.

:الموضوع

البخل في المعيشة

خلاصة البحث

 

النزاع والخلاف

إن أول ما يمكن أن يبدأ بين الزوج والزوجة هو النزاع الذي تأتي به الحياة المترفة، أو بعبارة أخرى حياة الصرف والبذل بدون مبرر، وأن أغلب النزاعات التي نسمع بها اليوم يكون 80% منها من أجل المسائل الكمالية، أو المسائل الترفيّة.

فمنذ الأيام الأولى نرى العرائس يشرعن بارتداء البدلة الفلانية لمرة واحدة، والفستان الفلاني لمرة واحدة أيضاً، والحذاء الفلاني مرتين أو ثلاثة، وهكذا تحاول أن تفهم زوجها بأنها لا تستطيع لبس الفستان أو البدلة أكثر من مرة واحدة، ولكون الزوج لا يتمكن من تأمين كل هذه الفساتين تبدأ النزاعات والخلافات، عندها تقول الزوجة له: قل لأبيك أن يساعدك ماديًّا، فيرد الزوج عليها: إن أبي ساعدني ما فيه الكفاية فاذهبي أنت واخبري أباك بانه يجب عليه مساعدتك.

وهكذا ففي الشهر الأول تطالب الزوجة بالملابس الكثيرة، وفي العام الاول بالذهب والمجوهرات حتى يصل الأمر بها لأن تقول: أعطني مهري لكي اشتري القلادة الفلانية، واعطني مهري لاشتري الحاجة الفلانية وهكذا يتفاقم النزاع رويداً رويداً ليصل إلى قمته من جرّاء التجملات، والكماليات والشراء الترفي.

لذا لا تظنوا بأن من عبر الأقاليم السبعة وصل إلى مراده، وإذا ما وصل رستم إلى ما يريد، فنحن والحمد لله وصلنا إلى بداية الخلافات التي ستزداد عاجلاً أو آجلاً.

وعلى حد قول أحدهم: إن الشاب الذي لم يتزوج بعد، مثله كمثل الرجل الذي لا يلبس قبّعة على رأسه، وعندما يتزوج تكون تلك القبعة قد غطّت رأسه وأذنيه وعينيه وحجبت عقله عن التفكر فعُدّ من المخدوعين، وعندما يرى ما يمكن أن يصيبه من بلاء يقول: يا ليتني لم أتخذ لنفسي شريكاً، وقد تقول الزوجة: يا ليتني لم اتخذ لنفسي فلاناً زوجاً؟.

إن هذه المقالات والتقولات هي في واقع الأمر معضلات اجتماعية وقراحات تفيض قيحاً، بل وسرطاناً يتفاقم في مجتمعاتنا المعاشة.

أما بالنسبة لعلاج تلك المعضلات فالأمر سهل، وسهلٌ جداً، ولا يتعدى أن يكون إحدى آيات القرآن المجيد التي ما إن يعمل بها حتى يرى الإنسان نفسه معافى من كل تلك الأمراض الاجتماعية المترديّة المشتملة على كل تلك المعضلات والموانع الخرافية، بالإضافة إلى مشكلة التعلم التي تعتبر بمثابة مسألة أصولية، ناهيك عن حلّها لكل الخلافات والنزاعات التي يمكن أن تبرز في البين العائلي.

وهذه الآية المباركة هي:

(وعباد الرحمن الذي يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.. والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا، ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواماً) (الفرقان/65 ـ 67).

فالمؤمن عندما يريد شراء شيءٍ لا يسرف في شرائه ولا في بذله، إنه لا يؤمن بالصرف الترفي غير اللازم، ولا يرغب بالحياة التي تستند إلى التجملات والكماليات والحاجات غير الضرورية، إنه ليس بخيلاً ولا مسرفاً، بل معتدلاً " وكان بين ذلك قواماً ".

فالإنسان الذي يريد العيش ببساطة ترتفع عنه جميع الخرافات حتى يصل الأمر به إلى دخول الجامعة وهو متزوج، أما الشاب الذي نراه يريد ذلك ولا يستطيع يمكن أن نقول بأن الخرافات التي شاعت في المجتمع قد استولت عليه.

البخل في المعيشة

قال العزيز في محكم كتابه المجيد:

(ولا يحسبن الذي يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة، ولله ميراث السموات والأرض، والله بما تعملون خبير) (آل عمران/180).

إن الذي لا يسخّر ماله في خدمة أسرته، لا يظنّ أنه يعمل حسناً، إنه يعمل سوءاً، وأن ماله ذاك سيطوّق به يوم القيامة بطوقٍ من نارٍ.

فالذي يتمكن من أن يرفّه أسرته ولا يفعل ذلك مثله كذاك الذي ما إن يسألونه عن شيء حتى يجيب بعبارة: لا يوجد عندي، وبعد فترة أضحت تلك العبارة ملكة فسأله أحدهم عن إيمانه فردّ بسرعة لا يوجد عندي!:

" إياكم وابخل، فإنّها عاهة لا تكون في حُرٍّ ولا مؤمن، إنّها خلاف الإيمان "[1].

ولو لم يكن لدينا حديث أو رواية أو آية قرآنية في البخل غير هذه التي ذكرنا آنفاً، لكفتنا أن نبتعد عن البخل في البيت، وفي المجتمع، لأنه من العار والصعوبة أن يطوّق الإنسان يوم القيامة بما لديه من بيوت ومحلات وأملاك وأموال وهي تشتعل وتلتهب، ليأتي به على تلك الحال إلى صفوف الحشر الرهيبة.

فالبخل خطأ فاحش، والإسراف من أسباب فساد المجتمع وجرّه إلى ما لا تحمد عقباه:

(وإذا أردنا أن نهلك قريةّ أمرنا متُرفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول فدمّرناها تدميراً) (الإسراء/16).

إن السيول والزلازل، وانقلاب الأرض بأهلها لا يمكن أن يقاس بالنكبات التي يجرها البخل والإسراف والحياة المترفة، لأن المصائب والبلايا التي تحدثها هذه القضايا أنكى من كل المصاعب التي نسمع بها كل يوم تحدث هنا وهناك.

لذا أقول أي من هذه لا تعدّ أكثر بلاءً من الزلازل والسيول والمصائب؟ إنها تحدث في الغالب جرّاء اعتقادنا بالخرافات والتوافه من القول، وهذا ما يحدو بنا إلى ارتكاب الكبائر من المعاصي التي تعرضنا لها سباقاً من مثل البخل والإسراف والترف الزائد عن الحاجة والخصومات التي تجعل من الحياة الاجتماعية جهنم على الأرض:

(وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال، في سمومٍ وحميم، وظل من يحموم، لا باردٍ ولا كريم، إنهم كانوا قبل ذلك مترفين، وكانوا يصرّون على الحنث العظيم) (الواقعة/41 ـ 45).

إن القرآن الكريم تعرّض كثيراً للترف والمترفين، وحذّر في عدّة مناسبات من التوغل في أعمال الترف الذي يوصل الإنسان إلى حالة الكفر بما أُرسل به المرسلون:

(وما أرسلنا في قريةٍ من نذيرٍ إلاَّ قال مترفوها، إنا بما أرسلتم به كافرون) (سبأ/ 34).

لقد كان المترفون على مرّ الدهور مانعاً أساسياً لشيوع رسالات الأنبياء المرسلين، وما كان فعلهم إلا خوفاً من انطمار مصالحهم ومنافعهم الشخصية، كون المرسلين يتنكرون للإسراف والبذخ والترف المؤدي بالمجتمعات إلى الفساد.

جاء في كتاب " معراج السعادة " أن بخيلاً وصل في بخله إلى حالةٍ كان فيها يضع اللبن في إناء زجاجي، ويضع الإناء وسط مائدة الطعام ثم يقول لأبنائه: امسحوا بأرغفتكم على جدار ذلك الإناء الزجاجي كي تشعروا بأنكم طعمتم خبزاً ولبناً.

وفي أحد الأيام سافر الأب، بعد أن وضع الإناء الزجاجي في صندوقٍ وقفل عليه، وحينما أحسّ الأبناء ا، أباهم لم يأت إليهم، كانوا يمسحون بأرغفتهم على قفل ذلك الصندوق، وحينما جاءهم الأب، وعرف منهم ما فعلوا، أمسك بعصا له وبدأ بضربهم على رؤوسهم وهو يقول: ألم تصبروا يوماً واحداً تأكلون فيه خبزاً بدون لبن؟.

إن الحياة إذا علتها مسائل البخل فاقرأ عليها وعلى صاحبها السلام، ولا نعتقد أن أحداً منكم يرضى بفعل ذلك البخيل الوضيع الذي نجد من مثله في دنيانا هذه الكثير، إنه مسلوب الراحة، مسلوب النوم، وقد يسأل أحدكم وكيف تكون الحياة مقرونة بالراحة؟ فتقول له: إذا تمكن الإنسان من الطعام الاعتيادي، وكان له مسكن، ولباس كافٍ عدَّ ذلك الإنسان ممن يعيش حياةً لا تخلو من الراحة، شريطة أن يكون قانعاً غير مقتراً ولا مسرفاً.

قال رسول الله (ص):

" أقل الناس راحة البخيل "[2].

ذكرت إحدى الروايات أن رسول الله (ص) سار مع أصحابه قاصداً مكاناً معيّناً، وفي أثناء سيره صادفه راعٍ لغنم، فسأله الرسول (ص) لبناً من إحدى شياهه فرفض أن يعطي شيئاً، عندها قال الرسول (ص): رزقك الله خرافاً بغير حساب، بعد ذلك وصلوا إلى راعٍ آخر ليسألوه هو الآخر أن يعطيهم لبناً، فما كان منه إلاَّ أن سقى الجميع حتى رووا، فقال الرسول (ص): رزقك الله حد الكفاف.

فقال أحد الأصحاب: يا رسول الله! إن دعاءك للأول كان أفضل بكثير منه للثاني.

فأجاب: إنّ دعائي للأول لن يحصل منه إلا على البلاء.

إذا أراد الإنسان أن يحي حياة هانئة رغيدة، عليه أن يجرّب البساطة في معيشته بدون تكلُّفٍ ولا غشٍ ولا عبودية، فالبساطة يمكن أن تجعل جميع أوقات الرجل والمرأة سعيدة ومفيدة، وعلى حد قول أمير المؤمنين عليّ (ع) معيشة بعيدة عن البرج، ولو كانت الحياة مليئة بالبرج لكسرت أعناق الرجال وجرّتهم إلى حيث العبودية.

خلاصة البحث

خلاصة بحثنا هذا هي: ينبغي لنا أن نغيّر من أنفسنا بشكل جديّ، وأن نسعى لأن تكون أخلاقنا مثل أخلاق الأئمة والصالحين، وأن القدم الأولى تبدأ من مسألة الزواج، إذ علينا أن نتنكر للخرافات والبدع، ونسحقها تحت أرجلنا كي نفوز بحياةٍ مرفهة لا حياة مترفة.

أيها السيد! أيتها السيدة! مثلما نحن بحاجة إلى المسائل المادية، فنحن بحاجة أيضاً إلى المسائل الروحية، فمثلما نحاول دائماً تأمين حاجاتنا الجسدية ونسعى لتأمين حياة مرفهة، علينا أن نهتم بالأمر الذي هو أسمى من هذه المعاني ألا وهو المسائل الروحية.

وحاجاتنا الروحية لا يمكن تأمينها من خلال الأكل والشرب، وامتلاك الدار الوسيعة، أو الزوجية الجيدة، كلا بل يمكن أن تؤمّن حينما نردّ الظلم عن أحد المظلومين، أو نفرّج كربةً عن أحد المساكين، أو نحاول المشاركة في تزويج شاب محتاج مادياً، حين ذاك يمكن أن نعتبر متأسين بأمير المؤمنين عليّ (ع)، أو مقتدين بالزهراء البتول (ع) التي قدّمت قميصها الجديد لإحدى المستضعفات لتبقى هي مرتدية قميصاً له رقعة، بالرغم من أنها كانت تمتلك أرض فدك.

ذهب أحد التجار إلى السيد المرحوم آية الله محمد باقر الصدر، وكانت امرأته ترافقه، فدخل التاجر إلى حجرة السيد الصدر، بينما ذهبت امرأته إلى داخل الدار لتلتقي زوجة السيد الصدر.

طرقت زوجة التاجر باب حجرة النساء لتخرج إليها زوجة السيد، وما إن رأت زوجة التاجر قدم ملابس زوجة الشهيد الصدر وبساطتها حتى ظنّت أنها الخادمة، عندها قالت: هل السيدة موجودة؟ إن لي معها عملاً مهماً، حينها بان الخجل والحياء على محيّا زوجة السيد الصدر وفهمت الموضوع فأجابت بالنفي، لذا رجعت زوجة التاجر أدراجها من حيث أتت.

وبعد أن ذهب التاجر وامرأته، دخل السيد الصدر إلى حجرة النساء ليرى أمرأته وقد بان عليها عدم الارتياح فسألها عن السبب؟ فقالت: إن زوجة التاجر ظنّت بأنني الخادمة، لذا نفيت أن تكون السيدة التي تعنيها موجودةً خجلاً وحياءً.

حينئذ قال السيد الصدر عبارة جميلة وهي عبارة تدلل على أن المراجع والعظام يدركون هذه الأمور جيداً، لقد قال: أجل، إنك لست بسيدة، فالسيدة هي التي كانت عباءتها ذات رقعات كثيرة، بالرغم من أن أرضها المسماة فدك ينعم فيها الفقراء والمساكين.

كم هي جميلة عبارته تلك، إن كان رجلاً بمعنى الكلمة، والرجل هو من يتأتى له رفع الحيف والظلم عن المظلومين، أو هو الذي يستطيع تأدية دين مستضعفٍ مسكين.

أما بالنسبة للسيدات فنقول: إن السيدة، ليست تلك التي تخلع فستاناً لترتدي آخر كل يوم، وإنها ليست تلك التي تطلب الحرير الذي لا يزيد في شخصيتها شيئاً، وإن التي تكون عباءتها من حرير غير تلك السيدة المبتعدة عن زخارف الدنيا وزينتها.

إن بعض السيدات يتأتى لهن شراء ست أو سبع عباءات بدل تلك العباءة الحريرية، ولو فعلن ذلك لكان بإمكانهن ارتداء واحدة وتوزيع الباقي على النساء المستضعفات الخيّرات اللائي سيشفعن لهن يوم القيامة، ويكنّ السبب في نجاتهن من نار الله الحامية.

أيها السادة! أيتها السيدات تعالوا معنا، وفكرّوا قليلاً في بحثنا هذا من أجل أبنائكم، ومن أجل عاقبتكم، ومن أجل سلامتكم، ومن أجل رضا الله تعالى ورضا ولي العصر الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولا تقولوا إن مستوى بحثنا متردي، كلا لأن مستواه سامٍ وراقٍ ولكن ما العمل معكم؟

فسوف لن يصل صراخي لأي مكان

 

إذا كانت الأذن أذنك والأنين أنيني

الهي! بحق باب الحوائج موسى بن جعفر الكاظم، وبحق من آثر وضحى، وبحق من مات عطشاناً بشط الفرات، وبحق أبناء الحسين (ع) ارزقنا صفات التضحية والإيثار، ووفقنا لما تحب وترضى، وصلِّ اللهم على محمد المصطفى وأهل بيته الطاهرين المنتجبين.



[1]  بحار الأنوار/ ج78، ص346.

[2]  بحار الأنوار/ ج73، ص300.