.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الأصالة العربية

فقدان الاصالة وافتقادها

ما هي الاصالة؟

ـ كيف نحقق أصالتنا؟

بين الماضي والحاضر  

الأصالة العربية

يشكو الكثيرون من أهل الفكر والرأي فينا اننا نفقد أصالتنا تدريجياً، ويلاحظون اننا نتنازل عن صفاتنا المميزة لنتبني صفات ترد علينا من الغرب أو الشرق ويطالب بعضهم بأن نرتد إلى صفاتنا القديمة وعاداتنا السابقة، تلك الصفات والعادات التي اوصلت اجدادنا إلى حيث قادوا امم الأرض ووضعتهم في طليعة الشعوب!

والحق ان الناظر في اوضاعنا الحاضرة يفتقد الأصالة في جميع ميادين الحياة ومجالاتها: في النظم والأفكار الاجتماعية، في الاقتصاد، في السياسية، في الفلسفة، في الأدب والفن، في التربية، وقبل ذلك وبعده في جميع مجالات الحياة اليومية من مأكول ومشروب وملبوس وعادات وتقاليد ومعاملات يومية.

فقدان الاصالة وافتقادها

ويكفي ان تعيش اياماً قليلة في بيروت أو دمشق أو القاهرة أو عمان أو الكويت أو الرياض أو سواها من حواضر العرب لترى إلى أي مدى تتنازل هذه المدن وسكانها عن طابعهم المميز الاصيل للطابع الوارد عليهم من باريس ولندن وواشنطن بل ومن موسكو وبكين، ومع تفاوت واضح في النسبة.

وانك لتسمع قائلاً يقول ان الاستعمال هو المسؤول عن هذه الأمر وانه ـ بوصفه قوياً ـ فرض علينا لغته وطرائق حياته ومعاملاته وعاداته وتقاليده واسلوب تفكيره. ولقد شهدت في بلد عربي عريق وفداً من رجال الدين يطلب إلى السلطات الحاكمة منع النساء من ارتياد دور السينما بحجة انها مفسدة لاخلاقهن ولما اجابهم رئيس الحكومة بان عليهم ان يمنعوا نساءهم من ارتيادها اعترفوا بانهم عاجزون عن ذلك!

والذي يهمني من هذا الموقف ليس منع النساء من ارتياد دور السينما او عدمه ففي الافلام السينمائية الضار كما ان فيها المفيد، والسينما يمكن ان تكون ادارة تثقيف للمرأة والرجل كما يمكن أن تكون وسيلة اغراء وتضليل، ولكن الذي يهمني هو جواب رجال الدين بأنهم عاجزون عن ذلك، وهو جواب ـ مع الأسف صحيح ـ ذلك بأن التيار قوي وجارف ولا يستطيع فرد أو أفراد الوقوف في طريقه.

وانك لتسمع ـ كذلك ـ صيحات ها هنا وها هناك تنطلق مطالبة بهذه الأصالة منحية باللوم على هذا أو ذاك من الاسباب مشيرة بهذه أو تلك من الطرائق لاستعادة أصالتها وفرض طابع امتنا المميز. والذي أحب ان اشير إليه في هذا المقام شيئان:

أولهما: ان فقدان هذه الاصالة بالمعنى القديم والضيق أمر غير مستغرب.

وثانيهما: ان افتقاد هذه الاصالة والمطالبة بها أمر ضروري ولازم إذا أردنا لأنفسنا البقاء.

أما فقدان أصالتنا فأمر لا نختص به وحدنا، والحق أن الكثير من أمم الأرض ـ ولا سيما المستضعفة الناشئة منها ـ تشاركنا هذه المحنة. فما يسمى بالحضارة الغربية قوي وطاغ لدرجة أنه قادر على اكتساح كل ما يخاله والقضاء عليه. ولهذا أسباب عديدة منها:

أولاً: الموقف النفسي المعروف من ميل الضعيف إلى تقليد القوي، والمغلوب إلى التشبه بالغالب وشعوره بالنقص ازاءه.

ثانياً: مسايرة الكثير من طرائق الحياة الغربية ومواقفها لحياة العصر ومطاليبها ونبوعها منها.

ثالثاً: صغر العالم الحديث وتزايد وسائل الاتصال بين أجزائه مما لم يكن ميسوراً في العالم القديم ومما أوجد حضارة عالمية ومجتمعاً عالمياً.

رابعاً: التقدم اعلمي الهائل الذي حققه الغرب وأفادته منه في حياته اليومية وطرائقها وأساليبها.

خامساً: تأثر قادتنا ومفكرينا بحياة الغرب الذي يدرسون في مدارسه وجامعاته ويعيشون فيه ويحملون منه عاداته وتقاليده.

وغير ذلك من الأسباب

وأما افتقادنا لأصالتنا ومطالبة أهل الرأي والفكر منا بضرورتها ولزوم الحفاظ على طابعنا القومي المميز فأمر هام وحيوي لا لنهضتنا وتحررنا فحسب بل ولبقائنا أيضاً ولاغناء الإنسانية وحضارتها كذلك.

والحق أن أمة لا تحرص على أصالتها ولا تحافظ على مميزاتها ولا تعنى بالابقاء على الصالح من عاداتها وتقاليدها أمة يصعب عليها أن تبقى ناهيك ان يكون لها شأن ومكانة ومساهمة في الحضارة العالمية. وما نظن ان الإنسانية تفيد إطلاقاً من طمس معالم الحضارات المختلفة والمدنيات المتباينة، وان كان كل مفكر مخلص يعطف عطفاً صادقاً على ضرورة وجود حضارة عالمية موحدة تجمع مختلف الحضارات وتنسق بينها وتحتفظ من كل منها بخير ما فيها.

وهنا أحب أن أذكر بأن أمما متقدمة كثيرة تصرخ اليوم مطالبة بضرورة المحافظة على أصالتها ففرنسا وانكلترا مثلاً تشكوان مر الشكوى من أن الحضارة الأميركية أخذت تطغى عليهما. والصين جاهدة في الحفاظ على طابعها المميز لها عن روسيا ومثل هذه البلاد كثير، فما أولانا نحن بأن نحرض على هذه الأصالة ونعمل على استعادتها والحفاظ على مظاهرها.

ما هي الاصالة؟

وبعد هذا الذي قدمت يحسن أن أتمهل قليلاً لأحاول تحديد معنى الاصالة، وفي سبيل تحديد مفهوم الاصالة أحب أن الاحظ أموراً منها:

1 ـ ان الاصالة لا تعني تماثل الأفراد وكونهم نسخاً طبق الأصل بعضهم عن بعض، فالفردية حقيقة واقعة ولكل فرد شخصيته المميزة وطابعه الخاص، وهو أمر واقع وضروري ومفيد.

2 ـ الاصالة لا تعني تماثل الجماعات أو المجتمعات المكونة للمجتمع الكبير، فالاختلاف هنا والتباين أمران لا بد منهما ولا ضرر منهما بل العكس هو الصحيح.

وهكذا فقد يختلف الشعب العربي في مصر قليلاً أو كثيراً عن الشعب العربي في العراق وان كانا ينتميان جميعاً إلى الأمة العربية ذات المميزات الواحدة والتراث الواحد والمستقبل الواحد.

3 ـ الاصالة لا تعني عداء الأمم بعضها لبعض أو نقصاً في تعاونها بعضها مع بعض أو نقداً لبعضها البعض. إنها تعني عكس ذلك تماماً إذ أنها تقوم على التفاهم بين الأمم والتعاون فيما بينها والتكاتف على ايصال الإنسانية ـ في جميع أقطارها ـ إلى أهدافها في العالم الأحسن.

وهكذا تكون الأصالة هي الوحدة المميزة لأمة ضمن إطار المجموعة الإنسانية. وبهذا المعنى فقط نفتقد اصالتنا العربية وندعو لها ويجب أن نعمل على استعادتها وإعادة تكوينها.

ولأضرب على ما قلت مثلاً امتنا العربية بالذات:

من المعلوم ان الامة العربية امة تتميز بوطن محدد، وتاريخ معين وتراث مشترك وأمان مقررة قائمة على أساس من حاجات حاضرة واهداف مستقبلة وامكانات ميسرة. ولقد حدد الوطن العربي الواحد والتاريخ العربي المشترك والتراث العربي الغني والواقع العربي الأليم والغد العربي المنشود، حددت جميعها صفات للعربي تختلف بعض الاختلاف من الحجاز إلى المغرب ولكنها تشترك جميعاً في مقومات أساسية تجعل من العربي إنساناً مميزاً (بالفتح) ولو اختلف وطنه الصغير او اختلفت صفاته الفردية. والعربي هذا يشترك مع غيره من بني الإنسان (سواء أكانوا أميركيين أو صينيين أو فرنسيين أو هنوداً) في امان وآمال وأهداف إنسانية واحدة لا تختلف ولا تتباين من مثل التوق إلى الاسلام والميل إلى الحياة الأفضل والحرص على التعايش السلمي  وغير ذلك من ألوف المطاليب والاهداف.

فإذا صح هذا ـ وهو صحيح ـ كان السؤال الهام:

ـ كيف نحقق أصالتنا؟

عندي أن كل خطة تختط لتحقيق اصالتنا يجب أن تلتزم بما يلي:

1 ـ التعرف الدقيق الذكي على تراثنا القومي. وقد سبق لي أن تحدثت عن ذلك مطولاً فلا ارى لزوماً لتكراره، وان كنت أرى ضرورة للتنويه بأهمية تعرفنا على تاريخنا تعرفاً دقيقاً واعياً ولا سيما تاريخنا الاجتماعي والحضاري والعوامل التي اثرت فيه. والواقع أن دراستنا لتاريخنا اهتمت حتى الآن بالنواحي السياسية وأهملت النواحي الاجتماعية والاقتصادية والحضارية مما جعل احاطتنا بهذا التاريخ وتعرفنا على ذاتيتنا أمراً فاضح النقص.

2 ـ التعرف الدقيق على واقعنا بما في ذلك حاجاتنا وامكاناتنا ومطاليبنا وقدراتنا. ولعلي لا ابالغ حين اقول بأن معظمنا جاهل لهذا الواقع وان كان ملماً بعمومياته. وان صياغة الإنسان العربي الحديث لا يمكن ان تكون كاملة إلا إذا صدرت عن وعي عميق لامكانات الوطن العربي وقدرات الإنسان العربي ومميزات الفرد العربي ومطاليب المواطن العربي.

3 ـ الاطلاع الواسع الشامل على ما يجري في العالم من تفاعل حضاري وما يتم فيه من أحداث اجتماعية وتطورات علمية وتقنية (تكنولوجية) واتجاهات اقتصادية واتصالات سياسية وصراعات فكرية. وليس بخاف ان عالم اليوم يمور بالأحداث ويفور بالتغيرات ويتميز بالتطور السريع والانقالب الكلي ونحن لا نستطيع ـ إذا أردنا لأنفسنا مكاناً متميزاً فيه ـ إلا أن نبقى على اتصال وثيق بما جريات الأمور فيه.

4 ـ تحديد أهدافنا ورسم أمانينا وتصور مستقبلنا على ضوء من ماضينا وحاضرنا وواقع عالمنا. لقد ذهب إلى غير رجعة الزمان الذي كانت تسير فيه الأمور وفقاً للصدفة وعلى أساس من العفوية، فالعصر عصر تخطيط وتنهيج، وكل وطن لا يعرف ما يريد بالضبط ولا يهيء لهذا الذي يريد أسباب النجاح وطن محكوم عليه بالتخلف والتبعية وفقدان الاصالة.

5 ـ اختيار الطرق والأساليب والوسائل التي تحقق غاياتنا وتوصلنا لأهدافنا وتجعل من أمانينا حقائق واقعة لا أحلاماً وخيالات. وبديهي أن أشير إلى أن الطرق شتى والوسائل متباينة والأساليب مختلفة وأن ما يصلح منها لزمان أو مكان قد لا يصلح لزمان آخر أو مكان مخالف. وبديهي بعد ذلك أن أؤكد أني مؤمن بأن خبرات الآخرين مفيدة لنا وأن طرائقهم تنفعنا وأن أخطاءهم يجب أن نتجنبها ولكن شتان بين هذا ـ من حيث علاقته بالأصالة ـ وبين التقليد الأعمى والتبني الكامل لأساليب الآخرين وخططهم وطرائقهم ومفاهيمهم.

6 ـ الحرص فيما تقدم على أمور أساسية منها الوعي والمرونة والتقييم الدائم. أما الوعي فللتفريق بين الغث والسمين. بين الأساسي وغير الاساسي، وأما المرونة فالمقدرة على الحركة وعدم الجمود على فكرة أو طريقة، وأما التقييم فلكشف الصحيح ودعمه وترسيخه واكتشاف الخطأ وتنبه والتخلص منه.

تلك هي بعض المبادئ التي تعين على تحقيق الاصالة العربية استفيد منها في اعطاء مثل واحد آخذه من حقل تخصصي وأعني به التربية. إن المربين العرب يشكون عدم الاصالة في النظم التربوية العربية. فنظمنا التربوية حتى الآن وبالرغم من المحاولات الصادقة التي يبذلها المربون العرب في مختلف أقطارهم ما زالت ممسوخة عن النظم التربوية الغربية عالة عليها مقلدة لها.

واني ـ بوصفي مربياً عربياً ـ احلم باليوم الذي يكون فيه لوطننا العربي نظام تعليم عربي أصيل واتساءل عن وسائل تحقيق مثل هذا النظام؟؟ وعلى ضوء ما قدمت أرى أن علنا ـ في سبيل الوصول إلى مثل هذا النظام التربوي العربي الأصيل ـ أن:

1 ـ نحدد أهدافنا الحاضرة والمستقبلة على ضوء من واقعنا وامكاناتنا ومطاليبنا وآمالنا.

2 ـ ننتقي طرائقنا ووسائلنا في ضوء هذه الأهداف وبوحي من واقعنا ومستقبلنا المنشود.

3 ـ نحدد مادة تربيتنا على أساس مما تقدم.

4 ـ نحدد مفهومنا الدقيق عن الإنسان العربي وكيف نريده ان يكون.

5 ـ نحافظ على وعينا الدقيق ومرونتنا التامة في ذلك كله وان نعيد النظر في عملنا بعد كل مرحلة.

6 ـ ننظر إلى عملنا هذا بوصفه واجباً فردياً وقومياً وإنسانياً.

واني لأعلم علم اليقين ان قول الامور أهون من فعلها، ولكن الامور يجب أن تقال لتفعل.

وبعد

فهذه اثارة لمشكلة الاصالة العربية مثلت عليها من حقل واحد ويستطيع القارئ الكريم أن يمثل عليها من حقول عدة. واكيدة أن تحقيق الاصالة العربية هدف قومي هام لا يكفي بتحقيقه أن يقول قائل: ان الاصالة العربية حقيقة واقعة وان الزمان كفيل بتحقيقها على شكل أو آخر، وذلك لأني اعتقد ـ مخلصاً ـ ان ثمة عملاً قاصداً على طمس هذه الأصالة له أسباب كثيرة ومعروفة.

بين الماضي والحاضر

من الشائع المألوف ان يترحم الناس على (ايام زمان) وان يذكروا الماضي بالخير العميم ويشيروا إلى ما كان فيه من رخاء اقتصادي وتماسك اجتماعي ومجالات للسرور والمرح وما كان يسوده من خلق قويم وتقاليد طيبة وعادات حميدة وان يقارنوه بما يسود الحاضر من أزمات اقتصادية وتفسخ اجتماعي ومضايقات لا تترك للإنسان مجالاً للانشراح وما فيه من تحلل اخلاقي وفساد في التقاليد والعادات ينذر بالويل والثبور وعظائم الأمور.

والعجيب في الأمر ان كل جيل يتلو جيلاً يردد ما كان يردده الجيل السابق حتى ليخيل للمتأمل ان الإنسانية في تدهور وأن الاقتصاد في تقهقر وأن الأخلاق تتردى وأن الحياة تصبح يوماً بعد يوم شيئاً لا يطاق وعبئاً ثقيلاً.

والأعجب من هذا وذاك ان المراقب حين يتلفت حوله وينظر بعين مجردة وعقل متفتح وقلب نابض يجد أن الأمر على النقيض وان الإنسانية تتقدم وأن الأحوال تتحسن وانه بالرغم مما في الحياة العصرية من مصاعب ومضايقات فإن الإنسان العادي اليوم يتمتع بما لم يكن يتمتع به الملوك والعظماء في الماضي وان الأخلاق في ألف خير، إذا قورنت بما كانت عليه من قبل، وان الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وسواها تتقدم حثيثاً نحو ما هو أفضل وأحسن.

وإذا كنت أيها القارئ الكريم في شك من الأمر فتعال ننظر في بعض نواحي الحياة العصرية ونقارنها بما كانت عليه في الماضي: خذ الاقتصاد مثلاً تجد ان شكوى الناس محصورة في غلاء الأسعار، انهم يذكرون يوم ان كان رطل الخبز بكذا ورطل السمن بكذا ورطل اللحم بكذا ويقارنونه بأسعار اليوم التي بلغت أضعاف أضعاف هذه الأسعار ولكنهم ينسون أن يقارنوا بين دخل اليوم ودخل الأمس، ينسون أن يقارنوا بين الأجور في الحاضر والماضي، وهم ينسون بعد هذا وذاك ان يقارنوا بين الحقوق التي للعامل اليوم وبين الحقوق التي كانت له بالأمس. هذا بالرغم من اعتقاد الكثيرين بأن الطبقة العاملة ما زالت بحاجة لاكتساب المزيد من حقوقها المشروعة.

ثم لا تنس ان عاملنا اليوم ـ على بساطة حياته وتواضعها ـ يتمتع بالكثير مما لم يكن يتمتع به أبناء الطبقة الوسطى من قبل، فالتعليم قد أصبح ميسوراً أو شبه ميسور لأولاده، ونقابات العمل تساعده في الحفاظ على الكثير من أسباب الكرامة البشرية والقوانين القائمة تحفظ له الكثير من حقوقه وهكذا.

وهذا بالنسبة للعمال، وأما بالنسبة للفلاحين فالحال أحسن من ذي قبل والامكانيات أوسع وان كانت الحاجة ماسة إلى المزيد من الاصلاحات والكثير من رفع مستوى العيش. وقل الشي نفسه عن بقية طبقات المجتمع.

والذي يهمنا تسجيله هنا ان مقارنة بسيطة وموضوعية بني الحال. الآن وبينها قبل عشر سنوات أو عشرين سنة تدل دلالة أكيدة واضحة على ان الأمور تسير من حسن إلى أحسن.

أما إذا تركت الاقتصاد إلى السياسة فإنك واجد ان الحال اليوم خير منه في السابق وبمقدار كبير جداً، نعم ان وطننا العربي اليوم يمر بفترة عصبية، تحيط به المؤامرات من كل جهة ويهاجمه الأعداء من كل حدب وصوب، وتعمل قوى الاستعمار على تمزيقه وإلهائه عن أهدافه الكبرى ولكن ما لنا ننسى أحوالنا يوم سلمت فلسطين إلى إليهود لقمة سائغة أخذوها دون عناء أو حق، يوم سلمها إليهم الاستعمار، يوم أهنّا جميعاً وأصبحنا أضحوكة في عين العالم وصخرية لشذاذ الآفاق من الصهيونيين. قارن هذا بما نحن عليه اليوم من عزة ومنعة ومكانة، قارنه بما ألحقنا بالغزاة الانكليز والفرنسيين وإليهود من هزيمة نكراء في مصر عام 1956 وفشل ذريع في الجزائر، بل قارن ما نحن عليه اليوم بما حدث يوم سلخ لواء الاسكندرون عن سورية ووجم العرب من أبناء سورية يتلفتون حولهم فلا يرون إلا أشقاء ضعفاء ومستعمرين مستهترين وعالماً ممعناً في احتقار العرب واستصغار شأنهم.

ثم انظر إلى عالم اليوم، عالم نهضة آسيا وافريقيا، وقارنه بالعالم قبل ذلك، عالم بريطانيا العظمى وفرنسا الكبرى وايطاليا الغازية وقل لي مخلصاً ألم تتقدم السياسة في العالم؟! انظر إلى الملايين من أبناء آسيا وافريقيا الملونين يصيحون بالاستعمار ان ارفع يدك عن بلادنا، بل أنظر إلى الكتلة الاسيوية الافريقية تنتصر للملونين في افريقيا الجنوبية وأنغولا الذين تتعرض حيواتهم للخطر من جراء التمييز العنصري أنظري إلى هذا كله واحكم على التقدم السياسي، بل احكم على هذه الثورة العارمة في الضمير الإنساني وهذا المد الهائل في الوعي السياسي. ثم لا تنس هذا التوق العارم في القلوب العربية إلى وحدتهم والى حياة أفضل.

صحيح ان الاستعمار ما يزال يحاول التدخل في بعض بلاد العرب ليصرفها عن أهدافها الكبرى وأمانيها المشروعة. ولكن لا تنس هذه الملايين من أبناء الشعب العربي تهتف للحرية والوحدة والخلاص، لا تنس الزئير الذي زمجر في الجزائر لتردده عمان والهزيم الذي يرتفع في القاهرة ودمشق وبغداد وعمّان بل وجميع أقطار المغرب العربي.

وأنت إذا تركت السياسة إلى المجتمع وجدت أيضاً ان التقدم واضح لا ينكر وان قليلاً من التأمل النزيه عن العواطف والتبصر المتعمق كفيل بإظهار مدى التقدم الاجتماعي في مجتمعنا العربي خاصة وفي العالم عامة.

خذ التنظيم الاجتماعي الذي يسود مجتمعنا اليوم وقارنه بمثله في هذا المجتمع قبل خمس وعشرين سنة ترى الفرق واضحاً والتقدم أكيداً، يقولون ان عائلة الأمس كانت متماسكة متراصة. وان عائلة اليوم متفسخة منهارة وأقول أنا ان عائلتنا في الماضي كانت قائمة على أساس من الاحترام الكاذب والخوف المسيطر، كان الأب دكتاتورا يتحكم في مصائر أولاده وزوجته أو زوجاته يزوج من يشاء لمن يشاء ويبت في أقدارهم كيف يشاء ويوجههم حيث يشاء ضارباً بحقوقهم ورغباتهم المشروعة وغير المشروعة عرض الحائط، أما اليوم فالأب بدأ يصبح صديقاً لأولاده ورفيقاً لزوجته يستشيرهم في أمره ويشاركهم أفرحهم وأتراحهم ويساعدهم على شق طريقهم في الحياة بما يستطيع من جهد وتضحية ونصيحة، إذا زوج ابنته استشارها، وإذا علم ولده نصحه وأخذ ميله بعين الاعتبار، وإذا أحب ابنه المتزوج ان يخرج عنه ليكوّن بيته ويبني حياته الخاصة ساعده وأعانه.

المرأة اليوم كائن بشري يحب ويحترم ويساعد على تكوين شخصيته وذاته، أما في الأمس فقد كانت أمة تباع وتشرى، وخادمة عليها كل الواجبات وليس لها من حقوق، وحبيسة بيت وأسيرة زوج ليس لها إلا أن تخضع للرجل زوجاً وابناً واباً، عليها أن تطيع دون مناقشة أو مراجعة.

والطفل اليوم كائن حي محبوب مدلل توفر له أسباب النمو والتربية ويعان على أن يكون شابا قوياً جريئاً حراً مقداماً، أما في الأمس فقد كان ـ في أحسن الأحوال ـ شيئاً مهملاً وفي أسوئها (مفشة خلق) ـ كما نقول في سورية ـ عليه أن يلتزم أدباً ذليلاً ويطيع أوامر جائرة.

والتقاليد والعادات؟ أهي كلها صالحة مثالية؟ أم ان قسماً كبيراً منها لا ينطبق على عقل ولا يتمشى مع حق أو منطق؟ انظر إلى عادات الزواج والأفراح، إلى تقاليد المآتم والأتراح، إلى مواسم الطهور والنذور، انظر إلى هذا كله وقرر لنفسك ما إذا كانت كلها صالحة جيدة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ثم قارنها بما يجري اليوم واحكم لنفسك ما إذا كنا نتقدم كما أدعي أنا أو نتأخر كما يقول المترحمون على (أيام زمان).

والأخلاق نفسها، أصحيح أنها تتدهور وتنحط؟ أصحيح ان شباب اليوم الذين يفورون حماسة لوطنهم ويستميتون في سبيل أوطانهم يفتدون قوميتهم بكل مرتخص وغال، أصحيح ان هؤلاء الشباب أحط خلقاً من أسلافهم؟ أصحيح ان الرشوة والفساد والفسق والفجور منتشرة اليوم أكثر من انتشارها بالأمس؟

إذا كان الفسق هو مجرد السفور وكان الفجور في تعليم المرأة فإن دعوى انحطاط الأخلاق صحيحة؛ ولو كان مجرد الحجاب كافياً لعصم المرأة مواقع الزلل، وأميتها ولزومها عقر دارها أساسين للحفاظ على أخلاقها لكان القول بتدهور الأخلاق في عصرنا الحاضر مقبولاً. ولكن الأمور لحسن الحظ مختلفة عن هذا كثيراً، فالسفور كالحجاب قد يكون مصدر خير كما قد يكون مصدر شر، والتعليم بحد ذاته لا يمكن أن يكون مصدر شراً أبداً وإلا لما قال الله عز وجل " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " والسر في التربية الصحيحة والتعليم القويم وأمرهما في تحسن مستمر والحمد لله.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست