.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

ما لم تُبعد عنك العوائق...

طول الأمل... يُعْمي ويصم

الإنسان على مفترق الطريق

الثرثرة تبعد عن الحكمة

خراب القلب نتيجة إنحراف اللسان

سرير المُلْك والتابوت الخشبي

العقل هو للتعقُّل والتفكّر

حادثٌ بدون محدثٍ مُحالٌ

الظفر... رمي الفضلات ومُتّكأُ الإصبع

   

ما لم تُبعد عنك العوائق...

العوائق التي تحول دون بروز وتحقق العلوم المكنونة في ذات الإنسان هي في هذا الحديث الشريف، متضمنة في جملاتٍ ثلاث:

(يا هشام، من سلّط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكّره بطول أمله، ومحى ظرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته شهوات نفسه. فكأنما أعان هواه على هدم عقله.. ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه).

يقول(ع): هذه هي العوائق الثلاثة التي لا تدع ما جعله الله في العقل يتحقّق... لا تدع الإنسان يبلغ العلم... يبقى يبحث ويحقق لسنوات، ويحصل على الأدلة والبراهين ولكن هذه العوائق لا تدع ما قد خبّئ في ذاته يكتمل.

العائق الأوّل والشديد الأهميّة والذي من كان عالقاً فيه يكون قد ساعد على هدم عقله... يكون قد هدم بيده هو هذا الأساس المتين ويصبح بالتالي مساوياً للحيوان في عدم الإدراك.

طول الأمل... يُعْمي ويصم

العائق الأوّل من العوائق الثلاثة، طول الأمل، الأماني العراض ورغبات النفس، تلك الرغبات التي تعود إلى الجوانب الحيوانية والحياة اليومية. الأكل، والشرب، والنكاح، والمسكن، واللباس، يجعل همّه هذه الأمور... همّه في النواحي المادية[1] وإكتناز الأموال. يجعل أمنيته، في أن يكون سيداً، في المقدمة... همُّه الحصول على الشهرة وأن يكون زعيماً لقرية أو ناظراً أو مديراً لمدرسة حتى، فكل واحدة من هذه الأماني تحتاج وقتاً، أي إن كلّ واحدة منها يلزمها التخطيط لها، وأنواع المعاناة في انتظار تحققها. يقال للأماني المادية من قبيل رغبات النفس... يقال لها: الأمل، وهي كلّها وهم. إذا أعمل الشخص عقله الذي كان من المقرر أن يعمله في جانب إدراك الكليات... إذا أعمله في أفعال الله التي هي نور ومنورة في آن، وكل من توجّه بعقله صوب الله تعالى، فهو مستنير. وأما من أعرض عن النور، وسقط في الظلمة، فهو سيكون نهباً لها. إنّ الدنيا والحياة فيها، ظلمتان، فمن سقط في الماديّات، تنزّل مستوى وجوده. إنه يخرب بذلك ذلك الإستعداد الذي وهيه إيّاه الله سبحانه وتعالى. وباختصار فإن الآمال والأماني المادية تعمى وتصمّ عن إدراك الحقائق.

الإنسان على مفترق الطريق

كان كلامنا يدور حول الحديث المروي عن الإمام موسى بن جعفر(ع) فيما يتعلّق بالأمور التي توجب هدم العقل... العقل الذي جعله الله تعالى في أصل وجود الإنسان حتى يكتسب بفضله تلك العلوم التي تلزمه وتتيسر له تلك المعارف التي عليه أن يحصلها بنفسه. فإدراك الكليات والعلم بالمبدأ والمعاد وبأسماء الله الحسنى، وكذلك إدراك حقيقة ذاته وأن من أين أتى وإلى ما هو صائر ولماذا أتى ثم هو بعد ذلك يرحل؟ هذه كلّها من مختصات الإنسان. ألا فليرحم الله كل من أدرك هذه الأمور كلّها واهتدى إلى سبيل سعادته وأعمل عقله وفكّر فإنّه بذلك كله تتحقق حقيقة الإنسان وإنسانيته.

يقول الشاعر ما مضمونه: أخي... ما أنت إلاّ هذا الفكر، وما دونه فهو عبارة عن عظامٍ وعروق ليس إلاّ.

إن الإختلاف بين الإنسان والحيوان هو بالعقل، وإلاّ فما الذي يميزهما عن بعضهما البعض؟ ثم هو كلما أعمل عقله أكثر، كلّما زاد ارتقاؤه إلى عالم الإنسانية.

إن حديثنا يهدف إلى التعرف على عوائق التعقُّل من كلام الإمام(ع). فقد أوضح(ع) أموراً ثلاثة: (من أظلم نور تفكره بطول أمله) وتمنى ما هو فان. فما كان فان، عندما يعمل له الإنسان يصبح مصيره ذاك أيضاً أي الفناء والزوال. إنّ شرح المرحوم ملا صالح المازندراني لهذه الرواية شرح ظريف، فهو يقول: إنّ كل ما يشغل فكر الإنسان من اللذائذ الدنيوية والشهوات، يعطل تفكّره في أمر الآخرة وينسيه العالم الآخر. إن من كان كلّ همه أنّ يمتلك في هذه الدنيا القصور والمنتجعات فكيف يفكّر حينئذٍ بحوض الكوثر ولقاء علي(ع)!! إنه لينسى ما عدا ذلك من الأمور. وهذا ما هو مصطلح على تسميته بـ (الخذلان الإلهي) فالله سبحانه وتعالى يسلمه حينذاك لنفسه.

والدليل على ما نقول واضح، فمن كان يطلب الأمور الدنيوية الفانية يبقى يفكر فيها دائماً، ولازمة هذا الأمر أن يلقي بالأمور الأخروية الخالدة وراء ظهره، ويسلمها للنسيان، وما كان موجوداً بالقوّة، في ذاته وفطرته، يمحي، وربما يصل به الأمر حدّ الموت على غير الإيمان.

في الروايات شبهت الدنيا والآخرة بالضرّتين، المرأتان اللتان لهما زوج واحد، فهما عادةً لا تتفقان، كل منهما تريد جذب الزوج إلى نفسها. وفي رواياتٍ أخرى شُبهت الدنيا والآخرة بالمشرق والمغرب أي أنّ بينهما مسافة كبيرة يقابل أحدهما الآخر فهو إن أعمل فكره في الدنيا تخلف عن الآخرة.

وفي رواياتٍ أخرى أيضاً، تشبَّه الدنيا والآخرة بالماء والنار[2]. يقول الشاعر ما مضمونه: (تريد للدنيا أن تكون وفق ما تريد، وللدين أن يحافظ على ما هو عليه. إنّ هذا لا يمكن أن يتحقق أبداً لأن الكون ليس في قبضتك تتصرف به كيف تشاء).

أتريد للدنيا أن تكون كلّها لك بما فيها من لذائذ يمكن تحصيلها بأي وسيلةٍ كانت، ثم تريد بعد ذلك أن تكون الآخرة هي الأخرى مضمونه لك؟

يقول الشاعر ما مضمونه: (لقد سعينا وراء الدنيا ومع ذلك لم نبلغ ما كنّا نرجو. فكيف بنا يا رب ونحن لم نسع وراء الآخرة أبداً).

كان كل همّنا أن تتأمن دنيانا فرأينا أنها لم تفدنا في الكثير من مواقعها إذا كان حال الدنيا كذلك إذاً فما هو حالُ الآخرة ونحن لم نسع لها أبداً؟

إنّك لتسكن في الآخرة ما كانت قد بنته يداك

إلاّ التي كان قبل الموت بانيها
وإن بناها بشرٍ خاب حاويها

 

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
فإن بناها بخير طاب مسكنها

بعد الموت لا وجود لبيتٍ إلاّ ما كان قد بنيته بنفسك، وإلى الحد الذي كنت قد زودته فيه بالأثاث. فإذا كان لديك بناء خيّر وصالح، فطوبى لمن يؤمن لقبرة الروح والريحان فإنه نفسه الذي سوف ينتفع بذلك. أما الشخص الذي يجعل في قبره ناراً على نار فإنه بذلك يكون قد أحرق كلّ ما له من لباس، وطعام، ومسكن، وكل شيء. وأخيراً فإن طول الأمل يحول بين المرء والتفكر في الآخرة. كان هذا هو الخطر الأوّل والعظيم، أمّا الخطر الثاني.

ما هي الحكمة؟ وما هي آثارها؟

(ومحى طرائف حكمته بفصول كلامه)

الحكمة تعني إدراك الحقائق ودقائق الأمور الماوراء حسيّة. إن للإنسان إدراكات أو حواس، أي عين، وأذن، وما إلى ذلك، وهي حواس يشترك فيها مع الحيوانات، وله إدراكات أخرى خاصة به، وهي علم حكمة دقائق الأمور. مثلاً ليس في الدنيا سعادة مطلقة بالنسبة للإنسان، هذا موضوع دقيق. المال والمقام لا يؤمنان للإنسان حياة طيبة، ومن يريد أن يتمتع بحياة هنيئة، ويسعى للحصول على الراحة المطلقة، فهذا كلّه غير ممكن هنا. هذا المفهوم لا يدركه كلُّ شخص، ولهذا فإنك تراهم يحرصون كل الحرص، ويتنازعون، ويتجادلون، ويتصارعون، من أجل الحصول على مالٍ أكثر ومقام أرفع.

أمّا الشخص الحكيم فهو يعتقد أنّ المال ما هو إلاّ لرفع الحاجة، وفائضه يتسبب في إيجاد المتاعب لصاحبه، ويورثه الحسرة، وكذلك ليس له حد يقتنع به. وهو وإن امتلك ملياراً منه، فإنه يسعى وراء مليار آخر الآخر في نفس الوقت يرى كيف أنّ الكثير من أصحاب الأموال يعانون المصاعب.

المقام أيضاً لا يجلب السعادة فهو منذ اليوم الأول الذي يصبح فيه في منصب الرئاسة، تبدأ المشاكل، والمتاعب تواجهه، والحسد لا يتركه يستكين.

باختصار... إن الإسترآس بلاءٌ هو الآخر، إلاّ أن يأخذ على عاتقه الإستقامة في طريق الله، والخدمة لخلقه، حتى ينال أجره في مقابل كل تلك الأتعاب.

باختصار... إن المال والمقام لا يجلبان إلاّ المتاعب، هذا أمرٌ يُدركه الحكيم وهو واقع صحيح وسليم مئة في المئة. إن فناء الدنيا وبقاء الآخرة أمرٌ يجب إدراكه بالعقل. أو في المعارف، يجب إدراك التوحيد الأفعالي... يجب فهم معنى (لا حول ولا قوة إلاّ بالله)، كلُّ هذا هو حكمة.

الثرثرة تبعد عن الحكمة

الطرائف: هي جمع طريفة، وكل ما هو جديد ومدهش يقال له: طريفة وهي الأمر الذي ليس في متناول الجميع. والآن لنعد لأصل الرواية: (ومعنى ظرائف حكمته بفضول كلامه) الذي يصبح ثرثاراً يُحرم من الحكمة وهو الذي لسانه متروك على غاربيه، يتكلم بكلامٍ لا معنى له، ولا طائل منه، يهدر نصف ساعة من وقته في الأراجيف والأباطيل، إنه يمحو حكمته.

فضول الكلام هو الكلام الزائد في الامور التي ليس فيها من خير، نفس تعبير القرآن الكريم حيث يقول: (لا خير في كثير من نجوايهم إلاّ من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٌ بين النّاس)[3] يطفئ نار الفتنة بكلامه.

إثارة الفتنة ليست إنجازاً، لو كنت رجلاً فعلاً، أطفىء الفتنة. باختصار... ما زاد من الكلام عمّا هو لازم وضروري فهو ليس إلاّ إتلاف للعُمر، ومحوٌ للحكم المكنونة في رأسه. قلنا إنّ الحكمة موجودة داخل ذات الإنسان حيث يجب إظهارها وفضول الكلام لا يمكّنها من الظهور، الكلام الزائد يؤدي إلى عدم خروج حكمته من القوة إلى الفعل.

إن قلب الإنسان ينبوع يجب أنّ تنبع منه الحكمة كما جاء في حديث رسول الله(ص): (من أخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه إلى لسانه)[4].

الكلام في غير الله، كومة قشٍ على ينبوع القلب

إن قلب الإنسان هو مكان الحكمة، ولكن واأسفاه! إذ هو يمحو هذا الينبوع. بعضهم يسدُّه بالحجارة والتراب، والإنسان لا ينطق بحرفٍ إلاّ ويكون له أثر على قلبه. إن فضول الكلام شوك وقشٌ يُلقى على ينبوع القلب، وصاحب هذا القلب سوف لن يرى وجه الحكمة، بعد ذلك، أبداً لأنها لن تعود للظهور.

يصعد المنبر ويخطب ولكن بقصد شدّ إنتباه المستعمين إليه، ليس هدفه أنْ يستفيد المستمعون، ولكنه يحب أنْ يقولوا له: (بارك الله)... أنْ يرضوا عنه. يحب أنّ يجذب الناس إليه.

يقول الشاعر ما مضمونه: إن شخصاً يحاول جذب الناس إليه عن طريق التعابير الحلوة لن يبلغ الحكمة أبداً.

عزيزي... طالما أنت تفكّر آنياً أنْ ماذا آكل حتى يجود نطقي، وماذا أقول حتى يعجب الناس، سوف لن تبلغ الغاية. إذا كنت تفكّر دائماً في شدّ انتباه الناس إليك بما تقول وتفعل، فلن توفّق، وأوّل من يصدم هو أنت، لأن هذا كله يُعتبر (فضول كلام) يعمل على إنضاب ينبوع حكمتك.

طبعاً الكذب، والغيبة، والتهمة، أسوأ بكثير. لا أقول القول بغير علم وكشف السرّ وإهدار كرامة الشخص، بل المقصود هو فضول الكلام أي الكلام الذي هو في غير محلّه والذي هو غير ذي نفع. إنه لا يتجمع كالقطرات التي تمحي معنويات القلب فكل ما يدخل يجب أن يمحي ضدّه، فإذا دخل القلب شيء من الباطل فإن الحقّ يمحى، كل قطرة ماءٍ فاسدة تُصبُّ في الوعاء الذي يحتوي على ماء الورد فإنّ ماء الورد يفسد بنفس تلك النسبة، وكلّ كلمة باطل ٍ تزيل هي الأخرى حكمةً ما.

خراب القلب نتيجة إنحراف اللسان

في حال لم يكن خرباً كثيراً مع ذلك له أثره الوضعي. مثلاً في هذا المثال نفسه، لم يعد ماء الورد ذاك خالصاً، وفي قلب الإنسان كذلك، لا تبقى الحكمة المطلقة، بل هي لا تبقى كذلك لاختلاطها بالباطل، ثم إن أكثر الناس يقعون في الخطأ... يقعون بشُبهات عقائدية عن طريق خراب قلوبهم، وخراب القلب هو الآخر نتيجة لانحراف وعدم استقامة اللسان.

الخطيب الذي يخطب في مجموعة من الناس، وهم يستمعون إلى ما يقول، فيعجبه ذلك، حينئذٍ يكون قد وقع في معرض الخطر... يسعى ليقول ما يعجبهم ويجهد لئلا يتلفظ بكلمة لا تُعجب فلاناً من الناس. فإذا استمر على هذه الحال ينتهي به الأمر إلى حد قول كلّ كلامٍ باطل حتى يجلب انتباههم، ويترك كلّ كلامٍ حق لا يقوله عسى ألاّ يرضي فلاناً منهم.

مثال ذلك رأيناه في كتب وخُطب (المنافقين ضد الشعب) كيف أنهم كانوا يحققون أهداف الشيوعية على أنها الإسلام الحق وذلك بتحريفهم لـ (القرآن) و(نهج البلاغة) لقد أسسوا مذهباً إلتقاطياً وخدعوا الكثير من الفتيان والفتيات.

في الحقيقة المستمعون لهكذا خطباء هم معبود الخطيب. إنه يعبدهم ويريد رضاهم. هكذا إنسان ثرثار الذي هدفه شد الأنظار... من أين للحكمة أن تبقى في قلبه؟ من اين للحقيقة أن تظهر من قلب هكذا شخص؟ إن كلّ همّه أن يُصبح رئيساً فمن أين له أن يدرك لا إعتبارية الرئاسة؟.

سرير المُلْك والتابوت الخشبي

من بين المواعظ التي قلتها أيام الطاغوت في المسجد الجامع، جُملة سبّبت لي لمدة طويلة المتاعب والإعتقال والسجن وتلك كانت هي أنّ (سرير الملك آخره تابوت خشبي لا قيمة له).

مُلكٌ كهذا ما فائدته حتى يجهد الإنسان للوصول إليه أو الحفاظ عليه إلى هذا الحدّ. قالوا: أنت عرَّضت بالملك، بينما في واقع الأمر أنا بينت الحقيقة... نصحت، ولكن هم قالوا: لقد تمنّيت موت الملك.

خلاصة بحث اليوم هي أنّ فضول الكلام... الكلام الزائد الذي لا معنى له والذي لا تترتب عليه أي نتيجة، يمحو الحكمة من القلب ولهذا علينا جميعنا أن نحفظ ألسنتنا عن الامور التي لا معنى لها والتي لا فائدة منها.

 

الفصل الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

العقل هو للتعقُّل والتفكّر

(فلينظر الإنسان ممّ خلق خُلق من ماءٍ دافقٍ يخرج من بين الصُّلب والتّرائب إنّه على رجعه لقادرٌ).

خط البحث هو في لزوم التفكُّر. فكل قوة جعلها الله تعالى في الإنسان، هي لغاية ونتيجة، وعلى الشخص أنّ يُعمل هذه القوة وإلاّ فهو يكون المسؤول عن حرمان نفسه من الخيرات والبركات التي تحصل له بواسطتها. إن القوّة العاقلة، التعقل والتفكّر هي من أعظم النعم التي وهبها الله تعالى للإنسان، وهي من أعظم إمتيازاته عن الحيوان. يقول تعالى: (ولقد كرّمنا بني آدم)[5] باعتبار هذه القوّة العاقلة التي إن أعملها بلغ تلك السعادة التي خلق لها، وإلاّ فهي تضمُر وتموت، وفي النتيجة، قد ينحط إلى أسفل السافلين في سورة (تبارك) حيث تتحدث عن أهل جهنم ولماذا هذا الإنسان يصبح منهم يقول تعالى: (وقالُوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كُنّا في أصحاب السّعير)[6].

(فلينظر) لا بد للإنسان أن يتفكّر مما خُلق، حتى يتعرّف إلى ربّه بفضل هذا التفكّر، ويدرك كيف من قطرة ماءٍ نتنة، أيّ أجهزة عظيمة خلق من النطفة إلى العقلة ثم المضغة، ومن بعدها خلقُ العظام وتشكُلُها، عندئذٍ ينمو عليها اللحم وبعد الإكتمال، يفيض عليها النفس الناطقة والروح. إنّه إذا ما جاء إلى هذا العالم وبلغ سن الرشد، عليه أن يتفكّر: أنا ماذا كنت وماذا أصبحت.

حادثٌ بدون محدثٍ مُحالٌ

التفكّر الأوّل: هل يمكن لشيءٍ أن يوجد نفسه بنفسه؟ كل مخلوقٍ له خالق. يقول المرحوم السيد (إبن طاووس) في كتابه (كشف المحجّة): هذا المفهوم، أي إن كل حادثٍ لا بُدّ له من محدثٍ، هو مفهوم فطري عند الإنسان، فهو يدرك من الأيّام الأولى، التي يبلغ فيها حدّ التمييز والشعور، أنّ كلّ أثر تحققت له الفعلية، صار له وجود خارجي أي وجد، فهو لا بد له من موجد. ويضربون لذلك مثالاً: إنّه إذا كان طفل عمره سنتان أو ثلاث... إذا كان هذا الطفل جالساً، ثم تضعون من خلف ظهره شيئاً أمامه، دون أن يشعر بكم، فإن هذا الطفل قبل أن يمدّ يده إلى ذلك الشيء ينظر إلى جالبه، يبحث عن الشخص الجالب لهذا الشيء، لأنه يُدرك أنّ هذا الشيء الذي لم يكن موجوداً هنا، إذا وجد لا بد له من موجد. إذاً من البديهيّات الأوليَّة والفطرية عند الإنسان هي أنّ كُلّ حادثٍ لا بد له من مُحدث. ثم إنّ خصائص المحدث تُعرف من الحادث نفسه، فإذا كان الحادث غنياً بآثار العلم والحكمة. يُعرف حينئذٍ أنّ محدثه عليم وحكيم وقادر مطلق.

إذا قال أحدٌ: إن ساعة وجدت بنفسها، وإنّ حيواناً ما أوجدها، فهل يقبل منه أحد؟ من البديهي أنّ صانع هذه الساعة التي تعمل على هذا النحو من التنظيم، ودوائرها الصغيرة والكبيرة متصلة ببعضها البعض، وكلُّ منها يقوم بعملٍ معيّن، لا بد أنه يمتلك علماً وقدرة ولكن طبعاً في حدوده هو. إن علم وقدرة المحدث تعرف من الحادث نفسه. فليمعن الإنسان النظر في جسمه هو بالذات.. فلينظر إليه من أمّ الرأس وحتى أخمص القدمين، هل يرى عرقاً واحداً أو عصباً واحداً دون حكمة أو فائدة؟ كلُّها لها حكمة ومصلحة.

الظفر... رمي الفضلات ومُتّكأُ الإصبع

وكمثالٍ على ذلك نشير إلى واحدٍ أو إثنين من الاعضاء التي قليلاً ما نلتفت إليها: من بين أجزاء الجسم، الظفر حيث الفضلات والزوائد الغذائية التي تُستهلك... المواد التي لا تنفع الجسم ولا يتم هضمها، يتم إخراجها منه على شكل مدفوع وشعر وقسم آخر منها على شكل ظفر. ما هي الحكمة من ذلك؟ هذا الشكل الذي للظفر وهذه الصلابة التي له لماذا؟ لذلك حكم عديدة، فهذا الظفر بما له من صلابة يشكّل متكأً لرؤوس الأصابع، فكما تعلمون، فإن الإنسان يقوم بأعمال كثيرة بواسطة أصابع يده، إنه يحمل ويضع أشياء هي نوعاً ما ثقيلة تحتاج إلى متكأ فالضغط كلُّه يحدث على الأصابع. فإن لم يكن الظفر موجوداً، ولم يكن للإصبع متكأ، لما تمكّن الإنسان من رفع الأشياء الثقيلة، ولهذا عندما تقلمون أظافركم أكثر من اللازم تشعرون بالأذى عند رفعكم الأشياء الثقيلة. ثم إنّ هذا الظفر هو عضو بسيط جداً نقلّمه ونرمي به بعيداً بانتظام فكم فيه من ميزة مكنونة؟



[1] (زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة). (آل عمران/14).

[2] لئالئ الأخبار.

[3] سورة النساء: الآية 114.

[4] أربعين الشيخ البهائي.

[5] سورة الإسراء: الآية 70.

[6] سورة الملك: الآية 10.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست