.

.

اللاحق

السابق

  الفهرست
 
 

المرحلة الثانية

أو الطفولة المتأخرة

هذه المرحلة، فيما تسمى بالمرحلة الابتدائية أيضاً، تشكل الشطر الآخر من الطفولة: فيما حددها المشرع الإسلامي بسبع أو ست سنوات على اختلاف في النمو عند الأطفال على النحو الذي سبق الحديث عنه.

وقد اكسب المشرع الإسلامي، هذه المرحلة عناية بالغة المدى، مؤكداً طابعها (التعلمي)، بعد أن كانت المرحلة الأولى موسومة بطابع (اللعب).

وقد بلغ من تشدد المشرع الإسلامي على هذه المرحلة، إلى الدرجة التي يمكن أن تصبح أساساً يتأثر به سلوك الشخصية لاحقاً. بل إن بعض النصوص رتبت على هذه المرحلة آثاراً حاسمة بنحو يمكن أن نستشف من خلاله: أن سلوك الشخصية اللاحق سيتوقف نهائياً على نمط التنشئة التي يواجهها الصبي في هذه المرحلة.

يقول (ع):

"ألزمه نفسك سبع سنين: فإن أفلح، وإلا فإنه لا خير فيه".[1]

إن التلميح، إلى أنه "لا خير فيه" يعني بوضوح: أن التنشئة إذا لم تفلح في تطبيع الصبي على السلوك الإيجابي، فإن استصلاحه يبقى في حكم المتعذر حينئذٍ.

وطبيعي، فإن مثل هذا التشدد على المرحلة الثانية من الطفولة، يكشف عن أهمية التنشئة فيها، دون أن يعني بالضرورة أنها مرحلة حاسمة كل الحسم: فوعي الشخصية الراشدة وتنوع التجارب والعظات، والإلحاح في التوجيه: هذه جميعاً تساهم دون أدنى شك في عمليات التعديل للسلوك عند الشخصية الراشدة. بيد أن الإمام (ع) حينما شدد بهذا النمط من اللغة، إنما أرد لفت انتباهنا إلى خطورة هذه المرحلة، حتى لتصل إلى الدرجة التي يمكن في بعض الحالات أن تتطبع الشخصية على نمط التنشئة التي واجهتها بحيث يمتنع تعديل سلوكها لاحقاً.

إن أهم ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد، هو: أن نشير إلى الفارق الكبير بين التصور الإسلامي لهذه المرحلة والتصور الأرضي من حيث نظرتهما إلى مرحلة الطفولة الأولى والطفولة الثانية، حيث نجد أن أكثر من اتجاه أرضي يشدد الأهمية على الطفولة الأولى، معتبراً إياها مرحلة حاسمة في السلوك اللاحق عند الشخصية،... بينا يرى المشرع الإسلامي أن الطفولة الثانية وليس الطفولة الأولى: هي المرحلة الحاسمة في سلوك الشخصية لاحقاً.

ومما لا شك فيه أن مثل هذا التفاوت في النظر إلى مرحلتي الطفولة، ينبغي ألا يهمله المعنيون بشؤون التربية مادام الأمر متصلاً بأهمية نمط المرحلة التي سيتطبع سلوك الشخصية عليها.

والمهم، أن الإفادة من التشريع الإسلامي في هذا الصدد، ينبغي أن يضعه المربي بنظر الاعتبار مادام التشريع ـ في الحالات جميعاً ـ يشكل حسماً لكل مشكلة يتردد الأرضيون في تقرير الصائب منها.

على أية حال: إن خطورة المرحلة الثانية من الطفولة، بالنحو الذي ألمح المشرع الإسلامي إليه،... هذه الخطورة: يمكننا أن نتبينها بوضوح ليس في نمط التوصيات التي تشير إلى أهمية المرحلة المذكورة فحسب، بل في نمط التعامل مع الأطفال في شتى مجالات السلوك: حيث يمكننا أن نستشف من النصوص الإسلامية، في تعاملها مع أطفال هذه المرحلة، خطورة ما تنطوي عليه من الارهاص بالسلوك اللاحق للشخصية: وفقاً لنمط التنشئة التي تتطبع عليها.

إن توصيات المشرع الإسلامي لهذه المرحلة تلح على ظاهرة (التأديب): وهي ـ أي كلمة (التأديب) ـ تتناول كما هو واضح شتى مجالات "التربية" أو "التعلم" بما تنطوي عليه هاتان المفردتان من دلالة في لغة البحث الأرضي. فهي تشمل: الجانب التعليمي، والثقافي بعامة، مثلما تشمل الجانب الأخلاقي، وسائر أنماط التنشئة الاجتماعية.

ولنقرأ النصوص المتصلة بالجانب التعليمي والثقافي بعامة: قال (ع):

"من حق الولد على والده ثلاثة:

يحسن اسمه و(يعلمه الكتابة) ويزوجه ـ إذا بلغ".[2]

وعن النبي (ص):

"يعلمه كتاب الله، ويطهره، ويعلمه السباحة".[3]

ففي هذين النصين إشارة إلى الجانب التعليمي المتصل بعملية (الكتابة)، وإلى الجانب الثقافي بعامة، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن تدريبه على تعلم كتاب الله، يعني التدريب على تلقي ما فيه من قيم الثقافة الإسلامية.

والمهم أن المشرع الإسلامي، يلفت انتباهنا إلى أهمية التعلم (المعرفي) بعامة في مرحلة الطفولة، وإلى أنه يسحب أثره على الشخصية لاحقاً فيما يتعذر التعلم: بخاصة في المراحل المتأخرة من حياة الراشدين.

ولنقرأ النصوص التالية عنهم (ع):

"قلب الحدث كالأرض الخالية: ما القي فيها من شيء، قبلته".[4]

بادروا "أحداثكم" بالحديث، قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة".[5]

"علموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم الله به... الخ".[6]

إن أمثلة هذه النصوص، تتناول ـ كما قلنا ـ الجانب المعرفي بشطريه: التعليم والثقافة، مشيرة على أهمية التنشئة في الطفولة بحيث شبهتها النصوص بـ(ألأرض الخالية) تتقبل ما ألقي فيها، ولسوف نرى في نصوص لاحقة، أن التنشئة سيتضاءل أثرها على الشخصية عقيب مرحلة المراهقة أو خلالها فصاعداً، بل لحظنا في نص تقدم الحديث عنه، أن التنشئة لو لم تعط ثمارها في السبعة الثانية من العمر، فلا خير فهيا، مما يفصح ذلك بوضوح عن أن مرحلة الطفولة المتأخرة تظل في سائر الميادين ـ ومنها: ميدان التعليم والثقافة ـ ذات خطورة بالغة من حيث أثرها على الشخصية لاحقاً.

وإذا تجاوزنا حقل المهارة الإدراكية، إلى المهارة الحركية، لحظنا التشدد ذاته في التوصيات المتصلة بهذا الجانب.

ففي نص متقدم، لحظنا مثلاً، أن المشرع الإسلامي يوصي ولي الطفل بتعليمه (السباحة) إلى جانب تعليمه الكتابة.

وفي نص آخر عن النبي (ص)، قوله:

"علموا أولادكم السباحة والرماية".[7]

ففي هذا النص، تأشيرة إلى مهارة حركية أخرى هي: "الرماية":

ومن البين أن كلاً من السباحة والرماية يوظفهما المشرع الإسلامي لممارسات فردية واجتماعية هادفة، يستثمرهما الصبي لاحقاً في انتشال نفسه، وفي الدفاع عن الأمة الإسلامية، بالإضافة إلى ما ينطوي عليه التدريب من معطى صحي، ونفسي في هذا الصدد.

وإذا تجاوزنا ميدان المهارة العقلية والحركية، إلى سائر الميادين، امكننا ملاحظة التشدد في التوصيات الإسلامية على مرحلة الطفولة المتأخرة بحيث تتناول سائر أنماط التعامل الفردي والاجتماعي، وانعكاس ذلك على سلوك الشخصية اللاحق، ومنها: ـ على سبيل المثال ـ عملية التدريب على الصلاة.

إننا لوعدنا إلى الوثيقة التربوية التي قدمها الإمام الصادق (ع)، للحظنا أنها كانت تطالبنا في المرحلة المبكرة من الطفولة، بمجرد التدريب على الصلاة عند بلوغ الطفل السادسة والسابعة. إلا أنها طالبت بعملية (الضرب) أيضاً في حالة تهاون الصبي في ممارسة الصلاة عند بلوغه التاسعة: أي في مرحلة الطفولة المتأخرة. ولنقرأ النص من جديد:

فإذا تم له ست سنين "صلى وعُلم الركوع والسجود حتى يتم له سبع سنين. فإذا تم له سبع سنين قيل له: اغسل وجهك وكفيك. فإذا غسلهما قيل له: صلِّ. ثم يترك: حتى يتم له تسع سنين. فإذا تمت له، عُلم الوضوء وضرب عليه. وعُلم الصلاة وضرب عليها". فالنص هنا يطالب بعملية (الضرب) في التدريب على الوضوء وفي التدريب على الصلاة.

ولسوف نتحدث عن العقاب البدني في مجال التربية الطفلية لاحقاً. بيد أننا نعتزم الاشارة هنا، إلى أن ممارسة (الضرب)، تفصح عن الأهمية التي يخلعها المشرع الإسلامي على (التعلم) في هذه المرحلة، وانعكاساتها على سلوك الشخصية.

ويمكننا ملاحظة التعامل مع أطفال هذه المرحلة في ممارسة الصلاة أيضاً عبر النصين التاليين:

يقول أحد الرواة:

"سألت الرضا (ع) أو سُئل وأنا أسمع، عن الرجل يجبر ولده وهو لا يصلي اليوم واليومين؟؟

فقال (ع): وكم أتى على الغلام؟

فقلت: ثماني سنين.

فقال (ع): سبحان الله!! يترك الصلاة!!

قلت: نعم، يصيبه الوجع.

فقال (ع): يصلي على نحو ما يقدر.

ولنقرأ النص الآخر:

"كان علي بن الحسين (ع) يأمرالصبيان يجمعون بين المغرب والعشاء، ويقول: هو خير من أن يناموا عنها".[8]

ففي هذين النصين ـ فضلاً عن الوثيقة التربوية للإمام الصادق (ع) نلحظ جملة من الحقائق.

1 ـ أن (التمييز) في عملية الإدراك عند أطفال هذه المرحلة، يشكل (طابعاً) ملحوظاً في هذا الصدد.

2 ـ إن (الالزام) أو (الجبر)، يشكل بدوره طابعاً في عملية (التدريب): مع ملاحظة أن (الالزام) لا يأخذ حدوده الحاسمة، بقدر ما يمكن القول بأنه (شبه الزام).

3 ـ (العقاب) البدني، يجسد واحداً من طرائق التنشئة في هذه المرحلة.

إن هذه الحقائق، تفصح بوضوح، عن أن التدريب في مرحلة الطفولة المتأخرة، يكتسب خطورة بالغة المدى، وإلى أنه يسحب أثره على سلوك الشخصية لاحقاً: فلو لم تكن المرحلة ذات أثر في التطبيع على السلوك الراشد: لما اقر الإمام (ع) عملية (جبر) الأطفال في الثامنة على ممارسة الصلاة (مع أن الصلاة لا تصبح ملزمة إلا عند سن البلوغ)، ولما أوصى بضربهم في التاسعة من العمر بغية حملهم على اتقان الصلاة، ولما أمرهم علي بن الحسين (ع) الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء: خشية اهمال الصلاة الأخيرة. بل وصل الأمر إلى أن الإمام الرضا (ع) لم يعف الأطفال حتى في حالة (المرض) من الصلاة بقدر ما يطيقون.

إن هذا النحو من التشدد على أطفال المرحلة المتأخرة، يفصح عن خطورة المرحلة المذكورة وانعكاساتها على مستقبل الشخصية دون أدنى شك.

والمهم، أن التشدد على مرحلة الطفولة المتأخرة، إنما يقترن بطبيعة النمو العقلي، ووصوله إلى درجة (التمييز) التي أشرنا إليها عند الأطفال.

وفي ضوء هذا الطابع (المميز) لدى أطفال المرحلة، يتعامل المشرع الإسلامي وإياهم في مجالات شتى من عمليات "التعلم"، بل وفي مجالات السلوك العام لديهم.

وهنا، ينبغي أن نشير إلى أن طابع (التمييز) الذي يسم أطفال هذه المرحلة، لا يكتسب بطبيعة الحال درجة الثبات التام الذي يكتسبه الراشدون، بل يظل متساوقاً مع عملية التنشئة نفسها من حيث التراوح بين الإلزام والتراخي، أي: درجة (الوسط) الذي لا يحمل اهمال المرحلة الأولى من الطفولة، ولا إلزام المرحلة الراشدة: مع ملاحظة أن طبيعة الظواهر التي يتم تعامل الطفل معها، ستسحب أثرها ـ دون أدنى شك ـ على نمط التدريب من حيث قوته أو تراخيه، وصلة ذلك بدرجة المهارة العقلية التي تفرضها طبيعة النمو في هذه المرحلة.

ويمكننا ملاحظة ذلك، حينما نجد المشرع الإسلامي يرسم آثاراً متنوعة، يرتبها على (التمييز) الذي يسم المرحلة في حقل التعامل الفردي والاجتماعي، حيث يراوح بين الإلزام والتراخي في النمطين التاليين من التعامل ـ على سبيل المثال ـ، وهما: التعامل المالي والتعامل الجنسي.

ففي حقل التعامل المالي مثلاً، يواجهنا حيناً مثل هذا النص: يقول (ع): "الغلام: لا يجوز أمره في البيع والشراء".[9]

وعن النبي (ص) أنه:

"نهى (ص) عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعته بيده. فإنه إن لم يجد، سرق".[10]

وواضح، أن هذين النصين، يمنع أولهما من عملية البيع والشراء مع الأطفال. بينا (يتحتفظ) النص الآخر من ذلك. ويظل هذا التحفظ نابعاً من إمكان التعامل مع الطفل في حالة اتقانه لحرفته مثلاً. واما في حالة العدم، فإنه قد يلجأ إلى الممارسة غير المشروعة وهي: السرقة مثلاً.

ومن الواضح ان عدم الثبات في (التمييز)، هو الكامن وراء التحفظ المذكور.

لكننا، حين نتجه إلى تعامل مالي آخر وهو: الوصية بالمال مثلاً، حينئذ لا نجد التحفظ المذكور، بل نجد سماح المشرع الإسلامي للأطفال، بممارسة هذا النمط من التعامل.

ولنقرأ النص التالي وسواه من النصوص التي تجمع على نفاذ الوصية عند الأطفال البالغين عشرة أعوام.

يقول (ع):

"إذا بلغ الغلام عشر سنين، جازت وصيته".[11]

بل: إذا كان الطفل في السابعة من العمر وأوصى باليسير من المال، جازت وصيته أيضاً.

يقول (ع):

"إذا كان ابن سبع سنين، فأوصى من ماله باليسير، في حق، جازت وصيته".[12]

هذا إلى أن نمط (الخطورة المالية) تتدخل في تحديد حجم (التمييز) لدى الأطفال. فالتجارة مثلاً تتسم بخطورة مالية تتطلب تمييزاً عالياً في حساب الربح والتجارة حيث يفتقده بعض الراشدين أيضاً، فضلاً عن الأطفال.

من هنا يتجه المنع إليه.

أما الكسب العادي أو مطلق التعامل المالي اليسير، فتضؤل خطورته دون أدنى شك فيما يتم التحفظ حياله، بما في ذلك: الوصية الكبيرة مثلاً: إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن المسألة تتصل بإيصال حق إلى أصحابه في غمار انطفاء العمر.

والمهم، أن ما نعتزم لفت الانتباه إليه هو: ظاهرة (التمييز) في مرحلة الطفولة المتأخرة، وإلى أنه ـ أي: "التمييز" لا يأخذ سمة "الثبات" في هذه المرحلة إلا بقدر ما يسمح لعملية التدريب بالمرور من خلاله في درجة عالية من العناية: نظراً لخطورة ما يمكن أن ترهص به هذه المرحلة من سلوك لاحق للشخصية.

وخارجاً عن ذلك، فإن النماء العقلي في هذه المرحلة يأخذ طابع (الوسط) من حيث قدرة الطفل على (التمييز) للظواهر: فلا هو (تمييز) تام على نحو ما يتمتع به الراشدون، ولا هو (تمييز) قاصر على نحو ما يتسم به أطفال المرحلة الأولى. بل هو تمييز يجمع إلى جانب عدم المسؤولية، (إلزاماً) بالتدريب على تحمل المسؤولية: تمهيداً للمرحلة الراشدة.

والنصوص المتصلة بالتعامل المالي ـ فيما تقدم الحديث عنها ـ تفصح عن درجة التمييز الذي يسم أطفال المرحلة، حيث تم التعامل معهم بتفاوت تفرضه طبيعة الممارسات التي يتطلب بعضها مهارة عالية لا تتوفر إلا عند الراشدين، ويتطلب بعضها مهارة غير عالية يتسم بها غير الراشدين ممن تنتظمهم مرحلة الطفولة التي نحن في صدد الحديث عنها.

خارجاً عما تقدم، فإن درجة "التمييز" التي تسم أطفال المرحلة، يطرد معها أيضاً نمط (التدريب) الذي يفرضه المشرع الإسلامي، والطريقة التي يتم بها ضبط السلوك والتحكم فيه من خلال التدريب المذكور، فضلاً عن اطراد التعامل في شتى المجالات مع درجة التمييز المذكور، وفضلاً عن انعكاس أولئك جميعاً على سلوك الشخص اللاحق تبعاً لنمط التنشئة التي ستتاح للطفل.

ويمكننا ملاحظة هذه الحقائق بوضوح في الطريقة التي يتعامل بها المشرع الإسلامي مع أطفال المرحلة المتأخرة في عملية التربية الجنسية.

إن المشرع ـ على سبيل المثال ـ يشدد بنحو بالغ المدى، في المنع من أي تعامل جنسي حتى في نطاق الظل أو الرائحة التي تنم عن ذلك.

إنه يمنع الأطفال من ممارسة التقبيل مثلاً، حتى مع بداية المرحلة التي يتجاوزن بها السابعة من العمر.

يقول (ع):

"الغلام لا يقبل المرأة: إذا جاز سبع سنين".[13]

أكثر من ذلك: يمنع المشرع حتى مجرد التجاوز في المضاجع: فيما بين الصبية أو الصبيّات أو هما:

يقول (ع):

"الصبي والصبي، والصبي والصبية، والصبية والصبية: يفرق بينهم في المضاجع لعشر سنين".[14]

وفي رواية أخرى:

"يفرق بينهم لست سنين".[15]

أي: مع بداية المرحلة أيضاً.

على أن التقبيل والتجاوز يمثلان منبهات حادة ـ كما هو واضح. غير أن المشرع الإسلامي يتجاوز ذلك حتى في نطاق المنبهات العادية: كالاطلاع على الممارسة بين الأبوين، أو حتى إستشفاف ذلك من خلال النَفَس مثلاً.

ولنقرأ هذا النص:

"لو أن رجلاً غشى امرأته: وفي البيت صبي مستيقظ يراهما ويسمع كلامهما ونفسهما: ما افلح أبداً".[16]

إن ما يعنينا من هذه النصوص، جملة من الحقائق، منها:

1 ـ انعكاس التنشئة الطفلية لهذه المرحلة، على شخصية الطفل لاحقاً.

2 ـ ظهور الدافع الجنسي وخطورته المرحلية.

3 ـ تميز هذا الدافع عن الدوافع الأخرى.

4 ـ اطراد هذا الدافع مع النماء العقلي للطفل، أي: (التمييز) الذي نحن في صدد الحديث عنه.

وسنرى في نصوص لاحقة، أن (العقاب البدني)، يشكل وسيلة ملحوظة في ضبط السلوك الجنسي للطفل، والتحكم فيه.

أولئك جميعاً، تفصح عن أن (التمييز) ـ فيما يتصل بهذا الدافع ـ يبلغ درجته العالية إذا قورن بالدافع إلى المال مثلاً، من حيث درجة التقبل أو التحفظ أو المنع، فيما يراوح المشرع بينها تبعاً لأنماط التعامل المالي، بينا لا نجد هذا الترواح في أنماط التعامل الجنسي: حيث يشمل الحظر كل أنماطه، سواء أكانت المثيرات حادة أم خافتة، وسواء أكانت في بداية المرحلة أو امتدادها. إنها جميعاً تعد مؤشراً إلى أن (التمييز) في هذه المرحلة يطرد مع الدافع المذكور، وإلى أن هذه المرحلة ذات أثر بالغ الخطورة من حيث انعكاسها على شخصية الطفل لاحقاً.

ويتضح هذا بجلاء، إذا اتيح لنا ان نقرن هذه الحقائق، بما سبقت الإشارة إليه، ونعني بذلك: قضية (العقاب البدني) الذي فرضه المشرع على التعامل الجنسي في مرحلة الطفولة المتأخرة.

إن ممارسة العقاب بعامة، مما يطبع هذه المرحلة حتى ليبدو وكأنه هو: أي: (العقاب)، و(التعلم) عنصران لا يكاد ينفصل أحدهما عن الآخر.

بيد أن العقوبة الجنسية تبرز بنحوها الذي يتساوق وشدة التوصيات المحذرة من التعامل الجنسي.

ولنقرأ هذا النص:

"سألت أبا عبد الله (ع) في آخر ما لقيته: عن غلام لم يبلغ الحلم وقع على امرأة..

قال (ع): يضرب الغلام دون الحد.

قلت: جارية لم تبلغ...

قال (ع): تضرب الجارية دون الحد".[17]

وواضح، ان الضرب دون الحد يعني أن (التمييز) عند الصبي هو: دون درجته عند الراشدين: حيث أن الراشدين يشملهم الحد الكامل. ويعني أيضاً: أن الممارسة الجنسية تحمل خطورة الارهاص المفضي إلى تطبيع الشخصية بسمات الانحراف: نظراً لأن (الجلد) عقاب صارم إذا قيس بمجرد (الضرب) العادي مثلاً.

ويعني أخيراً: أن العقاب بنحو عام، يشكل وسيلة تربوية ذات خطورة من حيث مساهمتها في تعديل السلوك وضبطه.

من هنا، ينبغي أن نتجه إلى الوسيلة المذكورة، وملاحظة موقعها التربوي في هذه المرحلة من الطفولة المتأخرة.

إن ظاهرة (العقاب البدني) تحتل مشكلة تربوية في أبحاث علماء النفس والتربية الحديثة.

وقد انشطر الأرضيون حيالها، إلى فريق يؤثر (العقاب) ويرى إلى أنه مفيد في العملية التربوية،... في حين يراه فريق آخر على الضد من ذلك. وقد عزز كل من الفريقين وجهة نظره بدراسات أجريت في هذا الصدد.

ونحن لا يعنينا هذا التردد لدى الأرضيين، مادام المشرع الإسلامي قد حسم الموقف بوضوح، وأقر العقاب البدني: ليس في صعيد الانحراف الجنسي فحسب، بل في صعيد غالبية الانحراف التي لسنا في صدد الحديث عنها الآن.

إن ما نود التشدد عليه هنا، هو: العقاب البدني في عملية التدريب على (التعلم) بخاصة، متمثلاً في (الضرب) المألوف لدى التربويين، في مرحلة الدراسة الابتدائية.

ولقد مرت بنا توصيات المشرع الإسلامي بممارسة الضرب حيال الأطفال الذين يترددون أو يمتنعون من عمليات الوضوء والصلاة.

وحين نتابع هذه التوصيات، نجد أن مشروعية (الضرب) تصل ـ لدى المشرع الإسلامي ـ إلى الدرجة التي يطالب فيها: بممارسة (الضرب) حتى بالنسبة إلى الطفل اليتيم. مع أن المشرع ـ يلح كل الإلحاح ـ بمراعاة مشاعر اليتيم ويتوعد بالعقاب الشديد لكل من يلحق به أدنى الأذى.

إن مطالبة المشرع الإسلامي بممارسة الضرب حتى بالنسبة إلى الطفل اليتيم في عملية تنشئته، إنما تفصح عن أهمية هذه الوسيلة التربوية في المرحلة التي نتحدث عنها. وتفصح من ثم عن أهمية الطفولة المتأخرة من حيث انعكاسها على السلوك اللاحق للشخصية.

ولنقرأ النصوص الإسلامية في هذا الصدد:

يقول (ع):

"اليتيم مما تؤدب منه ولدك، واضربه مما تضرب منه ولدك".

ويقول الإمام موسى بن جعفر (ع):

"يستحب غرامة الغلام في صغره، ليكون حليماً في كبره".[18]

وقد ربط النص الأخير بين ظاهرة التأديب البدني وانعكاسه على السلوك اللاحق للشخصية: فيما قرر بوضوح أن العقاب يساهم في ضبط سلوك الشخصية، وجعله سلوكاً سوياً في المرحلة الراشدة. ولنقرأ الفقرة من جديد:

ليكون حليما في كبره.

حيث يمثل الحلم قمة الاستواء لدى الشخصية ـ كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

طبيعي، ينبغي ألا ننظر إلى عملية الضرب إلا من الزاوية التي سبقت الإشارة إليها ونعني بها: مراعاة ظاهرة (التمييز) الذي يسم أطفال هذه المرحلة، مقترنة مع نمط (التدريب) الذي يتراوح بين الالزام والتراخي. ولذلك نجد الإمام الرضا (ع) يشير إلى العقاب البدني بقوله (يستحب)، أي: أن الضرب أشمل فائدة من عدمه. وهذا يعني أن المطالبة بالضرب لا تتم على نحو (الالزام) بل على نحو (الأفضلية).

كما إننا لا نعدم وجود بعض النصوص الناهية عن (الضرب) أيضاً، مما ينبغي تفسيرها طبقاً لما انتهينا إليه من أن (الضرب) يشكل عنصراً اشد فائدة من عدمه، وإلى أن (السياق) هو الذي يحدد ـ بعض الأحيان ـ عدم مشروعية الضرب في ضوء النصوص الناهية عنه.

وخارجاً عن ذلك، فإن (الضرب) ـ ومثله سائر أنواع العقاب البدني ـ يحتل موقعاً تربوياً خطيراً في عملية الضبط الفردي والاجتماعي: في مرحلة ا لطفولة المتأخرة وانعكاسها على الشخصية لاحقاً.

 


[1] الوسائل: باب 82 ح4 أحكام الأولاد.

[2]  الوسائل باب 86 ح9 أحكام الأولاد.

[3]  الوسائل باب 86 ح7 أحكام الأولاد.

[4]  الوسائل: باب 84 ح6 أحكام الأولاد.

[5]  الوسائل: باب 84 ح1 أحكام الأولاد.

[6]  الوسائل: باب 84 ح5 أحكام الأولاد.

[7]  الوسائل: باب 83 ح2 أحكام الأولاد.

[8]  الوسائل: باب 4 ح1. اعداد الفرائض ونوافلها.

[9]  الوسائل: باب 14 ح1 عقد البيع وشروطه.

[10]  الوسائل: باب 33 ح1 ما يكتسب به.

[11]  الوسائل: باب 44 ح3 أحكام الوصايا.

[12]  الوسائل: باب 44 ح2 أحكام الوصايا.

[13]  الوسائل: باب 127 ح4 مقدمات النكاح.

[14]  الوسائل: باب 128 ح1 مقدمات النكاح.

[15]  الوسائل: باب 128 ح2 مقدمات النكاح.

[16]  الوسائل: باب 67 ح2 مقدمات النكاح.

[17]  الوسائل: باب 9 ح2 حد الزنا.

[18]  الوسائل: باب 55 ح2، أحكام الأولاد.

 

.

اللاحق

السابق

  الفهرست