.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

اللازم هو يقينٌ يزيل الشك

النظر الإستقلالي والنظر المرآتي

النور الذي يلقيه الله في القلوب

إزالة المعوّقات هي وظيفة الإنسان

ما هو هذا الحجاب الذي يحول دون رؤية الحقيقة؟

العقل، هبة الله للإنسان

الإحاطة العلمية دليل تجرد الإنسان

إدراك مسبب الأسباب.. ميزة العقل

العقل العلمي والعقل العملي ونقصه ورجحانه

إنّ العلوم كلّها مخبّأةٌ على نحو الإجمال في أعماق البشر

إذاً، الجميع يجب أن يكونوا عارفين لله

المستلزمات غير كافية إذا لم تزل العوائق  

اللازم هو يقينٌ يزيل الشك

إن أجزاء عالم الوجود كلّها آيات الله تعالى وعلى الإنسان أن ينظر إليها على أنها كذلك... لتكن بالنسبة له مرآة عاكسة لله تعالى وإن ما يقال عن عالم الكون بأنه (عالم) ذلك لأنه (يُعلمُ به الله).

عند من روحه في تجلٍّ

 

العالم كلّه كتاب الحق تعالى

عالم الوجود كلّه والكون هو كتاب الخالق تعالى، شاهدُ علمه وقدرته، طبعاً هذه المعرفة الإستدلالية العقلية ناقصة، يجب أن تبلغ مرحلة الكمال، يجب أن تكون مقدمة للعلم لأن هذه الإستدلالات العقلية لا تأتي بشيء أكثر من الظنّ، هي ليست مطمئنة، على الإنسان أن يجهد ليبلغ درجة العلم واليقين والتي من نتائجها السكينة والطمأنينة... من نتائجها أن لا تدع للإنسان مجالاً للشك والريبة.

على الإنسان أن لا يكتفي بهذا القدر من المعرفة، عليه أن يسعى لبلوغ العلم، أن يعرف الله بالعلم وليس بالمعرفة الإستدلالية العقلية فقط. وبلوغ العلم هو الآخر عبارة عن الإدراك الذي لا يتزلزل بتشكيك مشكّك أبداً... إدراك الواقع الذي لا يكون ساحة لأيّ نوعٍ من أنواع الشبهات تعمل فيه... يُعبّر عنه أحياناً بالعلم وفي أحيان أخرى باليقين. وهذه الدرجة من العلم أمر بها الله تعالى.

النظر الإستقلالي والنظر المرآتي

هناك نوعان من النظر في ما يتعلق بالمرآة: النظر الإستقلالي والنظر المرآتي.

النظر الإستقلالي هو في أن ينظر إلى المرآة لذاتها. مثلاً يريد أن يشتريها، فينظر إلى حجمها ووزنها ومساحتها وعدم إشتمالها على الصدأ، وفي هذه الأثناء هو لا يرى صورته المنعكسة فيها.

والنظر المرآتي هو في أن ينظر إلى المرآة ليرى صورته فيها وإلاّ فلا شغل له بها.

إن الذي ينظر إلى موجودات العالم نظر الشاري والمريد لها، لا يرى الله. وفي هذا المجال يقول الإمام أمير المؤمنين(ع): (من أبصر بها (أي الدنيا) بصَّرته ومن أبصر إليها أعمته)[1]. الملفت للنظر في هذه الكلمة من كلمات (نهج البلاغة)، التعبير فيها بـ (بها) و(إليها) إذ يجب الدِّقة في ذلك.

إن حب الدنيا وإتباع الشهوات والسعي وراء الثروة وكذلك الإنحلال وارتكاب الذنوب، هذه كلّها تحول بين الإنسان وبين بلوغه مقام المعرفة. فحيث كل ذنب هو سهم مصوّب إلى عين البصيرة، كيف يمكن لقلب كهذا أن يرى الله؟ إن الذنب الذي ترتكبه العين يحرم القلب من رؤية الحقيقة مهما كان نورها ساطعاً. هذا المضمون يمكن إستخلاصه من هذه الرواية المروية عن الإمام الصادق(ع) والتي تقول: (النظرة الحرام سهم مسموم من سهام إبليس)[2].

عن وجنتي الروح بعيدة
فليكن من مرآة نظيفة

 

العين ذات النظرة المريبة
فإن أرادت إليها النظر

ثم إذا ما أظلم قلب الإنسان لكثرة الذنوب وأحاطت به خطيئته، صار منكراً لآيات الله وهو سوف ينكر بالتالي أوضح الحقائق ألا وهي وجود الله تعالى[3].

إذاً من كان يبغي السعادة لا بد له أن يجتنب الذنوب وإذا إرتكب ذنباً مصادفةً عليه أن يبادر فوراً إلى التوبة.

(أللهم اجعلنا من التوابين وأجعلنا من المتطهرين).

يتضح مما مرّ في الجواب على السؤال الذي يقول: لماذا حضور الله تعالى عند كل موجود، ملاحظ من قبل بعض الأشخاص وهو عندهم أوضح من الشمس في رابعة النهار وحضوره تعالى عند البعض الآخر مبهم ومشكوك فيه. نعم إن من لم يعان المشقة لا يتيسّر له الحصول على الثروة... يجب تحمل مشقة ترك الذنوب ومجاهدة النفس في سبيل الحق تعالى حتى يمكن الوصول إلى ثروة المعرفة[4].

يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله)[5]. إن الإيمان إيمانان... إيمان يحكم به العقل فكل من يدرك أنّ له خالقاً عليماً قديراً فإنه يكون قد أسلم. وكل عاقل يدرك هذا المفهوم ولكن هذا ليس كافياً.

والإيمان الثاني وهو إيمان القلب، هو الإيمان المطلوب... أن يصدِّق الإنسان بقلبه لكي يكون في مأمنٍ من كل وسوسة وشك[6]... لكي يبلغ مرحلة السكينة والطمأنينة أي طمأنينة القلب[7] ومن آثار ذلك الخوف والرجاء، أي الخوف من مخالفة الله تعالى الرجاء له من خلال طاعته عزّ وجلّ.

وفي آية أُخرى يقول تعالى: (ألم يإن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزّل من الحقّ)[8] أي القرآن الكريم وما يشتمل عليه من تحذيراتٍ ومواعظ إلهية.

عن ابن مسعود يقول: بعد مرور ثلاث أو أربع سنوات على إسلامنا نزلت هذه الآية: (ألم يأن للذين آمنوا..) ذاك الإيمان العقلي الذي ذكرت وهو إعتقاد الإنسان بالله نزولاً عند حكم عقله وفطرته وأما الآن فقد جاء دور قلبه ليؤمن هو الآخر ويخشع لربه ويعلم ويستيقن... ثم على الإنسان أنْ يجهد، بعد أن أمضى فترةً من الزمن لا يجاوز الإسلام والإعتقاد الإستدلالي العقلي.. عليه أنْ يجهد لتحصيل الإيمان القلبي الثابت الذي لا يتطرق إليه شكٌ ولا ريب.... عليه أنْ يجهد لبلوغ مرتبة الخضوع لله تعالى... عليه أنْ يجهد لكي يحب المنعم عليه ويضحّي في سبيله.. عليه أنْ يجهد لأن يتجاوز عن كل شيء من أجل رضى خالقه وليتاجر معه بماله ونفسه. وهو طالما لم يبلغ مرتبة هذا الإيمان القلبي فهو لا يزال يعبد هواه. لا يزال يركض وراء أهوائه وهو مع ذلك مسلم ويقيم الصلاة أيضاً ولكن هذا ليس كل شيء وانتهى الأمر فـ (كمال معرفته التصديق به). يجب أنْ يبلغ مرحلة التصديق القلبي... يجب أنْ يعترف القلب بالله ويصدِّق به.

إن خشوع المحبة يكون مصحوباً بالتذلّل، والإنسان يتبع ما يحب ويؤمن به... إن إيمان الإنسان يجب أنْ يكون بإلهه... ليكن همه منذ أنْ يستيقظ في الصباح وإلى أنْ ينام في الليل... كل همه أنْ ينال رضى ربه، لا أنْ يتبع هواه وهوسه. (كمال معرفته التصديق به)... إنّ المعرفة النظرية والاستدلالية يجب أنْ تبلغ مرتبة العلم القلبي الذي من آثاره خشوع القلب وهذا هو ما عبّر عنه في الروايات بـ (النور).... إن على الإنسان أنّ يسعى جهده ليشعّ ذلك النور في قلبه.

النور الذي يلقيه الله في القلوب

يقول الإمام الصادق(ع) في حديثٍ له مع (صفوان البصري): ليس العلم بالتعلم والتعليم الزائد بل هو نور يلقيه الله في قلب كل من أراد هدايته. إن القصد من العلم هنا هو ذاك الإيمان القلبي وإلاّ فإن العلم المكتسب بل وحتى علم التوحيد أيضاً هما من العلوم المفهومة بالنسبة للإنسان فالعلوم المكتسبة على أنواعها خاضعة له، كلّما جدّ أكثر كلّما حصل عليها بنسبة أكبر. إذاً فالمراد من هذا العلم الذي ليس هو بالتعلّم والتعليم الزائد... المراد منه العلم بالله تعالى... العلم القلبي وشهود الحق... إدراك الواقعيات... إنه النور الذي يجب أنْ يمن به الله تعالى وهو الذي ينير القلب ليري الإنسان الحقائق كما هي[9]. إلهي إجعلني مدرك الحقائق لأنه ما من شيء يمكنه بجهده الخاص إدراك أنّ الله تعالى هو سيده فما هو مقدور بالنسبة للإنسان هو الإستعداد فقط... أن يعدّ نفسه لتقبل ذلك النور القلبي ليحصل ذلك التصديق والإيمان.

إزالة المعوّقات هي وظيفة الإنسان

إزالة العوائق أي رفع الحجب هي بيد الإنسان نفسه أي أنّ ما يعترض سبيل النور يحول دون رؤية القلب.

لقد تحدّث القرآن الكريم كثيراً في ما يتعلّق بعين القلب. فالإنسان يملك عيناً ظاهرة يشترك بها مع الحيوانات ويرى بواسطتها الأجسام وله عين أخرى هي عين القلب أي البصيرة بها يدرك المعاني والحقائق. وكما أنّ العين الظاهرة لا يمكنها الرؤية إذا ما اعترض سبيلها حجابٌ ما، كذلك عين القلب إذا ما وقف في طريقها حجاب فإنه يحول دون تنوّرها وإدراكها. وهذا العائق، على الإنسان نفسه أن يزيله ليظهر له نور العمل والتصديق القلبي أي حتى يفيضه الله تعالى:

(حافظ)... أزل بنفسك حجاب نفسك).

ما هو هذا الحجاب الذي يحول دون رؤية الحقيقة؟

في كلامي السابق أشرت إلى أنّ هذا الحجاب هو الأنانية، إذا ما استطاع الإنسان أن يرققه إلى أنه يزول شيئاً فشيئاً، يكون قد بلغ السعادة بأكملها.

حجاب قلبه هذا هو نفسه تلك.. هو الأنانية والذاتية التي تحول دون رؤية الحق فإذا ما زادت رأى نفسه حقاً... أنا هو الحق، من تبعني صار هو أيضاً حقاً... ما يليق بالله يتصوره لنفسه.

إن من عبد هواه سمك حجابه أكثر فأكثر إلى أن يصل إلى حدٍ لا يطلب بعده شيئاً إلاّ نفعه الشخصي. هكذا شخص من المحال أن يحصل لديه تصديق قلبي لأن تصديقه القلبي هذا هو بنفسه (لا يرى إلا نفسه) كالشيطان حينما قال: أنا خير منه، أي من آدم.

إذا تمكن مع الإيام من التقليل من رغبات نفسه وتعلقاته فإنّ حبّه القلبي لله وإيمانه به يزداد. في السورة المباركة (والشمس) وبعد أربعة عشر قسماً يعود فيقول جلّ وعلا: (قد أفلح من زكيها)[10]... على الإنسان أن يقلل من هذا الحجاب حتى يزول نهائياً.

العقل، هبة الله للإنسان

لقد خصّ الله تعالى الإنسان بهبة لم يهبها لأي جزءٍ آخر من أجزاء عالم الكون. وإنّ كرامة الإنسان وشرفه هو بهذه الهبة التي يعبّر عنها بالعقل. فهو قوّة يستطيع الإنسان أنْ يعملها في العلوم والحقائق وواقعيات الأمور... يستطيع أنْ يعملها في عالم ما وراء المادة والجسم. أما الحيوانات فلا يمكنهم إلاّ أن يدركوا ما هو محيط بهم من عالم المادة وهو إدراك ناقص مع ذلك إنه الإنسان فقط الذي يمكنه أنْ يحيط علما بما وراء الطبيعة... أنْ يدرك خواص الأشياء والحكمة من كل شيء. إنه قوّة لها تشعُّبات يمكنه إستعمالها في كل مجال.

الإحاطة العلمية دليل تجرد الإنسان

هذه الإحاطة نفسها هي إدراك يشهد على تجرد العقل والروح ومنها يُعلم أنّ الروح الإنسانية هي غير المادة والماديات فالجسم لا يمكنه أبداً أن يحيط علماً بجسم آخر فهذا الحجر مثلاً لا يمكنه إدراك ذاك الحجر أو ذاك الوعاء. إنّ أجزاء عالم المادة من المحال أن يحيط بعضها علماً بالبعض الآخر. إذاً فالإنسان هو الذي يمكنه أنْ يهيمن على عالم الكون كلّه. إنه يدرك كيف يتحرَّك كوكب المريخ وكم هي المسافة التي يطويها.

إذاً فالروح الإنسانية مجردة وليست مادية.

ما هو دليل الماديين؟ فلو كان الإنسان مادياً فكيف يستطيع حينئذ أنْ يحيط علماً بجميع أجزاء عالم الكون... إنه يدرك تركيب وخواص الأشياء كالأدوية وغيرها التي ما هي إلاّ فرع من فروع تلك القوة العاقلة.

إدراك مسبب الأسباب.. ميزة العقل

من آثار هذه القوّة، إدراك مجموعة العلل والمعلولات فبإمكانها أنْ تدرك أنّ عالم الكون كلُّه له علة واحدة ترجع إليها جميع العلل. إنه الله الذي أوجد عالم الكون هذا ومجموعة العلل والمعلولات. الإنسان يستطيع بهذا العقل ـ في نطاق استعداده وليس بالشكل الذي يليق بهذا الأمر ولا بالشكل الذي هو حقه ـ أنْ يتعرف إليه تعالى. إن العقل الذي وهبه الله للإنسان يستطيع أنْ يدرك مجموعة العلل التي تنتهي إلى الله تعالى، ويتعرّف إلى من هو مسبب الأسباب وموجد العلل.

كل موجود سببه موجود آخر والموجود الأخر سببه موجود غيره وهكذا. إذاً يلزم من ذلك التسلسل وهو باطل. إذاً فيجب الرجوع إلى أصل الوجود المطلق الذي لا يحتاج إلى سبب وهو مسبب الأسباب كلّها. إنه العقل الذي يستطيع أنْ يدرك مسبب الأسباب هذا... إنه العقل الذي يستطيع أنْ يدرك المعاد والخير والشرّ.

ثم إنه من مآثر وآثار العقل الذي وهبه الله تعالى للإنسان هو أنه يستطيع إدراك معاده. وكما يقول أحد العظماء: لو فرضنا أنْ الوحي لم يكن ولم نعلم بالتالي أنّ هناك معاداً.... فإن عقل الإنسان كان سيتوصل بمفرده إلى لزوم المعاد. فالحياة الدنيا لا بد أنْ يكون لها غاية وهدف حتى يبلغ فيها الإنسان كماله وسعادته.

إن الإنسان يستطيع أنْ يدرك الخير والشّر وبتعبير أصحّ ـ كما جاء في إحدى الروايات ـ خير الخيرين (لأنه لا وجود للشّر فعلاً فما هو موجود إمّا أن يكون خيراً محضاً، وإمّا أن ترجح فيه كفّة الخير ولكن هذا الأمر ليس موضع بحثنا الآن). إذاً فالإنسان بإمكانه إدراك هذا الخير أو ذاك... بإمكانه التمييز بين الحسن والقبيح في أفعاله وأعماله وفي أفعال وأعمال الآخرين.

العقل العلمي والعقل العملي ونقصه ورجحانه

لذا فإن الحكماء يعتبرون أنّ العقل عقلان: واحدٌ علمي والآخر عملي. أمّا العقل العلمي فهو تلك الإدراكات.. الإدراكات العامّة المتعلّقة بالله تعالى وأسمائه وصفاته الكمالية وآثاره وكذلك خواص الأشياء وأما العقل العملي فهو إدراك حسن وقبح الأعمال وإدراك الصّحيح من افعالنا من فاسدها بحيث يتمكّن من تحديد: أي الأعمال حسن فيقوم بها وأيها قبيح فيتركها ويتمكّن كذلك من تحديد أي الأمور توجب السعادة وأيها يوجب الشقاء وهذا أمر فطري خبأه الله في أعماق البشر ووهبه لكل فردٍ منهم بالحد المتعارف وإن يكن قد خص بعضهم بما يزيد عن هذا الحد إلاّ أنه مع ذلك يزيد رجحانه إذا ما شغل إذا، بدايةً، وهبت هذه القوة للجميع بالقدر ذاته على حد سواء فإذا ما شغلوها فإنها تزداد شيئاً فشيئاً وإذا ما نحوها جانباً أي أنهم لم يعملوا بأوامرها فإنها تقلّ. إنّها (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)[11].

إن وسائط فيض الله تعالى، أي النبي والإمام(ع) وكذلك العقل العملي بمختلف تشعباته، ضرورية ولازمة لمعرفة المبدأ والمعاد.

إنّ العلوم كلّها مخبّأةٌ على نحو الإجمال في أعماق البشر

وهنا قد يقفز إلى أذهان البعض منا سؤال لا بأس من ذكره وذكر الإجابة عليه.

قبل ذكر السؤال أقول: إن الحكماء قالوا: إن العلم لا يبلغ الإنسان من خارجه فالعلوم على أنواعها مخبّأة في عقل وذات الإنسان، وما يطرق أسماعنا وتلتقي به أعيننا.. ما يتم إدراكه عن طريق هذه الحواس، يبعث على استنباط العقل... ما كان موجوداً بالقوة في ذات الإنسان يتحول إلى الفعلية بفضل المعلّم والدّرس وبواسطة الحواس... تبدأ قوة فكره بالعمل فيتحوّل ما كان موجوداً على نحو مجمل إلى أمور مفصّلة ويتحقّق ما كان قد إختزن في ذاته. إنّ العلوم كلّها مخبأة بالقوة في عقل الإنسان وهي تحتاج فقط إلى من يذكّر بها فإذا ما إشتغل، ظهر العلم فيه، وإلاّ  بقي على حالته من الجمود والوجود بالقوّة.

إذاً، الجميع يجب أن يكونوا عارفين لله

إذاً، إذا كان الأمر كذلك أي العلوم كلّها مخبّأة، على نحوٍ مجمل، في أعماق البشر يجب حينئذٍ أن يكون أفراد البشر جميعهم عارفين لله، يحيون على الخير، فقد وهب العقل للجميع، ويطرق أسماع الجميع أيضاً أنّ علم معرفة الله يجب أن يتحقق في الكلّ بينما نحن نرى أنّ الأكثرية غافلون عن الله، حتى الكثير ممن يقال لهم علماءهم أيضاً في واقع الأمر، غافلون عن معرفة الله، حتى الحكماء الإلهيون أيضاً هم كآلة التسجيل يعيدون ترديد ما يلقنون دون أنْ يكونوا قد بلغوا بعد مرحلة اليقين، وأكثرهم شاكون واهمون فيما يتعلّق بالحقائق والمعارف مع أنها موجودة في ذواتهم، مع هذا فنحن نرى أنّ هناك مسافة كبيرة تفصل بين إدراكات افراد الإنسان. بعضهم يصل إلى درجةٍ يعتبر فيها أنّ الله معه دائماً حاضرٌ وناظرٌ. يصبح الحق مشهوداً لهم إلى حدّ كما يقول (سعدي الشيرازي):

فانظر كم هي رفيعة منزلة الإنسان

 

يبلغ الإنسان حداً لا يرى بعده غير الله

في المقابل يوجد أشخاص يشكون في الله تعالى، يقرُّون بوجودهم ولكنهم ينكرون وجود الله تعالى والحال أنّ وجودهم هم وجميع الموجودات مستمر من الله تعالى. إنهم لا يدركون هذا الأمر.

كان هذا ذلك السؤال الذي كنا نريد إثارته وخلاصته هي: أنّ العلوم كلّها مخبأة في عقل الإنسان وما يتم إدراكه عن طريق الحواس ما هو إلاّ مذكر بذلك العلم الفطري ومظهر له وعلوم الموجودات كلّها، ومظاهر الوجود، ترتبط بالله ـ وبعبارة أخرى ـ الإدراكات على أنواعها ترجع في الأصل إلى الله تعالى وعلى هذا فالجميع يجب أنْ يكونوا عارفين لله، ومن أهل التوحيد، بينما نحن نرى العكس، أكثر الخلق لا يعلم شيئاً أو هو منكر أو غافلٌ عن هذه الحقيقة؟

المستلزمات غير كافية إذا لم تزل العوائق

ما ذكر من أنّ في العقل قوة إدراك العلوم على أنواعها، هو من قبيل المستلزمات وليس علة تامة أي إنه يجب الإلتفات أيضاً إلى وجود العوائق، ومن ثم العمل على تنحيتها، لنصل بعد ذلك إلى نتيجة ملموسة. المستلزمات، وهي أنّ العلوم كلّها فطرية، موجودة وكذلك المنبهات الخارجية موجودة ولكن بشرط أن لا يكون هناك عوائق أيضاً. إن الماء الذي تريدون غليه يحتاج إلى مسلتزمات. فأنتم تصبون الماء في الوعاء ثم تضعونه على النار. هذه كلّها كانت مستلزمات، ولكن يجب أيضاً أنْ لا يعترض ذلك عائق ما. إن لم تهب ريح أو لم يسقط مطر، ولم تنطفئ النار، أو من جهة أخرى أنْ لا يداوموا على وضع قوالب الثلج في وعاء الماء.

معلوم أنّ هناك عائق ما يحول دون بلوغ الإنسان فعلية العلوم. بمعنى آخر لماذا هو لا يصبح عارفاً لله؟ لماذا لا يشرق نور عقله؟ لماذا لا يظهر ضياء ذاته؟

في هذا المجال، توجد رواية شريفة في (أصول الكافي) كتاب العقل والجهل... حديث نوراني مفصل مروي عن الإمام موسى بن جعفر(ع) يذكره لهشام وللحق إنه من اللائق بأهل العلم أن يمعنوا النظر كثيراً في هذا الحديث. إنه(ع) يذكر في آخر الرواية سبعين جندياً للعقل وسبعين آخرين للجهل. ما هو شاهدنا هنا فيما يتعلّق بالعوائق هي جملة على هذا النحو:


[1] نهج البلاغة/ الخطبة 82.

[2] سفينة البحار: ج2 ص596.

[3] (ثم كان عاقبة الذين أساؤُا السوآى أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤُن) (الروم/10).

[4] أللهم ارزقني التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والإستعداد للموت قبل حلول الفوت.

[5] سورة النساء: الآية 136.

[6] (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) (الأنعام/82).

[7] (أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) (محمد/4).

[8] سورة الحديد: الآية 16.

[9] أللهم أرني الأشياء كما هي.

[10] سورة الشمس: الآية 9.

[11] (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) (سورة الروم: الآية 30).

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست