يقتضيها بقاؤه وبقاء نوعه، وإذن فالأعمال التي يتجاوز بها الناس حد الاستواء أعمال غير صالحة، والأخلاق التي يكتسبونها من تكرار هذه الأعمال أخلاق غير صحيحة، وإذن فأمراض الأخلاق انحرافات، وصحتها استقامة وتوازن، وبعد الخلق الفاسد عن الصحة بمقدار انحرافه عن التوازن العادل,

ويرى القدماء من علماء الأخلاق أن للإنسان قوى أربعاً، يسمونها بالصورة الباطنة للإنسان على قياس الصورة الظاهرة وهذه القوى هي قوة العقل، وقوة العمل، وقوة الشهرة، وقوة الغضب. ويقولون إن هذه القوى هي أصول الأخلاق عليها تفرع، وإليها تنسب فبإعتدال كل واحدة من هذه القوى تحصل إحدى الفضائل الأربع التي يسمونها أمهات الفضائل أو الفضائل الرئيسية، ويقابل كل واحدة من هذه الفضائل رذيلتان تنشئان من انحراف القوة إلى طرف الإفراط أو إلى حد التفريط. ولا يحصل هذا الشذوذ إِلا إذا ضعفت سيطرة العقل على القوى وقصر نفوذه عن إرادة الحكم.

يشذ بعض القوى حينذاك ويثور به الطمع ولكنه لا يستطيع أن يصل إلى غايته إلا إذا استخدام قوة العمل؛ وهو بعد جاهل بأسباب النجاح؛ فهو محتاج إلى مرشد يمهد له الطريق ويرفع دون غايته الحواجز. وقوة العقل لا تمديداً لمساعدة ظالم ولا تعين مستأثراً على بلوغ أهدافه مهما بلغ بها الضعف؛ ومهما بلغت بذلك المستأثر القوة. إلا ان يعود العقل حمقاً، وينقلب العلم جهلاً.

وإذن فليس لتلك القوة المتطرفة غير قوة الوهم التي تخلق الحيل وتستنبط الأعذار[17] فتستعين بها على إخضاع قوة العمل ويتم لها ما تريد.

أما العقل فهو يرصد هذه الفوضى بعين الناقد النزيه. يحفزه رشده على الوثبة، ويقعد به ضعفه عن الاصطدام بقوة لا قبل له بها؛ ثم يلجئُهُ الموقف إلى السكوت؛ ولا بد للضعيف ان يخفت صوته أمام القوة فتشذ الأخلاق ثم تشذ وتسقط النفس في صفاتها ثم تسقط وتذهب في سقوطها إلى حد بعيد.

ولضعف القوى أثر في جفاء الأخلاق؛ وسقوط الملكات لا يقل خطراً عن أثر الإفراط في القوة.

يقف بالضعيف شعوره بالنقص، ويقعد به عن بلوغ حظه من الكمال. وليت الضعف يقف به عند هذا الحد، ولكن الإنصاف غير منتظر من عدو غادر، سيتناهى به إلى أبعد حد، ويستولي عليه الشعور بالنقص حتى تأنس به نفسه، وحتى تتوهم ان لها من الضعف قوة، ومن النقص كمالاً وتنطبع الحالة فيها ملكات.

وقد يحصل التوازن العادل في القوى فيتولد منه الاعتدال في الأخلاق والعدالة في النفس، وإنما يتكون هذا التوازن إذا عمت سلطة العقل على الغرائز، وأذعنت لحكمه جامحات القوى، فيتسلم زمام التدبير، ويستقل بإرادة الحكم. وللعقل في تدبير هذه المملكة الصغيرة أنظمة قد يخطئها مدير مملكة واسعة. وليس للعقل وراء هذه القوى والغرائز جنود أخرى يخضع بها الجائر ويهدئ بها الثائر، ولكنه بحكمته يضرب بعض القوى ببعض ،فيضع الشهوة بالغضب ويكسر الغضب بالشهوة ويستعين على ذلك بنواميس الشرع وتقاليد العرف.

تسكن الفوضى وينقاد الصعب ويتقوى الضعيف ويتماثل المريض بفضل الحكمة والإرشاد وبتدبير الحاكم المصلح ،ويعم التوازن العادل بين الحاكم وأفراد الرعية فلا طمع ولا استئثار.

هذه هي الحكومة المثالية والعادلة، والعدالة الخلقية بأسمى معانيها والفضيلة الكبرى التي ترسم للإنسان طرق الفضائل الفرعية، وذلك هو الدين الذي يقول عنه الإمام الصادق (ع): " من كان عاقلا كان له دين دخل الجنة "[18] أجل من كان عاقلا كان له دين، وهل الدين غير التوازن في الأخلاق، والأعمال والعقائد؟ وهل العقل إلا رائد الخير ودليل السعادة؟

ويقول في كلمة أخرى: (أكمل الناس عقلاً أحسنهم خلقاً)[19] وفي كلمة ثالثة: (العقل دليل المؤمن)[20] على ان الإمام الصادق (ع) يجري في تقسيم الأخلاق مجرى آخر. فيرى ان الفضيلة الكبرى هي العقل، وان جميع الفضائل الأخرى متفرعة منه يسقيها من ينبوعه ويمدها من حكمته، وان الرذيلة الأولى هي الجهل، وبقية الرذائل فروع منه ولذلك فهو يقول في حديث طويل: (اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا)[21] ثم يعيد الأخلاق السامية في جنود العقل، والصفات الوضيعة في جنود الجهل.

وهو يريد من العقل الكامل الذي لم تخف به كفة التوازن إلى حد التفريط، ولم تتعد به إلى حد الإفراط. وهو الذي يقول عنه في الحديث المتقدم: (من كان عاقلاً كان له دين)، وفي الحديث سيأتي: (وهو ما عبد به الرحمن وأكتسب به الجنان) [22] ويريد من الجهل ما يقابل هذا العقل المتوازن.

وهذا المسلك شبيه بمسلك (سقراط) في تقسيم الأخلاق وهو أبعد منه عن النقد، وأكثر موافقة للبرهان.

يقول سقراط: الفضيلة الأولى هي العلم، والرذيلة الأولى هي الجهل. ولذلك فقد كان رأيه هذا موضعاً للنقد: لأننا نجد ان بعض الناس يرتكب الأخطاء الخلقية وهو عالم بشناعة ما يرتكب فلم يسقه علمه إلى الفضيلة، ولم يردعه عن ارتكاب الرذيلة.

أما الإمام فيقول: أن الفضيلة الكبرى هي العقل، ومن البين ان الإنسان إنما يرتكب الأخطاء الخلقية إذا ضعفت موازنته بين الغايات أو شذ به بعض الأخلاق عن التوازن. وهذا لا يكون إِلا حين ينحرف العقل عن الاستقامة أو يضعف عن الحكومة.

وأما النقد الذي يوجهه (ارسطوا) لنظرية (سقراط) هذه حين يقول: (ان سقراط جهل أو تناسى ان نفس الإنسان ليست مركبة من العقل وحده وتخيل ان كل أعمال الإنسان خاضعة لحكم العقل ومن ثم إذا علم العقل فضل العمل، ولكنه نسي ان أكثر أعماله محكومة بالعواطف والشهوات، إذ ذاك قد يقع في الخطأ مهما علم العقل).

أقول أما هذا النقد فلا يتوجه إلى مسلك التقسيم الذي نقلناه عن الإمام الصادق (ع) لأنه لا يقول ان نفس الإنسان مركبة من العقل وحده ولكنه يقول: للعقل المستقيم سيطرة واسعة يخضع بها العواطف إذا ثارت، ويقود بها الشهوات إذا جمحت ويوازن بها بين القوى إذا تضاربت. ولذلك فالأخلاق المستقيمة مدينة في وجودها للعقل المستقيم. وهي جنود مدربة تناصره على إصلاح الملكات الأخرى.

(اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا)، هذا عنوان لحديث أخلاقي طويل، له روعته وله جماله، يمليه الإمام الصادق على أصحابه ليهتدوا. يعرض الإمام في حديثه هذا صفين مستطيلين من أخلاق يتقابلان كما تتقابل الجيوش المتحاربة. فهما متناقضان في المبادئ ومتزاحمان في المقاصد؛ وهما متماثلان في القوة؛ ومتكافئان في العدد؛ يقف كل واحد منهما لصاحبه بالمرصاد؛ فالصف بازاء الصف ،والفرد يقابل الفرد، والهدف يعارض الهدف.

حرب سجال؛ ومعارك دامية؛ وللنفس من ذلك موقف الحائر الوجل المتطلع إلى غاية مجهولة بين عدوين عنيدين لا يخضعان لصلح ولا يرغبان في سلم. يريد كل واحد منهما الاستيلاء عليها والاستقلال في حكومتها.

 هي حرب أهلية متكافئة القوى؛ متماثلة العدد، ومصير النفس موقوف على ظهور الظاهر وظفر الظافر؛ تنتظم الأخلاق الفاضلة في الصف اليمين منهما وتقابلها رذائل الملكات إلى اليسار ويشاء البيان الغني للإمام (ع) ان يسمي أهل اليمين جنود العقل؛ وهو تشبيه رائع؛ ونكتة نادرة.

 الأخلاق الفاضلة جنود؛ لأنها تطارد الأخلاق الذميمة لتخلص النفس من سيطرتها ونفوذها؛ وهي جنود العقل لأنها تنضوي تحت لواء العدل الذي ترفعه حكمة العقل، وهي جنود العقل لأن العقل هو المنظم الأول لصفوفها والباعث الأول لروح التعاون بين أفرادها.

يعد الإمام لنا في حديثه هذا خمسة وسبعين جندياً من أنصار العقل يقابلها مثلها من جنود الجهل ثم يقف.

ولم ينته به التعداد لانتهاء جنود العقل بذلك؛ ولكنه يذكر الأفراد البارزة من قادة الجيش؛ وذوي الشارات الواضح من أمراء الجنود.

وعلى هذا الغرار وبمثل هذه الاستعارة الجميلة يقول في صفة المؤمن في حديث آخر: (والعقل أمير جنده)[23] .



[1] نريد بالكائن الحي هنا الحيوان في عرف المنطقيين القدماء فلا يعم الأحياء السفلى كالمكروب والنبات، وإن أثبت العلم الحديث أنها كائنات حية.

[2] اللذة شعور نفسي خاص يحصل للإنسان عند إرضاء رغبة من رغباته، وهي تكون على قسمين عقيلة وجسدية، فإرضاء رغبات العقل لذلت عقلية، إرضاء رغبات الجسد لذات جسدية، ويقابلها الألم في جميع ذلك.

[3] قد يطلقون اسم السعادة على ما يوصل إلى الخير الأعلى وللتفرقة بين المعنيين يسمون هذه بالسعادة المضافة على حد قولهم بالخير المضاف.

[4] أصول الكافي الحديث23 باب العقل والجهل.

[5] جامع السعادات ص71.

[6] أصول الكافي الحديث الأول باب فضل الأيمان على الإسلام.

[7] أصول الكافي الحديث 3 باب فضل اليقين.

[8] احتجاج الطبرسي ص191، أما لفظ السعادة في الحديث فهي السعادة المضافة لأنه يقول. هي سبب خير.

[9] تحف العقول ص89

[10] تحف العقول ص89

[11] كتاب علم الأخلاق ل" نيقوماخوس" تعريب الأستاذ أحمد لطفي السيد بك ص168 من الجزء الأول.

[12] أصول الكافي الحديث 3 باب الزهد

[13] احتجاج الطبرسي ص191

[14] أمالى الصدوق ص220

[15] أصول الكافي الحديث3 باب تعجيل الخير

[16] الجزء 15 من البحار باب الصدق ولزوم أداء الأمانة.

[17] الواهمة وهي التي يتصور بها المعاني الجزئية. 2ـ الخيال وهي التي يدرك صور الأشياء الخاصة 3ـ المتخيلة: وهي التي يؤلف بها بين الصور الخيال ومعاني الواهمة.

وقوة الوهم هي مزيج من هذه القوى الثلاث وفائدتها وراء هذه الإدراكات إنشاء الحيل وتمهيد الطرق للحصول على الغايات الخاصة

من غير فرق بين الغايات الصحيحة وغيرها؛ ولذلك فهي في سلوكها خاضعة لقانون التوازن والانحراف أيضاً "

[18] الكافي الحديث6 كتاب العقل والجهل 

[19] الحديث7 من المصدر المذكور

[20] الحديث34 من المصدر.

[21] أصول الكافي الحديث14 كتاب العقل والجهل.

[22] الحديث3 من المصدر المتقدم.

[23] أصول الكافي الحديث الأول من باب الثاني من نسبة الإسلام

 

  النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست